تفسير سورة الدّخان

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

لا يفيد الفعل الا مرة واحدة، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه الى التزام النسخ، ومثله يمين الفور فهي مشهورة عند الفقهاء، وهي دالة على أن اللفظ المطلق قد يتقيد بحسب قرينة العرف، وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه الى التزام النسخ والله أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب. هذا واستغفر الله، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، آمين.
تفسير سورة الدخان عدد ٢٤- ٦٤- ٢٤
نزلت بمكة بعد الزخرف وهي تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «حم» ١ تقدم ما فيه وهو رمز بين الله ورسوله لا يعلمه غيرهما، وهذا من معجزات القرآن (أن المنزل عليهم لا يعلمون وقت انزاله أن هناك كلمات معروفة عند المخاطب أو المخاطب مجهولة عند غيرهما، ومنه أخذت الملوك الرموز فيما بينهم (شفرة) لا يعرفها غيرهم، ثم أقسم جل قسمه فقال «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» ٢ المظهر الحلال والحرام والحدود والاحكام. وجواب القسم قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» أي القرآن العظيم المقسم به بلفظ الكتاب «فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» هي ليلة القدر السابعة والعشرون من شهر رمضان سنة ٤١ من ميلاده الشريف، إذ أنزل فيها جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم نزل مفرقا بحسب ما أراده الله تعالى القائل (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية ١٨٦ من سورة البقرة في ج ٣، وقال هنا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وقال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) السورة المارة في ج ١، وانما وصفها بالبركة إذ لا أبرك ولا أعظم ولا أحسن ولا أشرف مما نزل فيها، لا سيما أنها كانت ليلة الجمعة فصارت مباركة من وجوه شتى، وإنما أنزله ليلا لأن الليل زمن المناجاة ومهبط النفحات ومورد
92
الكرامات ومحل الاسرار ومجمع الأبرار وفيه فراغ القلوب واجتماع المحب بالمحبوب بخلاف النهار. ولهذه الأسباب وقع الإسراء ليلا كما أشرنا اليه أول سورة الاسراء ج ١ فراجعها وراجع سورة القدر وآية البقرة المذكورة أعلاه لتقف على ما يتعلق بها.
مطلب في ليلة القدر وليلة النصف من شعبان وفضل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعمال:
وتفسير هذه الليلة بليلة القدر هو ما عليه ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد وابن زيد والحسن وأكثر المفسرين وهو الموافق لظاهر التنزيل وهناك أقوال لعكرمة وغيره بأنها ليلة النصف من شعبان المسماة ليلة البراءة ومشى عليه بعض المفسرين لما روى البغوي بسنده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال تقطع الآجال من شعبان الى شعبان حتى أن الرجل ينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى. ولما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت قصدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه الى السماء فقال يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قلت ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بنى كلب. - أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه- قالوا وبينها وبين ليلة القدر أربعون أو واحد وأربعون يوما ما عداهما، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وهذه الأحاديث والأقوال على فرض صحتها غاية ما فيها عدّ ليلة النصف من شعبان مباركة، وهو كذلك لأنها لا تزال معظمة يقومها الناس ويصومها البعض ويتصدقون فيها، إلا أنها ليس فيها ما يدل على أن القرآن أنزل فيها، ولا يوجد ما يقابل النصوص الظاهرة الصريحة المارة المثبتة بأن المراد في هذه الليلة الواردة في هذه السورة هي ليلة القدر وما ورد لا ينافي أفضلية ليلة البراءة المشار إليها بما تقدم وبما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى
93
السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلي فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر. وبما أخرجه أحمد ابن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس، وفي رواية وقاطع رحم. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تؤيد أفضليتها على غيرها عدا ليلة القدر، ولا أعلم كيف صرفوا هذه الليلة إلى ليلة النصف من شعبان مع صراحة القرآن بأنها ليلة القدر، والقرآن يفسر بعضه بعضا ولا يوجد حديث صحيح يصرفها بل ولا غير صحيح، وأما أقوال المفسرين فمجرد اجتهاد منهم وقد أخذ بعضهم عن الآخر دون استناد لقرآن أو سنة، ولم يذكر في هذه الأحاديث أنها ليلة النصف من شعبان، وهنا يظهر لك قول المغالين بأنها ليلة البراءة أنه غير مستند على نص صريح من الكتاب والسنة أنها هي، أما فضلها فلم يختلف فيه اثنان. واعلم أن ما ورد في فضل بعض الليالي والأيام والأوقات وما قيل إن لله خواصّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص هو بالنسبة لما يقع فيها من الأعمال والأفعال والأقوال، وإلا فالأيام والساعات والمواقع متساوية من حيث هي، وعلى هذا فإن أفضل السنين السنة التي ولد فيها محمد صلّى الله عليه وسلم وهي عام الفيل التي حمى الله بها بيته، وأهلك من قصد نخريبه أبرهة ومن معه، وأفضل الشهور شهر رمضان لذكره تعالى باسمه في القرآن العظيم ولإنزال القرآن فيه ولتشريف سيدنا محمد بالرسالة فيه أيضا، ثم ربيع الأول لوقوع ولادته الشريفة فيه، ثم رجب لانه مفرد الأشهر الحرام المذكورة صراحة في القرآن الكريم ولوقوع الإسراء فيه وتحريم القتال فيه، ثم شعبان لوقوعه بين رجب ورمضان ولكون ليلة البراءة فيه المحترمة لسنية صيامها وقيامها، وقد ورد بارك الله في خميسها وسبتها لوقوعهما في جوار الجمعة، ثم ذو الحجة لوقوع الحج فيه ولكون الأيام المعدودات والمعلومات المنوه بهما في القرآن العظيم فيه ومنها يوم عرفه ويوم التروية ويوم النحر وأيام التشريق، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها، ثم شوال لوقوعه بين رمضان وذي القعدة
الحرام ولكون عيد الفطر فيه واستحباب صيام الأيام الستة منه، ثم ذو القعدة لمجاورته ذا الحجة، ولهذا
94
فإن الدار إذا كانت بين جيران صالحين تفضل على غيرها وتعتز بجوارها حتى قيل بجيرانها تغلو الديار وترخص. ثم المحرم شهر الأنبياء ورأس السنة وآخر الأشهر الحرام وفيه يوم عاشوراء وفيه أجاب الله تعالى دعوة أنبيائه وأهلك أعداءه.
وأفضل الأيام يوم الجمعة لما فيه من اجتماع الناس لسماع الذكر، ولأنها بمثابة العيد وجاء أنها حج المساكين وفيها ساعة الإجابة، راجع الآية ٤ من سورة القدر في ج ١.
هذا في الأزمنة، أما الأمكنة فأفضل بقعة في الأرض بل وفي السماء البقعة التي ضمت جثمان سيد الكائنات عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أجمع على هذا السلف والخلف ولما دفن فيها رثته ريحانته فاطمة رضي الله عنها فقالت:
ماذا على من شمّ تربة أحمد... أن لا يشمّ مدى الدهور غواليا
صبّت علي مصائب لو أنها... صبّت على الأيام صرن لياليا
وقال الأعرابي حينما زار تلك الروضة المطهرة:
يا خير من دفنت في الترب أعظمه... وطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي فداء لقبر أنت ساكنه... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ورثاه حسان رضي الله عنه فقال:
كنت السواد لناظري... فعمى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت... فعليك كنت أحاذر
ولم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق بمثل هذا، ثم المسجد الحرام المشتمل على الكعبة المعظمة، وقد جاء أن الصلاة فيه تعدل مئة ألف صلاة بغيره، ثم مسجده صلّى الله عليه وسلم لاحتوائه على الروضة المقدسة، وورد أن الصلاة فيه تعدل ألفا بغيره، ثم المسجد الأقصى لاحتوائه على الصخرة الشريفة والحرم المقدس مهبط الأنبياء ومجمع أضرحتهم الطاهرة، وجاء أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة بغيره، مما يدل على أفضلية هذه المواقع الكريمة، ثم مدافن الأنبياء والأولياء العارفين والعلماء الكاملين لقربهم من الله تعالى والجوامع والمساجد والمحال التي يقام ذكر الله بها ويتلى فيها كتابه وأحاديث نبيه. أما الأشخاص فأفضل من عليها الرسل الفخام والأنبياء العظام، ثم الأمثل فالأمثل من الأولياء العارفين والعلماء العاملين والشهداء والشجعان المقاتلين
95
في سبيل الله فمن دونهم، وقد نص الله تعالى على تفضيل الأنبياء وكونهم درجات لما أوتوا من منّ الله عليهم وتوفيقه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأما الأعمال فلبعضها أيضا فضل وشرف على بعض بالنسبة لفاعلها وللزمان والمكان المعمولة فيه وبحسب النيات والمقاصد والإخلاص، قال ابن الفارض رحمه الله:
وعندي عيد كل وقت أرى به جمال محياها سبعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت كما كل أيام اللقا يوم جمعة
أما التسمية فمقتضى الحال سميت ليلة القدر لما يقدر الله تعالى فيها من الأمور، وسميت مباركة لما يعود فيها من البركة على العاملين فيها وليلة الرحمة لما يقع فيها من رحمات الرحمن على عباده، وسميت ليلة البراءة ليلة النصف من شعبان لما أن من قبل فيها برىء من الذنوب وصار كيوم ولدته أمه نقيا وليلة الإجابة لما أن الله يطلع فيها على عباده فيجيب ما يطلبونه منه، وليلة العرض لما فيها من اطلاع الله تعالى على عباده المتعرضين لألطافه، وليلة الصك لأن العامل إذا استوفى الخراج من الناس أعطاهم صكا بوفاء ما عليهم من الذّمة فكذلك الباري جل جلاله يكتب لعباده المقبولين صكا بقبول أعمالهم وغفران ذنوبهم، ويوم العيد لأن الله تعالى يعود بالإحسان على عباده فيه، وقد جاء في الخبر: إذا كان يوم العيد وخرج الناس إلى الجبّانة يقول الله تعالى ما حق الأجير إذا أكمل عمله؟ فتقول الملائكة أن يعطى أجره، فيقول الله اشهدوا أني قد غفرت لهم. وليلة التروية لأن الخليل رأى فيها ذبح ولده، وليلة عرفة لأنه عرف أن تلك الرؤيا من الله حقا فعزم على تنفيذها، ويوم النحر لنحر إبراهيم ولده إسماعيل وفاء لأمر ربّه. هذا، وما قيل إن آدم عليه السلام تلاقى مع حواء في عرفة فسمي به لم يثبت ثبوتا يصح الاستناد إليه ويستدل فيه، وهكذا لم يوضع اسم إلا لمعنى في الأصل زمن وضعه والله أعلم. قال تعالى «إِنَّا كُنَّا» نحن إله السموات والأرض ولم نزل «مُنْذِرِينَ» ٣ الناس أن يجتنبوا مخالفتنا ويحذروا عقابنا، واعلموا أيها الناس أن تلك الليلة المباركة «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» ٤ مفصول مقضى به حسب حكمتنا بمقتضى إرادتنا، قال ابن عباس يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر
96
ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج فيبرم وينفذ ذلك، لأن الكتابة لا تكون إلا ليلة البراءة كما تقدم، قال تعالى ما معناه نأمر بكل شيء «أَمْراً» نصب على الاختصاص وإن الأمر المحكم الذي أنزلناه حاصل «مِنْ عِنْدِنا» بمقتضى علمنا وتدبيرنا وحكمتنا «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» ٥ الرسل إلى الأمم السابقة لأجل إرشادهم وقد أرسلناك يا محمد إلى من على وجه الأرض وخاصة لأهل زمانك «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» إليهم ورأفة بهم ونعمة عليهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم إذا أجابوا دعوتك وآمنوا بك «الْعَلِيمُ» ٦ بأفعالهم كلها. ومن قال إن الضمير في أنزلناه لا يعود للكتاب وأراد بالكتاب اللوح المحفوظ المقدس أعاده إلى غير موجود لمعلوميته كما في قوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كما أشرنا إليه في الآية ٣٤ من الشورى المارة، قال تعالى «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ» أيها الناس «مُوقِنِينَ» ٧ به عن علم فهو رب هذين الهيكلين العظيمين ومن فيهما ومرسل الرسل رحمة ومنزل الكتب هدى، وهذا كما تقول إن هذا الإنعام الكثير هو انعام فلان الذي تسامع الناس بكرمه وداع صيته لدى الخاص والعام، أي بلغك حديثه أو حدثت عنه أو ذكرت لك قصته «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» عنى القطع والجزم هو الذي «يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهل تعلم أحدا يقدر على هذا غيره، كلا ثم كلا، هذا هو الإله العظيم القهار «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ٨ لا ربّ غيره، وإن هذه الأصنام ليست بآلهة لأحد وليست بقدرة على شيء من ذلك بل عاجزة عن كل شيء، قال تعالى مخبرا نبيه بعدم إيقانهم بذلك «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ» منه، ولذلك تراهم «يَلْعَبُونَ» ٩ فلم يتأثروا من هذه الآيات ولم يلقوا لها بالا ولم يوقروا مبلغها لهم بل يسخرون منه ويستهزئون به «فَارْتَقِبْ» يا سيد الرسل عذابهم «يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» ١٠ يراه كل أحد وذلك أن الهواء يتكدر في سني الجدب والقحط لما يخالطه من الغبار فيراه الرائي كأنه دخان حتى ان الجائع يصير على بصره مثل الغشاوة فيرى الفضاء ما بينه وبين السماء كأنه دخان
«يَغْشَى النَّاسَ» أجمع حتى يقولوا من شدة جزعهم منه «هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» ١١ لا يطيقه البشر، ولهذا سماه عذابا ووصفه بكونه مؤلما، لأنه ناشىء عن شدة الجوع.
97
مطلب آية الدخان والمراد ببكاء السماء والأرض ونبذة من قصة موسى مع قومه وألقاب الملوك وقصة تبّع:
وليعلم أن هذا الدخان ليس بالدخان الذي هو آية من آيات الساعة، لأن ذلك لم يحضره حضرة الرسول، ولو كان المراد هو لما خاطبه به بقوله تعالى:
(فَارْتَقِبْ) وإنما هو ما ذكرنا والله أعلم، وذلك لمن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم لما رأى قومه لا يزالون يتمادون في الإنكار والكذب دعا عليهم فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف. فأجاب الله دعاءه فأخذتهم سنة قد حصت أي أهلكت كل شيء حتى أكلوا الجيف والجلود وقد أثر فيهم الجوع حتى صار أحدهم يرى الفضاء كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك أنهكهم الجوع، فادع الله لهم يرفع عنهم ما حل بهم وإلا هلكوا. فأنزل الله هذه الآية إلى قوله (عائِدُونَ).
يؤيد هذا ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله ابن مسعود وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصّا عند باب كنده يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول، الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الآية ٨٨ من سورة ص في ج ١، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى الناس إدبارا، قال اللهم سبعا كسبع يوسف. وفي رواية للبخاري قالوا «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» ١٢ فقيل له إن كشفنا عنهم القحط عادوا فدعا ربه فكشف عنهم وسقوا الغيث، وأطبقت السماء عليهم فشكوا كثرة المطر فلجأوا إليه صلّى الله عليه وسلم، فقال اللهم حوالينا ولا علينا فكشف عنهم.
ومع ذلك عادوا إلى إصرارهم وكفرهم فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى (فَارْتَقِبْ) إلى قوله (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ). هذا، وإطلاق الدخان على ما يراه الجائع
98
أو على الذي يرى عند تكدر الهواء لا يأباه وصفه بقوله (مُبِينٍ) لأنه مما يتخيل ويتوهم أنه دخان ظاهر، وقد يقره العقل. واعلم بأن إرادة الجدب من هذا الدخان والمجاعة مجاز من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، وهذا هو الصارف عن إرادة الظاهر، لأنه لو كان المراد به الدخان الذي هو من علامات الساعة لما صح قوله تعالى على لسانهم (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ولم يصح أيضا قوله جل جلاله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الآية، إذ لا يكون شيء من ذلك يوم القيامة.
هذا، وما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال (خمس قد مضين أي من علامات الساعة اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان) فهو غير هذا الدخان المقصود في هذه الآية، وعلى فرض صحته فيها وهو بعيد فتكون الآية على ظاهرها وتلزم بأن نقول إن المخاطب بها غيره صلّى الله عليه وسلم ممن لم يخلق بعد أو نجبر أن نقول بوقوعها في زمانه صلّى الله عليه وسلم وهو خلاف الواقع، إذ لم يثبت أن هذه العلامة وقعت بزمنه صلّى الله عليه وسلم. وعلى كل الحالين فلا يصح تأويلها به والله أعلم. هذا وقد وقع في دير الزور وأطرافها سنة ١٩٣١- ١٩٣٢ غبار في أوقات متفرقة بسبب انقطاع الأمطار ويبس الأرض وارتفع بالجو فأظلم الأفق وصار ذلك الفضاء العظيم ملآن بما يشبه الدخان حتى أنرلنا المصابيح لأنا صرنا بحالة لم ير أحدنا الآخر من كثافة ذلك الغبار ولا نستطيع الخروج إلى الساحات والطرق وضاقت النفوس وأولئك كثير من الأطفال والشيوخ أن يهلكوا لولا أن منّ الله تعالى علينا بكشفه بعد ساعات، بما يدل على أن هذا مثل ذلك، وأن الدخان الذي هو من علامات الساعة لم يقع بعد، وما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين (على وزن اقرن جزيرة اليمن) تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا.
قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية (المارة) يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فعلى فرض صحة هذا الحديث فهو صريح بأنه يكون آخر الزمان وهو من علامات الساعة ولا ينطبق
99
بصورته المبينة في هذا الحديث على هذه الآية بمقتضى ما فسرت به وواقع الحال في ذلك الزمن، إذ لم يثبت وقوعه البتة على الصورة المبينة في هذا الحديث، وتلاوة الآية من قبل حضرة الرسول على فرض صحته يكون من قبيل التمثيل، لأن الآية صالحة لذلك مجازا لا حقيقة، وعليه فإن ما جرينا عليه من التفسير هو ما عليه جمهور جهابذة المفسرين ومروى عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل واختاره الزجاج والقراء. قال تعالى «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى» أي كيف يتذكرون ومن أين يتعظون بما أصابهم «وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ» ١٣ لكل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم فهو أعظم واولى من أن يتذكروا به ولم يتذكروا «ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لإرشاده «وَقالُوا مُعَلَّمٌ» من قبل الغير يعنون عداما غلاما لبعض ثقيف أعجمي ولم يكتفوا بقولهم معلم بل قالوا «مَجْنُونٌ» ١٤ أيضا لأنه يغشى عليه كالمجنون، وذلك أنهم يرونه حين ينزل عليه الوحي كالمغمى عليه، قال تعالى «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ» القحط الذي حل بكم إجابة لدعوة نبيكم ومؤخرون العذاب الآخر «قَلِيلًا إِنَّكُمْ» يا أهل مكة «عائِدُونَ» ١٥ إلى الكفر والجحود لا محالة سواء أمهلناكم أم لا، ولهذا لم نرجئكم كثيرا، فانتظروا «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى» فيكم بالدنيا في بدر وغيرها وفي الأخرى أكبر وأشد لأن يوم بدر مهما كان عظيما لا يبلغ هذا المبلغ الموصوف بالآية ولا يحصل به الانتقام النام من الكفرة، ولكن يوم القيامة بعد الفصل بين الناس «إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» ١٦ منكم الانتقام القاسي وناهيك بالجبار إذا كان هو المنتقم كفانا الله شر انتقامه «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ» قبل قومك يا سيد الرسل «قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» ١٧ على ربه مثل ما أنت كريم عليه، ولما كان إرساله للقبط قوم فرعون ولبني إسرائيل قومه قال موسى لفرعون وملائه «أَنْ أَدُّوا» أعطوا وسلموا «إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» الذين استعبدتموهم وتخلوا عنهم «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من الله بذلك «أَمِينٌ» ١٨ على أداء الرسالة إليكم «وَأَنْ لا تَعْلُوا» تترفعوا وتتبختروا وتستكبروا «عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني إليكم، وإن شئتم بيّنة على صدقي «إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ
100
مُبِينٍ»
١٩ دليل واضح وبرهان ساطع تقتنعون به إذا لم يتغلب عليكم العناد والمكابرة. فلما سمعوا هذا منه هددوه وتوعدوه بالقتل إن لم يكف عنهم فقال لهم «وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ» ٢٠ تقتلوني رجما بالأحجار أو تؤذوني بكلام قبيح، وإنما قال عذت، لأن الله تعالى أخبره بقوله (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الآية ٣٥ من سورة القصص في ج ١، راجع تفسيرها
ولوثوقه بعهد ربه أنهم لا يتمكنون من أذاه كرّ عليهم فقال «وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» ٢١ أيها القبط وخلوني واتركوا لي بني إسرائيل قومي إذ أيس منهم وعلم بإعلام الله إياه أن القبط لا يؤمنون «فَدَعا رَبَّهُ» قائلا في دعائه «أَنَّ هؤُلاءِ» القبط قوم فرعون «قَوْمٌ مُجْرِمُونَ» ٢٢ لا يهتدون إلى الرشاد لكثرة إجرامهم، فاهلكهم يا رب وأنجز لي وعدك فيهم، فأجابه بقوله «فَأَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل خاصة «لَيْلًا» وهذا إعلام بتلبية طلبه بإهلاك القبط وإنجاء بني إسرائيل «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ٢٣ من فرعون وقومه، فخرج بهم إلى البحر فدخله وقومه، ثم تبعه فرعون وقومه فدخلوه وراءهم حتى صاروا جميعا فيه، قال تعالى «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً» ساكنا على حالته حتى يكمل خروج قومك منه ويكمل دخول آل فرعون «إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» ٢٤ كلهم جميعا لا محالة وأنت وقومك كلهم ناجون فلا تستعجل، فامتثل أمر ربه، ولما تم خروج بني إسرائيل وتكامل دخول القبط أمره ربه أن يأمر البحر ينطبق عليهم، فأمره فانطبق عليهم، فلم ينج منهم أحد، كما لم يغرق من بني إسرائيل أحد، ثم نعى الله تعالى حال المغرقين بعد أن اطمأن موسى وقومه فقال «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» ٢٥ تدفق بين البساتين «وَزُرُوعٍ» متنوعة تركوها «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» ٢٦ محل قعود مزخرف عظيم بناؤه كانوا ينعمون به وليس بمقام واحد بل مقامات كثيرة بدليل التنكير «وَنَعْمَةٍ» جليلة وهي نعم كثيرة أيضا عظيمة «كانُوا فِيها فاكِهِينَ» ٢٧ ناعمين أشرين بطرين، لأنهم لم يقدروها ولم يشكروها، لذلك حرموا منها «كَذلِكَ» مثل هذا الفعل الفظيع أفعل بأعدائي فيذهبوا هدرا «وَأَوْرَثْناها» تلك البساتين والأنهار والقصور وغيرها
«قَوْماً آخَرِينَ» ٢٨ هم بنو إسرائيل إذ عادوا إلى مصر بعد ذلك واحتلوا محالهم «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ» إذ لا عمل صالح لهم يصعد إلى السماء أو يعمل في الأرض لتفقداه فتبكيان على فقده بخلاف المؤمنين فإنهما تبكيان عليهم لأن لهم فيها عملا صالحا قارا وصاعدا، وذلك لأن السماء تبكي على فقد عبد كان لتسبيحه وتكبيره وتهليله وقراءته فيها دوي كدوي النحل، وإن الأرض تبكي على فقد عبد كان يعمرها بالقيام والركوع والسجود والقعود للصلاة والاعتكاف والذكر وللإصلاح بين الناس قال النابغة:
بكى حارث الجولان من فقد ربه وحوران منه جاشع متضائل
وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وقال الفرزدق يرثي عمر بن عبد العزيز:
الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
أي لا تعجب كيف طلعت في زمن حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة. والقمر منصوب بواو المعية ونجوم منصوب بكاسفة، وقرأ بعضهم برفع النجوم والقمر على أنهما فاعل تبكي، والأول أولى تدبر. ونقل صاحب الكشاف عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مؤمن يموت في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض.
«وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» ٢٩ لو أنهم طلبوا الانتظار حين نزول العذاب ولم نمهلهم، لأنه وقع في وقته المقدر، وهو لا يتقدم ولا يتأخر «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ» ٣٠ هو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة والاسترقاق، ولا هوان يضاهيه، ولا مهانة تساويه، وتلك الحقارة عليهم
«مِنْ فِرْعَوْنَ» وقومه وملائه «إِنَّهُ كانَ عالِياً» على ما في أرض مصر وتوابعها أجمع متكبرا عليهم متجبرا يفعل فيهم ما يشاء، عاتيا «مِنَ الْمُسْرِفِينَ» ٣١ في أنواع الظلم، إذ تجاوز حده حتى انه ادعى الربوبية «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» ٣٢ لأنا قدرنا أن يكون منهم أنبياء وأولياء وملوك وأمراء وأناس صالحون لزمانهم «وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ» بعد إنجائهم من الفرق الذي هو الآية الكبرى بحقهم
102
وإغراق أعدائهم بآن واحد وإنزال المن والسلوى عليهم وإظلالهم بالغمام وتفجير الماء من الصخرة في التيه وغيرها «ما فِيهِ بَلؤُا» اختبار وامتحان «مُبِينٌ» ٣٣ ظاهر لننظر كيف يعملون، ونظهر لمن بعدهم ذلك، ونري من عاصرهم إياه، وإلا فنحن عالمون بما يقع منهم قيل خلقهم، راجع قصتهم مفصلة في الآية ٥٢ فما بعدها من سورة الشعراء في ج ١، قال تعالى بعد أن قص على حبيبه ما جرى لموسى مع قومه «إِنَّ هؤُلاءِ» قومك يا سيد الرسل «لَيَقُولُونَ» ٣٤ لك عند ما تخبرهم بالبعث بعد الموت «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» ٣٥ بعدها مرة ثانية ويقولون لك لفرط «جهلهم فَأْتُوا بِآبائِنا» الذين ماتوا قبلنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٣٦ أنا نحيا بعد الموت، قال تعالى «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ» ملك اليمن، قالوا إن المراد به أسعد بن مليك المكنّى بأبي كرب، وكانت ملوك اليمن تلقب بلفظ تبع، كما أن ملوك الحبشة تلقب بالنجاشي والروم بقيصر والفرس بكسرى والقبط بفرعون والترك بخاقان والعرب بالخليفة، وسمي تبعا لكثرة أتباعه بالنسبة إلى غيره في ذلك الزمن عدا قوم الملك حمير لأن الملك كان فيهم، يقول الله تبارك وتعالى يا أكرم الرسل إن قومك المتطاولين عليك ليسوا بأحسن من قوم تبع لا في العمل، ولا أقوى منهم في الشدة، ولا أكثر منهم في الأموال والأولاد والعدد والعدد، فلماذا يتطاولون عليك؟ قالوا وكان تبّع سار بقومه وجيوشه نحو المشرق وحيّر الحيّرة وبنى سمرقند وعاد إلى المدينة حيث ترك ابنا له فيها عند ذهابه، وعلم أن أهلها قتلوه غيلة وصار يقاتلهم لأجله، وصمم على استئصالهم وتخريب بلدتهم، وصار أهلها يقاتلونه نهارا ويقرونه ليلا، فقال إن هؤلاء لكرام، ثم جاءه حبران عالمان من بني قريظة وقالا له أيها الملك لا تفعل ما صممت عليه وإن أبيت أن تسمع قولنا حيل بينك وبين ما تريد، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، قال ولم؟ قالا إن هذه المدينة مهاجر نبيّ يخرج من قريش اسمه محمد، وسيكون في منزلك الآن قتال بين أصحابه وعدوهم، قال ومن يقاتله وهو نبي؟ قالا قومه، فانكف عن قتالهم وعدل عن استئصالهم وتخريب بلدتهم، وترك دم ابنه حرمة لما قالوه، وقفل إلى اليمن وأخذ الحبرين مع نفر
103
من اليهود معه بغاية الإكرام، فصادفه بالطريق نفر من هذيل وقالوا له ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة، قال ما هو؟ قالوا له مكة وأرادوا بذلك إهلاكه لأن مكة لا يقصدها أحد بسوء إلا أهلكه الله كما هو متعارف بينهم، فاستدعى الحبرين واستشارهما في ذلك، فقالا له لا تفعل، لأن هؤلاء لم يريدوا نصحك وإنما أرادوا قتلك لأن هذا البيت لا يناوئه أحد إلا هلك فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله، فقال أفعل وأخذ النفر من هذيل وقطع أيديهم وسمر أعينهم ثم صلبهم ودخل مكة فنزل الشعب الطامح ونحر فيه ستة آلاف بدنه وكسا البيت بالوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كساه كما أن أول من سمي تبعا أول ملوك اليمن، وأقام فيه ستة أيام، وطاف وحلق، وانصرف، فلما دنا من اليمن حال من فيها من قومه بينه وبين دخوله، لأنه ترك دينهم، فخطب فيهم ودعاهم إلى الإيمان بالله وحده وهو خير من دينهم، لأنهم عبدة أوثان، فطلبوا منه أن يتحاكموا إلى النار التي هي أسفل جبل عندهم ومن شأنها أن تحرق الظالم ولا تضر المظلوم، فوافقهم على ذلك، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إليها في دينهم، وخرج هو والحبران وما معهما من الكتب في أعناقهما، وقعد الفريقان عند مخرج النار، فخرجت وغشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوه لها معها، والرجال
الذين كانوا يحملون القرابين، وخرج الحبران يتلوان التوراة، ونكصت النار حتى رجعت إلى المحل الذي خرجت منه فأعلن تبع إيمانه بالله وأصر قومه على الكفر، فذمهم الله «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الكافرة وأخبر عن مصيرهم بقوله جل قوله «أَهْلَكْناهُمْ» بكفرهم وعدم انقيادهم للإيمان كما أهلكنا قوم تبع هؤلاء بسبب عنادهم. قالوا وكان هذان ومن معهم أصل اليهود في اليمن، وان تبعا آمن بمحمد حسب إخبارهما له عنه قبل مبعثه وولادته، وكان بينه وبين مبعثه سبعمئة سنة، ومما نسب لتبع هذا قوله:
وكسونا البيت الذي حرم الله... حلاء معصيا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا... وجعلنا لنا به إقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا... قد رفعنا لواءنا معقودا
104
هذا وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن سهيل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم. وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى بن مريم. وهذا يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام، والأول أصح لأن الحبرين لم يذكرا عن عيسى شيئا، ولعله آمن بما جاء به موسى لأن الحبرين من أتباعه، والحادثة هذه قبل الميلاد بمئة وثلاثين سنة تقريبا، أو أنه عاش لمبعث عيسى عليهم السلام، قالوا وإن الحبرين أخبراه لا يدرك محمدا صلّى الله عليه وسلم فأوصى الأوس والخزرج أن يقيموا بالمدينة وأن يؤازروه إذا خرج وهم أحياء، وأن يوصوا من بعدهم بمؤازرته، وقال رحمه الله أيضا:
حدثت بأن رسول المليك يخرج حقا بأرض الحرم
ولو مدّ دهري إلى دهره كنت وزيرا له وابن عم
قالوا وكتب كتابا بإيمانه وأودعه لديهم على أن يعطيه لحضرة الرسول العربي من يبلغ زمانه منهم. قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» ٣٨ لأنه إذا لم يكن بعث ولا حساب يترتب عليه الثواب والعقاب، فيكون خلق الخلق لمجرد الفناء لعبا بل عبثا، وهذا دليل قاطع على البعث.
ولبحثه صلة في الآية ١٦ من سورة المؤمنين الآتية، فراجعه. «ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» الجد الصحيح القاطع «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ٣٩ ذلك ولهذا قال المؤمنون (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الكون وما فيه (باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الآية ١٩١ من آل عمران في ج ٣، قال تعالى مهددا لهم ولأمثالهم من الكفرة «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل والمؤمن والكافر «مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ» ٤٠ قومك فمن قبلهم ومن بعدهم
«يَوْمَ لا يُغْنِي» فيه «مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً» من الأشياء أي لا تنفع القرابة والصداقة والخلّة والسيادة من أي ولي كان «وَلا هُمْ» الموالي والرؤساء «يُنْصَرُونَ» ٤١ أيضا فلا يقدرون على نصرة أنفسهم، ولا دفع العذاب عنهم،
105
فكيف ينفعون غيرهم «إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ» فلا يخلص من العذاب غير الذين يرحمهم الله فإنهم يخلصون ويشفعون لغيرهم أيضا بإذن الله لمن يشاء رحمته. راجع الآية ٨٦ من سورة الزخرف المارة «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ» الغالب على أعدائه «الرَّحِيمُ» ٤٢ بأوليائه. قال تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ» ٤٣ مرّ ذكرها في الآية ٤٢ من الصافات فراجعها فهي «طَعامُ الْأَثِيمِ» ٤٤ في جهنم وهي خاصة بكثيري الآثام كبيري الكفر عامة، وما قيل إنها خاصة في أبي جهل على فرض صحته لا يقيد عمومها وشرابه فيها «كَالْمُهْلِ» در درى الزيت وعكره ووسخه حال حرارته «يَغْلِي فِي الْبُطُونِ» ٤٥ حال نزوله فيها «كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» ٤٦ الماء المتناهي في الحرارة. أخرج الترمذي وقال حديث صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه، أجارنا الله ثم يقال لذلك الأثيم بعنف وشدة «خُذُوهُ» جرّوه واسحبوه «فَاعْتِلُوهُ» احملوه وأوقعوه «إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ» ٤٧ وسطها «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ» ٤٨ الماء الشديد الغليان وإضافة العذاب إلى الحميم إضافة مبالغة أي عذابا هو الحميم، وسمي عذابا لعظم حرارته، ثم يقال له على سبيل التبكيت والتحقير «ذُقْ» هذا أحد أنواع العذاب المخصّصة لك «إِنَّكَ» تزعم في الدنيا «أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» ٤٩ عند قومك وتصف نفسك بهاتين الصفتين، ولا تعلم أيها الكافر أن العزيز من أعزه الله، لا من أعزته الدنيا بحطامها، والكريم من أكرمه الله لا من احترمه الناس لماله أو جاهه أو عشيرته أو رياسته:
مطلب دعاء أبي جهل في الدنيا ومأواه في الآخرة ونعيم الجنة ومعنى الموتة الأولى:
قيل كان أبو جهل يقول: ما بين لابتيها (يريد مكة) أعز وأكرم مني فتقول له خزنة جهنم على طريق التوبيخ والتقريع والسخرية (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). واعلم أن لفظ الشجرة فيها ثلاث لغات: فتح الشين وكسرها وإبدال الجيم ياء، ويوجد الآن طائفة من العرب في العراق ينطقون الجيم ياء فيقولون ريل بدل رجل. ويقال لهذا الأثيم أيضا «إِنَّ هذا» العذاب جزاء «ما كُنْتُمْ بِهِ»
106
في الدنيا «تَمْتَرُونَ» ٥٠ تشكون بصحته ولا تصدقون من أخبركم به، هذا وقد علمت أن هذه الآية عامة في جميع الكفار فيدخل فيها أبو جهل وأضرابه دخولا أوليا لأنهم كانوا يقاومون حضرة الرسول بأنواع المقاومات وهو أكرم الخلق وأعزهم على الله. انتهى وصف حال أهل النار حمانا الله منها. وهناك وصف أهل الجنة، رزقنا الله إياها،
قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ» ٥١ من كل سوء، والمقام بفتح الميم المكان وهو من الخاص الذي استعمل بمعنى العام، وبالضم موضع الإقامةِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ»
٥٢ جارية خلالها لزيادة البهجة وحسن النضارة، وأهل هذه الجنات «يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ» الحرير الرقيق «وَإِسْتَبْرَقٍ» ما ثخن منه ويسمى ديباج قيل هو أعجمي معرب أو أنه خرج من الأعجمية لاستعماله في العربية قبل نزول القرآن. ومعنى التعريب جعل الكلام الأعجمي عربيا لتصرفه وإجرائه مجرى الكلمات العربية بتغيره عن منهاجه الأعجمي وتمشيته على أوجه الإعراب، راجع الآية ١٨٢ من سورة الشعراء في ج ١، تقف على جميع الكلمات الموجودة في القرآن المقول فيها إنها أعجمية هي عربية، «مُتَقابِلِينَ» ٥٣ يعني هؤلاء الأبرار في جلوسهم، ينظر بعضهم إلى بعض بشوق ومحبة، وهذا من آداب المجالسة والمخاطبة، لأن في الصدود وإعطاء الظهر للجليس والمخاطب إهانة وعدم اكتراث بكلامه، راجع الآية ٤٤ من سورة الصافات المارة والآية ١٦ من سورة الواقعة في ج ١، «كَذلِكَ» كما أكرمناهم بما ذكرنا، فقد أحببناهم «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» ٥٤ نقيات بيض واسعات الأعين يحار الرائي من وصفهن «يَدْعُونَ فِيها» يطلبون أهل الجنة «بِكُلِّ فاكِهَةٍ» أرادوها فتحضر لهم حالا «آمِنِينَ ٥٥ من تعب قطفها وانقطاعها وغسلها، لأن ثمر الجنة يدنو لطالبه، دائما لا ينقطع، طاهر زكي لا يتقيد بموسم، أو بقطر كثمار الدنيا ولا ينقص، إذ يخلق الله بدله حين قطفه، ومهما أكثروا من أكلها فهم بمأمن من مضرّتها، بخلاف ثمار الدنيا، لأن الله تعالى جعل في كل قطر زمنا للفواكه والخضراوات بحسب ما يوافق أهله، والبيئة التي هم فيها، حتى ان الحكماء الأقدمين حذروا أكلها بغير موسمها، وقبل نضجها، ولو علم الله فيها خيرا لهم لجعلها دائمة
107
في كل مكان، إذ لا يعجزه شيء، ولجعلها مما يدخر كالزيتون والتين والتمر والزبيب وغيرها، ولذلك ينبغي أن يتحاشى عن أكلها في غير موسمها وقيل نضجها، ويكثر منها وقتها لما فيها من النفع للوجود بصورة لا تؤدي إلى التخمة، قال تعالى «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ» لأن الجنة محل الخلود دائما «إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى» التي فارقوا الدنيا بها، وإنما ليستثنى الموقة الأولى من موت الجنة مع أنها لا موت فيها البتة، لأن السعداء جعلنا الله منهم إذا ماتوا يصيرون بلطف الله تعالى إلى أسباب الجنة لما يرون من نعيم برزخ القبر فيلقون فيه الروح والريحان، ويرون منازلهم في الجنة عند خروج أرواحهم، كما مر في الآية ٨٩ من سورة الواقعة فى ج ١، فكأن موتهم في الدنيا كان في الجنة لانصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها، لأن الله تعالى قال في سورة الواقعة المذكورة (إِذا بَلَغَتِ) الروح (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) عند بلوغ الروح الحلقوم لا تقدرون على التكلم ولكنكم (تَنْظُرُونَ) منزلتكم في الجنة أو النار، وإنما جعل الله تعالى هذه الرؤيا في تلك الحالة حتى لا يقبل فيها إيمان ولا توبة لأنها حالة يأس، وإلا لما مات أحد على الكفر، راجع الآية ٩٠ من سورة يونس المارة وما ترشدك إليه من الآيات المتعلقة في هذا البحث. قال تعالى «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» ٥٦ وقرىء ووقّاهم بالتشديد للتكثير «فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ» أي أن ذلك العطاء بمجرد الفضل من الله لأن أعمالهم لا تؤهلهم ذلك ولا بعضه، بل لا يستحقون بعملهم على الله شيئا، لأنه مهما كان كثيرا لا يقابل بعض نعم الله عليهم «ذلِكَ» وقايتهم من النار وإدخالهم الجنة «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ٥٧ الذي لا أعظم منه. قال تعالى ملتفتا لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ» القرآن المشار إليه أول السورة «بِلِسانِكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّهُمْ» قومك المشار إليهم آنفا في الآية ٢٢ المصدرة بقوله (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي لعلهم يتفكرون به فيؤمنون حين «يَتَذَكَّرُونَ» ٥٨ به فيتعظون ويرجعون عن غيّهم وطغيانهم وإلا «فَارْتَقِبْ» فيهم نزول العذاب كما «إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» ٥٩ ما يحل بك من الدوائر بزعمهم، وستكون عليهم دائرة السوء. هذا، ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، لأن
108
Icon