تفسير سورة سورة الدخان من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
.
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
ﭑ
ﰀ
سورة الدّخان
مكية. وهى سبع وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ على الاحتمال الثاني «١»، أي:
سوف تعلمون حقيقة ما أنزلنا على محمد، ثم أقسم أنه أنزل فى ليلة مباركة، أو لقوله: إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ «٢» أي: بما أنزلت إلىّ، فأقسم الله تعالى أنه أنزله من عنده، أو يرجع لقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «٣» والحديث شجون، يجر بعضه بعضا.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٩]
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
يقول الحق جلّ جلاله: حم يا محمد وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ، الواضح البيِّن، وجواب القسم: إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي: الكتاب الذي هو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، والجمهور على الأول، لقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «٤» وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «٥»، وليلة القدر على المشهور في شهر رمضان، وسيأتي الجمع بينهما. ثم قيل: أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل نجوماً، على حسب الوقائع، في ثلاثٍ وعشرين سنة، وقيل: معنى نزوله فيها: ابتداء نزوله.
مكية. وهى سبع وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ على الاحتمال الثاني «١»، أي:
سوف تعلمون حقيقة ما أنزلنا على محمد، ثم أقسم أنه أنزل فى ليلة مباركة، أو لقوله: إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ «٢» أي: بما أنزلت إلىّ، فأقسم الله تعالى أنه أنزله من عنده، أو يرجع لقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «٣» والحديث شجون، يجر بعضه بعضا.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
يقول الحق جلّ جلاله: حم يا محمد وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ، الواضح البيِّن، وجواب القسم: إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي: الكتاب الذي هو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، والجمهور على الأول، لقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «٤» وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «٥»، وليلة القدر على المشهور في شهر رمضان، وسيأتي الجمع بينهما. ثم قيل: أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل نجوماً، على حسب الوقائع، في ثلاثٍ وعشرين سنة، وقيل: معنى نزوله فيها: ابتداء نزوله.
(١) راجع تفسير الآية الأخيرة من سورة الزخرف.
(٢) الآية ٨٨ من سورة الزخرف.
(٣) الآية ٤٤ من سورة الزخرف.
(٤) الآية الأولى من سورة القدر.
(٥) من الآية ١٨٥ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٨٨ من سورة الزخرف.
(٣) الآية ٤٤ من سورة الزخرف.
(٤) الآية الأولى من سورة القدر.
(٥) من الآية ١٨٥ من سورة البقرة.
277
والمباركة: الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة، والمنافع الدينية والدنيوية، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة.
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف مبين لما يقتضي الإنزال، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ استئناف أيضاً مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال، أي: إنما أنزلناه في هذه الليلة المباركة، لأنها فِيهَا يُفرق كُلُّ أَمْرٍ حكيم، أي: ذي حكمة بالغة، ومعنى «يُفرق» : يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة، وقيل: الضمير في «فيها» يرجع لليلة النصف، على الخلاف المتقدم.
وروى أبو الشيخ، بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنه فى قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال: «ليلة النصف من شعبان، يُدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره الشقاوة والسعادة، والموت والحياة». قال السيوطي: سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه. هـ. ورُوي عن ابن عباس: قال: إن الله يقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر. وفي رواية: ليلة السابع والعشرين من رمضان، قيل:
وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ في ليلة النصف من شعبان، ويكمل في ليلة السابع والعشرين من رمضان «١».
والله أعلم.
وقوله تعالى: حَكِيمٍ الحكيم: ذو الحكمة، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، في هذه الليلة، يدلّ على حكمة بالغة فأسند إلى الليلة لكونها ظرفاً، إسناداً مجازياً.
وقوله: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا: منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية، ويجوز أن يكون حالاً من كل أمر لتخصيصه بالوصف، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من «إنا كنا منذرين».
ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ: مفعول له، أي: أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب لأجل إفاضة رحمتنا. ووضع الرب موضع الضمير، والأصل: رحمة منا للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها، وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم لتشريفه وفخامته.
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف مبين لما يقتضي الإنزال، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ استئناف أيضاً مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال، أي: إنما أنزلناه في هذه الليلة المباركة، لأنها فِيهَا يُفرق كُلُّ أَمْرٍ حكيم، أي: ذي حكمة بالغة، ومعنى «يُفرق» : يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة، وقيل: الضمير في «فيها» يرجع لليلة النصف، على الخلاف المتقدم.
وروى أبو الشيخ، بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنه فى قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال: «ليلة النصف من شعبان، يُدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره الشقاوة والسعادة، والموت والحياة». قال السيوطي: سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه. هـ. ورُوي عن ابن عباس: قال: إن الله يقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر. وفي رواية: ليلة السابع والعشرين من رمضان، قيل:
وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ في ليلة النصف من شعبان، ويكمل في ليلة السابع والعشرين من رمضان «١».
والله أعلم.
وقوله تعالى: حَكِيمٍ الحكيم: ذو الحكمة، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، في هذه الليلة، يدلّ على حكمة بالغة فأسند إلى الليلة لكونها ظرفاً، إسناداً مجازياً.
وقوله: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا: منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية، ويجوز أن يكون حالاً من كل أمر لتخصيصه بالوصف، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من «إنا كنا منذرين».
ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ: مفعول له، أي: أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب لأجل إفاضة رحمتنا. ووضع الرب موضع الضمير، والأصل: رحمة منا للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها، وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم لتشريفه وفخامته.
(١) على هامش النّسخة الأم مايلى: كيف يرتفع، والله تعالى يقول فيها- أي: الليلة المباركة «يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» وهى ليلة القدر؟
على أنه: أي إشكال لكلام الله تعالى مع كلام غيره، والمرفوع بذلك ضعيف أيضا، فلا إشكال من كلّ جهة، والله الحمد. هـ.
على أنه: أي إشكال لكلام الله تعالى مع كلام غيره، والمرفوع بذلك ضعيف أيضا، فلا إشكال من كلّ جهة، والله الحمد. هـ.
278
وقال الطيبي: هذه الجمل كلها واردة على التعليل المتداخل فكأنه لما قيل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قيل:
فلِمَ أُنزل؟ فأجيب: لأن من شأننا التحذير والعقاب، فقيل: لِمَ خص الإنزال في هذه الليلة؟ فقيل: لأنه من الأمور المُحكَمة، ومن شأن هذه الليلة أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، فقيل: لِمَ كان من الأمور المُحكَمة؟ فأجيب: لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرحمة للعالمين، ومن حق المنزَل عليه أن يكون حكيماً، لكونه للعالمين نذيراً، أو داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ.... الآية، فقيل: لماذا رحمهم الرب بذلك؟ فأجيب: لأنه وحده سميع عليم، يعلم جريان أحوال عباده، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى. هـ. وهذا معنى قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم وحده، الْعَلِيمُ بأحوالهم.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، من جرّه «١» بدل من «ربك»، ومَن رفعه خبر عن مضمر، أي: هو رب العوالم العلوية والسفلية، وما بينها، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: من أهل الإيقان، ومعنى الشرط: أنهم كانوا يُقرون بأن للسموات والأرض ربّاً وخالقاً، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل رحمة منه، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك.
لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، مِن قصر إفرادٍ لا قصر قلبٍ «٢» لأن المشركين كانوا يُثبتون الألوهية لله- تعالى- ويشركون معه غيره، فردّ الله عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره، يُحْيِي وَيُمِيتُ، ثم يبعث للجزاء، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي: هو رب الجميع، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: (حم)، قال الورتجبي: الحاء: الوحي الخاص إلى محمد، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبرٌ عن سر في سر، لا يطلع على ذلك- الذي بين المحب والمحبوب- أحد من خلق الله، ألا ترى كيف قال سبحانه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى
«٣» ؟ وذلك إشارة إلى وحي السر في السر، وجملتها قسم، أي: بمعنى الوحي السري والمحبوب، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار، إنا أنزلناه. هـ. قال القشيري: الحاء تشير إلى حقِّه، والميم إلى محبته، ومعناه: بحقي ومحبتي لعبادي، وكتابي العزيز إليهم، ألا أُعَذِّب أهلَ محبتي بفرقتي. هـ.
فلِمَ أُنزل؟ فأجيب: لأن من شأننا التحذير والعقاب، فقيل: لِمَ خص الإنزال في هذه الليلة؟ فقيل: لأنه من الأمور المُحكَمة، ومن شأن هذه الليلة أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، فقيل: لِمَ كان من الأمور المُحكَمة؟ فأجيب: لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرحمة للعالمين، ومن حق المنزَل عليه أن يكون حكيماً، لكونه للعالمين نذيراً، أو داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ.... الآية، فقيل: لماذا رحمهم الرب بذلك؟ فأجيب: لأنه وحده سميع عليم، يعلم جريان أحوال عباده، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى. هـ. وهذا معنى قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم وحده، الْعَلِيمُ بأحوالهم.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، من جرّه «١» بدل من «ربك»، ومَن رفعه خبر عن مضمر، أي: هو رب العوالم العلوية والسفلية، وما بينها، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: من أهل الإيقان، ومعنى الشرط: أنهم كانوا يُقرون بأن للسموات والأرض ربّاً وخالقاً، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل رحمة منه، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك.
لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، مِن قصر إفرادٍ لا قصر قلبٍ «٢» لأن المشركين كانوا يُثبتون الألوهية لله- تعالى- ويشركون معه غيره، فردّ الله عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره، يُحْيِي وَيُمِيتُ، ثم يبعث للجزاء، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي: هو رب الجميع، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: (حم)، قال الورتجبي: الحاء: الوحي الخاص إلى محمد، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبرٌ عن سر في سر، لا يطلع على ذلك- الذي بين المحب والمحبوب- أحد من خلق الله، ألا ترى كيف قال سبحانه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى
«٣» ؟ وذلك إشارة إلى وحي السر في السر، وجملتها قسم، أي: بمعنى الوحي السري والمحبوب، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار، إنا أنزلناه. هـ. قال القشيري: الحاء تشير إلى حقِّه، والميم إلى محبته، ومعناه: بحقي ومحبتي لعبادي، وكتابي العزيز إليهم، ألا أُعَذِّب أهلَ محبتي بفرقتي. هـ.
(١) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف «رب» بخفض الباء، بدل من (ربك) أو صفة، وقرأ الباقون بالرفع، على إضمار مبتدأ، أو مبتدأ، خبره: (لاَ إله إِلاَّ هُوَ). انظر: الإتحاف (١/ ٤٦٢).
(٢) القصر عند أهل البيان: تخصيص شىء بآخر، ويسمّى الأول مقصورا والثاني مقصورا عليه، كقولك: ما زيد إلا شاعر، فإن كان المخاطب يعتقد أنه شاعر وعالم معا، قيل له: قصر إفراد، وإن كان يعتقد أنه عالم لا شاعر، قيل له: قصر قلب، وإن كان يتردد بين كونه عالما أو شاعرا قيل له: قصر تعيين. انظر محيط المحيط (ص ٧٣٨).
(٣) الآية ١٠ من سورة النّجم
(٢) القصر عند أهل البيان: تخصيص شىء بآخر، ويسمّى الأول مقصورا والثاني مقصورا عليه، كقولك: ما زيد إلا شاعر، فإن كان المخاطب يعتقد أنه شاعر وعالم معا، قيل له: قصر إفراد، وإن كان يعتقد أنه عالم لا شاعر، قيل له: قصر قلب، وإن كان يتردد بين كونه عالما أو شاعرا قيل له: قصر تعيين. انظر محيط المحيط (ص ٧٣٨).
(٣) الآية ١٠ من سورة النّجم
279
والليلة المباركة عند القوم، هي ليلة الوصال والاتصال، حين يُمْتَحى وجودُهم، ويتحقق فناؤهم، وكل وقت يجدون فيه قلوبهم، ويفقدون وجودهم فهو مبارك، وهو ليلة القدر عندهم، فإذا دام اتصالهم، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وكلها مباركة. قال الورتجبي: قوله تعالى: فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كانت مباركة لتجلِّي الحق فيها بالأقضية، والرحمة غالبة فيها، ومن جملتها: إنزال القرآن فيها فإنه افتتاح وصلة لأهل القربة. هـ.
قال القشيري: وسمّاها ليلة مباركة لأنها ليلة افتتاح الوصلة، وأشدُّ الليالي بركةً، ليلةٌ يكون العبد فيها حاضراً بقلبه، مشاهداً لربه، يتنسّم «١» بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة، كما قالوا، وأنشدوا:
أي: لَيْلِي كما شاء المحبوب، فإن لم يزرني طال ليلِي، وإن زارني قَصُر. والحاصل: أن أوقات الجمال والبسط كلها قصيرة، وأوقات الجلال كلها طويلة، وقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: في ليلة الوصال تفرق وتبرز الحِكَم والمواهب القدسية، بلا واسطة، بل أمراً من عندنا، والغالب أن هذه الحالة لا تكون إلا عند الحيرة والشدة من الفاقة أو غيرها، وكان بعض العارفين من أشياخنا يستعدُّون فيها لكتب المواهب، ويسمونها ليلة القدر.
وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ هو الرّسول صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا الرحمة المهداة» «٣»، فرحمة مفعول به، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. قال القشيري: السميع لأنين المشتاقين، العليم بحنين المحبين. هـ. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا يستحق أن يَتَأله ويُعشق إلا هو، يُحْيِي وَيُمِيتُ يُحيي قلوب قوم بمعرفته ومحبته، ويُميت قلوباً بالجهل والبُعد، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. ثم وصف أهل الجهل والبُعد بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، وأما أهل المعرفة والقُرب فهم في حضرة محبوبهم يتنعّمون، ومن روح وصاله يتنسّمون. قال القشيري: واللعب يجري على غير ترتيب، تشبيهاً باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، ووصف الكافر باللعب لتردُّده وشكِّه وتحيُّره في عقيدته. هـ.
قال القشيري: وسمّاها ليلة مباركة لأنها ليلة افتتاح الوصلة، وأشدُّ الليالي بركةً، ليلةٌ يكون العبد فيها حاضراً بقلبه، مشاهداً لربه، يتنسّم «١» بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة، كما قالوا، وأنشدوا:
لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي | أنّ نُجومَ الليلِ ليست تَغُورُ |
لَيْلِي كما شَاء فإن لم يَزرْ | طالَ، وإن زار فلَيْلي قَصيرُ. هـ. «٢» |
وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ هو الرّسول صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا الرحمة المهداة» «٣»، فرحمة مفعول به، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. قال القشيري: السميع لأنين المشتاقين، العليم بحنين المحبين. هـ. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا يستحق أن يَتَأله ويُعشق إلا هو، يُحْيِي وَيُمِيتُ يُحيي قلوب قوم بمعرفته ومحبته، ويُميت قلوباً بالجهل والبُعد، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. ثم وصف أهل الجهل والبُعد بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، وأما أهل المعرفة والقُرب فهم في حضرة محبوبهم يتنعّمون، ومن روح وصاله يتنسّمون. قال القشيري: واللعب يجري على غير ترتيب، تشبيهاً باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، ووصف الكافر باللعب لتردُّده وشكِّه وتحيُّره في عقيدته. هـ.
(١) فى القشيري: يتنعم.
(٢) فى القشيري:
ونسب البيتان فى زهرة الآداب (٣/ ٨٤) إلى علىّ بن خليل.
(٣) أخرجه البراز (٢/ ٢١٧) والطبراني فى الصغير (١/ ٩٥) والحاكم (١/ ٣٥) «وصححه» والقضاعي (١/ ١٨٩- ١٩٠) عن أبى صالح عن أبى هريرة. وأخرجه عن أبى صالح مرسلا، الدارمي فى (المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ح ١٥) والبيهقي فى الشعب (ح ١٤٤٦) والحديث صحّحه الألبانى فى تخريج المشكاة (٣/ ١٦١٥). [.....]
(٢) فى القشيري:
لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي | أنّ نُجومَ الليلِ ليست تزول |
ليلى كما شاءت قصير إنا | جاءت، وإن ضنت فليلى طويل |
(٣) أخرجه البراز (٢/ ٢١٧) والطبراني فى الصغير (١/ ٩٥) والحاكم (١/ ٣٥) «وصححه» والقضاعي (١/ ١٨٩- ١٩٠) عن أبى صالح عن أبى هريرة. وأخرجه عن أبى صالح مرسلا، الدارمي فى (المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ح ١٥) والبيهقي فى الشعب (ح ١٤٤٦) والحديث صحّحه الألبانى فى تخريج المشكاة (٣/ ١٦١٥). [.....]
280
ثم هددهم بقوله:
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: فَارْتَقِبْ فانتظر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، قال عليّ وابن عباس وابن عمر والحسن- رضي الله عنهم-: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة، يُصيب المؤمن منه مثل الزكام، ويُنضج رؤوسَ المنافقين والكافرين، حتى تكون كأنها مصليَّة حنيذة «١»، وتكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه نار، ليس فيه خِصاص «٢»، ويؤيد هذا حديث حذيفة: «أول الآيات الدخان، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن، تسوق النّاس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا... » الحديث «٣»، انظر الثعلبي.
وأنكر هذا ابن مسعود، وقال: هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي ﷺ بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجوع دخاناً بينه وبين السماء «٤». ويؤيده ما يأتي بعده. وقوله مُبِينٍ أي: ظاهر لا يشك أحد أنه دخان، يَغْشَى النَّاسَ أي: يحيط بهم، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، أي: انتظر يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار، أو كثرة الغبار، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: قائلين هذا عذاب أليم.
ولما اشتد بهم القحط، مشى أبو سفيان، ونفر معه إلى رسول الله ﷺ وناشده الله- تعالى- والرحم، وواعدوه إن دعا لهم، وكشف عنهم، أن يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: سنؤمن إن
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: فَارْتَقِبْ فانتظر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، قال عليّ وابن عباس وابن عمر والحسن- رضي الله عنهم-: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة، يُصيب المؤمن منه مثل الزكام، ويُنضج رؤوسَ المنافقين والكافرين، حتى تكون كأنها مصليَّة حنيذة «١»، وتكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه نار، ليس فيه خِصاص «٢»، ويؤيد هذا حديث حذيفة: «أول الآيات الدخان، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن، تسوق النّاس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا... » الحديث «٣»، انظر الثعلبي.
وأنكر هذا ابن مسعود، وقال: هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي ﷺ بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجوع دخاناً بينه وبين السماء «٤». ويؤيده ما يأتي بعده. وقوله مُبِينٍ أي: ظاهر لا يشك أحد أنه دخان، يَغْشَى النَّاسَ أي: يحيط بهم، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، أي: انتظر يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار، أو كثرة الغبار، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: قائلين هذا عذاب أليم.
ولما اشتد بهم القحط، مشى أبو سفيان، ونفر معه إلى رسول الله ﷺ وناشده الله- تعالى- والرحم، وواعدوه إن دعا لهم، وكشف عنهم، أن يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: سنؤمن إن
(١) المصليّة والحنيذة: المشوية.
(٢) الخصاص: الفرج والخرق فى البناء أو الباب ونحوه، راجع اللسان (خصص ٢/ ١١٧٣) والخبر أخرجه الطبري (٢٥/ ١١٣).
(٣) أخرجه البغوي فى تفسيره (٧/ ٢٣٠) من حديث حذيفة بن اليمان، وأخرجه الطبري (٢٥/ ١١٤) بذكر كلمة (الدجال) بدل (الدخان).
(٤) معنى ما أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة حم الدخان، باب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ح ٤٨٢٣) ومسلم (فى صفات المنافقين، باب الدخان ح ٢٧٩٨) (٣٩). ولفظه كما عند البخاري: قال عبد الله: «إن رسول الله ﷺ لما دعا قريشا كذبوه واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعنى عليه بسبع كسبع يوسف. فأصابهم سنة حصت كلّ شىء، حتى كانوا يأكلون الميتة وكان يقوم أحدهم، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان، من الجهد والجوع. ثم قرأ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ حتى بلغ: إِنَّكُمْ عائِدُونَ قال عبد الله: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ قال: والبطشة الكبرى يوم بدر».
(٢) الخصاص: الفرج والخرق فى البناء أو الباب ونحوه، راجع اللسان (خصص ٢/ ١١٧٣) والخبر أخرجه الطبري (٢٥/ ١١٣).
(٣) أخرجه البغوي فى تفسيره (٧/ ٢٣٠) من حديث حذيفة بن اليمان، وأخرجه الطبري (٢٥/ ١١٤) بذكر كلمة (الدجال) بدل (الدخان).
(٤) معنى ما أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة حم الدخان، باب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ح ٤٨٢٣) ومسلم (فى صفات المنافقين، باب الدخان ح ٢٧٩٨) (٣٩). ولفظه كما عند البخاري: قال عبد الله: «إن رسول الله ﷺ لما دعا قريشا كذبوه واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعنى عليه بسبع كسبع يوسف. فأصابهم سنة حصت كلّ شىء، حتى كانوا يأكلون الميتة وكان يقوم أحدهم، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان، من الجهد والجوع. ثم قرأ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ حتى بلغ: إِنَّكُمْ عائِدُونَ قال عبد الله: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ قال: والبطشة الكبرى يوم بدر».
281
كُشف عنا العذاب، قال تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: كيف يذَّكرون ويتَّعظون ويَفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي: والحال أنهم يُشاهدون من دواعي التذكير وموجبات الاتعاظ، ما هو أعظم منه، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، بيِّن البرهان، يُبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صُمّ الجبال.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: عن ذلك الرّسول، بعد ما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإقبال عليه، ولم يقنعوا بالتولِّي، بل اقترفوا ما هو أشنع، وَقالُوا في حقه عليه السلام: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وتارة مجنون، أو: يقول بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زمنا قليلاً، أو كشفاً قليلاً، إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر، الذي أنتم فيه، أو: إلى العذاب بعد صرف الدخان، على القول الأول، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم بدر، أو يوم القيامة، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي: ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب يَوْمَ نَبْطِشُ باذكر أو بما دلّ عليه (إنا منتقمون)، وهو ننتقم، لا بمنتقمون، لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبله.
الإشارة: فارتقب أيها العارف يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مبين، أي: يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس، فتحجبهم عن شمس العرفان، هذا عذاب أليم موجع للقلوب، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية، ونهاره مشرق على الدوام، كما قال شاعرهم:
وقال آخر:
قال القشيري: قيامة هؤلاء- أي الصوفية- مُعَجَّلة لهم، يوم تأتي السماء فيه بدخان مبين، وهو باب غيبة الأخبار، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب. قلت: وأحسن من عبارته أن تقول: وهو باب غيبة الأنوار، وانسداد منبع الأسرار. ثم قال: وفي معناه قالوا:
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: عن ذلك الرّسول، بعد ما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإقبال عليه، ولم يقنعوا بالتولِّي، بل اقترفوا ما هو أشنع، وَقالُوا في حقه عليه السلام: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وتارة مجنون، أو: يقول بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زمنا قليلاً، أو كشفاً قليلاً، إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر، الذي أنتم فيه، أو: إلى العذاب بعد صرف الدخان، على القول الأول، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم بدر، أو يوم القيامة، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي: ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب يَوْمَ نَبْطِشُ باذكر أو بما دلّ عليه (إنا منتقمون)، وهو ننتقم، لا بمنتقمون، لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبله.
الإشارة: فارتقب أيها العارف يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مبين، أي: يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس، فتحجبهم عن شمس العرفان، هذا عذاب أليم موجع للقلوب، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية، ونهاره مشرق على الدوام، كما قال شاعرهم:
لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ | وظلامُهُ في الناس سَارِ |
الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ | ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ |
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِليلٍ | فَاسْتَنارَتْ فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ |
إنَّ شمس النهار تَغْربُ بِليلٍ | وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ «١» |
(١) البيتان من الخفيف، وهما للحلاج، كما فى ديوانه/ ٢٣ تحقيق د/ كامل الشيبى. وصلة تاريخ الطبري ١١/ ٨٧.
282
فلاَ الشمس شَمْسٌ تستنيرُ ولا الضحى | يطلق ولا ماءُ الحياة بباردِ. هـ. «١» |
وكلُّ مآربي قدْ نِلْتُ مِنها | سِوى مُلكِ وَدِّ قَلْبي بالعذاب «٢» |
أَنْتَ البلاء فكيف أرجو كَشْفه | إنَّ البلاء إذا فقدتُ بلائي. هـ. |
يا مَن عذابِيَ عَذْبٌ في مَحَبَّته | لاَ أشْتكِي منك لا صَدّا ولا مَلَلا |
تَلَذُّ لِيَ الآلامُ إذْ كُنْتَ مُسقِمي | وَإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ |
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّّ فإنَّني | فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ |
(١) هكذا فى الأصول، أما فى لطائف الإشارات، فالشطر الأول فيه: [فما جانب الدنيا بسهل ولا الضحى].
والبيت لأبى تمام، فى رثاء خالد بن يزيد. انظر ديوان أبى تمام (٤/ ٧٢).
(٢) هكذا فى الأصول، والشطر الثاني فى القشيري وغيره من المصادر والمذكورة بعد: [سوى ملذوذ وجدى بالعذاب].
هذا، والبيت جاء منسوبا للحلاج فى ديوانه (قسم أعشار نسبت للحلاج ص ٦٨) وتاريخ بغداد (٨/ ١١٦)، كما نسب البيت فى الكواكب الدرية (٤٤) والفتوحات المكية (٣/ ١٨٥) لأبى يزيد البسطامي.
(٣) الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص ٥٠- ٥١).
والبيت لأبى تمام، فى رثاء خالد بن يزيد. انظر ديوان أبى تمام (٤/ ٧٢).
(٢) هكذا فى الأصول، والشطر الثاني فى القشيري وغيره من المصادر والمذكورة بعد: [سوى ملذوذ وجدى بالعذاب].
هذا، والبيت جاء منسوبا للحلاج فى ديوانه (قسم أعشار نسبت للحلاج ص ٦٨) وتاريخ بغداد (٨/ ١١٦)، كما نسب البيت فى الكواكب الدرية (٤٤) والفتوحات المكية (٣/ ١٨٥) لأبى يزيد البسطامي.
(٣) الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص ٥٠- ٥١).
283
ثم ذكر وبال مَن سلك مسلكهم، فقال:
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٢٤]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء المشركين، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي: امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام، أو: أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الأرزاق، أو فعلنا بهم فعل المختبِر ليظهر ما كان باطناً، وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ موسى عليه السلام، أي: كريم على الله، أو على المؤمنين، أو في نفسه حسيب نسيب، لأن الله- تعالى- لم يبعث نبيّاً إلا من سادات قومه: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي: بان أدُّوا إليّ، أي: ادفعوا عبادَ الله، وهم بنو إسرائيل، بأن ترسلوهم معي، فكانت دعوة موسى لفرعون بعد الإقرار بالتوحيد إرسال بني إسرائيل من يده، أو: بأن أدُّوا إليّ يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان، وقبول الدعوة، فالعباد على هذا عام. ف «إن» مفسرة لأن مجيء الرسل لا يكون إلا بدعوة، وهي تتضمن القول، أو مخففة، أي: جاءهم بأن الشأن أدوا إليّ، و «عبادُ الله» على الأول: مفعول به، وعلى الثاني: منادى، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تعليل للأمر، أو لوجوب المأمور، أي: رسول غير ظنين، قد ائتمنني الله على وحيه، وصدّقني بالمعجزات القاهرة.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي: لا تتكبّروا على الله بالاستهانة بوحيه وبرسوله أو: لا تتكبروا على نبيّ الله، إِنِّي آتِيكُمْ من جهته تعالى بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة، لا سبيل إلى إنكارها، تدل على نبوتي. وفي إيراد الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، من الجزالة ما لا يخفى، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أي: التجأت إليه، وتوكلتُ عليه، أَنْ تَرْجُمُونِ، من أن ترجمون، أي: تؤذونني ضرباً وشتماً، أو تقتلوني رجماً.
قيل: لما قال: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ توعّدوه بالرجم، فتوكّل على الله، واعتصم به، ولم يُبال بما توعّدوه.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: وإن كابرتم ولم تُذعنوا لي، فلا موالاة بيني وبين مَن لا يؤمن، فتنحُّوا عني، أو: فخلُّوني كفافاً لا لي ولا عليّ، ولا تتعرضوا لي بشرِّكم وأذاكم، فليس ذلك جزاء مَن دعاكم إلى ما فيه فلاحكم، قال أبو السعود: وحَمْلُه على قطع الوصلة وعدم الموالاة بينه وبينهم، يأباه المقام.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٢٤]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء المشركين، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي: امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام، أو: أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الأرزاق، أو فعلنا بهم فعل المختبِر ليظهر ما كان باطناً، وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ موسى عليه السلام، أي: كريم على الله، أو على المؤمنين، أو في نفسه حسيب نسيب، لأن الله- تعالى- لم يبعث نبيّاً إلا من سادات قومه: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي: بان أدُّوا إليّ، أي: ادفعوا عبادَ الله، وهم بنو إسرائيل، بأن ترسلوهم معي، فكانت دعوة موسى لفرعون بعد الإقرار بالتوحيد إرسال بني إسرائيل من يده، أو: بأن أدُّوا إليّ يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان، وقبول الدعوة، فالعباد على هذا عام. ف «إن» مفسرة لأن مجيء الرسل لا يكون إلا بدعوة، وهي تتضمن القول، أو مخففة، أي: جاءهم بأن الشأن أدوا إليّ، و «عبادُ الله» على الأول: مفعول به، وعلى الثاني: منادى، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تعليل للأمر، أو لوجوب المأمور، أي: رسول غير ظنين، قد ائتمنني الله على وحيه، وصدّقني بالمعجزات القاهرة.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي: لا تتكبّروا على الله بالاستهانة بوحيه وبرسوله أو: لا تتكبروا على نبيّ الله، إِنِّي آتِيكُمْ من جهته تعالى بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة، لا سبيل إلى إنكارها، تدل على نبوتي. وفي إيراد الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، من الجزالة ما لا يخفى، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أي: التجأت إليه، وتوكلتُ عليه، أَنْ تَرْجُمُونِ، من أن ترجمون، أي: تؤذونني ضرباً وشتماً، أو تقتلوني رجماً.
قيل: لما قال: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ توعّدوه بالرجم، فتوكّل على الله، واعتصم به، ولم يُبال بما توعّدوه.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي: وإن كابرتم ولم تُذعنوا لي، فلا موالاة بيني وبين مَن لا يؤمن، فتنحُّوا عني، أو: فخلُّوني كفافاً لا لي ولا عليّ، ولا تتعرضوا لي بشرِّكم وأذاكم، فليس ذلك جزاء مَن دعاكم إلى ما فيه فلاحكم، قال أبو السعود: وحَمْلُه على قطع الوصلة وعدم الموالاة بينه وبينهم، يأباه المقام.
فَدَعا رَبَّهُ بعد ما تمادوا على تكذيبه، شاكياً إلى ربه: أَنَّ هؤُلاءِ أي: بأن هؤلاء، قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، وهو تعريض بالدعاء عليهم، بذكر ما استوجبوه، ولذلك سمي دعاء، وقيل: كان دعاؤه:
اللهم عجِّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم، وقيل: هو قوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «١» وقيل: قوله: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «٢»، وقرىء بالكسر «٣» على إضمار القول. قال تعالى له- بعدُ: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا، والفاء تؤذن بشرط محذوف، أي: إن كان الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبادِي بني إسرائيل لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: دبّر الله أن تتقدموا، ويتبعكم فرعون وجنوده، فننجّى المتقدمين، ونغرق الباقين، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا على حالته بعد ما جاوزته، ولا تضربه بعصاك لينطبق، ولا تُغيره عن حاله ليدخله القبط، أراد موسى عليه السلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق، فأمره أن يتركه ساكناً على هيئته «٤»، قاراً على حالته، من انتصاب الماء كالطود العظيم، وكون الطريق يبساً لا يُغير منه شيئاً، ليدخله القبط، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم، فالرهو في كلام العرب:
السكون، قال الشاعر:
أي: ساكنة، وقيل: الرهو: الفرجة الواسعة، أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ بعد خروجكم من البحر. وقرئ بالفتح، أي: لأنهم.
الإشارة: كل زمان له فراعين، يحبسون الناسَ عن طريق الله، وعن خدمته، فيبعث الله إليهم مَن يُذكَّرهم، ويأمرهم بتخلية سبيلهم، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم، فإذا كُذّب الداعي، قال: وإن لم تؤمنوا فاعتزلون، فإذا أيِس من إقبالهم دعا عليهم، فيغرقون في بحر الهوى، ويهلكون في أودية الخواطر. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار، فقال:
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٥ الى ٣٣]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
اللهم عجِّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم، وقيل: هو قوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «١» وقيل: قوله: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «٢»، وقرىء بالكسر «٣» على إضمار القول. قال تعالى له- بعدُ: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا، والفاء تؤذن بشرط محذوف، أي: إن كان الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبادِي بني إسرائيل لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: دبّر الله أن تتقدموا، ويتبعكم فرعون وجنوده، فننجّى المتقدمين، ونغرق الباقين، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا على حالته بعد ما جاوزته، ولا تضربه بعصاك لينطبق، ولا تُغيره عن حاله ليدخله القبط، أراد موسى عليه السلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق، فأمره أن يتركه ساكناً على هيئته «٤»، قاراً على حالته، من انتصاب الماء كالطود العظيم، وكون الطريق يبساً لا يُغير منه شيئاً، ليدخله القبط، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم، فالرهو في كلام العرب:
السكون، قال الشاعر:
طَيرٌ رَأَتْ بازياً نَضحَ الدُّعاءُ به | وأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عيدِ |
الإشارة: كل زمان له فراعين، يحبسون الناسَ عن طريق الله، وعن خدمته، فيبعث الله إليهم مَن يُذكَّرهم، ويأمرهم بتخلية سبيلهم، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم، فإذا كُذّب الداعي، قال: وإن لم تؤمنوا فاعتزلون، فإذا أيِس من إقبالهم دعا عليهم، فيغرقون في بحر الهوى، ويهلكون في أودية الخواطر. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على الاعتبار، فقال:
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٥ الى ٣٣]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
(١) الآية ١٠ من سورة القمر.
(٢) الآية ٨٥ من سورة يونس.
(٣) قرأ «إن هؤلاء» بالكسر ابن أبى إسحاق وعيسى والحسن فى رواية، وزيد بن علىّ. انظر مختصر ابن خالويه (ص ١٣٨) والبحر المحيط (٨/ ٣٦).
(٤) قاله قتادة فيما أخرجه ابن جرير (٢٥/ ١٢١).
(٢) الآية ٨٥ من سورة يونس.
(٣) قرأ «إن هؤلاء» بالكسر ابن أبى إسحاق وعيسى والحسن فى رواية، وزيد بن علىّ. انظر مختصر ابن خالويه (ص ١٣٨) والبحر المحيط (٨/ ٣٦).
(٤) قاله قتادة فيما أخرجه ابن جرير (٢٥/ ١٢١).
285
يقول الحق جلّ جلاله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي: كثيراً ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين. رُوي أنها كانت متصلة بضفتي النيل جميعاً، من رشيد إلى أسوان، (وعُيون) يحتمل أن يريد الخلجان، شَبَّهها بالعيون، أو كانت ثَمَّ عيون وانقضت، وَزُرُوعٍ أي: مزارع، وَمَقامٍ كَرِيمٍ، محافل مُزينة، ومنازل مُحسَّنة، وسمّاه كريماً لأنه مجلس الملوك، وقيل: المنابر، وَنَعْمَةٍ أي: بسطة ولذاذة عيش وتنعُّم، كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي: متنعّمين فرحين مسرورين.
وفي المشارق: النعمة- بالفتح: التنعُّم، وبالكسر: اسم ما أنعم الله به على عباده، قال ابن عطية: النعمة- بالفتح: غضاوة العيش، ولذاذة الحياة، والنعمة- بالكسر: أعم من هذا كله، وقد تكون الأمراض والمصائب نِعماً، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. هـ. فانظره.
كَذلِكَ، أي: الأمر كذلك، فالكاف في محل الرفع، على أنه خبر عن مضمر، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه: (تركوا) أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
ليسوا منهم في شيء في قرابة ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، بأن تولُّوا أحكامها والتصرُّف فيها. وقال الحسن: رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر، نظيره: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ... «١» الآية، ومثله عن القرطبي والبيضاوي، وكذلك في نوادر الأصول، وقد تقدّم الكلام عليه في الشعراء «٢». وفي الآية اعتبار واستبصار، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار، وسيأتي في الإشارة ما فيه كفاية نظماً ونثراً.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم، والاعتداد بوجودهم، وفيه تهكُّم بهم، وبحالهم المنافية، بحال مَن يعظم فقده، فيقال: بكت عليهم السماء والأرض، وكانت العرب إذا عظَّمت مهلك رجل قالوا: بكته الريحُ والبرقُ والسماء، قال الشاعر:
وفي المشارق: النعمة- بالفتح: التنعُّم، وبالكسر: اسم ما أنعم الله به على عباده، قال ابن عطية: النعمة- بالفتح: غضاوة العيش، ولذاذة الحياة، والنعمة- بالكسر: أعم من هذا كله، وقد تكون الأمراض والمصائب نِعماً، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. هـ. فانظره.
كَذلِكَ، أي: الأمر كذلك، فالكاف في محل الرفع، على أنه خبر عن مضمر، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه: (تركوا) أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
ليسوا منهم في شيء في قرابة ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، بأن تولُّوا أحكامها والتصرُّف فيها. وقال الحسن: رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر، نظيره: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ... «١» الآية، ومثله عن القرطبي والبيضاوي، وكذلك في نوادر الأصول، وقد تقدّم الكلام عليه في الشعراء «٢». وفي الآية اعتبار واستبصار، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار، وسيأتي في الإشارة ما فيه كفاية نظماً ونثراً.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم، والاعتداد بوجودهم، وفيه تهكُّم بهم، وبحالهم المنافية، بحال مَن يعظم فقده، فيقال: بكت عليهم السماء والأرض، وكانت العرب إذا عظَّمت مهلك رجل قالوا: بكته الريحُ والبرقُ والسماء، قال الشاعر:
(١) من الآية ١٣٧ من سورة الأعراف.
(٢) عند تفسير الآية ٥٩ من سورة الشعراء. [.....]
(٢) عند تفسير الآية ٥٩ من سورة الشعراء. [.....]
286
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها... والبَرْقُ يَلْمعُ فِي الغمامَهْ «١»
وقال جرير، يرثي عمرُ بنُ عبد العزيز:
فالشَّمسُ طالِعةٌ ليستْ بكاسفةٍ... تَبكي عليك نُجُومَ اللَّيل والْقَمَرَا
حُمّلْتَ أمراً عظيماً فاصطَبرَتْ له... وقُمْتَ فينا بأمر اللهِ يَا عُمَرا «٢».
وقيل: البكاء حقيقة، وأن المؤمن تبكي عليه من الأرض مُصلاَّه، ومحل عبادته، ومن السماء مَصْعدُ عمله، كما في الحديث «٣»، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر، ودوابه، وهَوام البر وأنعامه، والطير في الهواء، وهؤلاء لمَّا ماتوا كُفاراً لم يعبأ الوجودُ بفقدهم، بل يفرح بهلاكهم. وَما كانُوا لّمَّا جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر، أو إلى الآخرة، بل عجّل لهم في الدنيا.
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، من استعباد فرعون إياهم، وقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم، مِنْ فِرْعَوْنَ، بدل من العذاب المهين بإعادة الجار، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم، أو خبر عن مضمر، أي: ذلك من فرعون، وقُرئ «مَن فرعون» «٤» على معنى: هل تعرفونه مَن هو في عتوه وتفرعنه؟ وفي إبهام أمره أولاً، وتبيينه بقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ثانياً، من الإفصاح عن كُنه أمره في الشر والفساد مما لا مزيد عليه، وقوله تعالى: مِنَ الْمُسْرِفِينَ إما خبر ثان، أي: كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في «عالياً»، أي: كان رفيع الطبقة من بين المسرفين، فائقاً لهم، بليغاً فى الإسراف.
وقال جرير، يرثي عمرُ بنُ عبد العزيز:
فالشَّمسُ طالِعةٌ ليستْ بكاسفةٍ... تَبكي عليك نُجُومَ اللَّيل والْقَمَرَا
حُمّلْتَ أمراً عظيماً فاصطَبرَتْ له... وقُمْتَ فينا بأمر اللهِ يَا عُمَرا «٢».
وقيل: البكاء حقيقة، وأن المؤمن تبكي عليه من الأرض مُصلاَّه، ومحل عبادته، ومن السماء مَصْعدُ عمله، كما في الحديث «٣»، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر، ودوابه، وهَوام البر وأنعامه، والطير في الهواء، وهؤلاء لمَّا ماتوا كُفاراً لم يعبأ الوجودُ بفقدهم، بل يفرح بهلاكهم. وَما كانُوا لّمَّا جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر، أو إلى الآخرة، بل عجّل لهم في الدنيا.
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، من استعباد فرعون إياهم، وقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم، مِنْ فِرْعَوْنَ، بدل من العذاب المهين بإعادة الجار، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم، أو خبر عن مضمر، أي: ذلك من فرعون، وقُرئ «مَن فرعون» «٤» على معنى: هل تعرفونه مَن هو في عتوه وتفرعنه؟ وفي إبهام أمره أولاً، وتبيينه بقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ثانياً، من الإفصاح عن كُنه أمره في الشر والفساد مما لا مزيد عليه، وقوله تعالى: مِنَ الْمُسْرِفِينَ إما خبر ثان، أي: كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في «عالياً»، أي: كان رفيع الطبقة من بين المسرفين، فائقاً لهم، بليغاً فى الإسراف.
(١) هذا البيت من أبيات قالها ابن المفرّغ فى بيعه جارية تسمى «الأراكة» وغلاما يسمى «بردا»، وكانا أعز عليه من نفسه، وقد رغمه عباد بن زياد على بيعهما، ومن أبيات ابن المفرغ هذه:
والعبد يقرع بالعصا... والحرّ تكفيه الملامة
والقصة فى خزانة الأدب.
(٢) انظر ديوان جرير/ ٢٣٥. وأمالى المرتضى (١/ ٥٢).
(٣) أخرج ابن جرير فى التفسير (٢٥/ ١٢٤) من حديث ابن عباس رضي الله عنه موقوفا: «ليس أحد من الخلائق إلا له باب فى السماء، منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء فقده فبكى عليه، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلى فيها، ويذكر الله فيها، بكت عليه، وإن آل فرعون لم يكن لهم فى الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض».
وأخرج الترمذي فى (التفسير- سورة الدخان ح ٣٢٥٥) وأبو يعلى فى مسنده (٤/ ١٥٧) والبغوي فى التفسير (٧/ ٢٣٢) والخطيب فى تاريخ بغداد (٨/ ٣٢٧) عن أنس بن مالك مرفوعا: «ما من مؤمن إلا وله بابان، باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، ذلك قوله عز وجل: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه». وانظر مجمع الزوائد ٧/ ١٠٥.
(٤) على الاستفهام. عزاها أبو حيان لابن عباس رضي الله عنه، انظر البحر المحيط ٨/ ٣٨.
والعبد يقرع بالعصا... والحرّ تكفيه الملامة
والقصة فى خزانة الأدب.
(٢) انظر ديوان جرير/ ٢٣٥. وأمالى المرتضى (١/ ٥٢).
(٣) أخرج ابن جرير فى التفسير (٢٥/ ١٢٤) من حديث ابن عباس رضي الله عنه موقوفا: «ليس أحد من الخلائق إلا له باب فى السماء، منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء فقده فبكى عليه، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلى فيها، ويذكر الله فيها، بكت عليه، وإن آل فرعون لم يكن لهم فى الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض».
وأخرج الترمذي فى (التفسير- سورة الدخان ح ٣٢٥٥) وأبو يعلى فى مسنده (٤/ ١٥٧) والبغوي فى التفسير (٧/ ٢٣٢) والخطيب فى تاريخ بغداد (٨/ ٣٢٧) عن أنس بن مالك مرفوعا: «ما من مؤمن إلا وله بابان، باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، ذلك قوله عز وجل: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه». وانظر مجمع الزوائد ٧/ ١٠٥.
(٤) على الاستفهام. عزاها أبو حيان لابن عباس رضي الله عنه، انظر البحر المحيط ٨/ ٣٨.
287
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي: بني إسرائيل عَلى عِلْمٍ أي: عالِمين بأنهم أحقاء بالاختيار، أو عالِمين بأنهم يزيغون في بعض الأوقات، ويكثر منهم الفرطات، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات، عَلَى الْعالَمِينَ أي: عالَمِي زمانهم، لما كثر فيهم من الأنبياء، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغيرها من عظائم الآيات، ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ نعمة ظاهرة، أو:
اختبار ظاهر، لينظر كيف يعملون، وقيل: البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرضا، والصبر عند الكدر والعناء.
الإشارة: كم ترك أهلُ الغفلة والاغترار، من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، من قصور وديار، فارقوها، أخصب ما كانوا فيها، وأُزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخِّرق والأكفان، فيا مَن ركن إلى الدنيا، انظر كيف تفعل بأهلها، فرحم الله عبداً أخذ من الدنيا الكفاف، وصاحب فيها العفاف، وتزوّد للرحيل، وتأهّب للمسير.
ذكر الطرطوسي في كتابه «سراج الملوك» : قال أبو عبد الله بن حمدون: كنتُ مع المتوكل، لما خرج إلى دمشق، فركب يوماً إلى رصافة «هشام بن عبد الملك» فنظر إلى قصورها خاوية، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم، حسن البناء، بين مزارع وأشجار، فدخله، فبينما هو يطوف به، إذ بَصُر برقعة قد التصقت بصدره، فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات:
إلى أن قال:
اختبار ظاهر، لينظر كيف يعملون، وقيل: البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرضا، والصبر عند الكدر والعناء.
الإشارة: كم ترك أهلُ الغفلة والاغترار، من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، من قصور وديار، فارقوها، أخصب ما كانوا فيها، وأُزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخِّرق والأكفان، فيا مَن ركن إلى الدنيا، انظر كيف تفعل بأهلها، فرحم الله عبداً أخذ من الدنيا الكفاف، وصاحب فيها العفاف، وتزوّد للرحيل، وتأهّب للمسير.
ذكر الطرطوسي في كتابه «سراج الملوك» : قال أبو عبد الله بن حمدون: كنتُ مع المتوكل، لما خرج إلى دمشق، فركب يوماً إلى رصافة «هشام بن عبد الملك» فنظر إلى قصورها خاوية، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم، حسن البناء، بين مزارع وأشجار، فدخله، فبينما هو يطوف به، إذ بَصُر برقعة قد التصقت بصدره، فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات:
أَيا مَنْزلاً بالدّيْرِ أَصْبَحَ خَالياً | تَلاعَبَ فيه شمألُ ودِفُورُ |
كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بيضٍ نَوَاعمٌ | وَلَمْ يَتَبَخْتَر في قِبابِكَ حُورُ |
وأَبْنَاءُ أَمْلاكِ غَواشِمُ سَاداتٍ | صَغِيرهم عِندَ الأنَامِ كَبِيرُ |
إذَا لَبسوا أَدْرَاعَهم فعَوَابسٌ | وَإن لَبسوا تيجانَهمْ فَبُدورُ |
علَى أنَّهم يَومَ اللِّقاء ضَرَاغِمٌ | وأَنَّهم يوم النَّوالِ بُحورُ |
ليالي هِشامٌ بالرّصاَفَةٍ قاطنٌ | وفيك ابنه يا دَيْرَ وَهُوَ أَميرُ. |