تفسير سورة سورة الدخان من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
﴿حم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ هي ليلة القدر؛ نزل فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسولالله بحسب الحاجة؛ وهذا لا يتنافى مع قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ لأن ليلة القدر تكون في هذا الشهر ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ بالقرآن، ومخوفين به
﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ أي في ليلة القدر يفصل كل أمر عظيم؛ من أرزاق العباد، وآجالهم
﴿أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ﴾ أي هذا الإنزال، وهذا الإنذار وهذا الفصل في الأرزاق والأعمار؛ بأمرنا وإرادتنا ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ الرسل
﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ بعباده ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالهم
﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ﴾ من البعث والحساب، والجزاء
﴿فَارْتَقِبْ﴾ انتظر هو قبيل القيامة. وقيل: إن قريشاً لما بالغت في عصيان الرسول وإذايته؛ دعا عليهم وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف؛ وكان الرجل يحدث أخاه فيسمع صوته ولا يراه؛ لشدة الدخان المنتشر بين السماء والأرض
﴿يَغْشَى النَّاسَ﴾ يشملهم ويغطيهم
﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى﴾ أي كيف ينفعهم التذكر والإيمان عند نزول العذاب
﴿ثُمَّ تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا ﴿عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ﴾ أي يعلمه القرآن بشر مثله وليس من عندالله. قال تعالى ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾
﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ﴾ عنكم ﴿قَلِيلاً﴾ لعلكم ترجعون عن غيكم وبغيكم ﴿إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ﴾ إلى ما كنتم عليه من الكفر
﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾ يوم القيامة، أو يوم بدر ﴿إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ منكم
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا﴾ بلونا واختبرنا
﴿أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ﴾ أي أرسلوا عباد الله - الذين خلقهم أحراراً - وأطلقوهم من الأسر والعذاب أو ﴿أَدُّواْ إِلَيَّ﴾ يا عباد الله أسماعكم وأذهانكم ﴿أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾
-[٦٠٩]- لا تستكبروا عليه
﴿إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ بحجة واضحة
﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي﴾ التجأت إليه، واحترزت به من ﴿أَن تَرْجُمُونِ﴾ بالحجارة
﴿فَاعْتَزِلُونِ﴾ فاجتنبوني، ولا تؤذوني
﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي﴾ الإسراء: السير ليلاً ﴿إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ يتبعكم فرعون وقومه
﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً﴾ ساكناً، أو طريقاً سهلاً، أو يبساً
﴿وَنَعْمَةٍ﴾ متعة ﴿فَاكِهِينَ﴾ متنعمين
﴿كَذَلِكَ﴾ شأني مع من عصاني، ومن أريد إهلاكه ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا﴾ أي أورثنا تلكم الجنات والعيون، وهاتيك الزروع والمقام الكريم، وهذه النعمة التي كانوا فيها فاكهين «أورثناها» غيرهم؛ لعلهم بنعمة ربهم لا يكفرون
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ﴾ كناية إلى أنهم هلكوا فلم يجزع عليهم أحد، ولم يحس بنقصانهم. أو هو على الحقيقة؛ فقد ورد أن المؤمن إذا مات: بكى عليه مصلاه، وحزنت عليه ملائكة السماء ﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾ مؤجلين للتوبة
﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ متكبراً، مسرفاً في الكفر
﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ﴾ أي اخترنا بني إسرائيل ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ منا بحالهم، وجدارتهم لهذا الاختيار؛ فقد بعث من بينهم كثير من الأنبياء ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾
أي على عالمي زمانهم؛ فلا ينصب الاختيار على الأمة المحمدية؛ لقوله جل شأنه ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وذهب بعضهم إلى أن الاختيار على كل العالمين ويكون قوله جل شأنه ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ أي بعد بني إسرائيل. وهو قول لا يعتد به؛ فقد تضافرت الآيات، ودل سياق القرآن على أن محمداً خير الأنبياء، وأمته خير الأمم
﴿وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ﴾ المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام ﴿مَا فِيهِ بَلاَءٌ﴾ اختبار وامتحان
﴿أَنَّ هَؤُلاَءِ﴾ يعني كفار قريش ﴿لَيَقُولُونَ﴾ لجهلهم، ومزيد كفرهم
﴿إِنْ هِيَ﴾ ما هي ﴿إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى﴾ التي نموتها في الدنيا ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ بمبعوثين
﴿فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا﴾ أحيوهم لنا ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تقولونه عن البعث. قال تعالى، رداً عليهم
﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ وهو أحد ملوك اليمن، كان يملك اليمن، والشحر، وحضرموت. ويقال لكل من ملك اليمن «تبع» وسموا التبابعة؛ وقد كان «قوم تبع» في غاية من الرخاء والنعمة، والقوة والمنعة؛ فأهلكهم الله تعالى بفسقهم وكفرهم ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم الجاحدة الكافرة
﴿مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ أي لإقامة الحق وإظهاره فيهما؛ من توحيد الله تعالى، والتزام طاعته ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي إن يوم القيامة - الذي يفصل فيه بين الخلائق - موعدهم جميعاً
﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي﴾ لا ينفع، ولا يدفع ﴿مَوْلًى عَن مَّوْلًى﴾ المولى: الصاحب، والصديق، والقريب؛ أي
-[٦١٠]- يوم لا يدفع القريب عن قريبه، والصديق عن صديقه، والصاحب عن صاحبه ﴿شَيْئاً﴾ من العذاب ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾
من الله تعالى
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ﴾ من المؤمنين؛ فيشفعون لغيرهم، ويشفع غيرهم لهم ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ الْعَزِيزُ﴾ بانتقامه من أعدائه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده وأوليائه
﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ﴾ هي شجرة قيل: إنها تنبت في قعر جهنم
﴿طَعَامُ الأَثِيمِ﴾ الكثير الآثام ﴿كَالْمُهْلِ﴾ وهو عكر الزيت، أو النحاس المذاب
﴿كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ كغلي الماء الحار
﴿فَاعْتِلُوهُ﴾ فقودوه بغلظة وعنف ﴿إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ﴾ وسطها؛ وقولوا له
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ يقال له ذلك: استهزاء به، وتشفياً فيه أو المراد: ذق هذا العذاب المهلك المذل؛ إنك كنت في الدنيا العزيز الكريم
﴿إِنَّ هَذَا﴾ العذاب الذي تصلونه؛ هو ﴿مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ أي ما كنتم فيه تشكون
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ يؤمن فيه الخوف، والعذاب، والخزي، والهوان
﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿وَعُيُونٍ﴾ أنهار جارية؛ ترى رأي العين
﴿يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ﴾ وهو ما رق من الديباج ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ ما غلظ منه ﴿مُّتَقَابِلِينَ﴾ يدور بهم مجلسهم؛ يتحدثون متسامرين، ويتضاحكون مستبشرين
﴿وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ الحور: جمع حوراء؛ وهي شديدة سواد العين، مع شدة بياضها. والعين: جمع عيناء؛ وهي الواسعة العينين.
هذا وقد أورد بعض المفسرين في أوصاف الحور العين ما تعافه العقول، وتمجه الأذواق والأسماع؛ فقد رووا أنهن مخلوقات من ياقوت ومرجان، وأنه يرى مخ سوقهن؛ إلى غير ذلك من الأوصاف السمجة؛ التي هي في الواقع حط من قدرهن، وتنقيص من شأنهن والحقيقة أنهن كأحسن ما تكون النساء: جمالاً، وصفاء، وطهارة؛ وليس فوق هذا مطمع لطامع، ولا زيادة لمستزيد وليس معنى ذلك أنهن كسائر نساء الدنيا - فهذا ما لا يجوز أن يقال - بل المراد أنهن من نوعهن؛ مع الفارق العظيم؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وهذا الذي حدا بطائفة من ضعاف العقول والأحلام إلى وصف ما في الجنة بما لا يصح أن يوصف به
﴿يَدْعُونَ فِيهَا﴾ يطلبون في الجنة ﴿بِكلِّ فَاكِهَةٍ﴾ يريدونها ﴿آمِنِينَ﴾ من الموت، والمرض، ومن نفاذ النعيم الذي هم فيه، و
﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى﴾ التي أدركتهم في الدنيا
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ﴾ أي يسرنا القرآن، وسهلنا تناوله ﴿بِلِسَانِكَ﴾ العربي؛ الذي هو لسانهم ولغتهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يتعظون فيؤمنون
﴿فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ﴾ فانتظر ما يحل بهم من العذاب؛ إنهم منتظرون ما يحل بك من الدوائر.
610
سورة الجاثية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(انظر آية ١ من سورة البقرة)
611