ﰡ
عبّر فيه هنا ب " إلى " وفيه في أثناء السورة ب " على " ( ١ ).. تقدّم في البقرة الفرق بين " إلى " و " على " ونزيد هنا أن كلّ موضع خُوطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالإنزال، أو التنزيل، أو النزول، إن عُدّي ب " إلى " ففيه تكليف له، أو ب " على " ففيه تخفيف عنه، فما هنا تكليف له بالإخلاص في العبادة، بدليل قوله :﴿ فاعبد الله مخلصا له الدين ﴾ [ الزمر : ٢ ] وما في أثناء السورة تخفيف عنه، بدليل قوله :﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] أي لست بمسؤول عنهم.
أي دائم على كفره وكذبه، أو لا يهديه إلى حجة، يُلزم بها المؤمنين، وإلا فكم هُدي من كافر.
إن قلتَ : كيف يكون قوله فيها :﴿ لاصطفى مما يخلق ما يشاء ﴾ مع أن كل من ادّعى له ولدا ؟ ! أو نسب إليه ولدا، قال : إن الله اصطفاه من خلقه، فجعله له ولدا( ١ ) ؟ !
قلتُ : إن جُعل ردّا على اليهود في قولهم : إن عزيرا ابن الله، وعلى النصارى في قولهم : إنه المسيح، كان معناه : لاصطفى ولدا من الملائكة، لا من البشر، لأن الملائكة أشرف من البشر، بلا خلاف بين اليهود والنصارى.
أو ردّا على مشركي العرب، في قولهم : إنه الملائكة، كان معناه : لاصطفى ولدا من جنس ما يخلق كل شيء يريده، ليكون ولدُه موصوفا بصفته، لا من الملائكة الذين لا يقدرون، على إيجاد جناح بعوضة.
ولا يَرِد على هذا خلق عيسى عليه السلام الطّير، لأنه ليس بتام، أو لأنه بمعنى التقدير من الطين، ثم الله يخلقه حيوانا، بنفخ عيسى عليه السلام، إظهارا لمعجزته.
إن قلتَ : كيف عطف ب " ثُمّ " مع أن خلق ( حواء ) من ( آدم )، سابق على خلقنا منه ؟ !
قلتُ : " ثم " هنا للترتيب في الإخبار، لا في الإيجاد، أو المعطوف متعلّق بمعنى واحدة، و " ثم " عاطفة عليه، لا على " خلقكم " فمعناه : خلقكم من نفس واحدة أُفردت بالإيجاد، ثم شُفعت بزوج.
أو هو معطوف على " خلقكم " لكن المراد بخلقهم، خلقُهم يوم أخذ الميثاق، لا هذا الخلق الذي يتمّ فيه الآن، بالتوالد والتناسل، وذلك أن الله خلق آدم عليه السلام، ثم أخرج أولاده من ظهره كالذّرّ، وأخذ عليهم الميثاق، ثم ردّهم إلى ظهره، ثم خلق منه حواء.
قوله تعالى :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج... ﴾ [ الزمر : ٦ ] الآية.
إن قلتَ : كيف قال ذلك ؟ مع أن الأنعام مخلوقة في الأرض، لا منزّلة من السماء ؟
قلتُ : هذا من مجاز النسبة إلى سبب السّبب، إذِ الأنعام لما كانت لا تعيش إلا بالنّبات، والنبات لا يعيش إلا بالمطر، والمطر منزل من السماء، وصفها بالإنزال، من تسمية المسبَّب، باسم سبب سببه.
أو معناه : وقضى لكم، لأن قضاءه منزّل من السماء، من حيث كُتب في اللوح المحفوظ.
أو خلقها في الجنة، ثم أنزلها على آدم عليه السلام، بعد إنزاله إلى الأرض، والإنزال بمعنى الإحداث والإنشاء، لقوله تعالى :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا ﴾ [ الأعراف : ٢٦ ].
زاد اللام بعد " أُمِرْتُ " الثاني( ١ ) دون الأول، لأن مفعول الثاني محذوف، اكتفاء بمفعول الأول، والتقدير : وأُمرت أن أكون عبدا لله، ولأن أكون أول المسلمين.
فإن قلتَ : لم قال في هذه الآية ﴿ مخلصا له الدين ﴾ ب " أل " وقال بعد :«قُلِ الله أعبد مخلصا له ديني » بالإضافة.
قلتُ : لأن قوله :«قلِ الله أعبد » إخبار عن المتكلّم، فناسبت الإضافة إليه، وقوله :﴿ أمرت أن أعبد الله ﴾ ليس إخبارا عن المتكلّم، فناسبت الإخبار عنه أصالة " أُمِرْتُ " فقط، وما بعده فضلة.
زاد اللام بعد " أُمِرْتُ " الثاني( ١ ) دون الأول، لأن مفعول الثاني محذوف، اكتفاء بمفعول الأول، والتقدير : وأُمرت أن أكون عبدا لله، ولأن أكون أول المسلمين.
فإن قلتَ : لم قال في هذه الآية ﴿ مخلصا له الدين ﴾ ب " أل " وقال بعد :«قُلِ الله أعبد مخلصا له ديني » بالإضافة.
قلتُ : لأن قوله :«قلِ الله أعبد » إخبار عن المتكلّم، فناسبت الإضافة إليه، وقوله :﴿ أمرت أن أعبد الله ﴾ ليس إخبارا عن المتكلّم، فناسبت الإخبار عنه أصالة " أُمِرْتُ " فقط، وما بعده فضلة.
قاله هنا بلفظ ﴿ يجعله ﴾ وفي الحديد( ١ ) بلفظ ﴿ يكون ﴾ [ الحديد : ٢٠ ] موافقة في كلّ منهما، لما قبله، وهو ﴿ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ﴾ [ الحديد : ٢٠ ].
قاله هنا بحذف «فإنما يهتدي » المذكور في يونس( ١ ) والإسراء، اكتفاء بما ذكره بقوله قبلُ :﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل ﴾ [ الزمر : ٣٦، ٣٧ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك ؟ مع أن للأنبياء، والعلماء، والشهداء، والأطفال، شفاعة ؟
قلتُ : معناه أن أحدا لا يملكها إلا بتحليلها، كما قال تعالى :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] وقال :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن القرآن كله حسن ؟
قلتُ : معناه أحسن وحي، أو كتاب أُنزل إليكم، وهو القرآن كلّه، أو أحسن القرآن آياته المحكمات، أو آياته التي تضمّنت أمر طاعة أو إحسان، وقد مرّ نظير هذا السؤال، في نظير هذه الآية في الأعراف( ١ )، في قوله تعالى :﴿ وَأْمُرْ قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ [ الأعراف : ١٤٥ ] وما مرّ ثَمَّ في جوابه، يأتي هنا.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الموحى إليهم جمع ؟ ولما أُوحي إلى مَنْ قَبله، لم يكن في الوحي إليهم خطابُه.
قلتُ : معناه ولقد أوحي إلى كل واحد منك ومنهم، لئن أشركت، أو فيه إضمار نائب الفاعل، تقديره : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك التوحيد، ثم ابتدأ فقال :﴿ لئن أشركت ﴾، أو فيه تقديم وتأخير، تقديره : ولقد أوحي إليك لئن أشركت، وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك ! !
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن السَّوْقَ فيه نوع إهانة، لا يليق بأهل الجنة ؟
قلتُ : المراد بسوق " أهل النار " طردهم إليها بالهوان والعنف، كما يُفعل بالأسرى، الخارجين على السلطان، إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، وبسوق " أهل الجنة " سوقُ مراكبهم، حَثّاً وإسراعا بهم، إلى دار الكرامة والرضوان، كما يُفعل بمن يُشَرَّفُ ويُكَرَّمُ من الوافدين على السلطان.
فإن قلتَ : كيف قال في صفة النار ﴿ فُتِحَتْ أبوابها ﴾ [ الزمر : ٧١ ] بلا ( واو )، وفي صفة الجنة بالواو ( وفُتِحَتْ أبوابها } ؟ [ الزمر : ٧٣ ].
قلت : هي زائدة، أو هي واو الثمانية، لأن أبواب الجنة ثمانية، أو واو الحال، أي جاؤوها وقد فُتحت أبوابها، قبل مجيئهم، بخلاف أبواب النار، فإنها إنم فُتحت عند مجيئهم، والسرّ في ذلك أن يتعجّلوا الفرح والسرور، إذا رأوا الأبواب مفتّحة.
وأهل النار يأتونها وأبوابها مغلقة، ليكون أشدّ لحرّها( ١ )، أو أن الوقوف على الباب المغلق، نوع ذل وهوان، فصين أهل الجنة عنه، أو أن الكريم يعجّل المثوبة ويؤخّر العقوبة، أو اعتبر في ذلك عادة دار الدنيا، لأن عادة من في منازلها من الخدم –إذا بُشّروا بقدوم أهل المنازل- فتح أبوابها قبل مجيئهم، استبشارا وتطلعا إليهم، وعادة أهل الحبوس، إذا شُدِّد في أمرها، ألا تُفتح أبوابها، إلا عند الدخول إليها أو الخروج.