تفسير سورة القلم

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة القلم من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة ن
وتسمى سورة القلم، وهي مكية على الصحيح، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية وتشمل بيان بعض صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وإرشاده إلى مخالفة المكذبين ثم ذكر قصة أصحاب البستان تهديدا للكفار، ثم مناقشتهم وإبطال حججهم، وبعد ذلك أمر النبي بالصبر على أذاهم، مع بيان شدة بغضهم للنبي والقرآن.
محمد رسول الله أكرم الخلق على الله [سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ١٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
720
المفردات:
ن ينطق بها هكذا نون: وفيها ما في حروف الهجاء التي افتتحت بها السور المكية، وقد تقدمت مرارا، وهي بلا شك رمز (شفرة) بين الله- تبارك وتعالى- وبين رسوله المصطفى، على أن بعضهم ذكر حكمة لذكرها، هي أنها سيقت تنبيها للمشركين إلى أن القرآن الذي أعجزكم مكون من حروف هجائية ينطق بها كل إنسان منكم، ومع هذا عجزتم عن الإتيان بمثله. وَالْقَلَمِ: وهو الآلة المعروفة.
وَما يَسْطُرُونَ: وما يكتبون. مَمْنُونٍ: مقطوع أو منقوص.
الْمَفْتُونُ: المجنون، من فتن: إذا أصيب بفتنة أى محنة أو بلاء من ذهاب عقل أو مال أو موت ولد. تُدْهِنُ من الإدهان، وهو المداهنة والملاينة، يقال: أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره: إذا خان وأظهر خلاف ما يضمر، وأصل اللفظ من الدهن الذي هو البل، فإنه يلين اليابس. حَلَّافٍ: كثير الحلف. مَهِينٍ:
ضعيف الرأى حقيره. هَمَّازٍ: كثير الهمز، والهمز في اللغة: النخس، ومنه المهماز للدابة، والمراد به الطعن في الناس والغض منهم وذكرهم بالمكروه، وهو كاللمز. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ: يمشى بين الناس بالنميمة والسعاية. مُعْتَدٍ: يتعدى حدود العدل والإنصاف. أَثِيمٍ: كثير الآثام. عُتُلٍّ: هو الأكول والشّراب القوى الجسم الغليظ. زَنِيمٍ: دعى، أى: يندس في القوم ويلحق بهم في النسب ولا يكون منهم. سَنَسِمُهُ الوسم: أن تضع علامة على الشيء تميزه بها عن غيره.
الْخُرْطُومِ: هو في الخنزير كالأنف للإنسان.
المعنى:
أقسم الحق- تبارك وتعالى- هنا بقوله: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ أما القسم بالقلم وأثره فهو للإشارة إلى عظم النعمة بهما وأنهما من النعم على الإنسان بعد المنطق والبيان، إذ على قدر انتشارهما في أمة يكون مقدار نبوغها وتقدمها بين الأمم على أن هذا الإقسام بهما لفت أنظار العالم إلى خطرهما وأثرهما.
721
وما أروع لفظ وَما يَسْطُرُونَ حيث يشمل كل فنون الكتابة والتعبير عما في الضمير بالرسم والتصوير، ويشمل كل آلة أو نظام استحدث للتوصل إلى ذلك من آلات ومعدات حدثت أو ستحدث، وهكذا القرآن، لأنه صادر من علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون من البشر، تجده يختار العبارات التي تشمل كل المخترعات ألا ترى إلى قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [سورة النحل آية ٨].
ولعلك تدهش حين تعلم أن هذه السورة من أوائل السور نزولا، وكانت سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أول سورة نزلت، ولكن لا غرابة فهذا دين سماوي يعرف مقدار الكتابة والقراءة وأثرهما في نظام الدنيا، ثم يكون هذا كله على يد نبي أمى عربي لا يقرأ ولا يكتب؟ وأقسم الله بالقلم وما يسطرون به ما أنت يا محمد- بنعمة ربك وفضله- بمجنون، كما يصفك هؤلاء المشركون، وكأن المعنى: انتفى عنك الجنون بسبب ما أنعم الله عليك من خلق كريم، ورعاية من ربك الرحمن الرحيم، وكيف تكون مجنونا، وأنت العاقل الصادق الأمين، بإقرارهم جميعا؟! وكيف ذلك؟! وإن لك لأجرا غير مقطوع، إنه عطاء غير محدود، على ما قمت به من تبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وما تحملت في سبيل ذلك من عنت وإرهاق، كيف يكون مجنونا من يقوم بعبء هذه الرسالة؟! والحال أنك على خلق عظيم، وإذا شهد الله هذه الشهادة فهل بعد ذلك شيء.
إذا كان الأمر كذلك، وأنك في عناية الله ورعايته، وأنك خاتم رسله وإمام أنبيائه فستبصر ويبصرون حقيقة الأمر، وأن الله مع المؤمنين، وهو ناصر رسله على الكفار والمشركين، وقد كان المشركون يعتزون بعددهم وأموالهم وأولادهم ويسترسلون في إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وربما تأثر النبي بشيء من ذلك، ولكن الله يطمئنه- ووعده الحق- أن النصر في جانبه، وأن الدائرة عليهم.
فستعلم ويعلمون: من منكم هو المجنون؟ «١»، وهذا كلام مبنى على التعريض بالمشركين بأن الجنون فيهم لا يعدوهم إلى غيرهم، ووصفه تعالى لهم بالجنون مشاكلة،
(١) - هذا هو المعنى المراد من قوله «بأيكم المفتون» وللوصول إليه قلنا بأن الباء صلة، أى: زائدة، ويصح أن نقول: إن (المفتون) ليس اسم مفعول ولكنه مصدر كالمعقول.
722
وفي الواقع ليس فيهم جنون حقيقة بل وصفوا به من حيث إعراضهم عن الحق واتباعهم الهوى والباطل: ولا شك أن من كان كذلك كان جديرا بالجنون، وحيث نصر الله عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده علموا وعلم الكل أنهم كانوا كالمجانين حين كذبوا وكفروا، لا عجب في ذلك الحكم فربك هو أعلم- لا يعلم غيره- بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، إذ هو خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم من علقة، فهو تعالى يعلم الذين حادوا عن السبيل، أو هدوا إلى صراط العزيز الحميد.
إذا كان الأمر كذلك فلا تطع المكذبين بحال من الأحوال في أى شيء يطلبونه، إنهم ودوا من صميم قلوبهم لو تداهن في أمر يطلبونه، فهم يدهنون «١» كذلك، أى:
يكافئونك على ملاينتك لهم.
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول الدعوة يقف وحده أمام قوى الأعداء المتكاثرة ومع هذا كانوا يعرضون على النبي أن يلاينهم نوعا ما فلا يذم آلهتهم، ولا يسفه أحلامهم وهم لذلك لا يهاجمون المسلمين، وربما وقع في نفس النبي بعض الشيء من هذا الكلام فجاءت هذه الآية فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ شحنا للعزائم، وإلهابا للهمة، بعد أن ذكره ربه في فاتحة السورة بما كان يصفه به أولئك المشركون من أنه مجنون وأفاك أثيم، فكيف بعد هذا يصانعهم أو يمالئهم، كان هذا تعليما إلهيا للنبي ولأصحاب الدعوات، إذ هذا غالبا ما يؤخذ سلاحا يطعن به الأشراف والأبرياء وأصحاب الدعوات، وهذا نهى للنبي عن إطاعة الكفار المكذبين مطلقا، ثم نهاه عن إطاعة نوع خاص فيه صفات خاصة، كل واحدة كفيلة بالتحذير من الطاعة، وهذه اجتمعت في الوليد بن المغيرة على الصحيح، وقيل: في غيره.
ولا تطع كل حلاف كثير الحلف باليمين، فإنه لا يكثر الحلف إلا إذا كان معتقدا أن مخاطبه لا يصدقه، ولا بد أن يكون كذابا بينه وبين نفسه وبينه وبين ربه.
مَهِينٍ أى: ذليل حقير في عقله ورأيه، لا في شخصه وماله. هَمَّازٍ:
كثير الهمز واللمز، والطعن في الناس والغض منهم وذكرهم بالمكروه مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يمشى بين الناس بالسعاية والفساد وإيقاع العداوة والبغضاء. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع
(١) - جملة (ودوا لو تدهن) تعليل للنهى قبله، فيدهنون: الفاء للسببية، ويدهنون خبر لمبتدأ محذوف، وعطف هذه الجملة على ما قبلها عطف مسبب على سبب.
723
نفسه وغيره من الخير والإصلاح. مُعْتَدٍ أَثِيمٍ كثير الاعتداء وارتكاب الآثام والمعاصي مع الناس. عُتُلٍّ جاف غليظ الطبع سىء الخلق، بغيض المعاملة، أكول شروب مادى حقير. بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ بعد هذا كله فهو دعى ليس ذا أصل معروف، وقد كان الوليد كذلك استحلقه أبوه بعد ولادته بثمان عشرة سنة.
لأنه كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: هي أساطير الأولين وأكاذيبهم، يتداولها الناس من جيل إلى جيل.
هذا المخلوق ومن على شاكلته سيسمه ربك على أنفه «١» وسيلحق به ذل وعار يلزمه لزوم العلامة، وقد تحقق ذلك فسيظل اسم الوليد بن المغيرة مقرونا بالذل والحقارة إلى يوم الدين.
هذا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم أكرم الخلق على الله، وهذه بعض صفاته يسجلها ربه في هذه السورة، ومعها توجيهات إلهية له ولكل من يقوم بدعوته، ومع هذا كله صفات عشرة كلها في منتهى الذم والحقارة وصف بها عدو من أعداء الحق والدعوة المحمدية!!!
قصة أصحاب الجنة ومغزاها [سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)
(١) - هذا كناية عن إذلاله وإخضاعه وإهلاكه ماديا وأدبيا، وقد تحقق ذلك.
724
المفردات:
بَلَوْناهُمْ: فعلنا معهم فعل المختبر. الْجَنَّةِ المراد: البستان كثير الزروع والثمار والأغصان الملتفة التي تستر ما تحتها، والعرف يخص الجنة بفراديس النعيم في الآخرة. لَيَصْرِمُنَّها الصرام: وقت جنى الثمر. مُصْبِحِينَ: داخلين في الصباح. وَلا يَسْتَثْنُونَ المراد لا يقولون: إن شاء الله. طائِفٌ أى: طرقها في الليل من أمر الله طارق وهو هلاكها. كَالصَّرِيمِ: كالبستان المصروم ثمره أى: المقطوع، وللصريم معان أشهرها أنه الليل المظلم أو الأرض السوداء.
حَرْثِكُمْ: زرعكم والمراد مكان الزرع، أى: الحقل. يَتَخافَتُونَ:
يتكلمون كلاما مهموسا لا يسمعه أحد. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ: ذهبوا حالة كونهم قادرين في ظنهم على حرد أى: منع للمساكين. أَوْسَطُهُمْ: أعدلهم وأحسنهم رأيا لأن الوسط من كل شيء خياره وعليه قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). لَوْلا تُسَبِّحُونَ: هلا تنزهون الله من كل سوء. يَتَلاوَمُونَ أى: يلوم بعضهم بعضا. يا وَيْلَنا: يا هلاكنا احضر فهذا أوانك.
طاغِينَ: متجاوزين الحد والعقل والشرع. راغِبُونَ أى: متوجهون ومتضرعون.
المعنى:
لقد منّ الله على الناس جميعا بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن الناس: أهل مكة، حيث كانت لهم تجارات واسعة وبعض المزروعات، وكانت لهم رحلتان صيفا وشتاء، ثم
725
أرسل لهم رسول الله بالهدى ودين الحق ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى والعلم، ومع النبي صلّى الله عليه وسلّم قرآن فيه ذكرهم وشرفهم يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولكنهم كفروا وكذبوا، ولم يراعوا حق الله، وكفروا بالنعم فاستحقوا العذاب والهلاك، أليس هذا بلاء وأى بلاء؟
إنا بلونا أهل مكة بالنعم، ثم بإرسال إمام الرسل، فكفروا واستحقوا من الله عظيم النقم، حيث اغتروا بالمال والأهل والولد، ولم يرعوا حق الله فيهم، كما بلونا أصحاب البستان كثير الخير والبركات عظيم الثمر، ملتف الأغصان، ولكنهم ما عرفوا حق الله وكفروا بالمساكين وحقوقهم، ثم بعد ذلك ندموا، ولات ساعة الندم.
ولأصحاب البستان قصة خلاصتها: كان هناك رجل صالح يخاف الله، ويعطى حقوق المساكين، ويعلن عن يوم الجنى ليحضر كل مستحق فيأخذ من خير الله ما يستحق، ثم توفى هذا الرجل وخلفه أولاده على البستان وكانوا كثرة، ثم لما قرب جنى الثمار تذاكروا فيما بينهم ماذا يفعلون كما كان أبوهم يفعل؟ لا. إنه كان رجلا طيبا، وكان فردا واحدا منهم تبعاته قليلة، أما نحن فجماعة ولنا أولاد، وبأى شيء يستحق المسكين في البستان؟ ونحن الذين قمنا بالحرث والزرع والتسميد. لا. لا. لن نعطى أحدا، قالوا هذا إلا واحدا منهم وعظهم فلم يتعظوا، وأمرهم فلم يأتمروا، وكان واحدا وهم جماعة فنزل على إرادتهم مكرها، ولا تنس قول الله: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [سورة البقرة آية ٢٦٨].
عقدوا أمرهم عشاء على أن يذهبوا مبكرين في الصباح ليصرموا الجنة وحدهم بدون أن يعلم المساكين ولم يقولوا: إن شاء الله، وظنوا أنهم قادرون على منعهم، وبيناهم كذلك إذ طاف عليها طائف من ربك، وطرقها بلاء عظيم لم يكن للإنسان فيه أى مدخل، فأصبحت كالبستان المصروم ثمره. أصبحت كقطعة الليل ظلاما، أرأيت إلى حقل القطن بعد الجنى؟ إنه كالليل الأسود.
فلما رأوها هكذا، بعد أن ساروا ليلا في السر، وكتموا أنفاسهم حتى لا يعلم مسكين قصدهم، لما رأوها قالوا: يا ويلنا إنّا لضالون حيث منعنا حقوق المساكين وغفلنا عن قدرة الله الكبير، ثم بعد ذلك ذهبوا إلى أبعد من هذا قائلين: لا تظنوا أنا حرمنا المساكين بفعلنا هذا. لا. ليسوا محرومين أبدا فإن الله موجود، ولكن نحن
726
المحرومون من التوفيق والهداية، حيث خرجنا عن أمره. وقسونا على عباده وخلقه.
قال أوسطهم عقلا، وأرجحهم رأيا: ألم أقل لكم عند ما عزمتم على منع المساكين هلا تسبحون الله؟ هلا تنزهون الله فتطيعوا أمره؟ ولا تظنوا فيه العجز على الرزق والإعطاء ومعاقبة العاصي المتكبر؟ قالوا إزاء هذا: سبحان ربنا وتنزيها له إنا كنا ظالمين. ندموا على ما فات وهل ندمهم كان صحيحا أم لا؟ الله أعلم.
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا: يا ويلنا، إنا كنا طاغين وخارجين عن حدود العقل والشرع والسنن الإلهية، ندموا وقالوا: عسى ربنا أن يبدلنا خيرا من تلك الجنة التي أبيدت، إنا إلى الله وحده راغبون ومتجهون.
أيها الناس: العذاب العاجل نرسله على الطغاة المتجبرين والكفار والمشركين مثل هذا العذاب الذي أرسل في لحظة واحدة فأهلك الحرث والنسل، فإياكم والغرور وإياكم ومخالفة أمر الله، ولعذاب الآخرة أكبر وأشد لو كان الناس يعلمون.
مناقشة المكذبين وتهديدهم [سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٧]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
727
المفردات:
تَدْرُسُونَ درس الكتاب: قرأه بعناية ليفهمه. أَيْمانٌ: عهود ومواثيق.
بالِغَةٌ: مغلظة مؤكدة. زَعِيمٌ: كفيل وضامن. يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ:
كناية عن اشتداد الأمر وعظيم الهول يوم القيامة. تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ: تلحقهم ذلة واستكانة. فَذَرْنِي: اتركني. الْحَدِيثِ: القرآن والوحى الذي يبلغه النبي إلى الناس. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج: أن تنزل بالمرء درجة درجة إلى حيث تريد، والمراد سنأخذهم على غفلة. وَأُمْلِي لَهُمْ: أمهلهم وأؤخرهم. كَيْدِي مَتِينٌ: عمل معهم الذي يشبه الكيد القوى. أَجْراً: أجره على البلاغ.
مَغْرَمٍ: غرامة. مُثْقَلُونَ: محملون حملا ثقيلا.
لقد كان مشركو مكة يقفون من الدعوة الإسلامية موقف العدو اللدود الذي ينفق كل نفس ونفيس في سبيل إحباطها والقضاء عليها، والله- جل جلاله- يعلم ذلك، فهو تارة يهددهم، ويكشف حالهم، ويباعد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وتارة يضرب لهم الأمثال بمن سبقهم من المغرورين والمكذبين الذين نالهم من الله ما نالهم كأصحاب الجنة.
ثم بعد ذلك أخذ يناقشهم الحساب وينقض أوهامهم وحججهم.
وقد كانوا يقولون: نحن أحسن حالا من النبي وصحبه فنحن أكثر مالا وأغنى رجالا، ولنا قوة ومنعة، وأصحاب محمد في فقر وضعف وقلة عدد وعدد. فإذا كان يوم القيامة فنحن سنكون مثلهم إن لم نكن أحسن منهم.
في هذا سيقت تلك الآيات الواضحات تفند رأيهم وتهدم زعمهم الباطل.
728
المعنى:
إن للمتقين الذين اتقوا الله واتخذوا لأنفسهم الوقاية من عذاب الله حيث امتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، هؤلاء لهم عند ربهم جنات النعيم، إن للمتقين- لا الكافرين المكذبين- جنات النعيم، وانظر إلى قوله: عند ربهم: فهل يعقل أن يكون للكفار جنة مثلهم عند ربهم؟ وقد كفروا به ولم يعرفوا له حقه.
يقول الحق- تبارك وتعالى-: عجبا لكم أيها الكفار، أفنجور في الحكم- وهذا محال- فنجعل المسلمين المتقين كالمجرمين الكافرين، ثم التفت لهم لتأكيد الرد وتشديده قائلا: ما لكم؟ أى شيء حصل لكم من خلل في العقل وسوء في الرأى؟
كيف تحكمون؟ أى: على أى وضع حكمتم هذا الحكم؟ هل هو عن عقل أو عن اختلال فكر وسوء رأى؟ «١». لا. إنه حكم مجرد عن العقل والنظر السليم.
أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون؟ بل «٢» ألكم كتاب مكتوب سواء كان سماويا أو غيره تدرسون فيه وتقرأون إن لكم فيه الذي تتخيرونه وترضونه بقطع النظر عن أى اعتبار! لا شيء من هذا.
لم يكن لكم كتاب فيه ما تقولونه من أن لكم يوم القيامة ما تختارونه. بل ألكم أيمان، وعهود علينا، أيمان مغلظة وعهود موثقة تبلغ إلى يوم القيامة. جوابها إن لكم لما تحكمون!.. لا شيء من هذا أبدا.
سلهم يا محمد متحديا: إن كان لهم كتاب فيه ما ذكر فليبرزوه، وإن كان لهم يمين من الله فليظهروه، وإن كان لهم زعيم وضامن لهم ما يقولون فمن هو؟
فليس معهم دليل نقلي من كتاب الله أو غيره، وليست لهم حجة ظنية من يمين أو غيره وليس لهم ضامن يضمن قولهم فماذا بعد هذا؟!
(١) - «ما لكم كيف تحكمون» جملتان استفهاميتان الأولى هي (ما لكم). وهي مبتدأ وخبر، والثانية هي كيف تحكمون؟
(٢) - أم لكم كتاب (أم) بمعنى بل والهمزة، بل الانتقالية من حديث إلى آخر، والهمزة للاستفهام التوبيخي، وكذا يقال في أخواتها التي هنا، وجملة (إن لكم لما تخيرون) مفعول في المعنى لتدرسون، وكان حقها فتح أن لكن اللام التي في خبرها علقت الفعل وهو تدرسون عن العمل فكسرت إن. [.....]
729
بل ألهم شركاء من الأصنام والأوثان التي يعبدونها إن كانوا صادقين فليأتوا بشركاء يشهدون لهم، ويؤيدونهم في أن لهم نصيبا في الجنة، لا شك أن المشركين ليس لهم شركاء يشهدون لهم، إذ هي أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، وبذلك تكون قد بطلت حجتهم، وانقطعت معاذيرهم، وحقت الكلمة عليهم، إن كان لهم شركاء كما يدعون فليأتوا بهم يوم يكشف عن ساق: وهو يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، يوم يشتد الهول ويعظم الأمر.
اذكروا أيها المشركون ذلك اليوم الشديد الهول الذي يجازى فيه كل على ما فرط في جنب الله، وستجازون أنتم على ذلك ويقال لكم: ها أنتم اليوم قد ظهر لكم الحق، فاسجدوا لله واعبدوا، ولكن أنى لهم ذلك؟ وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون؟! عند ذلك تخشع أبصارهم، وترتجف قلوبهم، وترهقهم ذلة واستكانة مما قدموا من سىء الأعمال، وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود بإلحاح، وهم في بحبوحة العيش وسلامة الجسم، وفي وقت العمل والطاعة، أما اليوم فهو للجزاء والحساب فقط.
فيا ويلهم من هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
إذا كان الأمر كذلك فاتركنى مع من يكذب بهذا القرآن، اتركني وهؤلاء فأنا بهم بصير، وعلى جزائهم قدير، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون «١»، أما استدراج الله لهم فهو أن الله أعطاهم مالا وأولادا، ومتعهم بصحة وعافية فشغلهم كل ذلك عن النظر الصحيح في آيات الله واتباع الرسول مع قيام الأدلة الواضحة على صدقه وصحة نبوته، وقد تمادوا في باطلهم وغفلتهم، حتى حسبوا أن تأخير العذاب عنهم وإسداء النعم لهم لأنهم يستحقون ذلك، وأنهم مكرمون عند ربهم، بل أعماهم الغرور ففهموا أنه سيكون لهم مثل ذلك يوم القيامة كالمؤمنين على الأقل، وما زال المشركون كذلك سادرين في غيهم وغرورهم حتى نزل بهم البلاء فبدد الله جمعهم، وشتت شملهم أليس هذا استدراجا لهم؟ وإملاء لهم حتى تكون القاضية.
وقد سمى تأخير العذاب عنهم وتمتعهم بالنعم- مع أنه قدر عليهم الشقاء والفناء
(١) - جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل وقال: وماذا أنت يا رب صانع بهم؟ فالجواب: سنستدرجهم.
730
والهلاك وسيلاقونه حتما- سمى الله هذا كيدا لأنه يشبه الكيد إذ الكيد الحقيقي عمل الضعيف مع القوى، والله مبرأ من هذا، فهو القوى القادر ذو البطش الشديد.
بل أتسألهم أجرا كبيرا على رسالتك، فهم من التزاماته مثقلون؟ بل أعندهم صحائف الغيب فهم يكتبون ما شاءوا لهم؟ لا هذا ولا ذاك، وقد لزمتهم الحجة.
ختام السورة [سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
المفردات:
كَصاحِبِ الْحُوتِ: هو يونس بن متى. مَكْظُومٌ: من كظم غيظه:
إذا رده وحبسه. بِالْعَراءِ: بالأرض الفضاء. مَذْمُومٌ: ملوم. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ: اختاره. لَيُزْلِقُونَكَ: ليجعلونك تزلق وتزل، يقال: زلقت قدمه:
زلت، وأزلق فلانا ببصره نظر إليه نظر متسخط كاره.
المعنى:
إذا كان الأمر كذلك، وأن هؤلاء الكفار قد بطلت حجتهم، ولم يعد فيه فائدة من نقاشهم فاصبر لحكم ربك وقضائه، فإن لله سنة لا تتخلف أبدا مع الناس فهو يملى للمكذبين، ويؤجل عقوبتهم، ولكنه لا يهملهم أبدا، ولا بد من نزول العقوبة بهم،
731
وليس عليك إلا الصبر، ولا تكن كيونس بن متى ذلك النبي الصالح الذي لاقى من قومه عنتا ومشقة وألما وهماّ، لا تكن مثله في الضجر والألم وعدم التحمل إذ نادى، ودعا على قومه، وهو ممتلئ غيظا وألما، ثم خرج من ديارهم كارها لهم كالآبق، فلما وصل إلى الساحل ركب السفينة، وانتهى الأمر إلى إيقاعه في اليم، فالتقطه الحوت، وهو مليم آت بما يلام عليه حيث لم يصبر على أذى قومه إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا...
وفي سورة (ص) المزيد من قصة يونس.
ولكن الله تداركه بلطفه، حين استقر في بطن الحوت، وأصبح في ظلمات ثلاث فنادى الله اللطيف الخبير تائبا نائبا لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «١» لما تداركه الله برحمته وقبل توبته ألقاه الحوت في العراء، والحال أنه غير مذموم إذ قبل الله توبته، فاجتباه وأرسله إلى أهل «نينوى» فآمنوا به، ومتعهم ربك إلى حين، ولا عجب فهو من الصالحين.
فيا رسول الله لا تكن كيونس، وإنما اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، وسيقضي الله أمرا كان مفعولا، واعلم أن هؤلاء المكذبين لا يألون جهدا في عداوتك فمهما لاقيت منهم فهو قليل، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: وإن يكاد الذين كفروا لينظرون إليك نظر الحاقد الكاره حتى كأنه من شدة الغيظ والحنق يكاد يزلق قدمك ويرميك من طولك، فهذه النظرات المسمومة كأنها سهام محسوسة حين يسمعون منك القرآن، أرأيت وصفا أدق من هذا للحقاد الحاسد! ويقولون: إنه لمجنون كما قالوا سابقا، وما هذا القرآن إلا ذكر للعالمين، وشرف للناس أجمعين، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن آتيا على يد مجنون!!
(١) - سورة الأنبياء آية ٨٧.
732
Icon