تفسير سورة المطفّفين

فتح البيان
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سور المطففين
هي ست وثلاثون آية. قال القرطبي وهي مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل. ومدنية في قول الحسن وعكرمة. وقال مقاتل أيضا هي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة هي مدنية إلا ثماني آيات من قوله :﴿ إن الذين أجرموا ﴾ إلى آخرها. وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة. وعن ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
وعن ابن عباس قال آخر ما نزل بمكة سورة المطففين. وعنه قال :" لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأزل الله ﴿ ويل للمطففين ﴾ فأحسنوا الكيل بعد ذلك " أخرجه ابن مردويه والبيهقي في الشعب. قال السيوطي : بسند صحيح١.
١ أخرجه ابن ماجة ٢/ ٧٤٨، والطبري ٣٠/ ٩١، والواحدي: ٣٣٣، وقال الحافظ في "تخريج الكشاف" ٢١٨: رواه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس. وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٣٢٣ وزاد نسبته إلى الطبراني وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان" بسند صحيح عن ابن عباس..

(ويل للمطففين) ويل مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، ولو نصب لجاز، قال مكي والمختار في ويل وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافاً أو معرفاً كان الاختيار فيه النصب كقوله (ويلكم لا تفتروا) والمطفف المنقص، وحقيقته الأخذ في الكيل أو الوزن شيئاًً طفيفاً أي نزراً خفيفاً حقيراً.
قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفف وهو القليل، فالمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن.
قال الزجاج: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.
قال أبو عبيدة والمبرد: المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن.
والمراد بالويل هنا شدة العذاب أو نفس العذاب أو الشر الشديد أو هو واد في جهنم.
قال الكلبي " قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسيئون كيلهم ووزنهم لغيرهم، ويستوفون لأنفسهم فنزلت هذه الآية " (١).
وقال السدي قدم رسول الله ﷺ المدينة وكان بها رجل
_________
(١) قال الألوسي و " هم " ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو يعني في " كالوا ".
123
يقال له أبو جهينة ومعه صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله هذه الآية.
قال الفراء: هم بعد نزول هذه الآية أحسن الناس كيلاً إلى يومهم هذا.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين " وهذا الوعيد يلحق كل من يأخذ لنفسه زائداً أو يدفع إلى غيره ناقصاً قليلاً أو كثيراً، لكن إن لم يتب منه فإن تاب قبلت توبته، ومن فعل ذلك وأصر عليه كان مصراً على كبيرة من الكبائر، وذلك لأن عامة الخلق محتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر الكيل والوزن والزرع، فلهذا السبب عظم الله أمر الكيل والوزن.
ثم بين سبحانه المطففين من هم فقال
124
(الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) الاكتيال الأخذ بالكيل، قال الفراء يريد اكتالوا من الناس، " وعلى " " ومن " في هذا الموضع يعتقبان، يقال اكتلت منك أي استوفيت منك وتقول اكتلت عليك أي أخذت ما عليك، قال الزجاج: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل.
قال الزمخشري: لما كان اكتيالهم اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل " على " مكان " من " للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق بيستوفون، وقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها قال السمين: وهو حسن.
ولم يذكر اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر، قال الواحدي قال المفسرون: يعني الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، وإذا باعوا ووزنوا لغيرهم نقصوا وهو معنى قوله:
(وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم
124
فحذفت اللام فتعدى الفعل إلى المفعول فهو من باب الحذف والإيصال، ومثله نصحتك ونصحت لك كذا قال الأخفش والكسائي والفراء.
وقال الفراء: سمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل، قال وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس.
قال الزجاج: لا يجوز الوقف على كالوا حتى يوصل بالضمير، ومن الناس من يجعله تأكيداً أي توكيداً للضمير المستكن في الفعل فيجيز الوقف على كالوا أو وزنوا قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين ويقف على كالوا أو وزنوا ثم يقول هم يخسرون، قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك.
قال أبو عبيد الاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين.
(إحداهما) الخط ولذلك كتبوهما بغير ألف ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا أو وزنوا بالألف.
(والأخرى) أنه يقال كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ووزنت لك وهو كلام عربي كما يقال صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك، وشكرتك وشكرت لك ونحو ذلك، وقيل هو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف المكيل والموزون أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم، ومعنى يخسرون ينقصون كقوله (ولا تخسروا الميزان) والعرب تقول خسرت الميزان وأخسرته.
ثم خوفهم سبحانه فقال:
125
(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) مستأنفة مسوقة لتهويل ما فعلوه من التطفيف وتفظيعه وللتعجيب من حالهم في الاجتراء عليه، والإشارة بأولئك إلى المطففين وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد.
والمعنى أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم مبعوثون فمسؤولون عما يفعلون
125
قيل والظن هنا بمعنى اليقين أي لا يوقن أولئك ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن، وقيل الظن على بابه والمعنى إن كانوا لا يستيقنون البعث فهلا ظنوه حتى يتدبروا فيه ويبحثوا عنه، ويتركوا ما يخشون من عاقبته ويأخذوا بالأحوط.
126
(ليوم عظيم) هو يوم القيامة، ووصفه بالعظم لكونه زماناً لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
عن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له قد سمعت ما قال الله في المطففين، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن.
ثم زجر عن ذلك اليوم فقال
(يوم يقوم الناس لرب العالمين) أي يوم يقومون من قبورهم لأمر رب العالمين أو لجزائه أو لحسابه أو لحكمه وقضائه، وفي وصف اليوم بالعظم مع قيام الناس لله خاضعين فيه، ووصفه سبحانه بكونه رب العالمين دلالة على عظم ذنب التطفيف ومزيد إثمه وفظاعة عقابه، وفيما كان مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وعطاء بل في كل قول وعمل وحال.
وقيل المراد بقوله يوم يقوم الناس قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " (١).
وقيل المراد قيامهم بما عليهم من حقوق العباد، وقيل المراد قيام الرسل بين يدي الله للقضاء، والأول أولى.
_________
(١) رواه مالك والبخاري ٥/ ٥٣٥ ومسلم ٤/ ٢١٩.
126
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية " فكيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم " أخرجه الطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث.
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ يوم يقوم الناس لرب العالمين بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب، أخرجه أبو يعلى وابن حيان وابن مردويه.
وعن ابن مسعود قال " إذا حشر الناس قاموا أربعين عاماً " أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعاً.
وعن ابن عمر أنه قال: " يا رسول الله كم مقام الناس بين يدي رب العالمين يوم القيامة؟ قال ألف سنة لا يؤذن لهم " أخرجه الطبراني وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيباً وامتنع عن قراءة ما بعدها.
127
(كلا) هي للردع والزجر للمطففين الغافلين عن البعث وما بعده أو بمعنى حقاً. ثم استأنف فقال (إن كتاب الفجار) أظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، يعني أن كتب أعمال الكفار (لفي سجين) وهو ما فسره به سبحانه من قوله:
(وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم) فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم أي مسطور، قيل هو كتاب جامع لأعمال الشر الصادرة من الشياطين والكفرة والفسقة، ولفظ سجين علم به.
وقال قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب: أنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها وبه قال مجاهد فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف، والتقدير محل كتاب مرقوم، وقال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج: لفي حبس وضيق شديد، والمعنى كأنهم في حبس جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وهوانهم.
127
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠)
قال الواحدي ذكر قوم أن قوله
128
(كتاب مرقوم) تفسير سجين وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين، والوجه أن يجعل بياناً لكتاب المذكور في قوله (إن كتاب الفجار) على تقدير هو كتاب مرقوم أي مكتوب قد بينت حروفه انتهى، والأولى ما ذكرناه.
ويكون المعنى أن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون للقبائح المختص بالشر، وهو سجين.
ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه فقال (وما أدراك ما سجين) ثم بينه بقوله كتاب مرقوم.
قال الزجاج: معنى قوله وما أدراك ما سجين ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك أي في الدنيا قبل نزول الوحي عليك وإنما علمته بالوحي.
قال قتادة: ومعنى مرقوم رقم لهم بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر وكذا قال مقاتل.
وقد اختلفوا في نون سجين فقيل هي أصلية واشتقاقه من السجن وهو الحبس، وهو بناء مبالغة كخمير وسكير وفسيق من الخمر والسكر والفسق، وكذا قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج، قال الواحدي: وهذا ضعيف لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً، ويجاب عنه بأن رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة
128
وتدل على أنه من لغة العرب، ومنه قول ابن مقبل:
ورفقة يضربون البيض ضاحية... ضرباً تواصت به الأبطال سجيناً وقيل النون بدل من اللام والأصل سجيل مشتقاً من السجل وهو الكتاب، قال ابن عطية: من قال أن سجيناً موضع، فكتاب مرفوع على أنه خبر " إن " والظرف وهو قوله لفي سجين ملغى، ومن جعله عبارة عن الكتاب، فكتاب خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسر السجين ما هو كذا قال الضحاك، وقوله مرتوم مختوم بلغة حمير، وأصل الرقم الكتابة.
وقال كعب الأحبار في الآية أن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها فتهبط بها إلى الأرض فتأبى أن تقبلها، فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو خد إبليس فيخرج لها من تحت خد إبليس كتاباً فيختم ويوضع تحت خد إبليس (١) وعن ابن عباس قال سجين أسفل الأرضين.
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الفلق جب في جهنم مغطى، وأما سجين مفتوح، قال ابن كثير هو حديث غريب منكر لا يصح (٢).
_________
(١) هذا من إسرائيليات كعب الأحبار ولا خير فيها.
(٢) قال ابن كثير: والصحيح أن " سجيناً " مأخوذ من السجن، وهو الضيق، فإن المخلوقات كلُّ ما تسافل منها ضاق، وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم، وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): قال ها هنا: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا).
129
وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي ﷺ " قال سجين الأرض السابعة السفلى ".
وأخرج هو عن جابر نحوه مرفوعاً.
وعن عبد الله بن كعب بن مالك قال لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم بشر بنت البراء فقالت إن لقيت إبني فاقرأه مني السلام فقال غفر الله لك يا أم بشر، نحن أشغل من ذلك، فقالت أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت وإن نسمة الكافر في سجين، قال بلى قالت فهو ذاك " أخرجه ابن ماجه والطبراني والبيهقي في البعث وعبد بن حميد.
130
(ويل يومئذ للمكذبين) هذا متصل بقوله (يوم يقوم الناس) وما بينهما اعتراض، والمعنى ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث وبما جاءت به الرسل.
ثم بين سبحانه هؤلاء المكذبين فقال
(الذين يكذبون بيوم الدين) أي بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء والحساب، والموصول بدل من المكذبين أو صفة.
(وما يكذب به إلا كل معتد أثيم) أي فاجر جائر متجاوز في الإثم منهمك في أسبابه
(إذا تتلى عليه آياتنا) المنزلة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن الكريم (قال أساطير الأولين) أي أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها والحكايات التي سطرت قديماً جمع أسطورة بالضم أو إسطاره بالكسر، قرأ الجمهور تتلى بفوقيتين، وقرىء بالتحتية.
وقوله
(كلا) للردع والزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له وقال الحسن: بمعنى حقاً، وقوله (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) بيان للسبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأولين.
130
وقال أبو عبيدة: ران على قلوبهم غلب عليها، رينا وريوناً وكل ما غلبك وعلاك فقد ران بك وران عليك، قال الفراء هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها. قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب.
قال مجاهد: القلب مثل الكف ورفع كفه فإذا أذنب انقبض وضم إصبعه، فإذا أذنب ذنباً آخر انقبض وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها حتى يطبع على قلبه، قال وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ هذه الآية.
قال أبو زيد يقال قد رين بالرجل ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به.
وقال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع.
قال الزجاج: الرين هو كالصدأ يغشى القلب كالغيم الرقيق ومثله الغين.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن (كلا بل ران على قلوبهم) الخ أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وغيرهم (١).
_________
(١) روى الترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال " إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وقال الترمذي: حسن صحيح، ولفظ النسائي " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله تعالى: (كلا بك ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
131
ثم ذكر سبحانه الردع والزجر فقال
132
(كلا) وقيل كلا بمعنى حقاً أي حقاً (إنهم) يعني الكفار (عن ربهم) أي عن رؤيته (يومئذ) أي يوم القيامة (لمحجوبون) لا يرونه أبداً، قال مقاتل يعني أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إلى ربهم نظر المؤمنين إِليه، قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
قال الزجاج في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، وقال جل ثناؤه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فأعلم سبحانه أن المؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون.
وقيل هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك، وقال قتادة وابن أبي مليكة: هو أن لا ينظر إليهم برحمته ولا يزكيهم، وقال مجاهد: محجوبون عن كرامته، وكذا قال ابن كيسان والأول أولى.
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) أي لداخلو النار وملازموها غير خارجين منها، وثم لتراخي الرتبة لأن صلي الجحيم أشد من الإهانة وحرمان الكرامة.
(ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) أي يقول لهم خزنة جهنم تبكيتاً وتوبيخاً هذا ما كذبتم به في الدنيا وأنكرتم وقوعه فانظروه وذوقوه.
وقوله
(كلا) للردع والزجر عما كانوا عليه والتكرير للتأكيد.
وجملة (إن كتاب الأبرار لفي عليين) مستأنفة لبيان ما تضمنته، ويجوز أن تكون كلا بمعنى حقاً فتلخص أن في كل واحدة من الأربعة الواقعة في هذه السورة قولين، والأبرار هم المطيعون وكتابهم صحائف حسناتهم، قال الفراء عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له.
ووجه هذا أنه منقول من جمع علي من العلو قال الزجاج: هو أعلى الأمكنة قال الفراء والزجاج: فأعرب كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ولا واحد له من لفظه نحو ثلاثين وعشرين وقنسرين قيل هو علم لديوان الخير
132
الذي دون فيه ما عمله الصالحون وحكى الولد عن المفسرين أنه السماء السابعة. قال الضحاك ومجاهد وقتادة يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين، وقال الضحاك أيضاًً هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها. وقيل هو الجنة وبه قال ابن عباس: وقال قتادة أيضاًً هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقيل أن عليين صفة للملائكة في الملأ الأعلى كما يقال فلان بني فلان أي في جملتهم، وقيل هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش مكتوبة فيه أعمالهم وقيل هو قائمة العرش اليمنى وقيل هو مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقد عظمها الله وأعلاها.
133
(وما أدراك ما عليون) أي ما أعلمك يا محمد أي شيء عليون، على جهة التفخيم والتعظيم لعليين.
أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق شمر ابن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله (إن كتاب الأبرار لفي عليين) قال " روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء ففتح لها أبواب السماء وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى ينتهى بها إلى العرش، وتعرج الملائكة فيخرج لها من تحت العرش رق فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين ".
وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم " صلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين " أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن مردويه.
ثم فسره سبحانه بقوله
(كتاب مرقوم) أي مسطور، وقيل مكتوب فيه أعمالهم أو ما أعد لهم في الآخرة من الكرامة، وهذا التفسير الالهي يغني عن تفاسير الخلق، قال الخطيب مكتوب فيه أن فلاناً آمن من النار، رقماً يا له من رقم ما أبهاه وأجمله.
والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله (وما أدراك ما سجين) الخ.
133
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩)
وجملة
134
(يشهده المقربون) صفة أخرى لكتاب والمعنى أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم ويحفظونه، وقيل يشهدون بما فيه يوم القيامة لتعظيمه، والأول من الشهود والثاني من الشهادة.
قال وهب وابن إسحق المقربون هنا إسرافيل فإذا عمل المؤمن عمل البر صعدت الملائكة بالصحيفة ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض حتى ينتهى بها إلى إسرافيل فيختم عليها. وقال ابن عباس المقربون أهل السماء.
ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم فقال
(إن الأبرار لفي نعيم) أي أن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره
(على الأرائك ينظرون) الأرائك الأسرة التي في الحجال (١) وقد تقدم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة.
قال الحسن: ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير، قال الشهاب الحجلة بفتحتين بيت مربع من الثياب الفاخرة يرخى على السرير يسمى في عرف الناس بالناموسية والمعنى أنهم ينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات،
_________
(١) قال الجوهري الحجال جمع حجلة بالتحريك واحدهُ حجال العروس وهو بيت يزين بالثياب والأسرة ذكره الكرخي أهـ.
134
كذا قال عكرمة ومجاهد وغيرهما، وقال مقاتل ينظرون إلى أهل النار وقيل ينظرون إلى وجهه وجلاله.
135
(تعرف في وجوههم نضرة النعيم) أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة والتنعم والرونق.
أخرج ابن المنذر عن علي بن أبي طالب في الآية قال " عين في الجنة يتوضؤون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم " أي بهجة التنعم وطراوته، والخطاب، لكل راء يصلح لذلك، يقال أنضر النبات إذا أزهر ونور قال عطاء وذلك أن الله زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف.
قرأ الجمهور تعرف بفتح الفوقية وكسر الراء ونصب نضرة، وقرىء بضم الفوقية وفتح الراء على البناء للمفعول ورفع نضرة بالنيابة.
(يسقون من رحيق) خمر خالصة من الدنس فهي بيضاء (مختوم) على إنائها لا يفك ختمها إلا هم قال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج الرحيق من الخمر ما لا غش فيه ولا شيء يفسده، والمختوم الذي له ختام.
وقال الخليل: الرحيق أجود الخمر، وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. وقال مجاهد؛ هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية قال مجاهد: مختوم مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين، ويكون المعنى أنه ممنوع أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار. وقال تعالى: في سورة محمد ﷺ (وأنهار من خمر) والنهر لا يختم عليه فطريق الجمع بينهما أن المذكور في هذه الآية في أوان مختوم عليها لشرفها ونفاستها، وهي غير تلك الخمر التي في الأنهار:
(ختامه مسك) أي آخر طعمه إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك، وقيل مختوم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته وطيب رائحته.
135
والحاصل أن المختوم والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه كما تختم الأشياء بالطين ونحوه.
وقال ابن مسعود: الرحيق الخمر والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك، وعنه (مختوم) ممزوج (ختامه مسك) قال طعمه في ريحه، وقيل يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك.
وقال ابن عباس رحيق خمر ومختوم ختم بالمسك.
عن ابن مسعود قال: ليس بخاتم فيختم به ولكن خلطه بمسك، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطة من الطيب كذا كذا، وعن أبي الدرداء ختامه مسك قال هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها.
قرأ الجمهور (ختامه) وقرىء (خاتمه) بفتح الخاء قال علقمة أما رأيت المرأة تقول للعطار إجعل خاتمه مسكاً أي آخره، والخاتم والختام يتقاربان في المعنى إلا أن الخاتم الاسم والختام المصدر، كذا قال الفراء، وقال في الصحاح: والختام الطين الذي يختم به، وكذا قال ابن زيد.
(وفي ذلك) الرحيق الموصوف بتلك الصفة (فليتنافس المتنافسون) أي فليرغب الراغبون وقيل إن " في " بمعنى إلى أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل، كما في قوله (لمِثل هذا فليعمل العاملون) وأصل التنافس التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه.
يقال نفست الشيء عليه نفاسة أي ضننت به ولم أحب أن يصير إليه، قال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس فيريده كل واحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن به، قال عطاء المعنى فليستبق
136
المستبقون، وقال مقاتل بن سليمان فليتنازع المتنازعون، وهذا لا يكون إلا بالمسارعة إلى الخيرات، والإنتهاء عن السيئات، وقال الزمخشري فليرتقب المرتقبون والمعنى في الجميع واحد.
137
(ومزاجه) معطوف على ختامه صفة أخرى لرحيق أي ومزاج ذلك الرحيق (من تسنيم) وهو شراب ينصب عليهم من علو وهو أشرف شراب الجنة وأصل التسنيم في اللغة الإرتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، ومنه تسنيم القبور.
قال ابن عباس: لما سئل عن هذا: هذا مما قاله الله (فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين) وقال ابن مسعود: عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين ويشربها المقربون صرفاً.
ثم بين سبحانه ذلك فقال
(عيناً يشرب بها المقربون) انتصاب عيناً على المدح، وقال الزجاج: على الحال، وإنما جاز أن يكون عيناً حالاً مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله (يشرب بها) وقال الأخفش أنها منصوبة بيسقون، وقال الفراء بتسنيم والأول أولى، وبه قال المبرد قيل والباء في بها زائدة أي يشربها أو بمعنى " من " أي يشرب منها قال ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش.
ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال
(إن الذين أجرموا) وهم كفار قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأصحابهم من أهل مكة ومن وافقهم على الكفر، حكى الله عنهم أربعة أشياء من العلامات القبيحة أولها:
(كانوا من الذين آمنوا) كعمار وبلال وخباب وصهيب وأصحابهم من فقراء المؤمنين (يضحكون) أي يستهزئون بهم في الدنيا ويسخرون منهم، وآخرها قولهم (إن هؤلاء لضالون) وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعاراً بغاية شناعة ما فعلوا أو لمراعاة الفواصل.
137
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
138
(وإذا مروا بهم) أي وإذا مر المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم (يتغامزون) من الغمز وهو الإشارة بالجفون والحواجب أي يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم وحواجبهم طعناً فيهم وعيباً لهم، وقيل يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به.
(وإذا انقلبوا) أي إذا انقلب الكفار من مجالسهم (إلى أهلهم انقلبوا فكهين) أي معجبين بما هم فيه متلذذين به يتفكهون بذكر المؤمنين والطعن فيهم والاستهزاء بهم والسخرية منهم، والانقلاب الانصراف.
قرأ الجمهور فاكهين وقرىء فكهين بغير ألف، قال الفراء هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم بيانه في سورة الدخان أن الفكه الأشر البطر والفاكه الناعم المتنعم.
(وإذا رأوهم) أي إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان (قالوا إن هؤلاء لضالون) في اتباعهم محمداً ﷺ وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر يعني خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات فقد تركوا الحقيقة بالخيال، وهذا هو عين الضلال أو المعنى وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول، والأول أولى.
(وما أرسلوا عليهم حافظين) أي والحال أنهم لم يرسلوا على
138
المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم، فاشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع عورات غيرهم وتسفيه أحلامهم، وهذا تهكم بهم وإشعار بأن ما اجترؤا عليه من القول مات وظائف الرسل من جهته تعالى.
ويجوز أن يكون ذلك من جملة قول المؤمنين كأنهم (قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين) إنكاراً لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، قاله أبو السعود والأول أولى وأظهر.
139
(فاليوم) أي يوم الآخرة (الذين آمنوا من الكفار يضحكون) يعني أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوب قد نزل بهم ما نزل من العذاب كما ضحك الكفار منهم في الدنيا.
(على الأرائك ينظرون) أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع والهوان والصغار بعد العزة والاستكبار، وقد تقدم تفسير الأرائك قريباً.
قال الواحدي قال المفسرون أن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله وهم يعذبون في النار فضحكوا منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا.
وقال أبو صالح يقال لأهل النار أخرجوا ويفتح لهم أبوابها فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) الخ.
وجملة
(هل ثُوّب الكفار ما كانوا يفعلون) مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم، والاستفهام للتقرير، وثوب بمعنى أثيب والمعنى هل جوزي الكفار بما
139
كانوا يفعلونه بالمؤمنين، وقيل الجملة في محل نصب بينظرون وقيل هي على إضمار القول أي يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوب الكفار، والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويطلق على الخير والشر.
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام لام هل في ثاء ثوب، وقرأ الباقون بترك الإدغام.
140
سورة الانشقاق
هي ثلاث أو خمس وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف، قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
وعن أبي رافع " صليت مع أبي هريرة العتمة (١) فقرأ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فسجد فقلت له، فقال سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه " (٢) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما وأخرج مسلم وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة " قال سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ".
وعن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " كان يقرأ في الظهر (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ونحوها " أخرجه ابن خزيمة والروياني في مسنده والضياء المقدسي في المختارة.
_________
(١) أي العشاء.
(٢) أي سجود التلاوة إذا وصل إلى آية (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ).
141

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
143
Icon