تفسير سورة الدّخان

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿حم (١)﴾؛ أي: أقسمت (١) بحق ﴿حم﴾، وهي هذه السورة، أو مجموع القرآن
٢ - ﴿وَالْكِتَابِ﴾؛ أي: وبالكتاب الكريم، وهو القرآن، معطوف على ﴿حم﴾، إذ لو كان قسمًا آخر، لزم اجتماع قسمين على مقسم عليه واحد، ومدار العطف على تقدير كون ﴿حم (١)﴾ اسمًا لمجموع القرآن المغايرةُ في العنوان ﴿الْمُبِينِ﴾؛ أي: البين معانيه لمن أنزل عليهم، وهم العرب لكونه بلغتهم، وعلى أساليبهم؛ أو المبين لطريق الهدى من طرق الضلالة، الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة، وقال بعضهم: معنى الكلام: أقسمت بحق الحي القيوم، وبحق القرآن الفاصل بين الحق والباطل، فالحاء إشارة إلى الاسم الحي، والميم إلى الاسم القيوم، وهما أعظم الأسماء الإلهية لاشتمالهما على ما يشتمل عليه كل منها من المعاني والأوصاف والحقائق.
ويجوز (٢) أن يراد بالكتاب المبين هاهنا: الكتب المتقدمة، التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، والضمير في ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ عائد عليه بمعنى الكتب؛ لأنها كلها أنزلت في رمضان، كما سيأتي، أو على القرآن، ويجوز أن يكون المراد به: اللوح المحفوظ، والأول أولى. وقال النسفي: والواو في ﴿وَالْكِتَابِ﴾: واو القسم إن جعلت ﴿حم (١)﴾ تعديدًا للحروف، أو اسمًا للسورة، مرفوعًا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وواو العطف إن كانت ﴿حم (١)﴾ مقسمًا بها، وجواب القسم ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ وفي "عرائس البقلي" الحاء من ﴿حم (١)﴾ الوحي الخاص إلى محمد - ﷺ -، والميم محمد - ﷺ -، وذلك ما كان بلا واسطة، فهو سر بين المحب والمحبوب، لا يطلع عليه أحد غيرهما، كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠)﴾.
ويحتمل (٣) أن يكون ﴿حم (١)﴾ إشارةً إلى حمد الله على إنزاله القرآن،
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
الذي هو أجل النعم الإلهية. فـ ﴿حم (١)﴾ منحوت من الحمد، والمعنى: وحق الحق، الذي يستحق الحمد في مقابلة إنزال القرآن
٣ - ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ أي: الكتاب المبين الذي هو القرآن، وهو جواب القسم؛ أي: إنا أنزلنا القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، في مكان يقال له: بيت العزة دفعةً واحدة، وأملاه جبرائيل على السفرة، ثم كان ينزله على النبي - ﷺ - نجومًا؛ أي: مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع؛ أي: أنزلناه ﴿فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾؛ أي: ذات بركة وخير كثير، إذ فيها الرحمة والمغفرة ومضاعفة الحسنات، واستجابة الدعوات، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركةً، وهي ليلة القدر في شهر رمضان، أو ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، ولية الصك، وليلة الرحمة، وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة، والجمهور (١) على الأول، لقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان، وقيل: ابتداء نزوله إلى النبي - ﷺ - في ليلة القدر. قال القرطبي: ومن قال (٢): أقسم بسائر الكتب المنزلة فقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ كنى به عن غير القرآن، وروى قتادة عن واثلة، أن النبي - ﷺ - قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزلت الزبور لاثني عشرة من رمضان، وأنزل الإنجيل لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، ثم قال: أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في هذه الليلة، ثم أنزل نجمًا نجمًا في سائر الأيام على حسب اتفاق الأسباب"، وقيل: كانَ ينزل من اللوح المحفوظ في كل ليلة القدر، ما ينزل في سائر السنة، وقيل: كان ابتداء الإنزال من اللوح المحفوظ في هذه الليلة، انتهى.
والحكمة في نزوله ليلًا (٣): أن الليل زمان المناجاة، ومهبط النفحات، وفي الليل فراغ القلوب بذكر حضرة المحبوب، فهو أطيب من النهار عند المقربين
(١) النسفي.
(٢) القرطبي.
(٣) روح البيان.
والأبرار، ووصف الليلة بالبركة، لما أن نزول القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها، أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة، وإجابة الدعوة ونحوها، وإلا فأجزاء الزمان متشابهة بحسب ذواتها وصفاتها، فيمتنع أن يتميز بعض أجزائه عن بعض، بمزيد القدر والشرف لنفس ذواتها.
ثم بين السبب في إنزاله، فقال: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾؛ أي: ومبشرين، ففيه اكتفاء استئناف مبين لما يقتضي الإنزال، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب، والتبشير بالجنة؛ أي: وإنما أنزلناه لأنا كنا معلمين الناس ما ينفعهم، فيعملون به، وما يضرهم فيجتنبونه لتقوم حجة الله على عباده.
٤ - ثم بين سبب تخصيص نزوله بتلك الليلة، فقال: ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الليلة المباركة ﴿يُفْرَقُ﴾؛ أي: يكتب، ويفصل، ويبين، ويظهر للملائكة، الموكلين بالتصرف في العالم ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾؛ أي: كل أمر محكم، متقن، مبرم، مقضي من الله سبحانه، في تلك السنة من أرزاق العباد، وآجالهم، وجميع أمورهم إلا السعادة والشقاوة، من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة، وقيل: يبدأ في انتساخ ذلك من اللوح المحفوظ، في ليلة البراءة: ليلة النصف من شعبان ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى مكيائيل، ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرائيل، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، حتى أن الرجل ليمشي في الأسواق، وأن الرجل لينكح ويولد له، ولقد أدرج اسمه في الموتى، وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة، وما بينهما اعتراض، أو مستأنفة لتقرير ما لبلها، قال الزمخشري (١): فإن قلت: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ﴾ ما موقع هاتين الجملتين.
قلت: هما جملتان مستانفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم، الذي هو
(١) الكشاف.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾، كأنه قيل: أنزلناه؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصًا؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم.
قلتُ: وهذا من محاسن هذا الرجل، اهـ "سمين".
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُفْرَقُ﴾ بضم الياء وفتح الراء مخففًا، مبنيًا للمفعول. وقرأ الحسن والأعمش والأعرج: ﴿يُفْرَقُ﴾ بفتح الياء وضم الراء. ﴿كل﴾: بالنصب ﴿حكيم﴾. بالرفع على الفاعلية، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري: ﴿نفرق﴾ بالنون ﴿كل﴾ بالنصب، وفيما ذكر أبو علي الأهوازي عينه ﴿يفرق﴾ بفتح الياء وكسر الراء ونصب ﴿كل﴾، ورفع ﴿حكيم﴾ على أنه الفاعل بيفرق. وقرأ الحسن وزائدة عن الأعمش ﴿يفرق﴾ بالتشديد مبنيًا للمفعول.
قال الشوكاني: والحق (٢) ما ذهب إليه الجمهور، من أن هذه الليلة المباركة، هي ليلة القدر، لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها هنا، وبينها في سورة البقرة، بقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ وبقوله في سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾ فلم يبق بعد هذا البيان الواضح، ما يوجب الخلاف ولا ما يقتضي الاشتباه.
٥ - ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا﴾ قال الزجاج والفراء: انتصاب ﴿أَمْرٍ﴾ على المصدرية بـ ﴿يُفْرَقُ﴾؛ أي: يفرق فرقًا؛ لأن ﴿أَمْرٍ﴾ بمعنى فرقًا، مثل قولك: قعدت جلوسًا، والمعنى: إنا نأمر ببيان ذلك، ونسخه من اللوح المحفوظ، وقال المبرد: ﴿أَمْرٍ﴾ في موضع المصدر لـ ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾، والتقدير: ﴿أنزلناه﴾ إنزالًا من عندنا. وقال الأخفش انتصابه على الحال من فاعل أنزلناه؛ أي: أنزالناه آمرين، أو من مفعول أنزلناه؛ أي: مأمورًا به، وقيل: هو منصوب على الاختصاص؛ أي: أعني بهذا الأمر أمرًا حاصلًا من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية؛ أي: فيه تفخيم لشان القرآن، وتعظيم
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
له، وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب ﴿أَمْرٍ﴾ اثني عشر وجهًا، أظهرها ما ذكرناه. وقرأ زيد بن علي ﴿أمر﴾ بالرفع؛ أي: هو أمر.
ولما ذكر إنزال القرآن، ذكر المرسل، فقال ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ هذه الجملة إما بدل من قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ بدل الكل، أو جواب ثالث للقسم، أو مستأنفة، قال الرازي: المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين للأنبياء.
٦ - وقوله: ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ مفعول لأجله للإرسال.
والمعنى (١): إنا أنزلنا القرآن؛ لأن عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد، لأجل إفاضة رحمتنا عليهم، فيكون قوله: ﴿رَحْمَةً﴾ غايةً للإرسال، متأخرةً عنه على أن المراد منها: الرحمة الواصلة إلى العباد، أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم، فيكون باعثًا متقدمًا للإرسال، على أن المراد: مبدؤها، ووضع الرب موضع الضمير، للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها، وإضافته إلى ضميره - ﷺ - للتشريف، وقرأ الحسن وزيد بن علي ﴿رحمة﴾ بالرفع على تقدير: هي رحمة؛ أي: تلك رحمة من ربك التفاتًا من مضمر إلى ظاهر، إذ لو روعي ما قبله، لكان التركيب رحمةً منا، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر، إيذانًا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، كما مر آنفًا.
والمعنى (٢): أي في هذه الليلة بدأ سبحانه، يبين ما ينفع عباده، من أمور محكمة لا تغيير فيها ولا تبديل، بإنزاله ذلك التشريع الكامل، الذي فيه صلاح البشر، وهدايتهم، وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، ولا غرو، فهي من لدن حكيم عليم بما يصلح شؤون عباده في معاشهم ومعادهم.
ثم بين السر في نزول القرآن على لسان رسوله، فقال: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ إلخ؛ أي: إنا (٣) أرسلنا الرسول به، رحمة منا لعبادنا، حتى يستبين لهم ما يضرهم وما ينفعهم، وحتى لا يكون لهم حجة بعد إرسال الرسول به.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
ثم أكد ربوبيته، بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لمن دعاه ﴿الْعَلِيمُ﴾ بنيته، يسمع كل شيء من شأنه أن يسمع، خصوصًا أنين المشتاقين، ويعلم كل شيء من شأنه أن يعلم، خصوصًا حنين المحبين، فلا يخفى عليه شيء من أقوال العباد وأفعالهم، وأحوالهم، وهو تحقيق لربوبيته تعالى، وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته الجليلة؛ أي: إنه إنما فعل تلك الرحمة؛ لأنه هو السميع لأقوالهم، العليم بما يصلح أحوالهم، فلا عجب أن أرسله إليهم لحاجتهم إليه.
٧ - ثم أكد العلة في سمعه للأشياء وعلمه بها، فقال: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ بدل من ربك؛ أي: مالك جميع الموجودات العلوية والسفلية ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ أيها المشركون ﴿مُوقِنِينَ﴾ بشيء، فهذا أولى ما توقنون به، لفرط ظهوره، أو إن كنتم مريدين لليقين فاعلموا ذلك.
والمعنى: إنه هو السميع لكل شيء، العليم به؛ لأنه مالك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، إن كنتم تطلبون معرفة ذلك، معرفة يقين لا شك فيه؛ أي: إن كنتم موقنين بأنه ربّ السموات والأرض وما بينهما.. فأقرّوا بتوحيده، ولا تكذبوا رسوله فيما دعاكم إليه، وقد أقروا بذلك، كما حكاه الله عنهم، في غير موضع. وقرأ ابن محيصن (١) والأعمش وأبو حيوة والكوفيون: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ﴾ بالخفض، بدلًا من ﴿رَبِّكَ﴾، أو بيانًا له، أو نعتًا، وقرأ باقي السبعة والأعرج وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وشيبة بالرفع على القطع؛ أي: هو رب السموات، أو على البدل من السميع العلم، أو على أنه مبتدأ، وخبره ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾.
٨ - وبعد أن أثبت ربوبيته ووحدانيته، ذكر فذلكة لذلك، فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إذ لا خالق سواه، جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو خبر ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ كما مر، وكذلك جملة ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فإنها مستأنفة مقررة لما قبلها؛ أي (٢): يوجد الحياة في الجماد، ويوجد الموت في الحيوان بقدرته، كما يشاهد
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
ذلك؛ أي: يعلم علمًا جليًا يشبه المشاهدة؛ أي: هو سبحانه الإله الذي لا تصلح العبادة إلّا له، وهو المحيي المميت، فيحيي ما يشاء مما يقبل الحياة، ويميت ما يشاء عند انتهاء ما قدر له ﴿رَبُّكُمْ﴾؛ أي: هو ربكم أيها العباد، وخالقكم ورازقكم ﴿وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: رب آدم ومن دونه من الأولين.
وقرأ الجمهور (١): ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ﴾ برفعهما على الاستئناف، بتقدير مبتدأ؛ أي: هو ربكم، أو على أنه بدل من ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ﴾، أو بيان، أو نعت له، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم والحسن وأبو موسى عيسى بن سليمان، وصالح الناقط كلاهما عن الكسائي بالجر، على أنه بدل ثان من ﴿رَبِّكَ﴾، أو بيان له، وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي ﴿ربكم ورب آبائكم﴾ بالنصب على المدح.
والمعنى (٢): هو مالككم والمتصرّف فيكم، ومالك آبائكم الأولين، ومدبر شؤونهم، فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا نفع.
٩ - ثم بين أنهم، ليسوا بموقنين بالجواب، بعد أن تبين لهم الرشد من الغي، فقال: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ﴾ مما ذكر من شؤونه تعالى، غير موقنين في إقرارهم بأنه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما ﴿يَلْعَبُونَ﴾ لا يقولون ما يقولون عن جدّ وإذعان، بل مخلوطًا بهزء ولعب، وهو خبر آخر للمبتدأ. وفي "كشف الأسرار" الظرف متعلق بالفعل، أو حال من فاعل ﴿يَلْعَبُونَ﴾؛ أي: بل هم يلعبون في شك، ويتحيرون فيه، مثل قوله: ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ أو بل هم حال كونهم في شك مستقر في قلوبهم يلعبون؛ أي: بل هم في شك من التوحيد والبعث والإقرار، بأن الله خالقهم، وإن قالوا ذلك، فإنما يقولونه تقليدًا لآبائهم، من غير علم، إذ هم قابلوه وبالهزء والسخرية، فعل اللاعب العابث الذي يأخذ الجد، وما لا مرية فيه، أخذ الهزل الذي لا فائدة فيه.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
١٠ - والفاء، في قوله: ﴿فَارْتَقِبْ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره إذا عرفت حالهم هذا، وأردت بيان عاقبتهم... فأقول لك: انتظر يا محمد لكفار مكة ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: ظاهر لا شك فيه، و ﴿يَوْمَ﴾ مفعول ﴿ارتقب﴾ والباء للتعدية، ويجوز أن يكون ظرفًا له، والمفعول محذوف؛ أي: ارتقب وعد الله في ذلك اليوم، أطلق الدخان على شدة القحط، وغلبة الجوع على سبيل الكناية، أو المجاز المرسل.
والمعنى (١): فانتظر لهم يوم شدةٍ ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن في عام القحط يظلم الهواء، لقلة الأمطار وكثرة الغبار، ولذا يقال لسنة القحط السنة الغبراء، كما قالوا: عام الرمادة، والظاهر أن السنة الغبراء ما لا تنبت الأرض فيها شيئًا، وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابًا كالرماد، أو لأن العرب تسمي الشر الغال دخانًا، وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفها عن الأمطار، فهو من قبيل إسناد الشيء إلى سببه.
١١ - وذلك أن قريشًا لما بالغوا في الأذية له - ﷺ - دعا عليهم، فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر؛ أي: عقابك الشديد. يعني: خذهم أخذًا شديدًا. واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، وهي السبع الشداد، فاستجاب الله دعاءه، فأصابتهم سنة؛ أي: قحط حتى أكلوا الجيف، والجلود، والعظام، والعلهز وهو الوبر والدم المخلوطان؛ أي: يخلط الدم بأوبار الإبل، ويشوى على النار، كان الرجل منهم يرى بين السماء والأرض الدخان من الجوع، وكان يحدث الرجل، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، وذلك قوله تعالى: ﴿يَغْشَى النَّاسَ﴾ صفة ثانية لـ ﴿دُخَانٍ﴾؛ أي: يحيط ذلك الدخان بهم، ويشملهم من جميع جوانبهم حال عونهم قائلين: ﴿هَذَا﴾ الجوع، أو الدخان ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فمشى إليه - ﷺ - أبو سفيان ونفر معه، وناشدوه الله والرحم؛ أي: قالوا: نسألك يا محمد بحق
(١) روح البيان.
الله وبحرمة الرحم أن تستسقي لنا،
١٢ - ووعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم القحط أن يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ﴾؛ أي: وقائلين: ربنا اكشف وارفع عنا هذا العذاب؛ أي: عذاب الجوع، أو عذاب الدخان، ومآلهما واحد، فإن الدخان إنما ينشأ من الجوع ﴿إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ بعد رفعه عنا.
قال الشوكاني: وقد اختلف (١) في هذا الدخان، المذكور في الآية متى يأتي، فقيل: إنه من أشراط الساعة، وأنه يمكث في الأرض أربعين يومًا، وقد ثبت في "الصحيح": أنه من جملة العشر الآيات، التي تكون قبل قيام الساعة، وقيل: إنه أمر قد مضى، وهو ما أصاب قريشًا بدعاء النبي - ﷺ - كما بينا آنفًا، وهذا ثابت في "الصحيحين". وغيرهما، وقيل: إنه يوم فتح مكة، فقد قال الأعرج: إن المراد بالدخان: هو الغبار الذي ظهر يوم فتح مكة من ازدحام جنود الإسلام حتى حجب الأبصار عن رؤية السماء، فحينئذ فالمراد بالعذاب: في قوله: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ﴾: الجوع الذي كان بسبه، ما يرونه من الدخان، أو الدخان الذي هو من أشراط الساعة، أو يرونه يوم فتح مكة، على اختلاف الأقوال، والراجح منها: أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه، مما نزل بهم من الجهد وشدة الجوع، ولا ينافي ترجيح هذا القول ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضًا ما قيل: إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان على تقدير صحة وقوعه، اهـ. بتصرف واختصار.
والمعنى (٢): أي فانتظر يوم يأتيهم الجدب والمجاعة، التي تجعل الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، المنتشر في الفضاء، يغشى ذلك الدخان، ويحيط بهم من كل جانب، فيقولون: ربنا هذا عذاب مؤلم، يقض المضاجع، وينتهي إلى موت محقق إن دام، فاكشفه عنا إنا مؤمنون، إن كشفته عنا، وهذه هي طبيعة البشر، إذا هم وقعوا في شدة أيا كانت، أن يعدوا بالتوبة والإقلاع عما هم فيه، ولكن النفوس الشريرة لا تتجه إلى فعل الخير، ولا تفعل ما تتقرب به
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
إلى ربها انتظارًا لمثوبته ورجاءًا في غفرانه ورحمته.
١٣ - ثم نفى صدقهم في الوعد، وبين أن غرضهم كشف العذاب فحسب، فقال: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى﴾؛ أي: من أين يحصل لهم التذكر والاتعاظ، فهو بعيد عنهم غير ممكن منهم، فهو رد (١) لكلامهم، واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبىء عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، والمراد بالاستفهام: الاستبعاد، لا حقيقته، وهو ظاهر؛ أي: كيف يتذكرون، أو من أين يتذكرون؟ ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم ﴿وَ﴾ الحال أنه ﴿وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ يبين لهم كلَّ شيء يحتاجون إلى بيانه، من أمر الدين، والدنيا؛ أي: والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر، وموجبات الاتعاظ، ما هو أعظم منه في إيجابهما، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، تحرك صم الجبال
١٤ - ﴿ثُمَّ﴾ كلمة ﴿ثم﴾ هنا للاستبعاد ﴿تَوَلَّوْا﴾؛ أي: أعرضوا ﴿عَنْهُ﴾؛ أي: عن ذلك الرسول فيما شاهدوا منه من العظائم، الموجبة للإقبال إليه، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل جاوزوه ﴿وَقَالُوا﴾ تارةً هذا الرجل ﴿مُعَلَّمٌ﴾ يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، واسمه عداس أو أبو فكهة، أو جبر أو يسار. وقرأ زر بن حبيش ﴿معلم﴾ بكسر اللام، قاله في "البحر" وتارة أخرى ﴿مَجْنُونٌ﴾؛ أي: مغلوب العقل ناقصه، أو يقول بعضهم: كذا، وآخرون: كذا، فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم، أن يتأثروا منه بالعظة والتذكير، وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضغا، دواذا شبع طغا.
١٥ - وقوله: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ﴾ جواب من جهته تعالى عن قولهم: ربنا اكشف عنا العذاب؛ أي: إنا نكشف العذاب المعهود عنكم، بدعاء النبي - ﷺ -، وإنزل المطر كشفًا ﴿قَلِيلًا﴾ وهو دليل على كمال خبث سريرتهم، فإنهم إذا عادوا إلى الكفر بكشف العذاب كشفًا قليلًا، فهم بالكشف رأسًا أعود، أو زمانًا قليلًا، وهو ما بقي من أعمارهم ﴿إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾؛ أي: تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو والإصرار على الكفر، وتنسون هذه الحالة، وصيغة (٢) الفاعل في الموضعين
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
للدلالة على تحققهما لا محالة، ولقد وقع كلاهما، حيث كشفه الله سبحانه، بدعاء النبي - ﷺ -، فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا فيه من العتو والعناد؛ لأن من مقتضى فساد طينتم واعوجاج طبيعتهم، المبادرة إلى خلف الوعد ونقض العهد، والعود إلى الإشراك إذا زال المانع على ما بينه الله تعالى، فيمن ركب الفلك إذا أنجاه إلى البر، والمراد بعودهم إليه: عودهم إلى العزم على الاستمرار عليه؛ لأنه لم يوجد منهم إيمان بالفعل، إنما وجد منم الوعد به، إذا انكشف عنهم العذاب.
ومعنى الآيات (١): أي كيف يتذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان حين يكشف عنهم العذاب، وقد جاءهم الرسول بما هو كاف في رجوعهم إلى الحق، فلم يرجعوا بل قال بعضهم: إن القرآن إنما يعلمه له غلام رومي لبعض ثقيف. وقال آخرون: إنه أصيب بخبل، إذ تلقي إليه الجن هذه الكلمات، حين يعرض له الغشي.
والخلاصة: أن التوبة إما أن تكون بما ينال الناس من النوائب، وإما أن تكون بما يتضح لهم من الحقائق، وهؤلاء قد اتضحت لم وجوه الصواب فلم يفقهوا، فأخذناهم بالعذاب، ولكن كيف يرجعون به وقد ذكرناهم بالآيات، وأريناهم الحقائق، وهو أنجع أثرًا من العقاب فلم يؤمنوا، وقالوا ما قالوا.
ثم نبه إلى أنهم لا يوفون بعهدهم، بل إذا زال الخوف نكصوا على أعقابهم، ورجعوا إلى سيرتهم الأولى، وعضوا على الكفر بالنواجذ، وساروا على طريق الأباء والأجداد، فقال: إنا كاشفوا العذاب، إلخ؛ أي: إنا رافعوا هذا الضر النازل بهم، بالخصب الذي نوجده لهم زمنًا يسيرًا، وإنا لنعلم أنهم عائدون إلى سيرتهم الأولى من تمسكهم بالكفر، وترك الحق وراءهم ظهريًا لما في طباعهم من الميل إلى عبادة الأوثان، وتقليد الآباء والأجداد.
١٦ - ولما كان العذاب الأليم لم يؤثر، والإصلاح بالعلم والإيمان لم يفد
(١) المراغي.
352
أمهلناهم إلى يوم البطشة الكبرى، حيث لا توبة بعدها فينتقم الله منهم، وهذا ما عناه سبحانه، بقوله: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ﴾ ونأخذهم ﴿الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾؛ أي: الأخذة الشديدة ﴿إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ منهم أشد الانتقام؛ أي: يوم القيامة ننتقم منهم، ونعاقبهم العقوبة العظمى، فيوم ظرف لما دل عليه قوله: ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾، وهو ننتقم، لا بمنتقمون؛ لأن ما بعد ﴿إِنَّ﴾ لا يعمل فيما قبلها، أو منصوب بمحذوف. تقديره: اذكر يوم نبطش البطشة الكبرى، إنا منتقمون منهم في ذلك اليوم، ويوم البطشة الكبرى هو يوم القيامة. كما ذكرنا آنفا، قاله الحسن وعكرمة وابن عباس.
والمعنى عليه: أي إننا يوم القيامة لنسلطن عليهم بأسنا، وننتقمن منهم أشد الانتقام، ولا يجدن شفيعًا ولا وليًا ولا نصيرًا يمنع عنهم عقابنا، فيندمن ولات حين مندم، وقيل: البطشة الكبرى هي يوم بدر، قاله الأكثر. والمعنى عليه: إنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم، انتقم الله منم بوقعة بدر.
والظاهر: أن ذلك يوم القيامة. وان كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضًا. قال الشوكاني: بل الظاهر: أنه يوم بدر وإن كان يوم القيامة يوم بطشة كبرى من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم، أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل من الإنس والجن.
وقرأ الجمهور (١): ﴿نَبْطِشُ﴾ بفتح النون وكسر الطاء؛ أي: نبطش بهم، وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء، وهي لغة فيه. وقرأ الحسن أيضًا وأبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء. بمعنى: نسلط عليهم من يبطش بهم، والبطشة على هذه القراءة ليس منصوبًا بنبطش، بل بمقدر؛ أي: نبطش ذلك المسلط البطشة، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة، فينتصب بنبطش.
والخلاصة: أن الله سبحانه وتعالى، أخذهم بالجوع والدخان، ثم أذاقهم القتل والأسر يوم بدر، وكل ذلك من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فإذا كان يوم القيامة، يأخذهم أخذًا شديدًا، لا يقاس على ما كان في الدنيا، نسأل
(١) البحر المحيط.
353
الله العصمة من عذابه وجحيمه، والتوفيق لما يوصل إلى رضاه ونعمته، وقال بعض المفسرين: المراد بالدخان: ما هو من أشراط الساعة كما مر، وهو دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة، فيدخل في أسماع الكفرة، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ؛ أي: المشوي، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه، ليس فيه خصاص؛ أي: فرجة يخرج منها الدخان، وفي الحديث: "أول الآيات الدخان، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين"، وهو بفتح الهمزة على ما هو المشهور، اسم رجل بني هذه البلدة باليمن، وأقام بها، تسوق الناس إلى المحشر؛ أي: إلى الشام والقدس، قال حذيفة: فما الدخان؟ "فتلا الآية، فقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يومًا وليلةً، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره".
وقال حذيفة بن أسيد الغفاري - رضي الله عنه -: اطلع رسول الله - ﷺ - علينا ونحن نتذاكر فقال - ﷺ -: "ما تذاكرون"؟ فقالوا: نذكر الساعة، فقال - ﷺ -: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها آيات"؛ أي: علامات، فذكر الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم.
١٧ - ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ﴾ وقرىء ﴿فتنا﴾ بتشديد التاء للمبالغة في الفعل، أو لتكثير متعلقه؛ أي: وعزتي وجلالي لقد فتنا وابتلينا قبل كفار مكة ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: القبط، وامتحناهم؛ أي: فعلنا بهم فعل الممتحن بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا، ويظهر منهم ما كان مستورًا، فاختاروا الكفر على الإيمان.
فالفعل حقيقة، أو المعنى (١): أوقعناهم في الفتنة بالإمهال، وتوسيع الرزق
(١) روح البيان.
عليهم، فهو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه؛ لأن المراد بالفتنة حينئذ: ارتكاب المعاصي، وهو تعالى كان سببًا لارتكابها بالإمهال والتوسيع المذكورين ﴿وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ على الله تعالى، وهو موسى عليه السلام، بمعنى: أنه استحق على ربه أنواعًا كثيرة من الإكرام، أو كريم على المؤمنين، أو في نفسه، لأن الله تعالى لم يبعث نبيًا إلا من كان أفضل نسبًا، وأشرف حسبًا على أن الكرم بمعنى الخصلة المحمودة، وقال بعضهم: لمكالمته مع الله تعالى، واستماع كلامه من غير واسطة، وقال مقاتل: حسن الخلق بالتجاوز والصفح، وقال الفراء: كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة.
وفي الآية: إشارة إلى أنه تعالى جعل فرعون وقومه فيما فتنهم فداء أمة محمد - ﷺ -، لتعتبر هذه الأمة بهم، فلا يصرون على جحودهم كما أصروا، ويرجعوا إلى طريق الرشد، ويقبلوا دعوة نبيهم، ويؤمنوا بما جاء به لئلا يصيبهم مثل ما أصابهم بعد أن جاءهم رسول كريم
١٨ - ﴿أَنْ أَدُّوا﴾ ﴿أن﴾ إما مصدرية؛ أي: بأن أدوا، وادفعوا ﴿إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ﴾؛ أي: بني إسرائيل، وسلموهم، وأرسلوهم معي لأذهب بهم إلى الشام موطن آبائهم، ولا تستعبدوهم، ولا تعذبوهم؛ أي: جئتكم من الله تعالى لطلب تأدية عباد الله إلى. يقول الفقير: فتكون التأدية بعد الإيمان، كما قالوا في آية اخرى: ﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، ونظيره قول نوح عليه السلام لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: آمن واركب، فإن الراكب إنما هم المؤمنون، والركوب متفرع على الإيمان. وقال بعضهم: ﴿عِبَادَ اللَّهِ﴾ منصوب بحرف النداء المحذوف؛ أي: بأن أدوا إلى يا عباد الله حقه من الإيمان، وقبول الدعوة، وقيل: المعنى أدوا إلى يا عباد الله سمعكم، حتى أبلغكم رسالة ربكم، وإما مفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول، وهو رسول كريم، أو مخففة من الثقيلة، والمعنى: أن الشأن والحال. أدوا إلى عباد الله، والأول أولى وأوضح.
وقوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من الله ﴿أَمِينٌ﴾ على وحيه ورسالته، صادق في دعواه بالمعجزات، تعليل للأمر بالتأدية، وفيه إشارة إلى أنّ بني إسرائيل، كانوا
أمانة الله في أيدي فرعون وقومه، يلزمهم تأديتهم إلى موسى لكونه أمينًا، فخانوا تلك الأمانة حتى آخذهم الله تعالى على ذلك.
والمعنى (١): أي ولقد اختبرنا قبل مشركي قومك قوم فرعون، وهم مثال قومك في جبووتهم وطغيانهم وعتوهم، واستكبارهم، فأرسلنا إليهم الرسول الكريم موسى عليه السلام، فقال لهم: أيها القوم أرسلوا معي بني إسرائيل، وأطلقوهم من أسركم وتعذيبكم إني رسول من الله مأمون على ما أبلغكم غير متهم فيه ونحو الآية: قوله عز وجل: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾.
١٩ - ﴿وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: وبأن لا تتكبروا عليه تعالى، بالاستانة بوحيه وبرسوله، واستخفاف عباده وإهانتهم وقال يحيى بن سلام: لا تستكبروا عن عبادة الله. وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله، قيل: والفرق بينهما: أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر ذكره الماوردي. وقوله ﴿إِنِّي آتِيكُمْ﴾؛ أي: من جهته تعالى، يحتمل أن يكون اسم فاعل، وأن يكون فعلًا مضارعًا ﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: بحجة واضحة في نفسها، وموضحة صدق دعواي، لا سبيل إلى إنكارها، يعني: المعجزات، تعليل للنهي. وفي إيراد (٢) الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، من الجزالة ما لا يخفى، وقرأ الجمهور ﴿إِنِّي﴾ بكسر الهمزة على سبيل الإخبار. وقرأت فرقة بفتح الهمزة.
والمعنى عليه: لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم، فهذا توبيخ لهم، كما تقول: أتغضب أن قال لك الحق؛ أي: وأن لا تطغوا وتبغوا على ربكم، فتكفروا به وتعصوه، فتخالفوا أمره؛ لأني آتيكم بحجة وأضحة على حقية ما أدعوكم إليه لمن تأملها وتدبر فيها
٢٠ - ﴿وَإِنِّي عُذْتُ﴾ والتجأت ﴿بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ وتوكلت عليه من ﴿أَنْ تَرْجُمُونِ﴾ ـي فهو العاصم من شركم من الرجم، وهو الرمي بالرجام بالكسر، وهي الحجارة، أو تؤذوني ضربًا أو شتمًا بأن تقولوا: هو ساحر ونحوه، أو
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
تقتلوني. قيل: لما قال: ﴿وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ﴾ توعدوه بالقتل. وفي "التأويلات النجمية". وإني عذت بربي من شر نفسي، وبربكم من شر نفوسكم، أن ترجموني بشيء من الفتن، انتهى.
والمعنى: وإني التجىء إلى الله الذي خلقني وخلقكم، أن لا تصلوا إلبم بسوء من قول أو فعل، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (١): ﴿عُتُّ﴾.
٢١ - ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي﴾؛ أي: وإن لم تصدقوني، وتقروا نبوتي ﴿فَاعْتَزِلُونِ﴾؛ أي: فاتركوني، ولا تتعوضوا لي بأذى. قال مقاتل: دعوني كفافًا لا علي ولا لي. وقيل: كونوا بمعزل عني، وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا، وقيل: فخلوا سبيلي، والمعنى متقارب، والإيمان يتعدى باللام باعتبار معنى الإذعان والقبول، وبالباء باعتبار معنى الاعتراف، وحقيقة آمن به أمن المخبر من التكذيب والمخالفة، وقال ابن الشيخ: اللام للأجل بمعنى: لأجل ما أتيت به من الجحة.
والمعنى (٢): وإن كابرتم مقتضى العقل، ولم تصدقوني فكونوا بمعزل منى، لا علي ولا لي، ولا تتعوضوا إلى بشر ولا أذى، لا باليد ولا باللسان، فليمعى ذلك من جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلاحُكم، فالاعتزال كناية عن الترك، ولا يراد به الاعتزال بالأبدان.
قال القاضي عبد الجبار - من متأخري المعتزلة -: كل موضع جاء فيه لفظ الاعتزال في القرآن، فالمراد به: الاعتزال عن الباطل، وبهذا صار اسم الاعتزال اسم مدح، وهو منقوض، بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)﴾، فإن المراد بالاعتزال هنا: العزلة عن الإيمان التي هي الكفر، لا العزلة عن الكفر والباطل.
وخلاصة المعنى (٣): أي وإن لم تصدقوني فيما جئتكم به، من عند ربكم فخلوا سبيلي، ولا ترجموني باللسان ولا باليد، ودعوا الأمر بيني وبينكم
(١) البيضاوي.
(٢) روح البيان
(٣) المراغي.
مسالمةً، إلى أن يقضي الله بيننا،
٢٢ - ولما طال مقامه عليه السلام، بين أظهرهم، وأقام حجج الله عليهم، ولم يزدهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا.. دعا عليهم، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾، إذ كذبوه، ولم يؤمنوا به، ولم يؤدوا إليه عباد الله، وهموا بقتله بـ ﴿أَنَّ هَؤُلَاءِ﴾ القبطيين ﴿قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾؛ أي: مصرون على الإجرام والكفر، مشركون بك، مكذبون لرسلك، متبعون أهواءهم، وأنت أعلم بهم، فافعل بهم ما يستحقونه،
٢٣ - والفاء في قوله: (٤) ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا﴾ عاطفة ما (١) بعدها على محذوف ولكنه مع إضمار القول بعدها، لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر. والإسراء وكذا السرى لا يكون إلا بالليل، لكنه أتى بالليل للتأكيد، وسماه دعاءً مع أنه لم يذكر إلا مجرد كونهم مجرمين؛ لأنهم قد يستحقون بذلك الدعاء عليهم، والتقدير: فأجاب الله دعاءه، فقال له: أسر وَامْشِ يا موسى ببني إسرائيل ومن آمن معك من القبط، من مصر ليلًا، على غفلة من العدو.
ثم علل السرى ليلًا، فقال: ﴿إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾؛ أي: إن فرعون وقومه يتبعونكم إذا علموا بخروجكم ومسيركم ليلًا ليقتلوكم، وأؤخر علمهم بذلك، فلا يدركونكم. ونحو الآية. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧)﴾.
وقرأ الجمهور (٢): بفتح همزة: ﴿أَنَّ هَؤُلَاءِ﴾ على إضمار حرف الجر، كما قدرنا آنفًا، وقرأ الحسن في رواية، وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وزيد بن علي بكسرها، على إضمار القول. وقرأ الجمهور: ﴿فَأَسْرِ﴾ بقطع الهمزة وقرأ أهل الحجاز بالوصل، ووافقهم ابن كثير، فالقراءة الأولى من أسرى، والثانية: من سرى، يقال: سرى وأسرى لغتان.
٢٤ - ﴿وَاتْرُكِ﴾ يا موسى ﴿الْبَحْرَ﴾؛ أي: بحر القلزم، وهو الأظهر الأشهر، أو النيل، حال كونه ﴿رَهْوًا﴾؛ أي: ساكنًا، مصدر (٣) سمي به البحر للمبالغة، وهو
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
بمعنى الفرجة الواسعة؛ أي: ذا رهو أو راهيًا، مفتوحًا على حاله منفرجًا، ولا تخف أن يتبعك فرعون وقومه، أو ساكنًا على هيئته بعدما جاوزته، ولا تضرب بعصاك لينطبق، ولا يغيره عن حاله ليدخله القبط، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم، فيكون معنى ﴿رَهْوًا﴾ ساكنًا غير مضطرب، وذلك لأن الماء وقف له كالطود العظيم، حتى جاوز البحر ﴿إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ علة للأمر بترك البحر رهْوًا، والجند جمع معد للحرب، والإغراق والغرق الرسوب في الماء، والتسفل فيه؛ أي: وإذا قطعت البحر أنت وأصحابك، فاتركه منفرجًا، ساكنًا على حاله التي كان عليها حين دخلته، حتى يدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه؛ لأنهم جند مغرقون، في سابق علمنا، أخبر تعالى موسى بذلك ليسكن قلبه، ويطمئن جأشه. وقرأ الجمهور (١): بكسر همزة ﴿إنَّ﴾ على الاستئناف، لقصد الإخبار بذلك، وقرىء بالفتح على تقدير لأنهم
٢٥ - ﴿كَمْ﴾ هي الخبرية، المفيدة للتكثير، في محل النصب على أنه مفعول ﴿تَرَكُوا﴾، وقوله: ﴿مِنْ جَنَّاتٍ﴾ بيان لإبهامها ﴿وَعُيُونٍ﴾ معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: ترك آل فرعون في مصر كثيرًا من بساتين كثيرة الأشجار، وعيون نابعة بالماء، وكانت بساتينهم متصلةً من رشيد إلى أسوان، وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يومًا. ولعل (٢) المراد بالعيون: الأنهار الجارية، المتشعبة من النيل، إذ ليس في مصر آبار ولا عيون، كما قال بعضهم في ذمها هي بين بحر رطب، عفن، كثير البُخارات الرديئة، التي تولد الأدواء، وتفسد الغذاء، وبين جبل وبر يابس صلد. ولشدة يبسه لا تنبت فيه خضراء، ولا تنفجر فيه عين ماء، انتهى.
وفي الآية (٣) اختصار، والمعنى: فعل موسى ما أمر به، بأن ترك البحر رهوًا. فدخله فرعون فأغرقوا، وتركوا بساتين كثيرةً وعيونًا نابعةً، قال بعضهم: لما كان فرعون يفتخر بالماء وجريان الأنهار من تحت قصره، وأشجار بساتينه جاء الجزاء من جنس العمل، ولذا أمر الله تعالى موسى عليه السلام، بأن يسير
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
إلى جانب البحر دون البر، وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على إهلاك العدو في البر أيضًا، بسبب من الأسباب، كما فعل بأكثر الكفار، ممن كانوا قبل القبط
٢٦ - ﴿و﴾ كم تركوا من ﴿زُرُوعٍ﴾ كثيرة الأقوات، جمع زرع، وهو ما استنبت بالبذر، تسميةً بالمصدر من زرع الله الحرث إذا أنبته وأنماه. قال في "كشف الأسرار"؛ أي: وفنون الأقوات، وألوان الأطعمة؛ أي: كانوا أهل ريف وخصب، خلاف حال العرب ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾؛ أي: محافل مزينة، ومنازل محسنة، وقرأ الجمهور (١): ﴿وَمَقَامٍ﴾ بفتح الميم، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: أراد المقام، وهو اسم مكان للقيام، وقرأ ابن هرمز وقتادة وابن السميقع ونافع، في رواية خارجة، وقتادة بضمها، اسم مكان الإقامة، قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المجالس، والمساكن وغيرها.
٢٧ - ﴿وَنَعْمَةٍ﴾؛ أي: تنعم (٢) ونضارة عيش ولذاذة حياة، يقال: كم ذي نعمة لا نعمة له؛ أي: كم ذي مال لا تنعم له، فالنعمة بالكسر ما أنعم به الله عليك، والشعمة بالفتح التنعم، وهو استعمال ما فيه النعومة، واللين، من المأكولات والملبوسات؛ أي: وكم تركوا من نعمة ﴿كَانُوا﴾؛ أي: فرعون وقومه ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك النعمة ﴿فَاكِهِينَ﴾؛ أي: متنعمين متلذذين، ومنه الفاكهة، وهي ما يتفكه به؛ أي: يتنعم ويتلذذ بأكله، وقرأ أبو رجاء ﴿ونعمة﴾ بالنصب عطفًا على ﴿كَمْ﴾ وقرأ الجمهور: ﴿فَاكِهِينَ﴾ بالألف؛ أي: طيبي الأنفس، أصحاب فاكهة كلابن وتامر؛ أي: كانوا فيها متنعمين طيبةً بها أنفسهم، وقرأ (٣) أبو رجاء والحسن، وأبو الأشهب، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة ﴿فكهين﴾ بغير ألف؛ أي: أشرين بطرين، وقال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه، إذا كان مزاحًا، والفكه أيضًا لأشر. وقال القشيري: فاكهين لاهين،
٢٨ - وقوله: ﴿كَذلِكَ﴾ في محل (٤) رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، قال الزجاج: الأمر، وهو إهلاك فرعون وقومه، وتخليفهم وراءهم كذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر الشوكاني.
(٤) الشوكاني.
360
والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه ﴿تَرَكُوا﴾؛ أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، وقيل: مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم، فعلى الوجه الأول يكون قوله: ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ معطوفًا على ﴿تَرَكُوا﴾، وعلى الأوجه الأخيرة يكون معطوفًا على الفعل المقدر، والمراد بالقوم الآخرين: بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه ملكهم أرض مصر، بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين؛ أي: إنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث بلا كلفة، ومثل هذا قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾.
أي (١): جعلنا أموال القبط لقوم، ليسوا منهم في شيء، من قرابة، ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، كانوا مسخرين لهم مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم الله تعالى، وأورثهم ديارهم وملكهم وأموالهم، وقيل: غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر. قال قتادة: لم يروَ في مشور التواريخ، أنهم رجعوا إلى مصر، ولا ملكوها قط، ورد بأنه لا اعتبار بالتواريخ فالكذب فيها كثير، والله تعالى أصدق قيلًا، وقد جاء في الشعراء التنصيص بإيراثها بني إسرائيل، هذا في "حواشي" سعدي المفتي.
قال المفسرون عند قوله تعالى (٢): ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: يجعلكم خلفاء في أرض مصر، أو في الأرض المقدسة، وقالوا في قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾؛ أي: أرض الشام، ومشارقها ومغاربها، جهاتها الشرقية والغربية، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة. والعمالقة، بعد انقضاء مدة التيه، وتمكنوا في نواحيها، فاضطرب كلامهم، فتارةً حملوا الأرض على أرض مصر، وأخرى على أرض الشام، والظاهر: الثاني ولأن المتبادر استخلاف أنفس المستضعفين لا أولادهم، ومصر إنما ورثها أولادهم؛ لأنها فتحت في زمان
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
361
داوود عليه السلام، ويمكن أن يحمل على أرض الشام ومصر جميعًا والمراد بالمستضعفين: هم وأولادهم، فإن الأبناء ينسب إليهم ما ينسب إلى الآباء، والله أعلم.
وعبارة "المراغي" هنا: أي كم (١) ترك فرعون وقومه، بعد مهلكهم من بساتين فيحاء، وحدائق غناء، وزروع ناضرة، وقصور شاهقة، فقد كانوا في بُلَهْنِيَّةٍ من العيش، وسعة في الرزق، وخفض ودعة، وسرور، وحبور، ثم أكد هذا بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذبوا رسلنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا، وخالف أمرنا ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾؛ أي: وأورثنا تلك البلاد بما فيها من خير عميم ونعيم عظيم، قومًا غير أهلها ممن لا يمتون (٢) - لا ينسبون - إليهم بقرابة ولا دين، فقد تغلب على مصر الآشوريون، والبابليون حينًا، والحبش حينًا آخر، ثم الفرس مدةً، واليونان أخرى، ثم الرومان من بعدهم، ثم العرب، ثم الطولونيون، والإخشيديون، والفاطميون، والمماليك البرية والبحرية، والترك والفرنسيون، والإنكليز، وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا، ونتمكن من استقلال بلادنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)﴾.
٢٩ - ثم سخر منهم، واستهزأ بهم حين هلكوا، فقال: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ مجاز مرسل عن عدم الاكتراث بهلاكهم. والاعتداد بوجودهم؛ لأن سبب البكاء على الشيء هو المبالاة بوجوده، قال المفسرون؛ أي (٣): إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملًا صالحًا تبكي عليهم به، ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يُبْكَى عليهم به.
(١) المراغي.
(٢) يمتون: المت التوسل بقرابة بابه رد اهـ مختار.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض؛ أي: عمت مصيبته، ومن ذلك قول جرير:
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ سُوْرُ الْمَدِيْنَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وقال الحسن: في الكلام حذف مضاف، تقديره: أي ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض من الملائكة والناس، وقال مجاهد: الكلام على حقيقته، فإن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحًا، وقيل: إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته، ومصاعد عمله، وفي الحديث: "إن المؤمن يبكي عليه من الأرض مصلاه، وموضع عبادته، ومن السماء مصعد عمله"، ورُوي: إذا مات كافر استراح منه السماء والأرض، والبلاد، والعباد، فلا تبكي عليه أرض ولا سماء ﴿وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾؛ أي: ممهلين إلى وقت آخر، بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم، وشدة عنادهم؛ أي: ما أمهلوا لتوبة، أو تدارك تقصير، بل عجل لهم العذاب.
٣٠ - ولما بين كيفية إهلاك فرعون وقومه أردف ذلك، بذكر إحسانه إلى موسى، وقومه فبدأ بدفع الضرر عنهم، وهو نجاتهم مما كانوا فيه من العذاب، ثم ذكر اتصال النفع لهم من اختيارهم على العالمين، وإيتائهم الآيات، فقال: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد خلصنا أولاد يعقوب بإغراق القبط في اليم ﴿مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾؛ أي: من العذاب الشديد من استعباد فرعون إياهم، وقتل أبنائهم، واستخدام نسائهم وبناتهم، وتكليفه إياهم بالأعمال الشاقة.
٣١ - وقوله: ﴿مِنْ فِرْعَوْنَ﴾ بدل من العذاب، إما على جعله نفس العذاب لإفراطه في التعذيب، وإما على حذف المضاف؛ أي: من عذاب فرعون، أو حال من المهين؛ أي: حال كونه واقعًا من جهة فرعون واصلًا إليهم من جانبه.
وقرأ عبد الله (١): ﴿من عذاب المهين﴾ وهو من إضافة الموصوف إلى
(١) البحر المحيط.
صفته، كبقلة الحمقاء، أو من عذاب فرعون المهين إياهم؛ لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين، وقرأ ابن عباس ﴿من فرعون﴾، من اسم استفهام مبتدأ، و ﴿فرعون﴾ خبره لما وصف فوعون بالشدة والفظاعة، قال ﴿من فرعون﴾ على معنى: هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته.
ثم عرف حاله في ذلك. بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا﴾؛ أي: متكبرًا عن الإيمان وقبول الحق، ﴿مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ خبر ثان؛ أي: من الذين أسرفوا على أنفسهم بالظلم والعدوان، وتجاوز الحد في الكفر والعصيان، ومن إسرافه أنه على حقارته، وخسة شأنه ادعى الإلهية، وكان أكفر الكمار، وأطغاهم، وهو أبلغ من أن يقال: مسرفًا لدلالته على أنه معدود في زمرتهم، مشهور بأنه في جملتهم، وفيه ذم لفرعون، ولمن كان مثله في العلو والإصراف، كنمرود وغيره، وبيان أن من أهان المؤمن، أهلكة الله تعالى، وأذله، ومن يهن الله فما له من مكرم، وأن النجاة من أيدي الأعداء، من نعم الله الجليلة على الأحباب، فإن من نكد الدنيا ومصائبها على الحر، أن يكون مغلوبًا للأعداء، وأن يرى عدوًا له، ما من صداقته بد، وأن الله تعالى إذا أراد للمرء ترقيًا في دينه ودنياه، يقدم له البلايا ثم بنجيه.
والمعنى: أي ولقد خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد، وقتل الأبناء، واستحياء النساء، وتكليفهم بالأعمال الشاقة إلى نحو ذلك، من وسائل الخسف والضيم، إذ كان جبارًا مستكبرًا مسرفًا في الشر والفساد، ولا أدل على ذلك من ادعائه الألوهية إذ قال: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾.
٣٢ - وبعد أن بين طريق دفعه التفسير عنهم، أردف ذلك، ذكر ما أكرمهم به، فقال: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد اصطفينا بني إسرائيل ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿اخترنا﴾؛ أي (١): حالة كوننا
(١) روح البيان.
عالمين، بأنهم أحقاء بالاختيار، والاصطفاء، وفضلناهم ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: على عالمي زمانهم، أو على العالمين جميعًا في زمانهم وبعدهم في كل عصر، لكثرة الأنبياء فيهم حيث بعث فيهم يومًا ألف نبي، ولم يكن هذا في غيرهم، ولا ينافيه قوله تعالى في حق أمة محمد - ﷺ -: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ الآية، لتغاير جهة الخيرية. وقال هنا (١): ﴿عَلَى عِلّمٍ﴾؛ أي: منا وقال في الجاثية: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ بحذفه جريًا هنا على الأصل في ذكر ما لا يغني عنه غيره، واكتفاءً، ثم بقوله بعد: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾.
يقول الفقير: والحق أن هذه الأمة المرحومة، خير من جميع الأمم من كل وجه، فإن خيرية الأمم إن كانت باعتبار معجزات أنبيائهم، فالله تعالى قد أعطى لنبينا - ﷺ - جميع ما أعطاه للأولين، وإن كانت باعتبار كثرة الأنبياء في وقتٍ واحد، فعلماؤنا الذين كأنبياء بني إسرائيل أكثر، وأزيد، وذلك لأنه لا تخلو الدنيا كل يوم من أيام هذه الأمة إلى قيام الساعة من مئة ألف وليٍّ وأربعة وعشرين ألف ولي، فانظر كم بينهم من الفرق، وهدانا الله وإياكم أجمعين انتهى،
وقال الواسطي رحمه الله تعالى (٢): اخترناهم على علم منا بجناياتهم، وما يقترفون من أنواع المخالفات، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا بهم، ليعلموا أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات، ومن هذا القبيل أولاد يعقوب عليه السلام، فإنهم مع ما فعلوا بيوسف من إلقائه في الجب ونحوه، اختارهم الله تعالى للنبوة على قول.
والمعنى (٣): أي ولقد اصطفيناهم على عالمي زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب، وأرسلنا فيهم من الرسل، ونحن عالمون بأنهم أهل لكل مكرمة وفضل
٣٣ - ﴿وَآتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: وأعطينا بني إسرائيل ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾؛ أي: من الأمور ذوات الخطر والشرف، الدالة على كرامتهم عندنا، وهي معجزات موسى عليه السلام،
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
365
﴿مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: اختبار ظاهر، وامتحان واضح، لننظر كيف يعملون، كفلق البحر، وإنجائهم من الغرق، وتظليل الغمام، وانزال المن والسلوى، وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم. وفي "كشف الأسرار": ابتلاهم بالرخاء والبلاء، فطالبهم بالشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء.
الإعراب
﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)﴾.
﴿حم (١)﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة الآتية سورة ﴿حم (١)﴾؛ أي: مسماة بـ ﴿حم (١)﴾ إن قلنا إنه اسم للسورة، والجملة مستأنفة، وإن قلنا: إنه مما استأثر الله سبحانه بعلمه، فلا محل له من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى، والمعنى: لم يعلم ﴿الْكِتَابِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿الكتاب﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، ﴿الْمُبِينِ﴾ صفة لـ ﴿الكتاب﴾، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا، تقديره: أقسم والكتاب المبين، وجملة القسم مستأنفة.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿فِي لَيْلَةٍ﴾: متعلق به، ﴿مُبَارَكَةٍ﴾ صفة ﴿لَيْلَةٍ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿مُنْذِرِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ جواب ثان للقسم أيضًا، أو مستأنفة، أو تفسيرية لجواب القسم. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يُفرَقُ﴾، ﴿يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ﴾: فعل مغير الصيغة، ونائب فاعل، ومضاف إليه ﴿حَكِيمٍ﴾: صفة أمر، والجملة الفعلية مستأنفة، أو صفة ثانية لـ ﴿لَيْلَةٍ﴾، وما بينهما اعتراض ﴿أَمْرٍ﴾: مفعول مطلق لـ ﴿يُفْرَقُ﴾ لأنه مصدر معنوي له؛ أي: يفرق فرقًا من عندنا، أو مفعول مطلق لفعله المحذوف؛
366
أي: أمرنا أمرًا ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾ صفة لـ ﴿أَمْرًا﴾، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿رَحْمَةً﴾ أجازوا فيه خمسة أوجه، متساوية الرجحان:
الأول: المفعول لأجله والعامل فيه إما ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾، وإما ﴿أَمْرًا﴾، وإما ﴿يُفرَقُ﴾، وإمَّا ﴿مُنْذِرِينَ﴾.
والثاني: أنه مصدر منصوب بفعل مقدر؛ أي: رحمنا رحمة.
والثالث: أنه مفعول بـ ﴿مُرْسِلِينَ﴾.
والرابع: أنه حال من ضمير ﴿مُرْسِلِينَ﴾؛ أي: ذوي رحمة.
والخامس: أنه بدل من ﴿أَمْرًا﴾، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، أو متعلق بنفس الرحمة، ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿هو﴾ ضمير فصل ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ خبران لـ ﴿إن﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)﴾.
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ﴾: بالجر بدل من ﴿رَبِّكَ﴾، وبالرفع خبر ثالث لـ ﴿إنّ﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف صلة لما، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿كنُتُم﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها: ﴿مُوقِنِينَ﴾: خبر ﴿كاَنَ﴾، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم موقنين، فايقنوا بأن محمدًا - ﷺ - رسوله، وجملة الشرط معترضة ﴿لَا إلَهَ﴾: ناصب واسمه وخبره محذوف جوازًا، تقديره: موجود، وجملة ﴿لَا﴾: في محل الرفع خبر ثالث أو رابع لـ ﴿إنّ﴾، ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع، بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لا﴾: المحذوف، ﴿يُحْيِي﴾: فعل، وفاعل مستتر، والجملة خبر رابع لـ ﴿إنّ﴾. ﴿وَيُمِيتُ﴾: معطوف على ﴿يُحْيِي﴾، ﴿رَبُّكُمْ﴾: خبر خامس لـ ﴿إنّ﴾. ﴿وَرَبُّ آبَائِكُمُ﴾: معطوف على
367
﴿رَبُّكُمْ﴾، ﴿الْأَوَّلِينَ﴾: صفة لـ ﴿آبَائِكُمُ﴾، ﴿بَلّ﴾: حرف إضراب عن محذوف، تقديره: فليسوا بموقنين بل هم، و ﴿هُمّ﴾: مبتدأ، ﴿فِي شَكٍ﴾: خبره، وجملة ﴿يَلْعَبُونَ﴾ في محل النصب، حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، والجملة الإضرابية معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠)﴾.
﴿فَارْتَقِبْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تعنتهم وتمردهم في الكفر، وأردت بيان عاقبة أمرهم.. فأقول لك: ﴿ارتقب﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿يَوْمَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿تَأْتِي السَّمَاءُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿بِدُخَانٍ﴾: متعلق بـ ﴿تَأْتِي﴾، ﴿مُبِينٍ﴾ صفة لـ ﴿دخان﴾.
﴿يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣)﴾.
﴿يَغْشَى النَّاسَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿دخان﴾، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الجر، صفة ثانية لـ ﴿دخان﴾. ﴿هَذَا عَذَابٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لقول محذوف، وجملة القول المحذوف حال من الناس، تقديره: يغشى الناس، حال كونهم يقولون لربك هذا عذاب أليم، ربنا اكشف عنا العذاب، ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول القول. ﴿اكْشِفْ﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿عَنَّا﴾: متعلق به، ﴿العَذَابٌ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة في محل النصب، مقول القول مسوقة لتعليل الدعاء بالكشف، ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام بمعنى كيف، أو أين، في محل النصب على الظرفية، مبني على السكون، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، ﴿الذِّكْرَى﴾ مبتدأ،
368
والتقدير: الذكرى حاصل؛ أي: حال كونه كائنًا لهم، والاستفهام هنا لاستبعاد حصول الذكرى لهم، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿وَقَدّ جَآءَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾ حالية، ﴿قد﴾ حرق تحقيق ﴿جَاءَهُمْ﴾ فعل ومفعول به، ﴿رَسُولٌ﴾: فاعل، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من ضمير ﴿لَهُمُ﴾.
﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)﴾.
﴿ثُمَ﴾: حرف عطف وتأخير، ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على مقدر تقديره: فلم يذكروا ثم تولوا عنه، ﴿وَقَالُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿تَوَلَّوْا﴾، ﴿مُعَلَّمٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو معلم، ﴿مَجْنُونٌ﴾: خبر ثان للمبتدأ، والجملة الاسمية مقول لـ ﴿قالوا﴾، ﴿إنَا﴾ ناصب واسمه ﴿كَاشِفُو الْعَذَابِ﴾: خبره، ومضاف إليه، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، ﴿قَلِيلًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: كشفًا قليلًا، أو على الظرفية الزمانية؛ لأنه صفة لزمان محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا، ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَائِدُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ الأولي بعاطف مقدر، تقديره: إنا كاشفوا العذاب قليلًا ثم إنكم عائدون، ﴿يَوْمَ﴾ منصوب باذكر مقدر، أو بننتقم منهم، ﴿نَبْطِشُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه ليوم، و ﴿الْبَطْشَةَ﴾ مفعول مطلق، ﴿الْكُبْرَى﴾ صفة له، ﴿إنَا﴾ ناصب واسمه، ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾: خبره، والجملة مستأنفة.
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧)﴾.
﴿وَلَقَدّ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿فَتَنَّا﴾: فعل وفاعل، ﴿قَبْلَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿فَتَنَّا﴾، ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، ﴿وَجَاءَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿جاءهم﴾: فعل ومفعول به، ﴿رَسُولٌ﴾: فاعل، ﴿كَرِيمُ﴾ صفة ﴿رَسُولٌ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَتَنَّا﴾.
369
﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩)﴾.
﴿أَنْ﴾ يجوز أن تكون مفسرة؛ لأن مجيء الرسل متضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: بأدائكم إلى، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جاءهم﴾، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة ﴿أَدُّوا إِلَيَّ﴾: خبرها. ﴿عِبَادَ اللَّهِ﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، فيكون المراد بعباد الله: القبط. واختار الزمخشري أن يكون ﴿عِبَادَ اللَّهِ﴾ مفعولًا به، وهم بنو إسرائيل، يقول أدوهم إلى، وأرسلوهم معي، ويؤيد هذا المعنى ما جاء في سورة الشعراء: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿لَكُم﴾: حال من رسول؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿رَسُولٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿أَمِينٌ﴾: صفة ﴿رَسُولٌ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالأداء. ﴿وَأَن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أن﴾: معطوفة مع مدخولها على ﴿أن﴾ الأولى، ويجوز فيها من الأوجه ما جاز في الأولى. ﴿لا﴾ ناهية. ﴿تَعْلُوا﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَعْلُوا﴾؛ أي: وبعدم علوكم على الله. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، ﴿آتِيكُمْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿بِسُلْطَانٍ﴾ متعلق بـ ﴿آتِيكُمْ﴾، ﴿مُبِينٍ﴾: صفة لـ ﴿سلطان﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي قبلها.
﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَإِنِّي﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿عُذْتُ﴾: خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ قبلها، ﴿بِرَبِّي﴾: متعلق بـ ﴿عُذْتُ﴾، ﴿وَرَبِّكُمْ﴾: معطوف على ﴿ربي﴾، ﴿أنّ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿تَرْجُمُونِ﴾: فعل مضارع، منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل،
370
والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية مفعول به، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع مدخولها، في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: من رجمكم إياي بلا جرم، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿عُذْتُ﴾، ﴿وَإن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿لم﴾: حرف جزم ﴿تُؤْمِنُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، والواو فاعل، ﴿لِي﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْمِنُوا﴾، واللام بمعنى الباء، كقوله: فآمن له لوط؛ أي: به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها، ﴿فَاعْتَزِلُونِ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا ﴿اعتزلون﴾ فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة الشرط معطوفة على مقدر معلوم من السياق، تقديره: فآمنوا بي ولا تؤذون، وإن لم تؤمنوا فاعتزلون. ﴿فَدَعَا﴾ الفاء عاطفة على مقدر معلوم من السياق، تقديره: فلم يتركوه، ﴿دعا ربه﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على موسى ومفعول به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿أَنَّ هَؤُلَاءِ﴾: ناصب واسمه، ﴿قَوْمٌ﴾: خبر. ﴿مُجْرِمُونَ﴾ صفة ﴿قَوْمٌ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: بأن هؤلاء إلخ، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿دعا﴾.
﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)﴾.
﴿فَأَسْرِ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان أمرهم وشأنهم كما قلت، وأردت النصر عليهم.. فأقول لك: أسر بعبادي، ﴿أسر﴾: فعل أمر، مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله ضمير مستتر يعود على موسى ﴿بِعِبَادِي﴾: متعلق بـ ﴿أسر﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿لَيْلًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أسر﴾. ﴿إِنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿مُتَّبَعُونَ﴾ خبره،
371
﴿وَاتْرُكِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أترك﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على موسى، ﴿الْبَحْرَ﴾: مفعول به، ﴿رَهْوًا﴾: حال من البحر، أو مفعول ثان لـ ﴿اترك﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَسْرِ﴾، ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿جُنْدٌ﴾ خبره ﴿مُغْرَقُونَ﴾ صفة ﴿جُنْدٌ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب، وقوله: ﴿كَمْ تَرَكُوا...﴾ إلخ، مرتبط بمقدر لا بد من تقديره: ليلتئم نظام الكلام، تقديره: فأطمأن موسى بذلك، فتم إغراقهم، وكم تركوا إلخ، ﴿كَمْ﴾: خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب، مفعول به مقدم لـ ﴿تركوا﴾، ﴿تَرَكُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ جَنَّاتٍ﴾: تمييز لـ ﴿كَمّ﴾، و ﴿مِنْ﴾: زائدة، وجملة ﴿تَرَكُوا﴾: معطوف على ذلك المقدر. ﴿وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ﴾: معطوفات على ﴿جَنَّاتٍ﴾، ﴿كَرِيمٍ﴾ صفة ﴿مَقَامٍ﴾، ﴿وَنَعْمَةٍ﴾؛ معطوف أيضًا على ﴿جَنَّاتٍ﴾ عطف عام على خاص؛ لأن النعمة تشمل جميع ما ذكر وغيره، مما لم يذكر هنا، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿فَاكِهِينَ﴾، و ﴿فَاكِهِينَ﴾: خبره، وجملة؛ ﴿كَانُوا﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿نعمة﴾، ﴿كَذَلِكَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، والجمله معترضة لا محل لها من الإعراب، وقال الزمخشري: الكاف صفة لمصدر محذوف؛ أي: أخرجناهم منها إخراجًا مثل ذلك الإخراج، وقال أبو البقاء: صفة للترك؛ أي: وتركوها تركًا مثل ذلك الترك، ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أورثناها﴾: فعل، وفاعل، ومفعول أول، ﴿قَوْمًا﴾ مفعول ثان، ﴿آخَرِينَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَمْ تَرَكُوا﴾، ﴿فَمَا﴾ الفاء: عاطفة على مقدر، تقديره: فأغرقوا فما بكت، ﴿ما﴾: نافية ﴿بَكَتْ﴾ فعل ماض، ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق بـ ﴿بَكَتْ﴾، ﴿السَّمَاءُ﴾: فاعل، ﴿وَالْأَرْضُ﴾: معطوف عليه، والجملة معطوفة على تلك المقدرة، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: نافية، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مُنْظَرِينَ﴾: خبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَكَتْ﴾ أو على أغرقوا المقدر، وما بينهما اعتراض.
﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)﴾.
﴿وَلَقَدِ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف
372
تحقيق، ﴿نَجَّيْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: مفعول به، ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾: متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾، ﴿الْمُهِينِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَذَابِ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لتسلية رسول الله - ﷺ -، على ما يكابده من قريش، من الأذى، ﴿مِنْ فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور، في قوله: ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾، ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على فرعون، ﴿عَالِيًا﴾: خبره ﴿مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ خبر ثان لـ ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (٣٣)﴾.
﴿وَلَقَدِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، واللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿اخْتَرْنَاهُمْ﴾: فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على القسم المذكور قبلها، ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿اخْتَرْنَاهُمْ﴾ و ﴿عَلَى﴾ بمعنى مع؛ أي: مع علمنا بأنهم يزيغون، وتفرط منهم الفرطات، ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿اخْتَرْنَاهُمْ﴾، ﴿وَآتَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول أول، معطوف على ﴿اخْتَرْنَاهُمْ﴾، ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾: حال مقدم على صاحبها؛ لأنه حال من ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول ثان لـ ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾، ﴿فِيهِ﴾ خبر مقدم، ﴿بَلَاءٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة ﴿بَلَاءٌ﴾، والجملة الاسمية صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾؛ أي: ذات بركة وخير كثير، اسم مفعول من بارك الرباعي، بوزن فاعل لا مصدر، والمفاعلة ليست على بابها، وهي ليلة القدر على الصحيح المشهور. وقال النووي في "شرح مسلم": والقول بأنها ليلة النصف من شعبان خطأ. ﴿مُنْذِرِينَ﴾؛ أي: مخوفين ﴿يُفْرَقُ﴾؛ أي: يفصل ويبين {أَمْرٍ
373
حَكِيمٍ}؛ أي: محكم مبرم لا يقبل التغيير والتبديل. ﴿مُوقِنِينَ﴾؛ أي: مريدين اليقين، كما يقال: منجد، متهم؛ أي: يريد نجدًا وتهامة: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أصله: يموت بوزن يفعل، مضارع أمات الرباعي، نقلت حركة الباء إلى الميم فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد، وفيه حذف همزة أفعل من المضارع كما في أكرم.
﴿فَارْتَقِبْ﴾؛ أي: انتظر من قولهم: رقبته؛ أي: انتظرته وحرسته. ﴿بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ في "المختار": دخان النار معروف، ودخنت النار ارتفع دخانها، وبابه دخل وخضع، وأدخنت مثله، ودخنت النار إذا فسدت بإلقاء الحطب عليها حتى هاج دخانها، ودخن الطبيخ، إذا تدخنت القدر، وبابه طرب، وقياس جمعه في القلة أدخنة، وفي الكثرة دخنان، نحو: غراب وأغربة وغربان، وشذوا في جمعه على فواعل، فقالوا؛ دواخن، كأنه جمع داخنة، كما شذوا في عنان، فقالوا في جمعه: عوانن. وفي "القاموس": والدخان كغراب وجبل، ورمان العُثَانُ، والجمع أدخنة ودواخن ودواخين، وقال أبو عبيدة: والدخان الجدب، قال القتيبي: سمي دخانًا ليبس الأرض منه، حتى يرتفع منها كالدخان. ﴿يَغْشَى النَّاسَ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: يغشي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والمراد بالدخان هنا: ما أصابهم من الظلمة في أبصارهم من شدة الجوع، حتى كأنهم كانوا يرون دخانًا، فإن الإنسان إذا اشتد خوفه، أو ضعفه، أظلمت عيناه، ورأى الدنيا كالمملوءة دخانًا ﴿يَغْشَى النَّاسَ﴾؛ أي: يحيط بهم ﴿اكْشِفْ عَنَّا﴾؛ أي: ارفع عنا ﴿أَنَّي﴾؛ أي: كيف يكون، ومن أين يحصل ﴿مُعَلَّمٌ﴾؛ أي: يعلمه غلام رومي لبعض ثقيف.
﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ أصله: تولّيوا بوزن تفعلوا قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان الألف وواو الجماعة فحذفت الألف وبقيت الفتحة دالة عليها. ﴿إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ جمع عائد، وفيه إعلال بالإبدال أصله: عاودون، أبدلت الواو همزة في الوصف، حملًا له في الإعلال على فعله حيث أعل الفعل عود بقلب الواو ألفًا، لتحركها بعد فتح. ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ﴾ يقال: بطش به أخذه بالعنف والسطوة، كأبطشه، والبطش الأخذ الشديد في كل شيء، والبأس قاله في "القاموس". وفي "المصباح": بطش بطشًا من باب ضرب، وبها قرأ السبعة، وفي
374
لغة من باب قتل، وبها قرأ الحسن البصري، وأبو جعفر المدني، والبطش: هو الأخذ بعنف، وبطشت اليد إذا عملت فهي باطشة اهـ.
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: بلونا، وامتحنا؛ أي: فعلنا بهم فعل الممتحن الذي يريد أن يعلم بحقيقة ذلك الشيء، وذلك الامتحان كان بزيادة في الرزق، والتمكين في الأرض، ففسدوا واستطالوا في الغي، وركوب متن الضلال ﴿كَرِيمُ﴾؛ أي: جامع لخصال الخير، والأفعال المحمودة قاله الراغب. ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ﴾ أصله: أديوا، أمر من أدى يؤدي، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت المتقي ساكنان، فحذف الياء وضمت الدال، لمناسبة الواو؛ أي: أطلقوا، وسلموا إلى ﴿أَمِينٌ﴾؛ أي: ائتمنه الله على وحيه ورسالته.
﴿وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: لا تستكبروا على الله بالاستهانة بوحيه، أصله: تعلووا بوزن تفعلوا، سكنت الواو الأولى لوقوعها إثر ضمة، لتكون حرف مد، فالتقى ساكنان فحذفت الواو الأولى، لام الكلمة فوزنه تفعوا.
﴿إِنِّي آتِيكُمْ﴾ اسم فاعل من أتى الثلاثي، فالمدة فيه مدة فاعل، اتصلت بفاء الكلمة، وسكنت الياء لوقوعها إثر كسرة، ويحتمل أن يكون مضارع أتى، فاجتمعت همزتان، همزة المضارع للمتكلم، وهمزة فاء الفعل، فأبدلت الثانية ألفًا حرف مد، من جنس حركة الأولى. ﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها. ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾؛ أي: التجأت إليه، وتوكلت عليه، وأصله: عوذ قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، فصار عاذ فاتصلت بالفعل تاء الفاعل فبني على السكون، فصار عاذت فالتقى ساكنان، فحذفت الألف فصار عَذت، فحذفت حركة فاء الفعل، وعوض عنها حركة تجانس العين المحذوفة، وهي الضمة؛ لأن عين الفعل واو فقيل: ﴿عُذْتُ﴾ بوزن قلت ﴿أَن تَرجْمُوُنِ﴾؛ أي: تؤذونني ضربًا، أو شتمًا. ﴿فَاعْتَزِلُونِ﴾؛ أي: كونوا بمعزل منى، لا علي ولا لي، ولا تتعرضوا لي بسوء ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي﴾؛ أي: سربهم ليلًا ﴿مُتَّبَعُونَ﴾؛ أي: يتبعكم فرعون وقومه. ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾؛ أي: حال كونه رهوًا، فهو منصوب على الحال من البحر. والرهو في الأصل، مصدر رها يرهو رهوًا، كعدا يعدو عدوًا، إما بمعنى سكن؛ أي: ساكنًا، وإما بمعنى انفرج وانفتح؛ أي: منفرجًا منفتحًا.
375
وفي "المختار": رها بين رجليه؛ أي: فتح، وبابه عدا ورها البحر سكن، وبابه عدا أيضًا، اهـ.
﴿إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ والجند الجمع المعد للحرب، ﴿مُغْرَقُونَ﴾؛ أي: متمكنون في هذا الوصف، وإن كان لهم وصف القوة، والتجمع الذي شأنه النجدة الموجبة للعلو في الأمور. والغرق: الرسوب في الماء، والتسفل فيه حتى يغرق ويهلك، ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾؛ أي: مجالس محفلة، ومنازل مزينة، وأصله: مقوم بوزن مفعل، نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال، مصدر ميمي، أو اسم مكان. ﴿وَنَعْمَةٍ﴾ قال صاحب "الكشاف": النعمة بالفتح من التنعم، وبالكسر من الإنعام؛ أي: حسن حياة، ونضرة عيش.
﴿كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾؛ أي: طيبي الأنفس ناعمين، أو أصحاب فاكهة، كلابن وتامر، وقد مرت هذه الصيغة، وعبارة "القاموس": الفاكهة الثمر كله، والفاكهاني بائعها وكخجل آكلها، والفاكه صاحبها، وفكههم تفكيهًا أطرفهم بها، والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم، وفكه كفرح فكهًا فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك، أو يحدث صحبه، فيضحكهم انتهى.
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ﴾؛ أي: لم تكترث لهلاكهم، ولا اعتدت بوجودهم، وقد جرى الناس أن يقولوا حين هلاك الرجل العظيم الشأن؛ إنه قد أظلمت الدنيا لفقده، وكسفت الشمس والقمر له، وبكت عليه السماء والأرض، كما قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
الشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ تَبْكِيْ عَلَيْكَ نُجُوْمَ اللَّيْلِ والْقَمَرَا
أي: يا نجوم الليل والقمر، وأصله: بكي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فوزنه فعت. ﴿مُنْظَرِينَ﴾؛ أي: ممهلين مؤخرين ﴿الْمُهِينِ﴾؛ أي: الشديد الإهانة والإذلال ﴿عَالِيًا﴾؛ أي: جبارًا متكبرًا. ﴿مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: في الشر والفساد. و ﴿عَالِيًا﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: عالوا من العلو، قلبت الواو ياء
376
لوقوعها متطرفةً إثر كسرة. ﴿اخْتَرْنَاهُمْ﴾؛ أي: اصطفيناهم. ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾؛ أي: عالمين باستحقاقهم ذلك. ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: عالمي زمانهم، وقوله: ﴿اخْتَرْنَاهُمْ﴾ أصل اختار اختير، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع التقى ساكنان، فحذفت الألف فوزنه افتلناهم ﴿مِنَ الْآيَاتِ﴾؛ أي: المعجزات، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ﴿بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: اختبار ظاهر، أصل بلاء بلاو، أبدلت الواو همزة لتطرفها بعد ألف زائدة، وقوله: ﴿مُبِينٌ﴾ أصله: مبين بوزن مفعل نقلت حركة الياء إلى الباء، فسكنت إثر كسرة وصارت حرف مد.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: وضع الرب موضع الضمير في قوله: ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: رحمة منا، وفيه أيضًا الإضافة إلى ضميره - ﷺ - للتشريف، وفيه أيضًا الالتفات من التكلم إلى الغيبة، ولو جرى على منوال ما تقدم لقال: رحمةً منا كما في "السمين".
ومنها: الطباق في قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
ومنها: تكرار لفظ الرب، اعتناءً بشأن الربوبية.
ومنها: الإسناد العقلي في قوله: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ﴾ حيث أسند الإتيان إلى السماء؛ لأن كلها عن الإمطار كان سببًا في الدخان، فهو من قبيل إسناد الشيء إلى سببه.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِدُخَانٍ﴾ حيث أطلق الدخان على شدة القحط، وفلبة الجوع على سبيل الكناية، أو المجاز المرسل.
ومنها: صيغة الفاعل في قوله: ﴿كَاشِفُو الْعَذَابِ﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ للدلالة على تحقق الكشف والمعاودة لا محالة، ولقد وقع كلاهما، حيث كشفه الله تعالى بدعاء النبي - ﷺ -، فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا فيه من
377
العتو والعناد.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ﴾ لما فيه من إسناد الفعل إلى سببه؛ لأن المراد بالفتنة: ارتكاب المعاصي، وهو تعالى كان سببًا لارتكابها بالإمهال، وتوسيع الرزق عليهم.
ومنها: إيراد الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، في قوله: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨)﴾، وفي قوله: ﴿وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩)﴾؛ لأن في ذلك من الجزالة، والمناسبة ما لا يخفى.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَاعْتَزِلُونِ﴾؛ لأن الاعتزال هنا كناية عن الترك، ولا يراد به الاعتزال بالأبدان.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي﴾؛ أي: وقلنا له: أن أسر بعبادي.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧)﴾: لأن النعمة تشمل الأربعة قبلها، وغيرها من أنواع النعم، كالنظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا﴾؛ لأن الإيراث هنا مجاز عن تمليكها مخلفة عليهم، أو عن تمكينهم من التصرف فيها، تمكين الوارث فيما يرثه.
ومنها: الاستعارة المكنية التخييلية في قوله: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ حيث شبه السماء والأرض بمن يصح منه الاكتراث، ثم حذف المشبه به، وهو من يصح منه الاكتراث، واستعار له شيئًا من لوازمه، وهو البكاء، فإسناد البكاء إليهما على سبيل التخييل، والمعنى: أنهم لم يكونوا يعملوا عملًا صالحًا ينقطع بهلاكهم، فتبكي الأرض لانقطاعه، وتبكي السماء؛ لأنه لم يصعد إليها شيء من ذلك العمل الصالح بعد هلاكهم، وجعله بعضهم مجازًا مرسلًا عن الاكتراث بهلاك الهالك، والعلاقة السببية، فذكر المسبب، وأراد السبب، فإن الاكتراث
378
المذكور سبب يؤدي إلى البكاء عادة.
ومنها: أن الإضافة في قوله: ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي﴾ للتشريف، وفي قوله: ﴿وَرَبِّكُمْ﴾ للتهويل والتهديد، وفي قوله: ﴿فَأَسّرِ بِعِبَادِي﴾ للتشريف.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿لَيْلًا﴾ لأن الإسراء، وكذا السرى، لا يكون إلا في الليل.
ومنها: أن التنكير والإبهام في قوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾ وما بعده للتكثير والتعظيم؛ لأن جناتهم، وبساتينهم كانت كبيرةً واسعةً جدًّا؛ لأنها كانت متصلة من رشيد إلى أسوان، وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يومًا.
ومنها: الإيجاز والاختصار في هذه الاية، والتقدير: وفعل موسى ما أمر به من ترك البحر رهوًا، فدخله فرعون وقومه فأغرقوا، وتركوا بساتين كثيرة كما مرّ.
ومنها: تسمية الشيء بالمصدر لكونه سببه في قوله: ﴿وَزُرُوعٍ﴾؛ لأنه مصدر زرع الله الحرث زرعًا، إذا أنبته وأنماه.
ومنها: الاعتراض بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ بين المعطوف والمعطوف عليه، للتفخيم والتعجيب.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿قَوْمًا آخَرِينَ﴾ دلالةً على فخامتهم، ونباهتهم.
ومنها: التهكم بالكفار، وبحالهم المنافية لحال من يعظم، فيقال له: بكت عليه السماء والأرض، في قوله: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
379
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)...﴾ الآيات، عود (١) على بدءٍ، كان الكلام أولًا في كفار قريش، إذ قال فيهم: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)﴾؛ أي: إنهم في شك من البعث والقيامة، ثم بين كيف أصروا على كفرهم، ثم ذكر أن قوم فرعون كانوا في إصرارهم على الكفر كهؤلاء، وقد أهلكهم الله، وأنجى بني إسرائيل، ثم رجع إلى الحديث الأول، وهو إنكارهم للبعث، وقولهم: إنه لا حياة بعد هذه الحياة فإن كنتم صادقين، فاسألوا ربكم، يعجل لنا إحياء من مات، حتى يكون ذلك دليلًا على صدق دعواكم النبوة، والبعث والقيامة، ثم توعدهم بأنه سيستن بهم سنة من قبلهم من المكذبين، فقد أهلك من هم أقوى منهم
(١) المراغي.
380
بطشًا، وأكثر جندًا، وهم قوم تبع ملوك اليمن من قحطان، فحذار أن تصروا على الكفر، حتى لا يحيق بكم بأس ربكم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر وعيد الكافرين، وما يرونه من الأهوال في ذلك اليوم.. أعقب هذا بوعد المتقين، بما يلاقونه في جنات النعيم، من ضروب التكريم في الملبس، والزوجات، والمآكل، ثم ببيان أن هذا النعيم أبدي، خالد، لا يعقبه موت ولا تحول ولا انتقال، ثم ختم السورة بالمنة على العرب في نزول القرآن بلغتم لعلهم يعتبرون، ويتعظون به، ثم توعدهم إذا هم كذبوا بما جاء به الرسول بحلول النقمة بهم، والنصر له عليهم، كما هي سنته في أمثالهم من المكذبين ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾ سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه سعيد بن منصور عن أبي مالك، قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر، والزبد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد - ﷺ -، فنزلت: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾.
قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾ سبب نزوله (٢): ما أخرجه الأموي في "مغازيه" عن عكرمة، قال: لقي النبي - ﷺ - أبا جهل، فقال: "إن الله أمرني أن أقول لك: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)﴾ قال فنزع ثوبه من يده، فقال: ما تستطيع لي أنت وصاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله يوم بدر، وأذله، وعيره بكلمته، ونزل فيه. ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾، وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه.
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
381
التفسير وأوجه القراءة
٣٤ - والإشارة بقوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ إلى كفار قريش؛ لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر؛ أي: إن هؤلاء المشركين من قومك ﴿لَيَقُولُونَ
٣٥ - إِنْ هِيَ﴾
؛ أي: ما العاقبة، ونهاية الأمر ﴿إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى﴾ التي نموتها في الدنيا، وتزيل حياتنا الدنيوية، ولا حياة بعدها ولا بعث.
قال الرازي: المعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى، اهـ، ووصفها بالأولى لا يستدعي أن يثبت الخصم موتةً ثانية، فيقصدوا بذلك إنكارها؛ لأن كون الشيء أولًا، يستلزم وجود ما كان آخرًا بالنسبة إليه، كما لو قال أول عبد أملكه حر، فملك عبدًا عتق، سواء كان ملك بعده عبدًا آخر، أو لا، ولا يبعد (١) أن يحمل على حذف المضاف، على أن يكون التقدير: إن الحياة إلا حياة موتتنا الأولى، فالأولى صفة للمضاف، والقرينة عليه قوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾، فالآية مثل قوله: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾، ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾؛ أي: بمبعوثين بعد الموت، من أنشر الله الموتى، إذا بعثهم، وغرضهم من هذا القول، المبالغة في إنكار حشر الموتى، ونشرهم من القبور، والمعنى؛ أي: إن هؤلاء المشركين من أهل مكة يقولون ماثم إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث، ولا نشور.
٣٦ - ثم خاطبوا من وعدوهم بالنشور، وهم النبي - ﷺ - وأصحابه، وقالوا لهم ﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا﴾؛ أي: ارجعوهم إلى الدنيا بعد موتهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تقولونه، وتخبروننا به من البعث؛ أي: إن كان البعث والنشور حقًا ممكنًا معقولًا كما تقولون، فعجلوا لنا بإحياء آبائنا الذين ماتوا، وذهبوا ولم يرجعوا، إن كنتم صادقين فيما تدعون من البعث، قيل: وكانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله تعالى، فينشر لهم قصي بن كلاب ليشاوروه، ويسألوا منه عن أحوال الموت، وكان كبيرهم ومفزعهم في المهمات والملمات.
(١) روح البيان.
٣٧ - وهذه حجة داحضة، فإن المعاد يوم القيامة، بعد إنقضاء دار الدنيا، حين يعيد الله تعالى العالمين خلقًا جديدًا، ومن ثم لم يتعرض الكتاب الكريم لرد ما قالوا، بل قال لهم متوعدًا منذرًا بأسه الذي لا يرد ﴿أَهُمْ﴾؛ أي: أكفار قريش ﴿خَيْر﴾ في القوة، والشوكة اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك، لا في الدين حتى يردانه ﴿أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه، وغلب أهلها وقهرهم خير، لا خيرية في واحد من الفريقين، وفيه وعيد شديد والمراد بتبع هنا: واحد من ملوك اليمن، معروف عند قريش، وخصه بالذكر لقرب الدار، وسيأتي بقية الكلام فيه، وقيل: المراد بتبع: جميع ملوكه لا واحد بعينه، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل قوم تبع، معطوف على ﴿قَوْمُ تُبَّعٍ﴾، والمراد بهم: عاد، وثمود، وأضرابهم من كل جبار عنيد، أولي بأس شديد.
والاستفهام (١) لتقرير أن أولئك أقوى من هؤلاء المشركين، ومع ذلك ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ لما كذبوا رسلنا، وهذا كلام مستأنف لبيان عاقبة أمرهم؛ أي: أهلكنا قوم تبع والذين من قبلهم، وجملة قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾؛ أي: إن قوم تبع ومن قبلهم كانوا كاملين في الإجرام والآثام، مستحقين للهلاك، تعليل لإهلاكهم، ليعلم أن أولئك، حيث أهلكوا بسبب إجرامهم، مع ما كانوا في غاية القوة والشدة، فلأن يهلك هؤلاء، وهم شركاء لهم في الإجرام، وأضعف منهم في الشدة والقوة أولى.
ومعنى الآية (٢): أي إن نظراءهم المشركين، المنكرين للبعث، كقوم تبع، أهلكهم الله تعالى، وخرب ديارهم، وشردهم في البلاد شذر مذر، وقد كانوا أقوى منهم جندًا، وأكثر عددًا، وكانت لهم دولة وصولة، وهؤلاء ليسوا في شيء من ذلك، وكذلك فعل بمن قبلهم كعاد، وثمود، إذ كانوا في خسران مبين بكفرهم، وإنكارهم للبعث والنشور، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)﴾.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
383
وقولنا: تبع الحميري منسوب إلى حمير، وهم أهل اليمن، وقد كانت حمير وهم أولاد سبأ، كلما ملك فيهم رجل سموه تبعًا، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافرًا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من الألقاب السلطانية، وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - ﷺ - قال: لا تسبوا تبعًا، فإنه قد أسلم، وكان يكتب إذا كتب بسم الله الذي ملك برًا وبحرًا، والمراد به هنا: تبع الأكبر، اسمه أسعد بن ملكيكون، وقيل: ابن حسان (١) الحميري، وكنيته أبو كرب الذي كسا البيت بعدما أراد غزوه، وبعدما غزا المدينة، وأراد خرابها ثم انصرف عنها، لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد، وقال شعرًا أودعه عند أهلها، وكانوا يتوارثونه كابرًا عن كابر، إلى أن هاجر النبي - ﷺ -، فدفعوه إليه، ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد، وفيه:
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدٍ أَنَّهُ رَسُوْلٌ مِنَ اللَّهِ بَارِيْ النَّسَمْ
فَلَوْ مُدَّ عُمْرِيْ إِلَى عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزِيْرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ
وروى ابن إسحاق وغيره: أنه كان في الكتاب الذي كتبه، أما بعد: فإني آمنت بك وبكتابك الذي ينزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإِسلام، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي، ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين، وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب على عنوانه، إلى محمد بن عبد الله، نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم، من تبع الأول، وكان من اليوم الذي مات فيه تبع، إلى اليوم الذي بعث فيه النبي - ﷺ -، ألف سنة، لا يزيد ولا ينقص.
وفي "أوائل السيوطي": أول من كسا الكعبة أسعد الحميري، وهو تبع
(١) الفتوحات.
384
الأكبر، وذلك قبل الإسلام بتسع مئة سنة، كساها الثياب الحبرة، وهي بوزن عنبة ضرب من برود اليمن، وفي رواية: وكسا بها الوصائل، وهي برود حمر، فيها خطوط خضر تعمل باليمن، وعن بعضم: أول من كسا الكعبة كسوةً كاملة، تبع كساها العصب وهي ضرب من البرود، وجعل لها بابًا يغلق، وقال في ذلك:
وَكَسَوْنَا الْبَيْتَ الَّذِىْ حَرَّمَ اللَّـ ـهُ مَلاَءً مُعَصَّبًا وَبُرُوْدَا
وَأقَمْنَا بِهِ مِنَ الشَّهْرِ عَشْرًا وَجَعَلْنَا لِبَابِهِ إِقْلِيْدَا
وَخرَجْنَا مِنْهُ نَؤُمُّ سُهَيْلًا قَدْ رَفَعْنَا لِوَائَنَا مَعْقُوْدَا
وكان تبع هذا مؤمنا بالاتفاق، وقومه كانوا كافرين، ولذلك ذمهم الله تعالى دونه، واختلف هل كان نبيًا أو ملكًا، فقال ابن عباس: كان تبع نبيًا وقال كعب: كان تبع ملكًا من الملوك، وكان قومه كهانًا، وأهل كتاب فأمر الفريقين أن يقرب كل منهما قربانًا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب، فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنهما: لا تسبوا تبعًا فإنه كان رجلًا صالحًا، والله أعلم.
وفي "فتح الرحمن": فإن قلت: القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية، فكان حقهم أن يقولوا: إن هي إلا حياتنا الأولى؟.
قلت: لما قيل لهم: إنكم تموتون موتةً يعقبها حياة كما تقدمتكم موتة، لذلك قالوا: إن هي إلا موتتنا الأولى؛ أي: ما الموتة التي من شأنها أن يعقبها الحياة إلا الموتة الأولى.
٣٨ - ثم أقام تعالى على قدرته القاهرة دليلًا، ليستدل بذلك على إمكان البعث، فقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: وما بين جنس السماء والأرض من المخلوقات، قرأ الجمهور: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ نظرًا إلى الجنس، وقرأ عمرو بن عبيد ﴿وما بينهن﴾ نظرًا إلى مجموع السموات والأرض حالة كوننا ﴿لَاعِبِينَ﴾؛ أي: عابثين من غير أن يكون لخلقهما غرض صحيح، وغاية حميدة، يقال: لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدًا صحيحًا. وفي "التعريفات": اللعب فعل الصبيان، يعقبه التعب من غير فائدة، وفي "فتح الرحمن": قاله هنا
بالجمع، موافقة لقوله أول السورة: ﴿رَبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.
٣٩ - ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا﴾ وما بينهما في حال من الأحوال ﴿إِلَّا﴾ حالة كوننا متلبسين ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي (١): محقين، لنا فيه حكمة، وذلك ليستدل به على قدرتنا ووحدانيتنا، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أو ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء، فهو استثناء من أهم الأسباب، وقال الكلبي: إلا للحق، وكذا قال الحسن، وقيل: إلا لإقامة الحق وإظهاره ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾؛ أي: أكثر الناس، وهم كفار مكة، وسائر الكفرة بسبب الغفلة، وعدم الفكرة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ أن الأمر كذلك فينكرون البعث، والجزاء.
والآية دليل على ثبوت الحشر ووقوعه، ووجه الدلالة أنه لو لم يحصل البعث والجزاء، لكان هذا الخلق عبثًا؛ لأنه تعالى خلق نوع الإنسان، وما ينتظم به أسباب معايشهم من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما فيهما وما بينهما من عجائب المصنوعات، وبدائع الأحوال، ثم كلفهم بالإيمان والطاعة ليتميز المطيع من العاصي، بأن يكون المطيع متعلقَ فضله وإحسانه، والعاصي متعلقَ عدله وعقابه، وذلك لا يكون في الدنيا لقصر زمانها، وعدم الاعتداد بمنافعها، لكونها مشوبة بأنواع المضار والمحن، فلا بد من البعث والجزاء لتجزى كل نفس بما كسبت، فالجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم في رأسها، إذ لو لم يكن الجزاء كما يقول الكافرون، لاستوت عند الله تعالى أحوال المؤمن والكافر، وهو محال.
ومعنى الآية (٢): أي وما خلقنا الخلق عبثًا بأن نوجدهم ثم نفنيهم بغير امتحان بطاعتنا، واتباع أمرنا ونهينا، وبغير مجازاة للمطيع على طاعته، والعاصي على معصيته، بل خلقناهم لنبتلي من أردنا امتحانه منهم بما شئنا، ولنجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ولنجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وقد سبق نحو هذا في سورة
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
يونس، وسورة المؤمنين حيث قال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾، وفي سورة ص، إذ قال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)﴾، ما خلقناهما إلا خلقًا متلبسًا بالحق، وهو الدلالة بهما على وحدانية الخالق لهما، ووجوب طاعته والإنابة إليه لعظمته وجبروته، كما جاء في الحديث القدسي: "كنت كنزًا مخفيًا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبي عرفوني" ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون ذلك، فهم لا يخافون من سخطه، عقوبةً لهم على ما اجترحوا من السيئات، ولا يرجون ثوابًا على خير فعلوه، لتكذيبهم بالميعاد، والعودة إلى دار أخرى، بعد هذه الدار.
وخلاصة ما تقدم (١): أن هؤلاء لقلة تدبرهم، لا يعتقدون أن الأمر كذلك، وهم واهمون فيما يظنون، إذ لو لم توجد دار للجزاء، لما امتاز مطيع من عاص، ولا محسن من مسيء، والعقل قاض بغير هذا.
٤٠ - ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾؛ أي: إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق من الباطل، ويميز المحق من المبطل، ويقضى بين الخلائق، بين الأب والابن، والزوج والزوجة، ونحو ذلك ﴿مِيقَاتُهُمْ﴾؛ أي: وقت موعد الخلائق ﴿أَجْمَعِينَ﴾ من الأولين والآخرين؛ أي: الوقت المجعول لتمييز المحسن منهم من المسيء، والمحق من المبطل، لا يتخلف عنه أحد منهم أجمعين، وقال بعضهم: يوم الفصل يوم يفصل فيه بين كل عامل وعمله، ويطلب بإخلاص ذلك وبصحته، فمن صح له مقامه وأعماله، قبل منه وجزي عليه، ومن لم تصح له أعماله، كانت أعماله عليه حسرةً وندامةً.
وقد اتفق (٢) القراء على رفع ﴿مِيقَاتُهُمْ﴾ على أنه خبر ﴿إِنَّ﴾، واسمها ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾، و ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد للضمير المجرور في ﴿مِيقَاتُهُمْ﴾، وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه اسمها، و ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ خبرها. وقرىء ﴿ميقاتهم﴾ بالنصب
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
على أنه اسم ﴿إِنَّ﴾ والخبر ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ ذكره في "البحر". والميقات اسم للوقت المضروب للفصل، فيوم القيامة وقت لما وعدوا به، من الاجتماع للحساب والجزاء.
٤١ - وقوله: ﴿لَا يُغْنِي﴾ بدل من ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل؛ أي: يفصل بينهم يوم لا يغني، ولا يجزي ﴿مَوْلًى﴾؛ أي: ولي، وناصر من قرابة، أو عتاق، أو صداقة ﴿عَنْ مَوْلًى﴾ له؛ أي: عن قريب له أيّا كان ﴿شَيْئًا﴾ من الإغناء، والإجزاء على أن شيئًا واقع موقع المصدر، وتنكيره للتقليل، ويجوز أن يكون منصوبًا على المفعول به على أن يكون ﴿لَا يُغْنِي﴾: بمعنى لا يدفع بعضهم عن بعض شيئًا من عذاب الله، ولا يبعده، فإن الإغناء يأتي بمعنى الدفع، وإبعاد المكروه. وتنكير (١) ﴿مَوْلًى﴾ في الموضعين للإبهام، فان المولى مشترك بين معان كثيرة يطلق على المالك والعبد والمعتق والصاحب والقريب كابن العم ونحوه، والجار والحليف والابن والعم والنزيل والشريك، وابن الأخت والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصهر، كما في "القاموس" وكل من ولي أمر واحد، فهو وليه ومولاه، فواحد من هؤلاء أي واحد كان، لا يغني عن مولاه أيَّ مولى كان شيئًا من الإغناء؛ أي: إغناءً قليلًا، وإذا لم ينفع بعض الموالي بعضًا ولم يغن عنه شيئًا من العذاب بشفاعته، كان عدم حصول ذلك ممن سواهم أولى، وهذا في حق الكفار، يقال: أغنى عنه كذا إذا كفاه.
﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾؛ أي: لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب، ولا يملكون أن يشفع لهم غيرهم، فالضمير لمولى الثاني باعتبار المعنى؛ لأنه عام لوقوعه نكرةً في سياق النفي، فكأنه جمع، والمراد بالضمير: المولى الثاني؛ لأن المراد به (٢) الكافر، وأما الأول فالمراد به: المؤمن.
والمعنى: يوم لا يغني مولى مؤمن عن مولى كافر شيئًا من عذاب الله،
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
وقوله: ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ توكيد لقوله: ﴿لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا﴾، فالمعنى: لا ينصر المؤمن الكافر، ولو كان بينهما في الدنيا علقة من قرابة، أو صداقة، أو غيرهما كما أشار إليه القرطبي.
٤٢ - ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَـ﴾ ـه ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بالعفو عنه، وقبول الشفاعة في حقه، وهم المؤمنون، ومحله الرفع على البدل من ﴿الواو﴾ في ﴿يُنْصَرُونَ﴾، كما في "المختار"، أو النصب على الاستثناء ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْعَزِيزُ﴾ الذي لا ينصر من أراد تعذيبه كالكفار ﴿الرَّحِيمُ﴾ لمن أراد أن يرحمه كالمؤمنين.
والمعنى: أي إن هذا اليوم الذي يفصل الله فيه بين خلقه، فيحق الحق ويبطل الباطل لآت لا محالة، وهو وقت حسابهم وجزائم على ما كسبت أيديهم من خير، أو شر، ونحو الآية قوله: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾، ثم وصف أهوال هذا اليوم، فقال: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى﴾ إلخ؛ أي: إن هذا يوم تنقطع فيه الأسباب بابن آدم، فلا تنفع الناس إلا أعمالهم، فمن أصاب خيرًا في دنياه سعد به، ومن أصاب شرًا شقي به، ولا يغني القريب عن القريب، ولا يدفع عنه شيئًا من عذاب الله، ولا يجد الناصر الذي يقيه ذلك العذاب.
وقصارى ذلك: لا يفيد المؤمن الكافر، ولا ينصره ولو كان بينهما في الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما، ونحو الآية قوله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١)﴾، وقوله: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ﴾؛ أي: لكن من رحمه الله تعالى، فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه، ولا إلى ناصر ينصره، قاله الكسائي على أن الاستثناء منقطع، وقيل: متصل، والمعنى: لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون، إنه سبحانه هو العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.
٤٣ - ثم لما وصف يوم الفصل، ذكر بعده وعيد الكفار، فقال: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣)﴾ وقرىء بكسر الشين، هي على صورة شجرة الدنيا، لكنها في النار،
والزقوم ثمرها، وهو في الأصل كل طعام ثقيل، وشجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجؤوا إليها، فأكلوا منها قال في "القاموس": هي شجرة بجهنم، وطعامُ أهل النار. وفي "عين المعاني": شجرة في أسفل النار مرتفعة إلى أعلاها، وما من دركة إلا وفيها غصن منها انتهى. فتكون هي في الأصل نظير طوبى في الأعلى. وفي "كشف الأسرار": شجرة الزقوم على صورة شجرة الدنيا لكنها من النار، والزقوم ثمرها، وهو ما أكل بكره شديد، وقيل: كل طعام ثقيل فهو زقوم كما مر.
وفي "إنسان العيون": لا تسلط لجهنم على شجرة الزقوم، فإن من قدر على خلق من يعيش في النار ويلتذ بها كالسمندل، فهو أقدر على خلق الشجر في النار، وحفظه من الإحراق بها. وقد قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: إنها تحيا باللهب كما تحيا شجرة الدنيا بالمطر، وثمر تلك الشجرة مر له زفرة، انتهى و ﴿شَجَرَتَ﴾ ترسم بالتاء المجرورة، ووقف عليها أبو عمرو بالهاء، وكذا ابن كثير والكسائي، ووقف الباقون بالتاء على الرسم
٤٤ - ﴿طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾ خبر ﴿إنّ﴾؛ أي: غذاء الأثيم؛ أي: الكثير الإثم والمراد به (١): الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه، يعني: أنهم أجمعوا على أن المراد بقوله: ﴿لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا﴾ هم الكفار، وبقوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ﴾ المؤمنون، وكذا دل عليه قوله فيما سيأتي ﴿إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)﴾
٤٥ - ﴿كَالْمُهْلِ﴾ خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو كالمهل. وعن النبي - ﷺ - في تفسير المهل: كعكر الزيت، وهو درديه فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه، أخرجه الترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من حديث رشد بن سعد، وقد تكلم فيه من غير حفظه، وشبه بالمهل في كونه غليظًا أسود وقال بعضهم: المهل ما يمهل في النار حتى يذوب، كالحديد، والرصاص والصفر ونحوها. وشبه الطعام بالنحاس، أو الصفر المذاب في الذوب ونهاية الحرارة، لا في الغليان، وإنما يغلي ماشبه به، وجملة قوله: ﴿يَغْلِي فِي الْبُطُونِ﴾ حال من الطعام،
٤٦ - وقوله: ﴿كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)﴾ صفة مصدر
(١) روح البيان.
محذوف؛ أي: حال كون ذلك الطعام يغلي، ويفور في بطون الكفار غليانًا كغليان الماء الحار، الذي انتهى حره وغليانه لشدة حرارته وكراهية المعدة إياه، والغلي والغليان: التحرك والارتفاع. وفي الحديث: أيها الناس اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرةً من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم، فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره". أخرجه الترمذي عن ابن عباس، وقال حديث حسن صحيح.
وقال الحسن (١): ﴿كالمهل﴾ بفتح الميم لغة فيه، وقرأ الجمهور وعمرو بن ميمون وأبو رزين والأعرج وأبو جعفر وشيبة وطلحة: ﴿تغلي﴾ بالتاء الفوقية، على أن الفاعل ضمير يعود على الشجرة، والجملة خبر ثان، أو حال، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي تغلي غليًا مثل غلي الحميم، وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه، وقرأ مجاهد وقتادة والحسن وابن كثير وابن عامر وحفص وابن محيصن وورث عن يعقوب: ﴿يَغْلِي﴾ بالياء التحتانية، على أن الفاعل ضمير يعود على الطعام، ولا يصح أن يكون الضمير عائدًا إلى المهل؛ لأنه مشبه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل.
والمعنى (٢): أن الزقوم وهو ثمر هذه الشجرة التي في الجحيم طعام للكافر، الكثير الذنوب والآثام، يشبه المهل؛ أي: دردي الزيت الأسود، يغلي في بطون الكفار كغلي الماء المسخن، البالغ نهاية الحرارة،
٤٧ - وقوله: ﴿خُذُوُه﴾ على تقدير القول، والخطاب للزبانية؛ أي: يقال للزبانية يوم القيامة: خذوا الأثيم، فلا يأخذونه إلا بالنواصي والأقدام ﴿فَاعْتِلُوهُ﴾؛ أي: جروه بالعنف والقهر، فإن العتل الأخذ بمجامع الثوب ونحوه، وجره بقهر وعنف ﴿إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: إلى وسطها قاله ابن عباس، أو إلى معظمها الذي تستوي المسافة إليه من جميع جوانبه، قاله الحسن. وقرأ الجمهور (٣): ﴿فَاعْتِلُوهُ﴾ بكسر التاء،
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ زيد بن علي وابن كثير وابن عامر: بضم التاء وهما لغتان، والخلاف عن الحسن وقتادة والأعرج وأبي عمرو
٤٨ - ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨)﴾ (١) وصب الماء إراقته من أعلى، والعذاب ليس بمصبوب؛ لأنه ليس من الأجسام المائعة، فكان الأصل يصب من فوق رؤوسهم الحميم، كما هو القراءة في سورة الحج، والمصبوب في الحقيقة هو الحميم، فتارة اعتبرت الحقيقة كما في سورة الحج، وتارةً اعتبرت الاستعارة كما هنا، فقيل: يصب من فوق رؤوسهم العذاب، وهو الحميم؛ لأنه أذم، وأهيب من الحميم، فقد صب ما تولد عنه من الآلام والعذاب، فعبر بالمسبب عن السبب؛ لأن العذاب هو المسبب عن الحميم، ولفظة العذاب أهول وأهيب، وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان؛ أي: إلى عذاب هو الحميم.
ويروى: أن الكافر إذا دخل النار يطعم الزقوم، ثم إن خازن النار يضربه على رأسه بمقمعة، يسيل منها دماغه على جسده، ثم يصب الحميم فوق رأسه، فينفذ إلى جوفه فيقطع الأمعاء والأحشاء ويمرق من قدميه.
٤٩ - وقولوا له على سبيل الاستهزاء والتهكم والتقريع: ﴿ذُقّ﴾ أيها الأثيم هذا العذاب المذل المهين ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ في نظرك ﴿الْكَرِيمُ﴾ عند قومك؛ أي: وقولوا له ذلك استهزاءً به، وتقريعًا له على ما كان يزعمه، من أنه عزيز كريم، فمعناه: أنت الذليل المهان.
وقيل: إن أبا جهل قال لرسول الله - ﷺ -: ما بين جبلي مكة أعز وأكرم منى، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك، أن تفعل بي شيئًا، فوردت الآية وعيدًا له ولأمثاله، عجبًا كيف أقسم بالله تعظيمًا له، ثم نفى الاستطاعة عنه، مع أن الرسول عليه السلام كان لا يدعو ربا سواه، فالكلام المذكور من حيرة الكفر وحكم الجهل وتعصب النفس، كما قالوا: أمطر علينا حجارة من السماء، وفي لفظ الذوق إشارة إلى أنه كان معذبًا في الدنيا، ولكن لما كان في نوم الغفلة،
(١) روح البيان.
وكثافة الحجاب، لم يكن ليذوق ألم العذاب، فلما مات انتبه، وذاق ألم ما ظلم به نفسه، وقرأ الجمهور: ﴿إِنَّكَ﴾ بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر، والكسائي بفتحها؛ أي: لأنك. قال الفراء: أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا اهـ.
والمعنى: أي ذق هذا الذل والهوان اليوم، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم، وها هو ذا، قد تبين لك أنك أنت الذليل المهين، فأين ما كنت تقول وتدعي من العز والكرامة، فهلا تمتنع من العذاب بعزتك
٥٠ - ﴿إِنَّ هَذَا﴾ العذاب الذي تعذبون به ﴿مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾؛ أي: تشكون في الدنيا، أو تمارون فيه؛ أي: تجادلون بالباطل؛ أي: العذاب الذي كنتم تشكون فيه في الدنيا فتختصمون فيه ولا توقنون به، فقد لقيتموه فذوقوه، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤)﴾ والجمع باعتبار المعنى؛ لأن المراد: جنس الأثيم.
٥١ - ولما ذكر حال الكفار.. أعقبه بحال المؤمنين، فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: عن الكفر والمعاصي وهم المؤمنون المطيعون ﴿فِي مَقَامٍ﴾؛ أي: في موضع قيام. والمراد (١): المكان على الإطلاق، فإنه من الخاص الذي شاع استعماله في معنى العموم، يعني أنه عام، ومستعمل في جميع الأمكنة حتى قيل لموضع القعود. مقام وإن لم يقم فيه أصلًا؛ أي: في مكان ﴿أَمِينٍ﴾ يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه، على أن وصف المقام بالأمن من المجاز في الإسناد، كما في قولهم: جرى النهر، فالأمن ضد الخوف، والأمين بمعنى ذي الأمن.
وأشار الزمخشري إلى وجه اخر، وهو أن الأمين من الأمانة التي هي ضد الخيانة، وهي في الحقيقة صفة صاحب المكان، لكن وصف به المكان بطريق الاستعارة التخييلية، كان المكان المخيف يحزن صاحبه ونازله، بما يلقى فيه من المكاره، أو كناية؛ لأن الوصف إذا أثبت في مكان الرجل، فقد أثبت له، لقولهم
(١) روح البيان.
المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه، كما في "بحر العلوم". قال أهل السنة: كل من اتقى الشرك، صدق عليه أنه متق، فيدخل الفساق في الوعد، يقول الفقير: الظاهر أن المطلق مصروف على الكامل بقرينة أن المقام مقام الامتنان، والكامل والمؤمن المطيع كما أشرنا إليه في عنوان الآية، نعم يدخل العصاة فيه انتهاءً وتبعيةً لا ابتداءً وأصالة. كما يدل عليه الوعيد الوارد في حقهم، وإلا لاستوى المطيع والعاصي، وقد قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ عفا الله عنا وعنكم أجمعين.
وقرأ عبد الله بن عمر وزيد بن علي وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وقتادة ونافع وابن عامر (١): ﴿في مقام﴾ بضم الميم، وقرأ أبو رجاء وعيسى ويحيى والأعمش وباقي السبعة: بفتحها، وعلى القراءة الأولى هو موضع الإقامة، وعلى القراءة الثانية هو موضع القيام، قاله الكسائي وغيره، وقال الجوهري: قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام.
٥٢ - وقوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿وَعُيُونٍ﴾ وأنهار، بدل من ﴿مَقَامٍ﴾، أو بيان له، أو خبر ثان جيء به دلالةً على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب، والمراد (٢) بالعيون: الأنهار الجارية، والتنكير فيهما للتعظيم،
٥٣ - وقوله: ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ خبر ثان أو ثالث، أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، والسندس ما رقَّ من الحرير، يجري مجرى الشعار لهم، وهو اللين من الدثار في المعتاد، والإستبرق ما غلظ منه وصفق نسجه، يجري مجرى الدثار، وهو أرفع نوع من أنواع الحرير، والحرير نوعان: نوع كلما كان أرق كان أنفس، ونوع: كلما كان أرزق بكثرة الإبريسم كان أنفس، يقول الفقير: يحتمل عندي أن يكون السندس لباس المقربين، والإستبرق لباس الأبرار يدل عليه أن شراب المقربين هو التسنيم الخالص، وشراب الأبرار هو الرحيق الممزوج به.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف وعد الله تعالى أهل الجنة بلبس الإستبرق، وهو غليظ الديباج، مع أن غليظه عند السعداء، من أهل الدنيا عيب ونقص؟
قلت: غليظ ديباج الجنة لا يشابه غليظ ديباج الدنيا حتى يعاب، كما أن سندس الجنة وهو رقيق الديباج، لا يشابه سندس الدنيا. وقيل: إن السندس لباس سادة أهل الجنة، والإستبرق لباس خدمهم إظهارًا لتفاوت الرتب انتهى. وقرأ ابن محيصن (١): ﴿واستبرق﴾ جعله فعلًا ماضيًا.
وقوله: ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يَلْبَسُونَ﴾؛ أي: حال كونهم متقابلين في المجالس. ليستأنس بعضهم ببعض. ومعنى متقابلين: متواجهين لا ينظر (٢) بعضهم إلى قفا بعض، لدوران الأسرة بهم، فهو أتم للأنس. وقال بعضهم: معناه: متقابلين بالمحبة، غير متدابرين بالبغض والحسد؛ لأن الله ينزع من صدورهم الغل وقت دخولهم الجنة، فإن قلت: المقصود من جلوسهم متقابلين: استئناس بعضهم ببعض، والجلوس على هذه الصفة موحش؛ لأنه يكون كل واحد منهم مطلعًا على ما فيه الاخر، فقليل الثواب إذا اطلع على حال كثيره.. تنغص.
والجواب: أن أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا، اهـ "كرخي".
٥٤ - والكاف، في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إما صفة لمصدر محذوف مع فعله؛ أي: أثبناهم إثابةً مثل المذكور، أو نفعل بالمتقين فعلًا مثل ذلك المذكور، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر كذلك، والأول أولى ليعطف عليه، قوله: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾؛ أي: قرناهم بهن، فيتمتعون تارةً بمؤانسة الإخوان ومقابلتهم، وتارةً بملاعبة النسوان من الحور العين، ومزاوجتهن، فليس المعنى: حصول عقد النكاح بينهم وبين الحور، فإن التزويج بمعنى العقد لا يتعدى بالباء، كما جاء في التنزيل: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ وإذا لم يكن عقد التزويج يقال: زوجناك بها، بمعنى كنت فردًا فقرناك بها؛ أي: جعلناك شفعًا بها، والله سبحانه
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
395
وتعالى جعلهم اثنين ذكرًا وأنثى، وقال في "المفردات": لم يجىء في القرآن زوجناهم حورًا، كما يقال: زوجته امرأةً تنبيهًا على أن ذلك لم يكن على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكح انتهى.
ثم الحور جمع الحوراء، وهي البيضاء، والعين جمع العيناء، وهي العظيمة العينين، فالحور هي النساء النقيات البياض، يحار فيهن الطرف لبياضهن وصفاء لونهن، واسعات الأعين حسانها، أو الشديدات بياض الأعين الشديدات سوادها.
وحاصل معنى الآيات: أن (١) المتقين لله في الدنيا الخائفين عقابه، المنتظرين فضله وثوابه، يكونون في الآخرة في مجالس يأمنون فيها من الموت، ومن كل ما يحزنهم ويصيبهم من الآفات والآلام. وقد ذكر سبحانه من ضروب نعيمهم خمسة ألوان:
١ - مساكنهم، كما قال: ﴿مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢)﴾ والمسكن يطيب بأمرين:
الأول: أن يكون من فيه آمنًا من جميع ما يخافه ويحذر منه، وهو المقام الأمين.
الثاني: أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون. وذلك قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢)﴾.
٢ - ملابسهم، وهي التي عناها سبحانه بقوله: ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾.
٣ - استئناس بعضهم ببعض بجلوسهم على جهة التقابل، وهو ما أشار إليه بقوله: ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾.
٤ - الأزواج كما قال: ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)﴾.
(١) المراغي.
396
٥ - ٥٥ المآكل، كما قال: ﴿يَدْعُونَ﴾؛ أي: يطلبون ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنات ﴿بِكُلِّ فَاكِهَةٍ﴾؛ أي: يأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه، لا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان، وذلك لا يجتمع في الدنيا، يعني: أن فواكه الدنيا لا توجد في كل مكان، ولها أزمنة مخصوصة، لا تستقدمها ولا تستأخرها، وقوله: ﴿آمِنِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾؛ أي: حال كونهم آمنين من كل ما يسوءهم أيا كان، خصوصًا الزوال والانقطاع، وتولد الضرر من الإكثار، وحجاب القلب، كما يكون في الدنيا فيكونون في الصورة مشغولين بالحور العين، وبما يشتهون من النعيم، وبالقلوب متوجهين إلى الذات العلية، مشاهدين لها.
والمعنى (١): يطلبون ما يشتهون من أنواع الفاكهة، وهم آمنون من انقطاعها، ومن غائلة أذاها ومكروهها، فهي ليست كفاكهة الدنيا التي نأكلها، ونخاف مكروه عاقبتها، أو نخاف نفادها في بعض الأحايين.
٥٦ - وبعد أن وصف ما هم فيه من نعميم مقيم، بين أن حياتهم في هذا النعيم دائمة، لا يلحقها موت ولا فناء، فقال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا﴾؛ أي: في الجنات ﴿الْمَوْتَ﴾ أبدًا ﴿إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ التي ذاقوها في الدنيا، وقرأ (٢) عبيد بن عمير ﴿لا يذاقون﴾ مبنيًا للمفعول، والموت والموتة: مصدران من فعل واحد، كالنفخ والنفخة، إلا أن الموتة أخص من الموت؛ لأن الموتة للوحدة والموت للجنس، فيكون بعضًا من جنس الموت، وهو فرد واحد، ونفي الواحدة أبلغ من نفي الجنس، فكانت أقوى وأنفى في نفي الموت عن أنفسهم، كأنه قال: لا يذوقون فيها شيئًا من الموت يعني: أقل ما ينطلق عليه اسم الموت، كما في "بحر العلوم"، والاستثناء (٣) منقطع؛ أي: لا يذوقون الموت في الجنة لكن الموتة الأولى قد ذاقوها قبل دخول الجنة، فعيشتهم المرضية مقارنة للحياة الأبدية، بخلاف أهل النار، فإنه لا عيشة لهم، وكذا لا يموتون فيها، ولا يحيون، ويقال:
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
397
ليس في الجنة عشرة أشياء: ليس فيها هرم ولا نوم ولا موت ولا خوف ولا ليل ولا نهار ولا ظلمة ولا حر ولا برد ولا خروج، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا، على أن المراد: بيان استحالة ذوق الموت فيها على الإطلاق، كأنه قيل: لا يذوقون فيها الموتة إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل، وذوق الماضي غير ممكن في المستقبل، لا سيما في الجنة التي هي دار الحياة فهذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾.
والمقصود: أنهم لا يذوقون فيها الموت البتة، وكذا لا ينكحون منكوحات آبائهم قطعًا، وقيل: إلا بمعنى بعد كما اختاره ابن جرير، أو بمعنى سوى، واختاره ابن عطية، فإن قلت: هذا دليل على نفي الحياة والموت في القبر.
قلت: أراد به: جنس الموت، المتعارف المعهود فيما بين الخلق، فإن الموت المعهود لا يعرى عن الغصص، والموت بعد الإحياء في القبر يكون أخف من الموت المعهود، كما في "الأسئلة المقحمة".
والمعنى (١): أي لا يخشون في الجنة موتًا ولا فناء أبدًا، وقد ثبت في "الصحيحين": أن رسول الله - ﷺ - قال: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت".
وروى أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري أن رسول الله - ﷺ - قال: "يقال لأهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تهرموا أبدًا"، رواه مسلم.
وخلاصة ذلك: لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، كذا قال الزجاج والفراء.
(١) المراغي.
398
﴿وَوَقَاهُمْ﴾؛ أي: حفظهم الله سبحانه وتعالى ﴿عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ وصرفه عنهم، وقرأ (١) الجمهور: ﴿وقاهم﴾ بالتخفيف، وقرأ أبو حيوة مشددًا بالقاف،
٥٧ - وقوله: ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ﴾ منصوب على المصدرية بفعل مقدر، أو على الحالية؛ أي (٢): أعطي المتقون ما ذكر من نعيم الجنة، والنجاة من عذاب النار عطاءً وتفضلًا منه تعالى، لا جزاءً للأعمال المعلولة، وقرىء بالرفع؛ أي: ذلك فضل من ربك، كما في "البيضاوي".
واحتج أهل السنة بهذه الآية: على أن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار، والفوز بالجنة ونعيمها، فإنما يحصل بفضل الله وإحسانه، وأنه لا يجب عليه شيء من ذلك، ففي إثبات الفضل نفي الاستحقاق، فجميع الكرامات فضل منه على المتقين، حيث اختارهم بها في الأزل، وأخرجها من علل الاكتساب، فإن الاكتساب أيضًا فضل إذ لو لم يخلق القدرة على كسب الكمالات، وتحصيل الكرامات لما وجد العبد إليه سبيلًا.
وفي الحديث: "لا يدخل أحدًا منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة الله"؛ أي: ولا أنا أدخل الجنة بعمل، إلا برحمة الله، وليس المراد به توهين أمر العمل، بل نفي الاغترار به، وبيان أنه يتم بفضل الله تعالى، وأما قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ونظائره فلا ينافي الحديث: لأن الآية تدل على سببية العمل، والمنفي في الحديث عليته وإيجابه، انتهى.
وقال الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى في "مواقع النجوم": الدخول بالرحمة، وقسمة الدرجات بالأعمال، والخلود بالنيات فهذه ثلاثة مقامات، وكذلك في دار الشقاوة دخول أهلها فيها بعدل الله، وطبقات عذابها بالأعمال، وخلودهم بالنيات، وأصل ما استوجبوا به هذا العذاب المؤبد، المخالف، كما كانت في السعادة الموافقة، وكذلك من دخل النار من العاصين، لولا المخالفة لما عذبهم الله شرعًا، نسأل الله سبحانه لنا وللمسلمين، أن يستعملنا بصالح الأعمال،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
ويرزقنا الحياء منه تعالى.
﴿ذَلِكَ﴾ الذي أعطيناه هؤلاء المتقين من الكرامة ﴿هُوَ الْفَوْزُ﴾ والظفر بما كانوا يطلبون إدراكه في الدنيا بأعمالهم، وطاعتهم لربهم، واتقائهم إياه فيما أمتحنهم به من الطاعات، واجتنابهم للمحرمات؛ أي: ذلك هو الفوز ﴿الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز وراءه، إذ هو خالص من جميع المكاره، وجامع لكل المطالب. يقول الفقير: لما كان الموت وسيلةً لهذا الفوز، وبابًا له.. ورد الموت تحفة المؤمن، والموت وإن كان من وجه هلكًا فمن وجه فوز، ولذلك قيل: ما أحد إلا والموت خير له، أما المؤمن فإنما كان الموت خيرًا له؛ لأنه يتخلص به من السجن، ويصل إلى النعيم المقيم في روضات الجنات، وأما العاصي فلأن الإمهال في الدنيا سبب لازدياد المعاصي والإثم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ وهو سبب لازدياد العذاب.
٥٨ - ولما أتم المقاصد التي أراد ذكرها في هذه السورة، لخصها بقوله: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾ فهذه (١) الآية فذلكة للسورة الكريمة، ونتيجة لها، واللسان آلة التكلم في الأصل، واستعير هنا لمعنى اللغة، كما في قوله - ﷺ -: "لسان أهل الجنة العربية"؛ أي: إنما يسرنا الكتاب المبين، وسهلنا قراءته عليك، حيث أنزلناه بلسانك ولغة قومك ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: لكي يفهمهه قومك، ويتذكروا به، وبتعظوا بعظاته، ويعملوا بموجبه، ويتفكروا في آياته إذا تلوتها عليهم، فينيبوا إلى ربهم، ويذعنوا للحق الذي تبينوه، وإذا لم يعملوا بذلك ﴿فَارْتَقِبْ﴾؛ أي: فانتظر ﴿إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ﴾؛ أي: منتظرون، وفي "عين المعاني": أو فارتقب الثواب فإنهم كالمرتقبين العقاب؛ لأن المسيء ينتظر عاقبةً الإساءة، وعلى كلا التقديرين فمفعول الارتقاب محذوف في الموضعين؛ أي: ولما كان القرآن الكريم مع هذا الوضوح والبيان قد خالف فيه بعض الناس، وعاند
٥٩ - قال تعالى، مسليًا رسوله، وواعدًا له بالنصر، ومتوعدًا من كذبه بالهلاك: ﴿فَارْتَقِبْ﴾؛
(١) روح البيان.
400
أي: فانتظر يا محمد لما يحل لهم من المقادير، فإن في رؤيتا عبرة للعارفين، وموعظة للمتقين ﴿إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ﴾؛ أي: منتظرون لما سيحل بك من الدوائر، ولم يضرك ذلك فعن قريب يتحقق أملك، وتخيب آمالهم، وسيعلمون لمن تكون له النصرة والغلبة والظفر، وعلو الكلمة في الدنيا والاخرة، ولا شك أن النصر سيكون لك كما كان لإخوانك من النبيين والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)﴾.
وفي الآية فوائد (١):
منها: أنه تعالى بين تيسير القرآن، والتيسير ضد التعسير، وقد قال في آية أخرى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥)﴾ فبينهما تعارض في الظاهر، والجواب: أنه ميسر باللسان، وثقيل من حيث اشتماله على التكاليف الشاقة على المكلفين، ولا شك أن التلاوة باللسان، أخف من العمل بما فيه.
ومنها: أنه تعالى قال: ﴿بِلِسَانِكَ﴾، فأشار إلى أنه لو أسمعهم كلامه بغير الواسطة لماتوا جميعًا لعدم تحملهم، قال جعفر الصادق - رحمه الله -: لولا تيسيره، لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القران، وأنى لهم ذلك، وهو كلام من لم يزل، ولا يزال، وقال ابن عطاء: يسر ذكره على لسان من شاء من عباده؛ فلا يفتر عن ذكره بحال، وأغلق باب الذكر على من شاء من عباده، فلا يستطيع بحال أن يذكره.
ومنها: أن انتظار الفرج عبادة، على ما جاء في الحديث؛ لأنه من الإيمان.
الإعراب
{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا
(١) روح البيان.
401
بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)}.
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَيَقُولُونَ﴾: اللام: حرف ابتداء، وجملة ﴿يقولون﴾: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسبوقة للحديث عن قريش، بعد استطراد حديث بني إسرائيل. ﴿إِنّ﴾: نافية. ﴿هِيَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَوْتَتُنَا﴾: خبر هي، ﴿الْأُولَى﴾: نعت للموتة، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لـ ﴿يقولون﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾: نافية حجازية، ﴿نَحْنُ﴾: اصمها. ﴿بِمُنْشَرِينَ﴾: خبرها والباء زائدة، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ﴿فَأْتُوا﴾: الفاء: واقعة في جواب شرط قدم جوابه عليه، اعتناء بشأن الجواب، تقديره: إن كنتم صادقين، فاتوا بآبائنا. ﴿ائتوا﴾: فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة الطلبية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها. ﴿بِآبَائِنَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ائتوا﴾، ﴿إِن﴾: حرف شرط جازم. ﴿كنُتُم﴾: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وتاء المخاطبين اسمها. ﴿صَادِقِينَ﴾: خبرها، والجملة الشرطية مؤخرة عن جوابها، كما قدرنا أولًا، وجملة الشرط مع جوابه في محل النصب مقول لـ ﴿يقولون﴾، ﴿أَهُمْ﴾ الهمزة: للاستفهام التعييني. ﴿هم﴾ مبتدأ، ﴿خَيْرٌ﴾: خبره، ﴿أَمْ﴾: حرف عطف متصلة. ﴿قَوْمُ تُبَّعٍ﴾: معطوف على ﴿هم﴾، ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف ﴿قَوْمُ تُبَّعٍ﴾، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول، والجملة الاسمية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من المعطوف والمعطوف عليه. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿مُجْرِمِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩)﴾.
402
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾: نافية. ﴿خَلَقْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿السَّمَاوَاتِ﴾: مفعول به، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف عليه. ﴿وَمَا﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على السموات، ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف، وقع صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿لَاعِبِينَ﴾ حال من فاعل ﴿خَلَقْنَا﴾، ﴿مَا﴾: نافية. ﴿خَلَقْنَاهُمَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مفسرة لما قبلها، محل لها من الإعراب ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿خَلَقْنَاهُمَا﴾؛ أي: ما خلقناهما إلا حالة كوننا، متلبسين بالحق والحكمة؛ أي: محقين، أو صفة لمصدر محذوف، تقديره: إلا خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة. ﴿وَلَكِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿لكن أكثرهم﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبره، ومفعول العلم محذوف، تقديره: لا يعلمون كون خلقنا إياهما لحكمة، والجملة الاستدراكية في محل النصب، حال من مفعول ﴿خَلَقْنَا﴾؛ أي: ما خلقناهما إلا لحكمة، حال كون أكثرهم لا يعلمون ذلك، ولكنها حال سببية.
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)﴾.
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه، ﴿مِيقَاتُهُمْ﴾ خبره، ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد للضمير في ﴿مِيقَاتُهُمْ﴾، والجملة مستأنفة ﴿يَوْمَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾، أو ظرف لما دل عليه الفصل؛ أي: يفصل بينهم يوم لا يغني ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُغْنِي﴾: فعل مضارع. ﴿مَوْلًى﴾: فاعل، ﴿عَنْ مَوْلًى﴾: متعلق بـ ﴿يُغْنِي﴾، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، أو مفعول مطلق؛ أي: إغناءً شيئًا؛ أي: قليلًا وجملة ﴿لَا يُغْنِي﴾ في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾ نافية، ﴿هُمّ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُنْصَرُونَ﴾ خبره، وهو مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والجملة الاسمية في محل الجر، معطوفة على جملة ﴿لَا يُغْنِي﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع،
403
بدل من ﴿الواو﴾ في ﴿يُنْصَرُونَ﴾؛ أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله تعالى، ويجوز النصب على الاستثناء، فيكون منقطعًا كما مر، ﴿رَحِمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل والجملة صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: إلا من رحمه الله، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه: ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾: خبران، لـ ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣)﴾، ناصب واسمه، ومضاف إليه، ﴿طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾ خبره ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، ﴿كَالْمُهْلِ﴾: خبر ثان لـ ﴿إنَّ﴾. ﴿يَغْلِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الزَّقُّومِ﴾، ﴿فِي الْبُطُونِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿الزَّقُّومِ﴾، أو من ﴿طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾، ﴿كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: يغلي غليانًا، مثل غليان الحميم.
﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)﴾.
﴿خُذُوهُ﴾: فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعل، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في حل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال للزبانية خذوه، ﴿فَاعْتِلُوهُ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿اعتلوه﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿خُذُوُهُ﴾، ﴿إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اعتلوه﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿صُبُّوا﴾: فعل أمر وفاعل، معطوف على ﴿اعتلوه﴾. ﴿فَوْقَ رَأْسِهِ﴾، ظرف متعلق بـ ﴿صُبُّوا﴾، ﴿مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ﴾ متعلق بـ ﴿صُبُّوا﴾ أيضًا، فـ ﴿من﴾ تبعيضية، وهو من إضافة الصفة للموصوف، أو المسبب إلى السبب اهـ شيخنا. ﴿ذُقَّ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْأَثِيمِ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال له: ذق ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنتَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ خبران لـ ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مقول للقول المحذوف، على كونها معللة لما قبلها. ﴿إِنَّ هَذَا﴾: ناصب واسمه ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل
404
الرفع خبر، ﴿إنّ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَمْتَرُونَ﴾ وجملة ﴿تَمْتَرُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد ضمير ﴿بِهِ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب، مقول للقول المحذوف.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦)﴾.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾: ناصب واسمه ﴿فِي مَقَامٍ﴾: خبره. ﴿أَمِينٍ﴾: صفة لـ ﴿مَقَامٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾: بدل من ﴿فِي مَقَامٍ﴾: بإعادة الجار، ﴿يَلْبَسُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ سُنْدُسٍ﴾: متعلق به. ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ معطوف على ﴿سُندُسِ﴾، وجملة ﴿يَلْبَسُونَ﴾ إما خبر ثان لـ ﴿إن﴾، أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، الواقع خبرًا لـ ﴿إن﴾، ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾: حال من الضمير في ﴿يَلْبَسُونَ﴾، ﴿كَذَلِكَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر كذلك، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، جيء بها للتقرير، ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يَلْبَسُونَ﴾، أو على محذوف إن قلنا إن الكاف في ﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف كما مر. ﴿بِحُورٍ﴾: متعلق بـ ﴿زوجناهم﴾، ﴿عِينٍ﴾ صفة لـ ﴿حور﴾، ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، حال من الهاء في ﴿زوجناهم﴾، ﴿فِيهَا﴾: حال من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾، ﴿بِكُلِّ فَاكِهَةٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾، ﴿آمِنِينَ﴾: حال من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾ أيضًا؛ أي: لا يخافون من مغبة أكلها ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَذُوقُونَ﴾ فعل وفاعل، حال من الضمير المستكن في ﴿آمِنِينَ﴾، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَذُوقُونَ﴾، ﴿الْمَوْتَ﴾: مفعول به، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء منقطع ﴿الْمَوْتَةَ﴾: منصوب على الاستثناء. ﴿الْأُولَى﴾ صفة لـ ﴿الْمَوْتَةَ﴾، ﴿وَوَقَاهُمْ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به أول معطوف على ﴿لَا يَذُوقُونَ﴾، ﴿عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ مفعول ثان لـ ﴿وقاهم﴾.
405
﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)﴾.
﴿فَضْلًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: تفضلنا بذلك المذكور فضلًا، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: صفة لـ ﴿فَضْلًا﴾، ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْفَوْزُ﴾: خبره. ﴿الْعَظِيمُ﴾ صفة لـ ﴿الْفَوْزُ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿فَإِنَّمَا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما بيناه لك في هذه السورة، وأردت بيان نتيجته.. فأقول لك: ﴿إنما﴾: أداة حصر، ﴿يَسَّرْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿بِلِسَانِكَ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ﴿لعل﴾ حرف ترج مستعار للتعليل، فتكون بمعنى كي، والهاء اسمها، وجملة ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها معللة لما قبلها، ﴿فَارْتَقِبْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة أيضًا؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت تيسيره لتذكيرهم، وأبوا من التذكر به، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ارتقب. ﴿ارتقب﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، مستأنفة. ﴿إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ﴾: ناصب واسمه ونجره، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، على كونها مسوقة لتعليل الأمر بالارتقاب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾؛ أي: بمبعوثين، يقال: نشر الله الموتى وأنشرهم إذا أحياهم. ﴿تُبَّعٍ﴾ بوزن سكر، واحد التبابعة، وهم ملوك اليمن، وهذا اللقب أشبه بفرعون لدى قدماء المصريين، وكان منهم سبعون تبعًا، قال النعمان بن بشير الأنصاري:
406
لنَا مِنْ بَنِيْ قَحْطَانَ سَبْعُوْنَ تُبَّعًا أَطَاعَتْ لنَا بالْخَرْجِ مِنَّا الأَعَاجِمُ
وَمِنَّا سَرَاةُ النَّاسِ هُوْدٌ وَصَالِحٌ وَذُو الْكِفْلِ مِنَّا وَالْمُلُوْكُ الأَعَاظِمُ
وهم طبقتان:
الطبقة الأولى: ملوك سبأ وريدان، من سنة ١١٥ قبل الميلاد، إلى ٢٧٥ بعده.
والطبقة الثانية: ملوك سبأ وريدان، وحضرموت، والشحر من سنة (٢٧٥) بعد الميلاد، إلى سنة (٥٢٥)، وأولهم شمر برعش، وآخرهم ذو نبراس، ثم ذو جدن، ومنهم ذو القرنين، أو إفريقش ويسمى الصعب، وبعده عمرو زوج بلقيس، ثم أبو بكر ابنه، ثم ذو نواس، والذين اشتهروا من هؤلاء الملوك ثلاثة، شمر برعش، وذو القرنين، وأسعد أبو كرب، وتفاصيل أخبارهم مبثوثة في بطون كتب التاريخ المطولة، فليرجع إليها من استهوته قراءة الأساطير الممتعة، وما فيها من قصص عجيبة.
والظاهر: أن تبعًا الأول سمي به لكثرة قومه وتبعه، ثم صار لقبًا لمن بعده من الملوك، سواء كانت لهم تلك الكثرة والأتباع، أم لا. ﴿مِيقَاتُهُمْ﴾؛ أي: ميقات كفار مكة وسائر الناس؛ أي: وقت وعدهم الذي ضرب لهم في الأزل، وأصل الميقات: موقات قلبت الواو ياءً لسكونها إثر كسرة، فصارت حرف مد، قال في "بحر العلوم": ميقاتهم؛ أي: حدهم الذي يوقتون به ولا ينتهون إليه، ومنه مواقيت الإحرام على الحدود، التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرمًا، فإنَّ الميقات ما وقت به الشيء؛ أي: حد. قال ابن الشيخ: الفرق بين الوقت والميقات أن الميقات وقت يقدر؛ لأن يقع فيه عمل من الأعمال، وأن الوقت ما يقع فيه شيء، سواء قدره مقدر لأن يقع فيه شيء، أم لا.
﴿لَا يُغْنِي مَوْلًى﴾ في "المختار": المولى المعتق والمعتَق وابن العم والناصر والجار والحليف، اهـ. وفي "القرطبي"؛ أي: لا يدفع ابن عم عن ابن عمه، ولا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه شيئًا اهـ. وأصله مولي بوزن مفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣)﴾ وفي "المفردات": شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار، ومنه استعير زقم فلان وتزقم، إذا
407
ابتلع شيئًا كريهًا. وفي "المراغي": شجرة الزقوم هي شجرة ذات ثمر مر، تنبت بتهامة، شبهت بها الشجرة التي تنبت في الجحيم وفي "القاموس": الزقم اللقم، والتزقم التلقم، وأزقمه فازدقمه أبلعه فابتلعه، والزقوم كتنور الزبد بالتمر، وشجرة بجهنم ونبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل، وطعام أهل النار، وشجرة بأريحاء من الغور، لها ثمر كالتمر حلو عفص، ولنواه دهن عظيم المنافع، عجيب الفعل في تحليل الرياح الباردة، وأمراض البلغم، وأوجاع المفاصل والنقرس، وعرق النسا، والريح اللاحجة في حق الورك، يشرب منه زنة سبعة دراهم ثلاثة أيام، وربما أقام الزمنى والمقعدين، ويقال: أصله الأهليلج، والزقمة الطاعون، انتهى ﴿الْأَثِيمِ﴾ الكثير الآثام والذنوب، وهو الكافر.
﴿كَالْمُهْلِ﴾ المهل بضم الميم، له معان كثير، واللائق منها هنا دردي الزيت وعكر القطران، والصديد والقيح والنحاس المذاب. والمهل بالفتح التؤدة والرفق، ومنه ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ﴾. ﴿كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)﴾ والغلي والغليان: التحرك والارتفاع. قال في "المفردات". الغلي والغليان، يقال في القدر إذا طفحت؛ أي: امتلأت وارتفعت، ومنه استعير ما في الآية، وبه شبه غليان الغضب والحرب.
﴿فَاعْتِلُوهُ﴾؛ أي: جروه بالعنف والقهر. وفي "المختار": عتل الرجل جذبه جذبًا عنيفًا، وبابه ضرب ونصر، فقولهم: العتال للذي ينقل الأحمال بالأجرة صحيح لا غبار عليه، والحرفة العتالة، وفي، "القاموس": العتلة محركةً، المدرة الكبير تنقلع من الأرض، وحديدة كأنها رأس فأس، والعصا الضخمة من حديد لها رأس مفلطح، يهدم بها الحائط، اهـ. والعُتُلُّ الجافي الغليظ، والعتل أن تأخذ بمنكبي الرجل فتجره إليك، وتذهب به إلى حبس أو محنة، وقال ابن السكيت: عتلته إلى السجن، وأعتلته إذا دفعته دفعًا عنيفًا. ﴿سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ وسطها. ﴿الْحَمِيمِ﴾ الماء الذي تناهي حره ﴿ذُقّ﴾ أمر من ذاق يذوق، وأصل يَذُوق يَذْوُق، بوزن يفعل نقلت حركة الواو إلى الذال، فسكنت إثر ضمة فصار يذوق، فلما بني منه الأمر قيل: ذوق فالتقى ساكنان فحذفت الواو، وهكذا شأن
408
كل ثلاثي أجوف واوي العين، كقل من قال، وكن من كان مثلًا.
﴿تَمْتَرُونَ﴾ أصله: تمتريون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت، حذفت لالتقاء الساكنين، ثم ضمت الراء لمناسبة الواو، فصار تمترون ﴿فِي مَقَامٍ﴾ قرىء مقام بفتح الميم، وأصله: مقوم بوزن مفعل بفتح العين، نقلت حركة الواو إلى القاف فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال، وقرىء مقام بضم الميم، اسم مكان من أقام فعل به ما فعل بالأول
﴿فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾؛ أي: في مجلس أمنوا منه من كل هم وحزن، وأصل الأمن: طمأنينة النفس، وزوال الخوف، والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويستعمل الأمان تارةً اسمًا للحالة التي عليها الإنسان في الأمن، وتارةً اسمًا لما يؤتمن عليه الإنسان، كقوله تعالى: ﴿وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾؛ أي: ما ائتمنتم عليه. ﴿مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ السندس هو مارقَّ من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه. وفي "المصباح": والديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم، ويقال: هو معرب، انتهى. ثم إن الإستبرق من كلام العجم، عرب بالقاف، قال في "القاموس": الإستبرق الديباج الغليظ. معرب إستروه، وتصغيره أبيرق، وستبر بالتاء والطاء، بمعنى: الغليظ بالفارسية، قال الجواليقي في "المعربات": نقل الإستبرق من العجمية إلى العربية، فلو حقر أو كسر لكان في التحقير أبيرق، وبالتكسير أباريق، بحذف السين والتاء جميعًا، انتهى. والتعريب: جعل العجمي بحيث يوافق اللفظ العربي، بتغييره عن منهاجه، وإجرائه على أوجه الإعراب، وجاز وقوع اللفظ العجمي في القرآن العربي؛ لأنه إذا عرب خرج من أن يكون عجميًا إذا كان متصرفًا تصرف اللفظ العربي من غير فرق، فمن قال: القرآن أعجمي فقد كفر؛ لأنه عارض قوله تعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، وإذا قال: فيه كلمة أعجمية، ففي أمره نظر؛ لأنه إن أراد وقوع الأعجمي فيه بتعريب فصحيح، وإن أراد وقوعه بلا تعريب فغلط.
﴿بِحُورٍ﴾ بوزن فعل بضم العين، جمع حوراء كحمر وحمراء. ﴿عِينِ﴾ جمع عيناء، وقياسه أن يجمع على فعل بضم الفاء، كما جمعت حوراء على حور،
409
لكن الفاء كسرت لمناسبة الياء. ﴿لَا يَذُوقُونَ﴾ الأصل فيه يذوقون نقلت حركة الواو إلى الذال، فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد فوزنه يفعلون. ﴿إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ والموت والموتة مصدران من فعل واحد كالنفخ والنفخة، كما مر ﴿وَوَقَاهُمْ﴾ الأصل فيه ووقيهم بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، والوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه، ويضره.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإشارة بالقريب إليهم في قوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)﴾ للتحقير والازدراء بهم.
ومنها: التجهيل لمنكري الحشر في قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وتوكيده بحرف الاستدراك؛ لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾، اهـ "كرخي"؛ أي: ليس عندهم علم بالكلية.
ومنها: أسلوب التعجيز في قوله: ﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦)﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
ومنها: الاستفهام الذي يطلب به، وبأَمْ تعيين أحد الأمرين، في قوله: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ...﴾ إلخ، والمراد: التهديد لهم؛ لأنه لا خيرية في الفريقين.
ومنها: تنكير مولى في الموضعين في قوله: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى﴾ لغرض الإبهام فإن المولى مشترك بين معان كثيرة، يطلق على المالك والعبد والمعتق والصاحب والقريب، كابن العم ونحوه والجار والحليف والابن والعم والنزيل والشريك وابن الأخت والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصهر، كما في "القاموس". وكل من ولي أمر أحد، فهو وليه ومولاه، فواحد من هؤلاء أي واحد كان، لا يغني عن مولاه أي مولىً كان، شيئًا من الإغناء؛ أي: إغناء قليلًا.
410
ومنها: تنكير شيئًا في قوله: ﴿عَنْ مَوْلًى شَيْئًا﴾ لإفادة التقليل.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَالْمُهْلِ﴾ شبه بالمهل في كونه غليظًا أسود.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)﴾ فإن الغليان حقيقة في امتلاء القدر، وارتفاع ما فيها.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿خُذُوهُ﴾؛ أي: يقال للزبانية: خذوه.
ومنها: الاستعارة المكنية التخييلية، في قوله: ﴿ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨)﴾ فقد شبه العذاب بالمائع، ثم خيل له بالصب.
ومنها: أسلوب التهكم والسخرية في قوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾ فالتهكم عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع النذارة، وبالوعد في مكان الوعيد، تهاونًا من القائل بالمقول له، واستهزاءً به، وقد تقدمت أمثلته في مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى في سورة النساء: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨)﴾ وهو أغيظ للمستهزأ به، وأشد إيلامًا له.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ فإن وصف المقام بالأمن من المجاز العقلي، كما في قولهم: جرى النهر، ففيه إسناد ما للحالّ إلى المحل، وفيه الاستعارة التخييلية، إن قلنا إن الأمين من الأمانة، التي هي ضد الخيانة، كما قاله الزمخشري، كأن المكان المخيف يحزن صاحبه ونازله، بما يلقى فيه من المكاره، أو الكناية؛ لأن الوصف إذا أثبت في مكان الرجل، فقد أثبت له كقولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢)﴾ للتعظيم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
411
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
١ - بيان بدء نزول القرآن.
٢ - وعيد الكافرين بحلول الجدب والقحط بهم.
٣ - عدم إيمانهم مع توالي النكبات بهم.
٤ - عظة الكافرين بقصص فرعون، وقومه مع موسى عليه السلام، وقد أنجي الله المؤمنين، وأهلك الكافرين.
٥ - إنكار المشركين للبعث، وقولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)﴾.
٦ - إقامة الدليل على نبوة محمد - ﷺ -.
٧ - وصف أهوال يوم القيامة.
٨ - وصف ما يلاقيه المجرمون من النكال والوبال.
٩ - وصف نعيم المتقين، وحصولهم على كل ما يرغبون.
والله أعلم
* * *
412
سورة الجاثية
وتسمى سورة الشريعة، هي مكية كلها في قول الحسن، وجابر، وعكرمة. نزلت بعد الدخان، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير: أنها نزلت بمكة، ورُوي عن ابن عباس، وقتادة: أنهما قالا: إلا آية منها، وهي قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى ﴿أَيَّامَ اللَّهِ﴾ فإنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب كما سيأتي، وهي سبع أو ست وثلاثون آية، وأربع مئة وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومئة واحد وتسعون حرفًا.
التسمية: سميت سورة الجاثية؛ لأنه يدر فيها الأهوال التي يلقاها الناس يوم الحساب، فيجثون من الفزع منها على الركب، وفي "التفسير المنير": سميت سورة الجاثية أخذًا من الآية المذكورة فيها: ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)﴾.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: جميع آياتها محكم غير اية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ الآية (١٤)، نزلت في عمر بن الخطاب، ثم نسخت بآية السيف.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها: أن أول هذه السورة مشاكل لآخر سابقتها في الأغراض والمقاصد. وقال (١) أبو حيان: مناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح، والظهور؛ لأنه قال في آخر السابقة: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾، وقال في أول هذه: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)﴾.
وفي "التفسير المنير": تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
(١) البحر المحيط.
413
١ - ابتدأت هذه السورة بالكلام عن تنزيل القران من الله تعالى، والذي هو مكمل لما ختمت به السورة المتقدمة.
جعل القرآن بلغة النبي - ﷺ -، ولغة قومه العرب، فهو عربي اللسان نصًا، وفحوى ومعنى وأسلوبًا، وفي ذلك حث على اتباعه، والإيمان به.
٢ - تشابه السورتين في الغايات الكبرى، التي يستهدفها القران، وهي إثبات وحدانية الله تعالى، من خلال بيان أدلة القدرة الإلهية، في خلق السموات والأرض، ومناقشة الكفار في عقائدهم الفاسدة، وضرب الأمثال من مصائر الأمم الغابرة، التي أهلكها الله سبحانه، لتكذيبهم الرسل.
والله أعلم
* * *
414

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما (١) ذكر آيات القرآن العظيم.. أشار إلى ما لها من علو المرتبة، ورفيع الدرجة، ثم أوعد من كذبوا بها بعد سماعها، وأصروا على كفرهم بها بالويل والثبور،
(١) المراغي.
415
Icon