ﰡ
مكية باتفاق، وهي سبع وخمسون آية. وتشمل على بيان عظمة القرآن، وتهديد المشركين. وضرب الأمثال لهم بفرعون وقومه ونهايته، ثم إثبات البعث ومناقشتهم فيه، وبيان بعض أحواله الخاصة بالكفار والمؤمنين. ثم ختمت كما بدئت بالكلام على القرآن.
ذلك هو القرآن الكريم [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
الْمُبِينِ: صاحب البيان الواضح لكل ما يحتاج إليه الإنسان في أمور دينه ودنياه مُنْذِرِينَ أى: مخوفين به يُفْرَقُ: يفصل ويبين حَكِيمٍ: محكم لا لبس فيه مُوقِنِينَ أى: تريدون اليقين من الأمور يَلْعَبُونَ اللعب: الشغل بما لا يجدي. فَارْتَقِبْ: انتظر. بِدُخانٍ: دخان النار معروف. يَغْشَى النَّاسَ: يحيط بهم من كل جانب مُعَلَّمٌ أى: يعلمه غيره نَبْطِشُ البطش:
الأخذ بقوة وشدة.
المعنى:
حم. أقسم ربك بالقرآن الكريم الذي هو الكتاب المبين على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة كثيرة الخيرات. وهذا النسق من الكلام يدل على أن الله يعظم القرآن غاية التعظيم حيث أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة. وهذا شبيه بقولك لصديق لك:
أقسم بحقك عليك.
والله- سبحانه- يقول في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ويقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ويقول هنا: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ومن هذه النصوص الصريحة يتبين لنا أن القرآن نزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وهذه الليلة إحدى ليالي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن حتى تتوافق جميع النصوص القرآنية، ولعل إبهامها ليترقبها الناس في ثلاثين ليلة، والكتاب المبين إنا أنزلنا هذا القرآن في ليلة مباركة- هي ليلة القدر لا ليلة نصف شعبان كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء- إنا كنا منذرين الناس بهذا القرآن. والقرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث في ثلاث وعشرين سنة بين مكة والمدينة المنورة. والمعروف أن بدء نزوله كان في ليلة القدر التي هي الليلة المباركة، وقيل: إن معنى نزوله فيه أنه نزل إلى السماء الدنيا في تلك الليلة والله أعلم بذلك.
وهذه الليلة المباركة وصفت هنا بصفات مشابهة لصفاتها في سورة القدر، فقال جل شأنه: فيها يفرق كل أمر حكيم، أى: يفصل ويبين كل أمر محكم ذو حكمة يدل على حكمة بالغة لله تعالى. وهذه الأمور المحكمة يزداد شرفها بأنها أمر من عند الحق-
كانوا يقرون بأن الله خالق السموات والأرض، فقيل لهم: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب معهم رحمة من الله السميع العليم الذي هو رب السموات والأرض إن كان إقراركم بأنه خالق السماء والأرض عن علم ويقين فآمنوا بذلك، ثم رد الله- سبحانه- أن يكونوا موقنين فقال: بل هم في شك يلعبون. وإن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين، وإذا كان الأمر كذلك فارتقب يوم تأتى السماء بدخان بين ظاهر، أمروا بأن ينتظروا اليوم الذي يثار فيه عليهم الغبار الذي يغشى الناس ويحيط بهم وهذا عذاب أليم بلا شك. وهل هذا اليوم لقريش في الدنيا؟ والمراد بالغبار جوع وفقر؟ أو غبار الحرب في يوم بدر أم المراد بذلك اليوم يوم القيامة وعذابها الذي يحيط بكل كافر وهم أولهم؟
الله أعلم.
ويقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم يرجعون إلى ما كانوا عليه، ولم يذكروا هذا العذاب، وأنى لهم الذكرى؟
ويقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، فلما كشفنا عنهم أعرضوا عن النبي وآياته الظاهرة، وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقد أعانه على هذا القرآن قوم آخرون، ومنهم من كان يقول: إنه مجنون، وهذا يؤيد من يقول: إن الآيات نزلت في قريش.
إنا كاشفو العذاب قليلا: إنكم عائدون إلى الكفر، فهم قوم لا يوفون بالعهد، بل هم في حال الشدة يتضرعون إلى الله فإذا نجاهم وزال الخوف عنهم عادوا إلى الكفر وتقليد الآباء في الشرك.
واذكر يوم نبطش البطشة الكبرى يوم القيامة يوم يأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر بلا هوادة ولا رحمة، إن بطش ربك لشديد، وإن انتقامه لقوى بالغ، وهذا تهديد لهم وأى تهديد.
١- أقسم به، والله لا يقسم إلا بالعظيم من خلقه.
٢- أنه أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة.
٣- وصفه بكونه مبينا.
٤- الغاية منه إنذار البشر ليخرجوا من الظلمات إلى النور.
٥- كان إنزاله رحمة من الله، وتبعا لحاجة المحتاجين، إذ هو السميع العليم رب السماء والأرضين.
ما لهم لا يعتبرون بفرعون وقومه؟ [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
فَتَنَّا: بلوناهم واختبرناهم كَرِيمٌ المراد: جامع لخصال المحامد والمنافع أَدُّوا: أطلقوا بنى إسرائيل وَأَنْ لا تَعْلُوا: وأن لا تستكبروا مستهينين بوحيه عُذْتُ: التجأت تَرْجُمُونِ: ترموني بالحجارة، أو المراد تؤذوني فَاعْتَزِلُونِ: كونوا بمعزل عنى. فَأَسْرِ: سر ليلا بعبادي. رَهْواً:
ساكنا كما هو، أو ذا فرجة واسعة وَنَعْمَةٍ النعمة: التنعيم، والنعمة اليد والضيعة وما أنعم به عليك، وقيل: لا فرق بين النعمة والنعمة، والأولى تفسيرها بالشيء المنعم به لأنه أنسب لقوله: كم تركوا فاكِهِينَ أى: أصحاب فاكهة، وقرئ فكهين، بمعنى: أشرين بطرين ومستخفين مستهزئين مُنْظَرِينَ: ممهلين.
المعنى:
وبالله لقد فتنا قبل مشركي قريش قوم فرعون: وبلوناهم بالسيئات والحسنات، وفعلنا «١»
معهم فعل المختبر الذي يريد أن يعرف حقيقة الشيء، وكانت فتنتهم بزيادة الرزق والتمكين في الأرض وإرسال الرسل، وكان من جملة ما امتحنوا به أن جاءهم رسول كريم هو موسى الكليم- عليه السلام- فما لكم يا كفار مكة لا تتعظون بما حل بغيركم؟ ما لكم لا تثوبون لرشدكم وتعلمون أن سنة الله مع الأمم كلها لا تختلف؟! ولقد جاء آل فرعون نبي الله موسى، وهو رسول كريم على الله: كريم في نفسه لأنه جمع خصال المحامد والمنافع، جاءهم فقال: أدوا إلى بنى إسرائيل، وأطلقوهم وفكوا سراحهم فهم عباد الله لا عبادكم، فاستعبادكم لهم ظلم كبير، وقيل المراد: أدوا
وقبل أن يخبره الله بأنه حافظه ومانعه من الناس فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «١»
قال موسى: وإنى عذت بربي وربكم والتجأت إليه حتى يحفظني من أن ترجمونى بالكذب أو بالحجارة أو تؤذوني بأى نوع كان، وقد حفظه الله منهم ونجاه من كيدهم كما سيأتى.
وإن لم تؤمنوا بالله لأجل برهاني وتعاليمى التي أثبتها لكم فاعتزلوني واتركوني حرا أدعو الناس إلى الله، ولهذا جاءت الرسل كلها لتوجد الحرية في الناس فيكونوا أحرارا من أنفسهم وشهواتهم ودنياهم وأحرارا في عبادتهم لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «٢».
وبعد أن أصروا على تكذيبه دعا ربه فقال: إن هؤلاء الناس قوم مجرمون تناهى أمرهم في الكفر والبهتان، وأنت أعلم بهم، فافعل معهم ما يستحقون بإجرامهم فقال الله له: أسر بعبادي- بنى إسرائيل ومن آمن من القبط- ليلا لا نهارا إنكم قوم متبعون ومطاردون من فرعون وجنده إذا علموا بخروجكم فسيتبعونكم للإيقاع بكم.
فلما ساروا وعبروا البحر من جهة السويس أمر موسى بأن يترك البحر كما هو ساكنا لوجود الطريق وسطه، أو ذا فرجة واسعة بسبب الطريق فيه، أى: اترك يا موسى البحر كما هو، ولا تضربه بعصاك حتى يرجع كما كان، فإن الله يريد أن يسيروا وراءكم في طريق البحر حتى إذا توسطوا فيه أغرقهم إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يا حسرتا على القوم الكافرين! يا ويلهم كم تركوا بمصر من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، وقصور ومجالس للسمر والمتعة، وكم تركوا من نعمة كانوا فيها أصحاب فاكهة، وكانوا فيها أشرين بطرين مستخفين مستهزئين لا يقومون بالشكر لصاحب تلك النعمة.
الأمر كذلك، أو مثل ذلك الذي فعلناه بفرعون وقومه نفعل مع كل جبار عنيد لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يؤمن برسوله الذي أرسل إليه، نفعل هذا معهم ولو كانوا أمة بل أمما.
(٢) - سورة البقرة آية ٢٥٦.
هوانا بهم ولعدم الاكتراث لهم، وما كانوا منظرين في هذا بل حقت عليهم- لما أساءوا- كلمة ربك بالعذاب الشديد.
ولقد نجينا بنى إسرائيل من ظلم المصريين من العذاب المهين من فرعون وعمله فإنه كان يسومهم سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان عاليا متكبرا من المسرفين المتجاوزين الحدود في الشر والفساد.
ولقد اخترناهم واصطفيناهم وشرفناهم بإرسال الأنبياء منهم وجعل الملوك فيهم على علم منا باستحقاقهم ذلك ما داموا ينعمون بنعم الدين ويتمتعون بالعمل كما يأمر الله ويرضى، اخترناهم على علم منا وبصر على العالمين، أى: عالمي زمانهم لا كل العالم إذ أمة محمد خير أمة أخرجت للناس.
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء لهم واختبار «وبلوناهم بالحسنات والسيئات» فانظروا يا آل مكة كيف فعل الله بفرعون وآله وهم أشد منكم قوة وأكثر مالا وأولادا، وعلما وحضارة؟! وانظروا كيف نجى موسى من فرعون ذي البطش والجند والسلطان؟! نعم العاقبة للمتقين والنصر في النهاية للمؤمنين الصابرين.
إنكار البعث والرد عليهم [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٥٠]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣)
طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)
بِمُنْشَرِينَ: بمبعوثين، يقال: نشر الله الموتى وأنشرهم: إذا بعثهم تُبَّعٍ يقول القرطبي نقلا عن السبيلى: تبع اسم لكل ملك من ملوك اليمن والشحر وحضر موت- والظاهر أن الله- سبحانه- يتكلم عن واحد منهم كان معروفا عند العرب- يَوْمَ الْفَصْلِ: هو يوم القيامة، وسمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الناس مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم مَوْلًى المولى: يطلق على السيد وعلى العبد، وعلى ابن العم وعلى الناصر والقريب والصديق الزَّقُّومِ: شجرة الزقوم هي الشجرة الملعونة التي أنبتها الله في قعر جهنم الْأَثِيمِ: صاحب الإثم كَالْمُهْلِ المهل: هو عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس أو غيره من المعادن الْحَمِيمِ: الماء الساخن.
الكلام من أول السورة مع مشركي مكة وقد تخلله ذكر قصة فرعون وقد ظهر فيها إصرارهم على الكفر والعناد، وكيف كانت عاقبتهم؟ ليبين لكفار مكة أنهم يشبهون قوم فرعون في إصرارهم على الكفر وأن عاقبتهم ستكون مثلهم.
وبعد ذلك عاد إلى الكلام الأول الذي يدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
المعنى:
إن هؤلاء- والإشارة للتحقير- أى: كفار مكة ليقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمبعوثين، كان يقال لهم: إنكم ستموتون موتة يعقبها حياة كما تقدمتكم موتة أعقبها حياتكم هذه رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فقالوا ردا على هذا: نسلم لكم أن لنا موتة تعقبها حياة لكن المراد بها الأولى فقط وهي حياتنا هذه بعد موتنا في ظهور آبائنا، أما الموتة التي بعد انقضاء الأجل فليس بعدها حياة. وما نحن بعدها بمبعوثين في حياة أخرى فكأنهم قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.
ثم إنهم احتجوا على عدم البعث ونفى الحشر والنشر فقالوا: إن كان هذا حقا فأحيوا لنا من مات من آبائنا لنسأله عن دعواكم هذه، تلك شبهة واهية لم يعن القرآن بردها، وإنما أشار إشارة خفية إلى أن هؤلاء الناس قوم مغرورون بدنياهم وما هم فيه فضرب لهم الأمثال بقوم تبع ومن هم أشد منهم قوة وأكثر جمعا ومن هم أشد في إثارة الأرض وعمارتهم، لأن هذا الغرور يمنعهم من التفكير السليم فيما وراء الحياة الدنيا.
أهم خير وأشد قوة ومنعة أم قوم تبع في اليمن؟ بلاد الزرع والضرع والقوة والمنعة، هؤلاء أهلكناهم لما طغوا وبغوا وكفروا برسلهم، ومثلهم قوم عاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وقوم فرعون ذي الأوتاد أين هؤلاء منهم؟ فاحذروا يا آل مكة عاقبة كعاقبة هؤلاء أو أشد!! وكيف ينكرون البعث والآيات كلها شاهدة بذلك، وهذه السماء والأرض وهذا الكون كله شاهد عدل على وجود إله حكيم عليم قوى خبير عادل
وهذا هو الكلام على يوم الفصل وما فيه، وبدأ بالكلام على الأهوال التي يصادفها العصاة والكفار لعلهم يرتدعون.
إن يوم الفصل ميقات الناس جميعا، وإن يوم الفصل والقضاء بالعدل بين المسيء والمحسن والطائع والعاصي حتى يكون فريق في الجنة وفريق في السعير لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «٢». وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ «٣» فهذا هو يوم الفصل، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا. يوم لا ينفع فيه ابن والده ولا يجزى والد عن ولده، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا صديق حميم وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ «٤» إلا من رحمة الله تعالى بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله إنه هو العزيز الرحيم لمن أراد رحمته.
إن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم وهي طعام الآثمين العصاة وهي شجرة تنبت في قعر جهنم، فإذا جاع أهل جهنم التجأوا إليها فأكلوا منها، فيغلي الأكل في بطونهم كما يغلى الماء الحار، وهذا الأكل كالمهل، وهو يغلى في البطون كغلي الحميم، ثم يقال لزبانية جهنم: خذوه فجروه جرّا بعنف وشدة، خذوه فجروه إلى وسط جهنم ثم صبروا فوق رأسه عذابا وهو الحميم، ويقال للكافر حينئذ: ذق هذا إنك أنت العزيز الكريم، يقال له هذا تقريعا وتوبيخا على ما كان يزعمه وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً «٥» ثم يقال لهم: إن هذا العذاب وما أنتم فيه الآن هو ما كنتم فيه تمترون وتشكون!!
(٢) - سورة الممتحنة آية ٣.
(٣) - سورة الروم آية ١٤.
(٤) - سورة البقرة آية ١٢٣.
(٥) - سورة الكهف آية ٣٦. [.....]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
المفردات:
مَقامٍ: مكان، والمقام: المكان سُندُسٍ السندس: ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ: ما غلظ منه بِحُورٍ الحور: هو البياض، والحور: جمع حوراء وهي المرأة البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها، وقيل: الحور: شدة بياض العين في شدة سوادها عِينٍ: جمع عيناء، وهي الواسعة العظيمة العينين يَسَّرْناهُ:
سهلناه بلغتك فَارْتَقِبْ: انتظر.
لما ذكر مستقر الكافرين ونهايتهم ذكر نزل المؤمنين وما أعد لهم، ثم ختم السورة بالكلام على القرآن كما بدأها به ليعلم الكل أن الخير في اتباعه مع سهولة ويسر، وأن الشر في اجتنابه والبعد عنه.
إن المتقين في مقام أمين، يأمنون فيه على أنفسهم من كل شر فهم آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وكفاهم سلامة وأمنا في جوار العزيز الرحمن، وهم مع إخوانهم متقابلون متسامرون، قد نزع الله ما في قلوبهم من غل وحسد فهم دائما متقابلون.
الأمر كذلك، أو كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم حورا عينا، كأنهن الياقوت والمرجان، حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! يدعون الخدم في الجنة ويطلبون منهم كل فاكهة آمنين من كل أذى أو مكروه، وهم في الجنة خالدون، لا يذوقون فيها الموت أبدا، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، وأعطاهم ربك ما عرفت ووقاهم عذاب الجحيم الذي يصلى به كل فاجر أثيم، فعل ذلك بهم ربك تفضلا منه وإحسانا عليهم، ذلك الجزاء هو الفوز العظيم لا غير، وذلك فضل الله وتوفيقه يؤتيه من يشاء، وهذا الكتاب المبين الذي أنزل في ليلة مباركة شأنه شأن الكتب التي تأتى مع الرسل رحمة بالعباد، فيا محمد ذكر بالكتاب المبين قومك فإنا سهلنا عليك تلاوته وتبليغه إليهم إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
«١». وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «٢».
ذكرهم به واقرأه عليهم لعلهم يتذكرون ويتعظون، فإن لم يتعظوا ولم يؤمنوا فارتقب هلاكهم وارتقب نصرك الذي وعدناك إنهم مرتقبون، وتوكل على العزيز الرحيم، فالله معك وناصرك وعاصمك من الناس، وهو على كل قدير.
(٢) - سورة القمر آية ٣٣ وآية ٤٠.