تفسير سورة الواقعة

الدر المصون
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿إِذَا وَقَعَتِ﴾ : فيها أوجهٌ أحدها: أنها ظرفٌ محْضٌ ليس فيه معنى الشرط والعامل فيها «ليس». والثاني: أنَّ العاملَ فيها اذْكُر مقدراً. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بم انتصبت» إذا «؟ قلت: بليس، كقولك:» يومَ الجمعة ليس لي شُغْلٌ «ثم قال:» أو بإضمارِ اذكُرْ «. قال الشيخ:» ولا يقول هذا نَحْوِيٌّ، ولا مَنْ شدا شيئاً مِنْ صناعةِ النحوِ «. قال:» لأن «لَيْسَ» مثل «ما» النافية، فلا حَدَثَ فيها، فكيف يعملُ في الظرف مِنْ غير حَدَثٍ؟ وتَسْمِيتُها فِعْلاً مجازٌ. فإنَّ حَدَّ الفعل غير مُنْطَبِقٍ عليها «، وكَثَّرَ الشيخُ عليه من هذا المعنى. ثم قال:» وأما المثال الذي نَظَّر به فالظرف ليس معمولاً ل «ليس» بل للخبر، وتقَدَّمَ معمولُ خبرِها عليها، وهي مسألةُ خلاف «انتهى. قلت: الظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ. ومعنى كلامِ الزمخشريِّ: أنَّ النفي المفهومَ مِنْ» ليس «هو العاملُ في» إذا «كأنه قيل: ينفي كَذِبُ وقوعِها إذا
189
وَقَعَتْ. ويدلُّ على ما قُلْتُه قولُ أبي البقاء:» والثاني ظرفٌ لِما دَلَّ عليه ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾، أي: إذا وقعت لم تكذبْ «فإنْ قيل فَلْيَجُزْ ذلك في» ما «النافية أيضاً، فالجواب: أنَّ الفعلَ أقربُ إلى الدلالةِ على الحَدَثِ من الحرفِ.
الثالث: أنَّها شرطيةٌ. وجوابُها مقدرٌ، أي: إذا وقعَتْ كان كيتَ وكيتَ، وهو العاملُ فيها. والرابع: أنها شرطيةٌ، والعاملُ فيها الفعلُ الذي بعدَها ويليها، وهو اختيارُ الشيخ، وتبَع في ذلك مكيَّاً. قال مكي:»
والعاملُ فيها «وَقَعَتْ» لأنها قد يُجازى بها، فعَمِل فيها الفعلُ الذي بعدها كما يَعْمل في «ما» و «مَنْ» اللتَيْن للشرط في قولك: ما تفعَلُ أفعَلْ، ومَنْ تُكرِمْ أُكْرِمْ «، ثم ذكر كلاماً كثيراً. الخامس: أنها مبتدأٌ، و» إذا رُجَّتْ «خبرُها، وهذا على قولِنا: إنها تَتَصرَّفُ، وقد مَضَى القولُ فيه مُحرَّراً، إلاَّ أن هذا الوجهَ إنما جَوَّزه الشيخُ، جمالُ الدين ابن مالك وابن جني وأبو الفضل الرازي على قراءةِ مَنْ نصب» خافضةً رافعةً «على الحالِ. وحكاه بعضُهم عن الأخفش، ولا أدري اختصاص ذلك يوجه النصب.
السادس: أنه ظرفٌ ل»
خافضة «أو» رافعة «، قاله أبو البقاء، أي:
190
إذا وَقَعَتْ خَفَضَتْ ورفعَتْ. السابع: أَنْ يكونَ ظرفاً ل» رُجَّتْ «» وإذا «الثانيةُ على هذا إمَّا بدلٌ من الأولى أو تكريرٌ لها. الثامن: أنَّ العاملَ فيه ما دلَّ عليه قوله: ﴿فأصحابُ المَيْمَنَةِ﴾، أي: إذا وَقَعَتْ باتَتْ أحوالُ الناسِ فيها.
التاسع: أنَّ جوابَ الشرطِ قولُه: ﴿فأصحابُ المَيْمنةِ﴾ إلى آخره.
و «لِوَقْعَتِها»
خبرٌ مقدمٌ و «كاذبة» اسم مؤخرٌ. و «كاذبة» يجوزُ أَنْ يكونَ اسم فاعل وهو الظاهرُ، وهو صفةٌ لمحذوف، فقَدَّره الزمخشريُّ: «نفسٌ كاذبةٌ، أي: إنه ذلك اليومَ لا يَكْذِبُ على الله أحدٌ، ولا يُكَذِّبُ بيوم القيامةِ أحد» ثم قال: «واللامُ مثلُها في قولِه ﴿قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤] إذ ليس لها نفسُ تُكَذِّبها وتقول: لم تكوني كما لها نفوسٌ كثيرةٌ يُكّذِّبْنَها اليومَ يَقُلْنَ لها: لم تكوني، أو هو مِنْ قولهم: كَذَّبَتْ فلاناً نفسُه في الخطر العظيم إذا شَجَّعَتْهُ على مباشرته وقالَتْ له: إنَّك تُطيقه وما فوقه فَتَعَرَّضْ له، ولا تبال به على معنى أنها وقعةٌ لا تُطاقُ شدةً وفظاعةً، وأنْ لا نفس حينئذٍ تُحدِّث صاحبَها بما تُحَدِّثه به عند عظائمِ الأمورِ، وتزيِّن له احتمالها وإطاقتها؛ لأنهم يومئذٍ أضعفُ مِنْ ذلكَ وأَذلُّ. ألا ترى إلى قولِه تعالى ﴿كالفراش المبثوث﴾ [القارعة: ٤] والفَراشُ مَثَلٌ في الضعف». وقَدَّره ابن عطية: «حالٌ كاذبةٌ» قال: «وَيْحتمل الكلامُ على هذا معنيين، أحدهما: كاذبة، أي: مكذوبة فيما أَخْبر به عنها فسَمَّاها كاذبةً لهذا، كما تقول: هذه قصةٌ كاذبةٌ، أي: مكذوبٌ فيها. والثاني:
191
أي: / لا يَمْضي وقوعُها كقولك: فلانٌ إذا حَلَّ لم يكذِبْ. والثاني: أن كاذبة مصدرٌ بمعنى التكذيب نحو: خائنة الأعين. قال الزمخشري:» مِنْ قولِك حَمَلَ فلانٌ على قرْنِه فما كَذَبَ، أي: فما جَبُنَ ولا تَثَبَّط. وحقيقتهُ فما كَذَّب نفسَه فيما حَدَّثَتْه به من إطاقتِه له وإقدامهِ عليه وأنشد لزهير:
٤٢٠٠ - لَيْثٌ بعَثَّرَ يَصْطادُ الرجالُ إذا ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقا
أي: إذا وَقَعَتْ لم يكن لها رَجْعَةٌ ولا ارْتدادٌ «، انتهى. وهو كلامٌ حسنٌ جداً.
ثم لك في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ: إمَّا لأنَّها ابتدائيةٌ ولا سيما على رَأْيِ الزمخشري، حيث جَعَلَ الظرفَ مُتَعَلِّقاً بها وإمَّا لأنَّها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابِه المحذوف. والثاني: أنَّ مَحَلَّها النصبُ على الحال، قاله ابن عطية، ولم يُبَيِّن صاحب الحال ماذا؟ وهو واضحٌ إذا لم يكُنْ هنا إلاَّ الواقعةُ، وقد صَرَّحَ أبو الفضل بذلك.
وقرأ العامَّةُ برفعِ»
خافضةٌ رافعةٌ «على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هي خافضةٌ قوماً إلى النار ورافعةٌ آخرين إلى الجنةِ، فالمفعولُ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، أو يكونُ المعنى: أنَّها ذاتُ خَفْضٍ ورَفْعٍ كقوله: {يُحْيِي
192
وَيُمِيتُ} [آل عمران: ١٥٦] ﴿وكُلُواْ واشربوا﴾ [البقرة: ١٨٧] وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن وأبو حيوة وابن مقسم واليزيدي بنصِبها على الحالِ، ويُروى عن الكسائيِّ أنه قال:» لولا أنَّ اليزيديَّ سَبَقني إليه لقَرَأْتُ به «انتهى. ولا أظنُّ مثلَ هذا يَصِحُّ عن مثل هذا.
واخْتُلف في ذي الحال، فقال أبو البقاء: «من الضمير في»
كاذبة «أو في» وَقَعَتْ «، وإصلاحُه أن يقولَ: أو فاعل» وقعَتْ «إذ لا ضميرَ في» وقعَتْ «. وقال ابن عطية وأبو الفضل مِنْ» الواقعة «، ثم قَرَّرا مجيءَ الحالِ متعددةً من ذي حالٍ واحدةٍ كما تجيءُ الأخبارُ متعددةً. وقد بَيَّنْتُ لك هذا فيما تقدَّم فاستغْنَيْت عن كلامِهما. قال أبو الفضل:» وإذا جُعِلَتْ هذه كلُّها أحوالاً كان العامل في «إذا وَقَعَتْ» محذوفاً يَدُلُّ عليه الفحوى، أي: إذا وقعتْ يُحاسَبون.
193
قوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «إذا» الأولى، أو تأكيداً لها أو خبراً لها على أنها مبتدأةٌ كما تقدَّم تحريرُ هذا جميعِه، وأَنْ يكونَ شرطاً، والعامل فيها: إمَّا مقدَّرٌ وإمَّا فِعْلُها الذي يليها كما تقدَّم في نظيرتِها. وقال الزمشخري: «ويجوز أَنْ تنتصِب بخافضة رافعة، أي: تَخْفِضُ وترفعُ وقتَ رَجِّ الأرض وبَسِّ الجبالِ، لأنه عند ذلك
193
ينخفضُ ما هو مرتفعٌ ويرتفعُ ما هو منخفضٌ». قال الشيخ: «ولا يجوزُ أَنْ تنتصِبَ بهما معاً بل بأحدِهما، لأنه لا يجتمعُ مؤثِّران على أثرٍ واحد». قلت: معنى كلامِه أنَّ كلاً منهما متسلِّطٌ عليه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من التنازع، وحيئنذٍ تكون العبارةُ صحيحةً إذ يَصْدُقُ أنَّ كلاً منهما عاملٌ فيه، وإن كان على التعاقُب.
والرَّجُّ: التحريكُ الشديدُ بمعنى زُلزلت. وبُسَّت الجبالُ: سُيِّرت مِنْ قولهم: بَسَّ الغنمَ، أي: ساقَها أو بمعنى فُتِّتَتْ كقوله: ﴿يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [طه: ١٠٥] يدلُّ عليَه ﴿فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً﴾. وقرأ زيد بن علي «رَجَّتْ» و «بَسِّتْ» مبنيين للفاعل على أنِّ رجَّ وبَسَّ يكونان لازمَيْن ومُتَعَدِّيَيْن، أي: اُزِيحت وذهَبَتْ. وقرأ النخعي «مْنْبَتَّاً» بنقطتين مِنْ فوق، أي: متقطعاً من البَتِّ. ومعنى الآية يَنْبو عنه.
194
قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة﴾ :«أصحاب» الأولى مبتدأٌ، و «ما» استفهامٌ فيه تعظيمٌ مبتدأٌ ثانٍ، و «أصحاب» الثاني خبرُه والجملةُ خبرُ الأولِ، وتكرارُ المبتدأ هنا بلفظِه مُغْنٍ عن الضمير ومثلُه ﴿الحاقة مَا الحآقة﴾ [الحاقة: ١-٢] ﴿القارعة مَا القارعة﴾ [القارعة: ١-٢] ولا يكون ذلك إلاَّ في مواضعِ التعظيم. وهنا سؤالٌ: وهو أنَّ «ما» نكرةٌ وما بعده معرفةٌ، فكان ينبغي أَنْ يقال «ما» خبر مقدمٌ، «وأصحاب» الثاني
194
وشبهُه مبتدأٌ؛ لأن المعرفة أحقٌّ بالابتداء من النكرةِ. وهذا السؤال واردٌ على سيبويه من مثل هذا، وفي قولك: «كم مالُك» و «مَرَرْتُ برجل خيرٌ منه أبوه»، فإنه يُعْرِبُ ما الاستفهامية و «كم» و «أَفْعَل» مبتدأ، وما بعدها خبرُها. والجوابُ: أنه كَثُرَ وقوعُ النكرةِ خبراً عن هذه الأشياء كثرةً متزايدةً، فاطَّردَ البابُ ليجريَ على سَننٍ واحدٍ. هكذا أجابوا، وهذا لا ينهضُ مانعاً مِنْ جوازِ أَنْ تكونَ «ما» و «كم» وأفعلُ خبراً مقدماً. ولو قيل به لم يكنْ خطأ بل أقربُ إلى الصوابِ.
والمَيْمَنَةُ: مَفْعَلَةُ من لفظِ اليُمْن وكذلك المَشْأَمَة من اليدِ الشُّؤمى وهي الشِمالُ لتشاؤمِ العربِ بها، أو من الشُّؤْم.
195
قوله: ﴿والسابقون السابقون﴾ : فيه أوجهٌ: أحدُها: أنهما مبتدأٌ وخبرٌ. وفي ذلك تأويلان، أحدهما: أنه بمعنى السابقون، هم الذي اشْتُهِرَتْ حالُهم بذلك كقولِهم: أنت أنت، والناسُ الناسُ، وقولِه:
٤٢٠١ - أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري وهذا يُقال في تعظيمِ الأمرِ وتفخيمهِ، وهو مذهبُ سُيبويه.
التأويل الثاني: أنَّ مُتَعلَّقَ السَّبْقَتْينِ مختلفٌ، إذ التقدير: والسابقونَ
195
إلى الإِيمانِ السابقونَ إلى الجنة، / أو السابقونَ إلى طاعةِ اللَّهِ السابقون إلى رحمتِه، أو السابقون إلى الخيرِ السابقون إلى الجنة.
الوجه الثاني: أَنْ يكونَ «السابقون» الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيَّاً، و «أولئك المقرَّبون» جملةٌ ابتدائيةٌ في موضوع خبرِ الأولِ، والرابطُ اسمُ الإِشارةِ، كقولِه تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ﴾ [الأعراف: ٢٦] في قراءة مَنْ قرأ برفع «لباسُ» في أحد الأُوجه.
الثالث: أَنْ يكونَ «السابقون» نعتاً للأول، والخبرُ الجملةُ المذكورةُ. وهذا ينبغي أَنْ لا يُعَرَّجَ عليه، كيف يُوْصَفُ الشيءُ بلفِظه وأيُّ فائدةٍ في ذلك؟ والأقربُ عندي إنْ وَرَدَتْ هذه العبارةُ مِمَّن يُعتبر أَنْ يكون سَمَّى التأكيدَ صفةً، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا.
الرابع: أَنْ يكونَ الوقفُ على قولِه «والسابقون» ويكونَ قولُه «السابقون، أولئك المقرَّبون» ابتداءً وخبراً، وهذا يقتضي أن يُعْطَفَ «والسابقون» على ما قبلَه، لكنْ لا يليق عَطْفُه على ما قبلَه ويليه، وإنما يليقُ عطفُه على «أصحابُ المَيْمنة» كأنه قيل: وأصحابُ الميمنة ما أصحابُ الميمنة، والسابقون، أي: ما السابقون تعظيماً لهم، فيكون شركاءَ لأصحابِ الميمنة في التعظيم، ويكون قولُه على هذا «وأصحابُ المَشْأمَةِ، ما أصحابُ المشأمة» اعتراضاً بين المتعاطفَيْن. وفي هذا الوجهِ تكلُّفٌ كثير جداً.
196
قوله: ﴿ثُلَّةٌ﴾ : خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ خبرُه مضمرٌ، أي: منهم ثُلَّةٌ، أي: من السابقين يعني: أن التقسيمَ وقع في السابقين، وأَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه ﴿فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ أو قولُه «على سُرُر» فهذه أربعةُ أوجهٍ.
والثُّلَّة: الجماعةُ من الناس. وقَيَّدها الزمخشريُّ بالكثيرة وأنشد:
٤٢٠٢ - وجاءَتْ إليهم ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّةٌ بجيشٍ كتَيَّارٍ مِنْ البحرِ مُزْبِدِ
ولم يُقَيِّدْها غيرُه، بل صَرَّح بأنها الجماعة قلَّت أو كَثُرَتْ. وقال الراغب: «الثُّلَّةُ قطعةٌ مجتمعةٌ من الصوف، ولذلك قيل للغنم: ثَلَّة. قلت: يعني بفتح الثاء، ومنه قولُه:
٤٢٠٣ - أَمْرَعَتِ الأرضُ لَوَ أنَّ مالا لَوْ أن نُوْقاً لك أو جِمالا
أو ثَلَّةً مِنْ غنم إمَّا لا...
197
انتهى. ثم قال الراغب:» ولاعتبار الاجتماع قيل: «ثُلَّة من الأوَّلين، وثُلَّة من الآخِرين»، أي: جماعة وثَلَّلْتُ كذا: تناوَلْتُ ثُلَّةً منه. وثَلَّ عرشَه: أسقطَ ثُلَّة منه. والثَّلَلُ: قِصَرُ الأسنانِ لسُقوط ثُلَّةٍ منها. وأثَلَّ فَمُه سَقَطَتْ أسنانُه. وتَثَلَّلَتِ الرَّكِيَّةُ: تَهَدَّمَتْ «انتهى. فقد أطلق أنها الجماعة من غيرِ قَيْدٍ بقِلَّة ولا كثرةٍ، والكثرةُ التي فهمها الزمخشريُّ قد تكونُ من السِّياق. و» مِنْ الأوَّلِين «صفةٌ لثُلَّة، وكذلك» مِنْ الآخِرين «صفةٌ لقليل.
198
قوله :﴿ ثُلَّةٌ ﴾ : خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي : هم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ خبرُه مضمرٌ، أي : منهم ثُلَّةٌ، أي : من السابقين يعني : أن التقسيمَ وقع في السابقين، وأَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه ﴿ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ أو قولُه " على سُرُر " فهذه أربعةُ أوجهٍ.
والثُّلَّة : الجماعةُ من الناس. وقَيَّدها الزمخشريُّ بالكثيرة وأنشد :
وجاءَتْ إليهم ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّةٌ بجيشٍ كتَيَّارٍ مِنْ البحرِ مُزْبِدِ
ولم يُقَيِّدْها غيرُه، بل صَرَّح بأنها الجماعة قلَّت أو كَثُرَتْ. وقال الراغب :" الثُّلَّةُ قطعةٌ مجتمعةٌ من الصوف، ولذلك قيل للغنم : ثَلَّة. قلت : يعني بفتح الثاء، ومنه قولُه :
أَمْرَعَتِ الأرضُ لَوَ أنَّ مالا لَوْ أن نُوْقاً لك أو جِمالا
أو ثَلَّةً مِنْ غنم إمَّا لا ***
انتهى. ثم قال الراغب :" ولاعتبار الاجتماع قيل :" ثُلَّة من الأوَّلين، وثُلَّة من الآخِرين "، أي : جماعة وثَلَّلْتُ كذا : تناوَلْتُ ثُلَّةً منه. وثَلَّ عرشَه : أسقطَ ثُلَّة منه. والثَّلَلُ : قِصَرُ الأسنانِ لسُقوط ثُلَّةٍ منها. وأثَلَّ فَمُه سَقَطَتْ أسنانُه. وتَثَلَّلَتِ الرَّكِيَّةُ : تَهَدَّمَتْ " انتهى. فقد أطلق أنها الجماعة من غيرِ قَيْدٍ بقِلَّة ولا كثرةٍ، والكثرةُ التي فهمها الزمخشريُّ قد تكونُ من السِّياق. و " مِنْ الأوَّلِين " صفةٌ لثُلَّة، وكذلك " مِنْ الآخِرين " صفةٌ لقليل.
وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال «سُرَر» بفتح الراء الأولى وقد تقدَّم أنها لغةٌ لبعضِ كلبٍ وتميم. والمَوْضونة: المَنْسوجة وأصلُه مِنْ: وضَّنْتُ الشيءَ، أي: رَكَّبْتُ بعضَه على بعض. ومنه قيل للدِّرْعِ: مَوْضونة لتراكُبِ حِلَقِهِا. قال الأعشى:
٤٢٠٤ - ومِن نَسْجِ داودَ مَوْضَوْنَةً تسيرُ مع الحيِّ عِيْراً فَعِيْرا
ومنه أيضاً «وَضِين الناقة، وهو حِزامُها لتراكُبِ طاقاته قال الراجز:
٤٢٠٥ - إليك تَعْدُو قِلقاً وضِيْنُها مُعْتَرضاً في بَطْنِها جنينُها
مُخالفاً دينَ النَّصارى دينُها...
198
وقال الراغب:» الوَضْنُ: نَسْيجُ الدِّرعِ. ويُسْتعار لكل نَسْجٍ مُحْكَم «، فجعله أصلاً في نَسْج الدَّرْع. قال الشاعر:
٤٢٠٦ - تقولُ وقد دَرَأْتُ لها وَضِيْني أهذا دينُه أبداً ودِيني
أي: حِزامي.
199
قوله: ﴿مُّتَّكِئِينَ، مُتَقَابِلِينَ﴾ : حالان من الضمير في «على سُرُر» ويجوز أَنْ تكونَ حالاً متداخلةً، فيكون «متقابلين» حالاً من ضمير «متَّكئين».
قوله: ﴿يَطُوفُ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، وأنْ يكون استئنافاً.
و «بأكْواب» متعلقٌ ب «يَطُوف». والأباريق: / جمع إبْريق، وهو مِنْ آنيةِ الخَمْر قال:
٤٢٠٧ - أَفْنى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ قَرْعُ القواقيزِ أَفْواهَ الأباريقِ
وقال عدي بن زيد:
٤٢٠٨ - وتداعَوا إلى الصَّبوحِ فجاءتْ قَيْنةٌ في يمينِها إبْريقُ
وقال آخر:
199
٤٢٠٩ - كأن إبْريقَهم ظبيٌ على شَرَفٍ مُفَدَّمٍ بسَبا الكَتَّانِ مَلْثُوْمُ
ووزنُه إفْعيل لاشتقاقِه مِنْ البَريق والإِبريقُ ما له خُرطومٌ. قال بعضهم: وأُذُنٌ. وتقدَّم تفسيرُ الأكواب.
200
قوله: ﴿لاَّ يُصَدَّعُونَ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفة أخبر عنهم بذلك، وأن تكونَ حالاً من الضمير في «عليهم» ومعنى لا يُصَدَّعون عنها أي: بسببها. قال الزمخشري: «وحقيقتُه: لا يَصْدُرُ صُداعُهم عنها» والصُّداع: هو الداءُ المعروفُ الذي يَلْحَقُ الإِنسانَ في رأسِه، والخمر تؤثِّر فيه. قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر:
٤٢١٠ - تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذِيك صالبُها ولا يخالِطُها في الرأس تدويمُ
ولما قرأت هذا الديوان على الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقال لي: لَمَّا قرأتُه على الشيخ أبي جعفر ابن الزبير قال لي: هذه صفةُ خمر الجنة. وقيل: لا يُصَدَّعون: لا يُفَرَّقون كما يتفرَّق الشَّربُ عن الشَّراب للعوارض
200
الدنيوية. ومِنْ مجيء تَصَدَّعَ بمعنى تَفَرَّق قولُه: «فتصدَّع السحابُ عن المدينة»، أي: تفرَّق. ويُرَجِّحه قراءةُ مجاهد «لا يَصَّدَّعون» بفتح الياءِ وتشديد الصادِ. والأصلُ: يَتَصَدَّعون، أي: يتفرَّقون كقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ [الروم: ٤٣]. وحكى الزمخشري قراءةً وهي «لا يُصَدِّعون» بضم الياء وتخفيفِ الصادِ وكسرِ الدال مشددةً. قال: أي لا يُصَدِّعُ بعضُهم بعضاً، أي: لا يُفَرِّقُونهم. وتقدَّم الخلافُ بين السبعة في «يُنزِفُونَ» وتفسيرُ ذلك.
وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي مِنْ نَزَفَ البِئْرُ، أي: اسْتُقِيَ ما فيها. والمعنى: لا تَنْفَدُ خمرُهم. قال الشيخ: «وابن أبي إسحاق أيضاً، وعبد الله والجحدريُّ والأعمش وطلحة وعيسى، بضمِّ الياء وكسر الزاي أي: لا يَفْنى لهم شراب». قلت: وهذا عجيبٌ منه فإنَّه قد تقدَّم في الصافات أن الكوفيين يَقْرَؤون في الواقعة بكسر الزاي، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته.
201
قوله: ﴿وَفَاكِهَةٍ﴾ : العامَّةُ على جَرِّ «فاكهة ولحم» نَسَقاً على «أكواب» أي: يطوفون عليهم بهذه الأشياء: المأكول والمشروبِ والمتفكَّهِ به، وهذا كمالُ العِيشةِ الراضيةِ. وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن برفعهما، على الابتداء، والخبرُ مقدَّرٌ أي: ولهم كذا.
قوله: ﴿وَحُورٌ﴾ قرأ الأخَوان بجرِّ «حور عين». والباقون برفعِهما. والنخعيُّ: «وحِيرٍ عين» بقلب الواو ياءً وجرِّهما، وأُبَيٌّ وعبد الله «حُوْراً عيناً» بنصبهما. فأمَّا الجرُّ فمن أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على ﴿جَنَّاتِ النعيم﴾ [الواقعة: ١٢] كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض، وهو فُهْمُ أعجمي». قلت: والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: وفي مقاربة حور، وهذا هو الذي عناه الزمخشري. وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف. الثاني: أنه معطوفٌ على «بأكواب» وذلك بتجوُّزٍ في قوله: «يطُوفُ» إذ معناه: يُنَعَّموْن فيها باكواب وبكذا وبُحور، قاله الزمخشري. الثالث: أنه معطوفٌ عليه حقيقةً، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً، فإن فيه لذةً لهم، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّهِ بعد المنكوحِ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب. ولا التفات إلى قولِ
202
أبي البقاء: «عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها».
وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً، عطفاً على «ولْدانٌ»، أي: إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك، كما الوَلائدُ في الدنيا. وقال أبو البقاء: «أي: يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة» قلت: / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني: أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في «مُتَّكِئين» وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما. الثالث: أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه: لهم هذا كلُّه وحورٌ عين، قاله الشيخ، وفيه نظر؛ لأنَّه إنما عُطِف على المبتدأ وحدَهُ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه.
الرابع: أَنْ يكونَ مبتدأً، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: ولهم، أو فيها، أو ثَمَّ حورٌ. وقال الزمخشري «على وفيها حُوْرٌ كبيت الكتاب:
٤٢١١ -.......................... إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
الخامس: أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: نساؤهم حورٌ، قاله
203
أبو البقاء. وأمَّا النصبُ ففيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل، أي: يَعْطَوْن، أو يَرِثُون حُوْراً، والثاني: أن يكونَ محمولاً على معنى: يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا. وقال مكي:» ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يُعْطَوْن كذا وكذا، ثم عطف حوراً على معناه «فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً.
وأمَّا قراءةُ»
وحِيْرٍ «فلمجاورتها» عين «ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو، ونظيرهُ في التغيير للمجاورة:» أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث «بضم دال» حَدُث «لأجل» قَدُم «وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط، وقوله عليه السلام:
«وربِّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ»
وقوله عليه السلام: «أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب» فَكَّ «الأَرْبَبَ» لأجل «الحَوْءَب».
وقرأ قتادة «وحورُ عينٍ» بالرفع والإِضافة ل «عين» وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب. وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ
204
إضافة الموصوف لصفته مؤولاً. وقرأ عكرمةُ «وحَوْراءَ عَيْناءَ» بإفرادِهما على إرادةِ الجنس. وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن: أحدهما: أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله، وأن تكونَ جرَّاً، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين. وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين.
205
و ﴿كَأَمْثَالِ﴾ صفةٌ أو حالٌ. و «جزاءً» مفعول من أجله، أو مصدر، أي: يُجْزَوْن جزاءً.
قوله: ﴿إِلاَّ قِيلاً﴾ : فيه قولان، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ وهذا واضحٌ؛ لأنه لم يندَرِجْ تحت اللَّغْو والتأثيم. والثاني: أنه متصلٌ وفيه بُعْدٌ، وكأن هذا رأى أن الأصلَ لا يَسْمعون فيها كلاماً فاندرَج عنده فيه. وقال مكي: «وقيل: منصوبٌ بيَسْمعون» وكأنه أرادَ هذا القول.
قوله: ﴿سَلاَماً سَلاَماً﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ «قيلاً» أي: لا يسمعُون فيها إلاَّ سلاماً سلاماً. الثاني: أنه نعتٌ لقِيلا. الثالث: أنه منصوبٌ بنفس «قيلاً» أي: إلاَّ أَنْ يقولوا: سلاماً سلاماً، هو قولُ الزجَّاج. الرابع: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، ذلك الفعلُ مَحْكِيٌّ ب «قيلاً» تقديره: إلاَّ قيلاً اسْلَموا سَلاماً.
وقُرىء «سَلامٌ» بالرفع قال الزمخشري: «على الحكاية». قال
205
مكي: «ويجوزُ في الكلام الرفعُ على معنى: سلامٌ عليكم، ابتداءٌ وخبرٌ» وكأنه لم يَعْرِفْها قراءةً.
206
قوله: ﴿مَّخْضُودٍ﴾ : المخضودُ: الذي قُطِع شَوْكُه، مِنْ خَضَدْتُه أي: قَطَعْتُه. وقيل المُوْقَرُ من الحَمْل حتى لا يَتَبَيَّن ساقُه وتَنْثَنِيَ أغصانُه مِنْ خَضَدْت الغصنَ أي ثنيْتُه. قال أمية بن أبي الصلت:
٤٢١٢ - إن الحَدائقَ في الجِنانِ ظليلةٌ فيها الكواعِبُ سِدْرُها مَخْضُوْدُ
والطَّلْحُ: جمع الطلحةُ وهي العظيمةُ من العِضاه. وقيل: هي أم غَيْلان. قال مجاهد: ولكنَّ ثمرَها أَحْلى من العسل. وقيل: هو المَوْزُ. ومعنى مَنْضود أي: متراكبٌ. وفي التفسير: لا يُرى له ساقٌ مِنْ كثرةِ ثمرِه. وقرأ علي رضي الله عنه وعبد الله وجعفر بن محمد «وطَلْع» بالعين، ولمَّا قرأها علي رضي الله عنه قال: وما شَأْنُ الطَّلْح؟ واستدلَّ بقولِه: ﴿لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾ [ق: ١٠] فقيل له: أنُحَوِّلُها؟ فقال: آيُ القرآنِ لا تُهاجُ اليومَ ولا تُحَوَّلُ. ويُرْوى عن ابن عباس مثلُه. ومَسْكوب: أي مَصْبُوبٌ بكثرةٍ. وقُرِىءَ برفع «فاكهة» أي: وهناك، أولهم، أو فيها، أو ثَمَّ فاكهة.
والطَّلْحُ : جمع الطلحةُ وهي العظيمةُ من العِضاه. وقيل : هي أم غَيْلان. قال مجاهد : ولكنَّ ثمرَها أَحْلى من العسل. وقيل : هو المَوْزُ. ومعنى مَنْضود أي : متراكبٌ. وفي التفسير : لا يُرى له ساقٌ مِنْ كثرةِ ثمرِه. وقرأ علي رضي الله عنه وعبد الله وجعفر بن محمد " وطَلْع " بالعين، ولمَّا قرأها علي رضي الله عنه قال : وما شَأْنُ الطَّلْح ؟ واستدلَّ بقولِه :
﴿ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴾ [ ق : ١٠ ] فقيل له : أنُحَوِّلُها ؟ فقال : آيُ القرآنِ لا تُهاجُ اليومَ ولا تُحَوَّلُ. ويُرْوى عن ابن عباس مثلُه.
ومَسْكوب : أي مَصْبُوبٌ بكثرةٍ.
وقُرِىءَ برفع " فاكهة " أي : وهناك، أولهم، أو فيها، أو ثَمَّ فاكهة.
قوله: ﴿لاَّ مَقْطُوعَةٍ﴾ : فيه وجهان، أظهرهُما: أنه
206
نعتٌ لفاكهة «ولا» للنفي، كقولك: «مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصير» ولذلك لزم تكرارُها. والثاني: هو معطوفٌ على فاكهة، / و «لا» عاطفةٌ قاله أبو البقاء. وحينئذٍ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ موصوفٍ أي: لا فاكهةٍ مقطوعةٍ؛ لئلا تُعْطَفَ الصفةُ على موصوفِها.
207
قوله: ﴿وَفُرُشٍ﴾ : العامَّةُ على ضمِّ الراء جمع فِراش. وأبو حيوة بسكونها وهي مخففةٌ من المشهورة. والفُرُشُ قيل: هي القماشُ المعهودُ. ومرفوعة على الأَسِرَّة. وقيل: هي كنايةٌ عن النساءِ، كما كُنِي عنهنَّ باللِّباس، قاله أبو عبيدة وغيرُه. قالوا: ولذلك أعاد الضميرَ عليهنَّ في قوله: «إنَّا أنشأناهنَّ». وأجاب غيرُهم: بأنه عائدٌ على النساءِ الدالِّ عليهنَّ الفُرُشُ. وقيل: يعودُ على «حُور» المتقدمة. وعن الأخفش: هُنَّ ضميرٌ لمَنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، يعني يدلُّ عليه السِّياقُ.
قوله: ﴿عُرُباً﴾ : جمع عَروب كصَبور وصُبُر. والعَرُوْب: المتحبِّبة إلى بَعْلِها. وقيل: الحسناءُ. وقيل: المُحْسِنة لكلامها. وقرأ حمزة وأبو بكر بسكونِ الراء، وهذا كرسُل ورُسْل،
207
وفُرُش وفُرْش، وقال ابن عباس: «هي العواتِقُ». وأنشد للبيد:
٤٢١٣ - وفي الخُدورِ عَروبٌ غيرُ فاحِشةٍ رَيَّا الرَّوادِفِ يَعْشى دونَها البصَرُ
قوله: ﴿أَتْرَاباً﴾ جمع تِرْب وهو المساوي لك في سِنِّك؛ لأنَّه يَمَسُّ جِلْدَهما الترابُ في وقتٍ واحد، وهو آكد في الائتلافِ، وهو من الأسماءِ التي لا تتعرَّفُ بالإِضافةِ لأنه في معنى الصفةِ، إذ معناه: مُساويك، ومثلُه «خِدْنُك» لأنَّه في معنى صاحبك.
208
قوله: ﴿لأِّصْحَابِ اليمين﴾ : في هذه اللامِ وجهان؛ أحدهما: أنها متعلِّقةٌ ب «أَنْشَأْنَاهُنَّ» أي: لأجل. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «أَتْراباً» كقولك: هذا تِرْبٌ لهذا أي: مُساوٍ له.
واليَحْموم وزنه فَيْعول. قال أبو البقاء: «مِنْ الحِمَم أو الحَميم» واليَحْموم قيل: هو الدُّخان الأسود البهيم. وقيل: وادٍ في جهنم. وقيل: اسمٌ من أسمائها، والأولُ أظهرُ.
قوله: ﴿لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ﴾ : صفتان للظلِّ كقولِه: «من يَحْموم». وفيه أنه قد قَدَّم غيرَ الصريحة على الصريحة، فالأَوْلَى أن يُجْعَلَ صفةً ليَحْموم، وإن كان السياقُ يُرْشِدُ إلى الأول.
وقرأ ابنُ أبي عبلة «لا باردٌ ولا كريمٌ» برفعهما أي: هو لا باردٌ كقوله:
٤٢١٤ -..............................
208
فأَبِيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرومُ
209
قوله: ﴿الحنث﴾ : هو في أصلِ كلامهم العِدْلُ الثقيل، وسُمِّي به الذنبُ والإِثم لثقلِهما، قاله الخطابي: وفلانٌ حَنَثَ في يمينه أي: لم يَفِ بها؛ لأنه يَأْثَمُ غالباً، ويُعَبَّرُ بالحِنْث عن البلوغِ ومنه «لم يَبْلُغوا الحنث» وإنما قيل ذلك لأنَّ الإِنسانَ عند بلوغِه إياه يُؤَاخذ بالحِنْث أي بالذنب. وتَحَنَّثَ فلانٌ أي: جانَبَ الحِنْثَ. وفي الحديث: «كان يَتَحَنَّثُ بغار حراء» أي يتعبَّد لمجانبته الإِثمَ نحو: تَحَرَّجَ ف تَفَعَّلَ في هذه كلِّها للسَلْب.
قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا﴾ : قد تقدَّم تقرير هذا كلِّه في الصافات. وتقدَّم الكلامُ على الاستفهامَيْن في سورة الرعد فأغنى ذلك عن إعادةِ كلِّ ذلك ولله الحمد.
قوله: ﴿مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾ : فيه أوجه، أحدها: أَنْ تكونَ «مِنْ» الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان أي: مُبْتَدِئون الأكلَ من شجرٍ هو زَقُّوم. الثاني: أَنْ تكونَ «مِنْ» الثانيةُ صفةً لشجر، فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: مستقرٍ. والثالث: أَنْ تكونَ «مِنْ» الأولى مزيدةً أي:
209
لآكلون شجراً، و «مِنْ» الثانيةُ على ما تقدَّم فيها من الوجهَيْن. الرابع: عكسُ هذا، وهو أَنْ تكونَ الثانيةُ مزيدةً أي: لآكلون زَقُّوماً، و «مِنْ» الأُولى للابتداء، أو في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «زَقُّوم» أي: كائناً مِنْ شجرٍ، ولو تأخَّر لكان صفةً. الخامس: أنَّ «مِنْ شجر» صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي: لآكلون شيئاً مِنْ شجرٍ، «ومِنْ زَقُّوم» على هذا نعتٌ لشجر، أو لشيء المحذوفِ. السادس: أنَّ الأولى للتبعيض، والثانيةَ بدلٌ منها، والضميرُ في «منها» عائدٌ على الشجر. وفي «عليه» للشجر أيضاً، وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسم الجنس وتأنيثُه، وأنهما لغتان. وقيل: في «عليه» عائدةٌ على الزقوم. وقال أبو البقاء: «للمأكول». وقال ابن عطية: «للمأكول أو الأكل». انتهى وفي قوله: «الأكل» بُعْدٌ. وقال الزمخشري: «وأنَّثَ ضميرَ الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في» منها «و» عليه «. ومَنْ قرأ ﴿مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾ فقد جعل الضميرين للشجرةِ، وإنما ذكَّر الثاني على تأويلِ الزَّقُّوم لأنه تفسيرُها».
210
قوله: ﴿شُرْبَ الهيم﴾ : قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ
210
بضم الشين، وباقي السبعة بفتحِها، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل: الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ. وقيل: المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن. / وقال الكسائي: يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً. ويروى قولُ جعفر: «أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال» بفتح الشين. والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال:
٤٢١٥ - كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ
والمعنى: مثلَ شُرْبِ الهِيم. والهِيْمُ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً، والأصلُ: هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، وذلك نحو: بِيْض في أبيض. وأُنْشد لذي الرمة:
٤٢١٦ - فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها
الثاني: أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل
211
وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو: بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه: العُوْذُ المَطافيل. وقيل: هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه. الثالث: أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء، كما فُعِلَ بالذي قبله. الرابع: أنَّه جمعُ «هُيام» بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في «الهَيام» بالفتح، حكاها ثعلب، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو: قُراد وقُرْد، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى: أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم. وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين، وهما لذواتٍ واحدةٍ، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت: لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن» انتهى يعنى قولَه: «فشاربون عليه من الحميم، فشاربون» وهو سؤالٌ حسنٌ، وجوابُه مثلُه.
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر: وهو أنَّ قولَه: ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم﴾ تفسيرٌ للشُرْب قبلَه، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ.
212
وفي ذلك فائدتان، إحداهما: التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني: عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين.
وقال الشيخ: «والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ، فشربوا بعده شُرْباً لا يقع بعدَه رِيٌّ أبداً. وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف. والمشروبُ مِنْه في ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم﴾ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه: فشاربون منه» انتهى. والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟
213
وقرأ العامَّةُ «نُزُلُهم» بضمتين. ورُوي عن أبي عمروٍ من طُرُق، وعن نافعٍ وابنِ محيصنٍ بضمةٍ وسكونٍ، وهو تخفيفٌ. وقد تقدَّم أن النُّزُلَ ما يُعَدُّ للضيفِ. وقيل: هو أولُ ما يأكلُه فسُمِّي به هذا تهكُّماً بمَنْ أُعِدَّ له، وهو في المعنى كقولِ أبي السعر الضَّبِّي:
قوله: ﴿فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ﴾ : تحضيضٌ. ومتعلَّقُ التصديقِ محذوفٌ تقديرُه: فلولا تُصَدِّقُون بخَلْقِنا.
وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ : هي بمعنى أَخْبِرْني. ومفعولُها الأولُ «ما تُمْنُوْن»، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا.
و ﴿أَأَنتُمْ﴾ : يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه فاعل/ فعلٍ مقدرٍ أي: أتخلقونه، فلَمَّا حُذِفَ الفعل لدلالةِ ما بعدَه عليه انفصل الضميرُ، وهذا من بابِ الاشتغال. والثاني: أنَّ «أنتم» مبتدأٌ، والجملةُ بعده خبرُه. والأولُ أرجحُ لأجلِ أداةِ الاستفهام.
وقوله: ﴿أَم﴾ يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها منقطعةٌ؛ لأن بعدها جملةً، وهي إنما تَعْطِفُ المفرداتِ. والثاني: أنها متصلةٌ. وأجابوا عن وقوعِ الجملةِ بعدها: بأنَّ مجيءَ الخبرِ بعد «نحن» أُتي به على سبيلِ التوكيدِ إذ لو قال: «أم نحنُ» لاكتُفِيَ به دونَ الخبرِ. ونظيرُ ذلك جوابُ مَنْ قال: [مَنْ] في الدار؟ زيدٌ في الدار، أو زيدٌ فيها، ولو اقْتُصِر على «زيد» لكان كافياً. قلت: ويؤيِّد كونَها متصلة أنَّ الكلامَ يَقْتَضي تأويلَه: أيُّ الأمرَيْن واقعٌ؟ وإذا صَلَحَ ذلك كانت متصلةً إذ الجملةُ بتأويلِ المفردِ.
ومفعولُ «الخالقون» محذوفٌ لفَهْم المعنى أي: الخالِقوه.
وقرأ العامَّةُ «تُمْنُوْن» بضمِّ التاء مِنْ أَمْنَى يُمْني. وابن عباس
214
وأبو السَّمَّال بفتحِها مِنْ مَنَى يَمْنِي. وقال الزمخشري: يقال: «أمْنَى النُّطْفَةَ ومَناها. قال اللَّهُ تعالى: ﴿مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى﴾ [النجم: ٤٦] انتهى. فظاهرُ هذا أنه استشهادٌ للثلاثي، وليس فيه دليلٌ له؛ إذ يُقال من الرباعي أيضاً» تُمْنَى «كقول:» أنت تُكْرَم «وهو مِنْ أَكْرَم.
215
وقرأ ابن كثير «قَدَرْنا» بتخفيفِ الدال. والباقون بالتشديد هنا، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ في التقدير الذي هو القضاءُ.
قوله: ﴿على أَن نُّبَدِّلَ﴾ : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «مَسْبوقين» وهو الظاهرُ، ولم يَسْبِقْنا أحدٌ على تبديلِنا أمثالَكم أي: يُعْجِزْنا يُقال: سبقَه على كذا أي: أَعْجَزه عنه وغَلَبه عليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: «قَدَّرنا» أي: قَدَّرْنا بينكم على أَنْ نُبَدِّلَ أي: نُمَوِّت طائفةً ونَخْلُقَها طائفةً أخرى، قال معناه الطبري. فعلى هذا يكون قولُه: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ معترضاً، وهو اعتراضٌ حسنٌ.
ويجوز في «أمثالَكم» وجهان، أحدهما: أنه جمعُ «مِثْل» بكسر الميم وسكون الثاء، أي: نحن قادرون على أن نُعدِمَكم ونَخْلُقَ قوماً
215
آخرين أمثالَكم، ويؤيِّده: «إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيها الناسُ ويَأْتِ بآخرين» والثاني: أنه جمع «مَثَل» بفتحتين، وهو الصفةُ أي: نُغَيِّرُ صفاتِكم التي أنتم عليها خَلْقاً وخُلُقاً، ونُنْشِئُكم في صفاتٍ غيرِها.
216
وتقدَّم قراءتا «النشأة» في العنكبوت.
قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُم﴾ : وما بعده قد تَقَدَّم نظيرُه. وأُتي هنا بجواب «لو» مقروناً باللام وهو الأكثرُ؛ لأنه مُثْبَتٌ وحُذف في قولِه: «جَعَلْناه أُجاجاً» لأنَّ المِنَّةَ بالمأكولِ أعظمُ منها بالمشروب.
وقرأ طلحة «تَذْكُرُون» بسكون الذال وضمِّ الكاف.
قوله: ﴿فَظَلْتُمْ﴾ : هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة. وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه. وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء. وعبد الله والجحدريُّ «فظَلِلْتُمْ» على الأصل بلامَيْن، أُولاهما مكسورةٌ. ورُوي عن الجحدري فتحُها، وهي لغةٌ أيضاً.
والعامةُ «تَفَكَّهون» بالهاء، ومعناه: تَنْدَمون، وحقيقتُه: تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ:
216
تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب. وقيل: تَفَكَّهون: تَعْجَبون. وقيل: تَلاومون، وقيل: تَتَفَجَّعون، وهذا تفسيرٌ باللازم.
وقرأ أبو حرام العكلي «تَفَكَّنون» بالنون مثل تَتَنَدَّمون. قال ابن خالويه: «تَفَكَّهَ تَعَجَّب، وتَفَكَّن تندَّمَ». وفي الحديث: «مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء. فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون» أي: يَتَنَدَّمون.
217
قوله: ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ : قرأ أبو بكر «أإنا» بالاستفهام وهو على أصلِه في تحقيقِ الهمزتَيْن وعَدَمِ إدْخال ألفٍ بينهما والباقون بالخبر. وقبلَ هذه الجملةِ قولٌ مقدرٌ على كلتا القراءتين. وذلك في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُه: فَظَلْتُم تَفَكَّهون قائلين أو تقولون: إنا لمُغْرَمون أي: لَمُلْزَمون غَرامةَ ما أَنْفَقْنا أو مُهْلَكون لهلاكِ رِزْقِنا، من الغَرام وهو الهلاكُ. قاله الزمخشري. ومن الغَرام بمعنى الهَلاك قولُه:
٤٢١٧ - وكُنَّا إذا الجبَّارُ أَنْزَلَ جَيْشَه جَعَلْنَا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا
قوله: ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ :/ قد تقدَّم عدمُ دخولِ اللامِ في جواب «لو» هذه. وقال الزمشخري: «فإن قلتَ: لِمَ أُُدخِلَتِ اللامُ في جواب» لو «في قوله: ﴿لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً﴾ [الواقعة: ٦٥] ونُزِعَتْ منه ههنا؟ قلت: إنَّ» لو «لمَّا كانَتْ داخلةً على جملتَيْن، مُعَلَّقةٍ ثانيتُهما بالأولى تعليقَ الجزاءِ بالشرط، ولم تكن مُخَلِّصةً للشرط ك» إنْ «ولا عاملةً مثلَها، وإنما سَرَى فيها معنى الشرطِ اتفاقاً، من حيث إفادتُها في مضومونَيْ جملَتَيْها أنَّ الثاني امتنع لامتناع الأولِ، افتقرَتْ في جوابِها إلى ما يَنْصَبُّ عَلَماً على هذا التعليقِ، فزِيْدَتْ هذه اللامُ لتكونَ عَلَماً على ذلك، فإذا حُذِفَتْ بعدما صارَتْ عَلَماً مشهوراً مكانُه فلأِنَّ الشيءَ إذا عُلِمَ وشُهِر مَوْقِعُه وصار مَأْلوفاً ومَأْنوساً به لم يُبالَ بإسقاطِه عن اللفظِ، استغناءً بمعرفةِ السامع. ألا ترى إلى ما يُحْكى عن رؤبةَ أنه كان يقول:» خير «لمَنْ يقولُ له: كيف أصبحْتَ؟ فَحَذَفَ الجارَّ لِعِلْمِ كلِّ أحدٍ بمكانِه وتَساوي حالَيْ إثباتِه وحَذْفِه لشُهْرةِ أَمْرِه. وناهِيك بقولَ أوس:
٤٢١٨ - إن يُعَذِّبْ يَكُنْ غَراماً وإنْ يُعْ طِ جَزيلاً فإنَّه لا يُبالي
٤٢١٩ - حتى إذا الكَلاَّبُ قال لها كاليومِ مَطْلوباً ولا طَلَبا
فحذفَ» لم أَرَ «حَذْفُها اختصارٌ لفظي، وهي ثابتةٌ في المعنى فاستوى الموضعان بلا فرقٍ بينهما. على أن تَقَدُّمَ ذِكْرِها والمسافةُ قصيرةٌ مُغْنٍ عن ذِكْرِها ثانيةً. ويجوزُ أَنْ يُقال: إنَّ هذه اللامَ مفيدةٌ معنى التوكيدِ لا مَحالةَ، فأُدْخِلَتْ في آيةِ المطعوم دونَ آيةِ المَشْروبِ، للدلالةِ على أنَّ
218
أَمْرَ المطعومِ مُقَدَّمٌ على أَمْرِ المشروبِ، وأنَّ الوعيدَ بفَقْدِهِ أشدُّ وأصعبُ من قِبَلِ أنَّ المشروبَ إنما يُحتاجُ إليه تَبَعاً للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تَسْقي ضيفَك بعدما تُطْعِمُهُ، ولو عَكَسْتَ قَعَدْتَ تحت قولِ أبي العلاءِ:
٤٢٢٠ - إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناس مَحْضاً سَقَوْا أضيافَهم شَبِماً زُلالا
وسُقِي بعضُ العربِ فقال: أنا لا أَشْرَبُ إلاَّ على ثميلة، ولهذا قُدِّمَتْ آيةُ المطعومِ على آيةِ المشروب» انتهى.
قال الشيخ: «وقد طوَّل الزمخشريُّ» فلم يَذْكُرْ هذا الكلامَ الحسنَ، ثم ذَكَر بعض كلامِه، وواخَذَه في قولِه: «إنَّ الثاني امتنع لامتناعِ الأول» وجعلها عبارةَ بعض ضعفاءِ المُعْرِبين، ثم ذكر عبارةَ سيبويه، وهي: حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه، وذكر أنَّ قولَ مَنْ قال: «امتناع لامتناع» فاسدٌ بقولك: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، يعني أنه لا يَلْزَمُ مِن امتناع الإِنسانية امتناعُ الحيوانية. ومِثْلُ هذه الإِيراداتِ سهلةٌ وإذا تَبِعَ الرجلُ الناسَ في عبارتهم لا عليه. على أنها عبارةُ المتقدِّمين من النحاة، نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ.
وقوله: ﴿مِنَ المزن﴾ : السحاب وهو اسم جنس واحدُه مُزْنة. قال الشاعر:
219
٤٢٢١ - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقال الآخر:
220
قوله: ﴿تُورُونَ﴾ : مِنْ أَوْرَيْتُ الزَّنْدَ أي: قَدَحْتَه فاستخرجتَ نارَه، ووَرِي الزَّنْدُ يَرِي أي: خَرَجَتْ نارُه. وأصلُ تُوْرُوْن تُوْرِيُون.
قوله: ﴿لِّلْمُقْوِينَ﴾ : يُقال: أَقْوَى الرجلُ: إذا حلَّ في الأرض القِواءِ، وهي القَفْرُ، كأصْحَرَ: دَخَلَ في الصحراء. وأَقْوَتِ الدار: خَلَتْ، مِنْ ذلك لأنها تصير قَفْراً. قال النابغة:
٤٢٢٢ - ونحن كماءِ المُزْنِ ما في نِصابِنا كَهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بخيلُ
قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ﴾ : قرأه العامَّةُ «فلا»، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه: فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا: بأنَّ
220
فيه حَذْفَ اسمِ «لا» وخبرِها. قال الشيخ: «ولا يجوز» ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني: أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩] والتقدير: فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه:
٤٢٢٣ - يا دارَميَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبَدِ
٤٢٢٤ -......................... فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث: أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ: فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه:
٤٢٢٥ - أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ... قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام «أَفْئِيْدَة». قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ «فَلأُقْسِمُ» بلامٍ واحدةٍ. قلت: وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما: أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ،
221
وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه: فلأَنا أٌقْسِمُ نحو: لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني: أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ [التوبة: ١٠٧] فنفسُ «ليَحْلِفُنَّ» قسمٌ جوابُه «إنْ أرَدْنَا» وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين: يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال: «لأمرَيْن، أحدهما: أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني: أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال» وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه: «وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال» يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه: «أَنْ يُقْرن بها النونُ» هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو: واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه:
٤٢٢٦ - لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه:
222
٤٢٢٧ - وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ.......... ..........................
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ﴾ [النساء: ٦٥] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير ﴿لأُقْسِمُ بيوم القيامة﴾ [القيامة: ١].
وقرأ العامَّة «بمواقِع» جمعاً، والأخَوان «بموقع» مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها: مَساقِطُها ومَغارِبُها.
وقيل: سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل: النجومُ للقرآن، ويؤيِّدُه «وإنَّه لَقَسَمٌ»، و ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ والمُقْسَمُ عليه قولُه: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما: الاعتراضُ بقوله: «وإنه لَقَسَمٌ» بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني: الاعتراضُ بقولِه: «لو تعلمون» بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه: «وإنَّه لَقَسَمٌ» اعتراضاً فقال: «وإنه لَقَسَمٌ» تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن،
223
بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه: «لو تعلمون» قلت: وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.
224
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:قوله :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾ : قرأه العامَّةُ " فلا "، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها : أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه : فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا : بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ " لا " وخبرِها. قال الشيخ :" ولا يجوز " ولا ينبغي ؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني : أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى :﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ ﴾ [ الحديد : ٢٩ ] والتقدير : فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه :
٤٢٢٤......................... فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث : أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ : فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه :
أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ ***
قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام " أَفْئِيْدَة ". قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ " فَلأُقْسِمُ " بلامٍ واحدةٍ. قلت : وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما : أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه : فلأَنا أٌقْسِمُ نحو : لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني : أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله :﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ] فنفسُ " ليَحْلِفُنَّ " قسمٌ جوابُه " إنْ أرَدْنَا " وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين : يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال :" لأمرَيْن، أحدهما : أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني : أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال " وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه :" وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال " يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه :" أَنْ يُقْرن بها النونُ " هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو : واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه :
لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ

وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه :

وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ.......... ***..........................
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ﴾ [ النساء : ٦٥ ] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير ﴿ لأُقْسِمُ بيوم القيامة ﴾ [ القيامة : ١ ].
وقرأ العامَّة " بمواقِع " جمعاً، والأخَوان " بموقع " مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها : مَساقِطُها ومَغارِبُها.
وقيل : سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل : النجومُ للقرآن. ويؤيِّدُه " وإنَّه لَقَسَمٌ "، و ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ والمُقْسَمُ عليه قولُه :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما : الاعتراضُ بقوله :" وإنه لَقَسَمٌ " بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني : الاعتراضُ بقولِه :" لو تعلمون " بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه :" وإنَّه لَقَسَمٌ " اعتراضاً فقال :" وإنه لَقَسَمٌ " تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه :" لو تعلمون " قلت : وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:قوله :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾ : قرأه العامَّةُ " فلا "، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها : أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه : فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا : بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ " لا " وخبرِها. قال الشيخ :" ولا يجوز " ولا ينبغي ؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني : أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى :﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ ﴾ [ الحديد : ٢٩ ] والتقدير : فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه :
٤٢٢٤......................... فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث : أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ : فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه :
أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ ***
قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام " أَفْئِيْدَة ". قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ " فَلأُقْسِمُ " بلامٍ واحدةٍ. قلت : وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما : أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه : فلأَنا أٌقْسِمُ نحو : لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني : أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله :﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ] فنفسُ " ليَحْلِفُنَّ " قسمٌ جوابُه " إنْ أرَدْنَا " وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين : يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال :" لأمرَيْن، أحدهما : أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني : أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال " وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه :" وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال " يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه :" أَنْ يُقْرن بها النونُ " هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو : واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه :
لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ

وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه :

وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ.......... ***..........................
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ﴾ [ النساء : ٦٥ ] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير ﴿ لأُقْسِمُ بيوم القيامة ﴾ [ القيامة : ١ ].
وقرأ العامَّة " بمواقِع " جمعاً، والأخَوان " بموقع " مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها : مَساقِطُها ومَغارِبُها.
وقيل : سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل : النجومُ للقرآن. ويؤيِّدُه " وإنَّه لَقَسَمٌ "، و ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ والمُقْسَمُ عليه قولُه :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما : الاعتراضُ بقوله :" وإنه لَقَسَمٌ " بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني : الاعتراضُ بقولِه :" لو تعلمون " بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه :" وإنَّه لَقَسَمٌ " اعتراضاً فقال :" وإنه لَقَسَمٌ " تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه :" لو تعلمون " قلت : وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.

قوله: ﴿لاَّ يَمَسُّهُ﴾ : في «لا» هذه وجهان، أحدهما: أنها نافيةٌ فالضمةُ في «لا يَمَسُّه» ضمةُ إعرابٍ، وعلى هذا القولِ ففي الجملةِ وجهان، أحدهما: أنَّ محلَّها الجرُّ صفةً ل «كتاب» والمرادُ ب «كتاب» : إمَّا اللوحُ المحفوظُ، والمُطهَّرون حينئذٍ الملائكةُ أو المرادُ به المصاحف، والمرادُ بالمُطهَّرين المكلَّفون كلُّهم. والثاني: أن محلَّها الرفعُ صفةً لقرآنِ، والمرادُ بالمطهَّرينِ الملائكةُ فقط أي: لا يَطَّلع عليه أو لا يَمَسُّ لَوْحَه. لا بُدَّ من أحد هَذَيْن التجوُّزَيْن؛ لأن نسبةَ المسِّ إلى المعاني حقيقةً متعذَّرٌ. ويؤيِّد كونَ هذه نفياً قراءةُ عبد الله «ما يَمَسُّه» ب «ما» النافيةِ.
والثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها ناهيةٌ، والفعلُ بعدها مجزومٌ؛ لأنه لو فُكَّ عن الإِدغامِ لظهر ذلك فيه كقولِه: ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ [آل عمران: ١٧٤] ولكنه أَدْغم، ولَمَّا أُدْغِمَ حُرِّك آخرُه بالضمِّ لأجلِ هاء ضميرِ المذكرِ الغائبِ، ولم يَحْفَظْ سيبويه في نحوِ هذا إلاَّ الضمَّ. وفي الحديث: «إنَّا
224
لم نَرُدُّه عليك إلاَّ أننا حُرُمٌ» وإن كان القياسُ يَقْتضي جوازَ فَتْحِه تخفيفاً، وبهذا الذي ذكرْتُه يظهر فسادُ رَدِّ/ مَنْ رَدَّ: بأنَّ هذا لو كان نَهْياً لكان يُقال: «لا يَمَسَّه» بالفتح؛ لأنه خَفي عليه جوازُ ضَمِّ ما قبل الهاءِ في هذا النحوِ، لا سيما على رأيِ سيبويه فإنه لا يُجيز غيرَه. وقد ضَعَّفَ ابنُ عطية كونَه نهياً: بأنه إذا كان خبراً فهو في موضعِ الصفةِ، وقولُه بعد ذلك «تنْزيلٌ» صفةٌ فإذا جعلناه نَهْياً كان أجنبياً معترضاً بين الصفاتِ وذلك لا يَحْسُن في رَصْفِ الكلامِ فتدبَّرْه. وفي حرف ابن مسعود «ما يمسُّه» انتهى.
وليس فيما ذكرَه ضَعْفٌ لهذا القول؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ «تنزيل» صفةٌ، بل هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو تنزيلٌ فلا يَلْزَم ما ذَكرَه من الاعتراضِ. ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه صفةٌ ف «لا يَمَسُّه» صفةٌ أيضاً، فيُعْترض علينا: بأنه طلبٌ. فيُجاب: بأنه على إضمارِ القولِ أي: مقولٌ فيه: لا يمسُّه، كما قالوا ذلك في قوله: «فتنةً لا تصيبَنَّ» على أنَّ «لا تصيبنَّ» نَهْيٌ وهو كقولِه:
225
العلماء في مَسِّ المُحْدِث المصحفَ، وهو مبنيٌّ على هذا، وسيأتي تحقيقُه بأشبعَ مِنْ هذا في كتاب «أحكام القرآن» إن شاء الله تعالى إتمامَه.
وقرأ العامَّةُ «المُطَهَّرون» بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحةً اسمَ مفعول، وعن سلمان الفارسي كذلك، إلاَّ أنه بكسرِ الهاء اسمَ فاعلٍ أي: المُطَهِّرون أنفسَهم، فحذف مفعولَه. ونافع وأبو عمروٍ في رواية عنهما وعيسى بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مَفعول من أطهر. وزيد والحسن وعبد الله بن عون وسلمان أيضاً «المُطَّهِّرُوْن» بتشديدِ الطاءِ والهاءِ المكسورةِ، وأصلُه المتطهِّرون فأُدْغِم. وقد قُرىءَ بهذا الأصلِ أيضاً.
226
وقرِىء «تنزيلاً» بالنصب على أنه حال من النكرة. وجاز ذلك لتخصُّصِها بالصفةِ، أو أَنْ يكونَ مصدراً لعاملٍ مقدر أي: نُزِّل تنزيلاً، وغَلَب التنزيلُ على القرآن.
و «من رَبِّ» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكَّد لا يعملُ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له، وأمَّا على قراءةِ «تنزيل» بالرفعِ فيجوز الوجهان.
قوله: ﴿أفبهذا﴾ : متعلِّقٌ بالخبر، وجازَ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوزُ فيه ذلك. والأصل: أفأنتم مُدْهِنون بهذا الحديث وهو القرآنُ. ومعنى «مُدْهِنون» : مُتهاوِنون كمن يُدْهِنُ في الأمر أي: يُلَيِّنُ جانبَه ولا يتصلَّب فيه تهاوُناً به يقال: أَدْهَن فلانٌ أي: لايَنَ وهاوَدَ فيما لا يُحْمَلُ عند المُدْهَنِ. قال الشاعر:
٤٢٢٨ - جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيْتَ الذئبَ قطّ وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنفال، وهذه المسألةُ يتعلَّقُ بها خلافُ
٤٢٢٩ - الحَزْمُ والقُوَّةُ خيرٌ من الْ إدْهانِ والفَهَّةِ والهاعِ
وقال الراغب: «والإِدهانُ في الأصل مثلُ التدهين لكن جُعِل عبارةً عن المُداراة والمُلاينة وتَرْكِ الجدِّ، كما جُعِل التقريدُ وهو نَزْعُ القُراد، عبارةً عن ذلك».
قوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه على التهكُّم بهم؛ لأنهم وَضَعوا الشيءَ غيرَ موضعِه كقولك: «شَتَمني حيث أَحْسَنْتُ إليه» أي: عَكَسَ قضيةَ الإِحسانِ ومنه:
٤٢٣٠ - كأن شُكْرَ القَوْمِ عند المِنَنِ كيُّ الصَحيحاتِ وفَقْءُ الأعينِ
أي: شُكْرَ رِزْقِكم تكذيبَكم، الثاني: أنَّ ثَمَّ مضافَيْنِ محذوفَيْنِ،
227
أي: بَدَل شُكْرِ رِزْقكم ليَصِحَّ المعنى قاله جمال الدين بن مالك، وقد تقدَّم لك في قولِه: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ [النجم: ٩] أكثرُ من هذا. الثالث: أنَّ الرِّزْقَ هو الشُّكْرُ في لغةِ أزدِ شنوءة: ما رَزَقَ فلانٌ فلاناً أي: ما شكره، فعلى هذا لا حَذْفَ البتةَ، ويُؤَيِّدُهُ قراءةُ علي بنِ أبي طالب وتلميذِه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم «وتَجْعَلون شُكْرَكم» مكان «رِزْقَكم».
وقرأ العامَّةُ «تُكَذِّبون» من التكذيب. وعلي رضي الله عنه وعاصمٌ في رواية المفضل عنه «تَكْذِبون» مخففاً من الكَذِب.
228
قوله: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم﴾ : ترتيبُ الآيةِ/ الكريمة: فلولا تَرْجِعُونها أي النفسَ إذا بلغت الحلقومَ إن كنتم غيرَ مَدِيْنين. و «فلولا» الثانيةُ مكررةٌ للتوكيدِ. قاله الزمخشريُّ. قلت: فيكونُ التقدير: فلولا فلولا تَرْجِعونها، من باب التوكيد اللفظي، وتكون «إذا بَلَغَت» ظرفاً ل «تَرْجِعونها» مقدَّماً عليه؛ إذ لا مانعَ مِنْه، أي: فلولا تَرْجِعون النفسَ في وقتِ بُلوغها الحلقومَ. وقوله: ﴿وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ جملةٌ حالية مِنْ فاعل بَلَغَتْ، والتنوينُ في «حينئذٍ» عِوَضٌ من الجملة المضافِ إليها «إذا»، أي: إذا بلغَتْ الحلقومَ خلافاً للأخفش حيث زعمَ أن التنوينَ للصَّرْفِ والكسرَ للإِعرابِ، وقد مضى تحقيقُه.
وقرأ العامَّةُ بفتحِ نونِ «حينئذٍ» لأنَّه منصوبٌ على الظرفِ ناصبُه «تَنْظُرون» وعيسى بكسرها، وهي مُشْكِلَةٌ لا تَبْعُدُ عن الغَلَطِ عيله، وخُرِّجَتْ على الإِتباع لحركة الهمزة، ولا غَرْوَ في ذلك فليسَتْ بأبعدَ من قراءةِ «الحمد للَّهِ» [الفاتحة: ١] بكسر الدال لتلازُمِ المتضايفَيْنِ ولكثرةِ دَوْرِهما على الخصوص.
قوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي: تَنْظُرون في هذه الحالِ التي تَخْفَى عليكم، وأن تكونَ مستأنفةً، فتكونَ اعتراضاً، والاستدراكُ ظاهرٌ. والبَصَرُ: يجوز أَنْ يكونَ من البصيرة، وأَنْ يكونَ من البَصَرِ أي: لا تَنْظُرون أعوانَ مَلَكِ الموتِ.
و ﴿إِن كُنتُمْ﴾ : شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند البَصْريين لدلالةِ «فلولا» عليه أو مقدَّمٌ عند مَنْ يرى ذلك، كما تقدَّمَ تقريرُه. والحُلْقُوْمُ: مَجْرى الطعامِ. و «مَدِيْنين» أي: مَسُوسين، أو محاسَبين، أو مجازِين. وقد تقدَّم ذلك أولَ الفاتحة ولله الحمدُ. وهذا ما تلخص في الآية الكريمة محرَّراً. وقال أبو البقاء: «وتَرْجِعونها جوابُ» لولا «الأولى، وأغنى ذلك عن جوابِ الثانية وقيل عكسُ ذلك. وقيل: لولا الثانيةُ تكريرٌ» انتهى. وتسميةُ مثلِ هذا جواباً ليس بصحيح البتَة؛ لأنَّ هذه تحضيضيةٌ لا جوابَ لها، إنما الجوابُ للامتناعيةِ لوجودٍ نحو: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله﴾ [النساء: ٨٣].
229
وقال ابن عطية: «وقولُه:» تَرْجِعونها «سَدَّ مَسَدَّ الأجوبةِ والبياناتِ التي تَقْتَضيها التَّحْضيضاتُ، و» إذا «مِنْ قولِه:» فلولا إذا «و» إنْ «المكررة، وحَمَلَ بعضُ القولِ بعضاً إيجازاً» واقتضاباً «انتهى. فجعل» إذا «شرطيةً. وقولُه:» الأجوبة «يعني ل» إذا «ول» إنْ «ول» إنْ «في قولِه: ﴿إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. والبياناتُ يعني الأفعالَ التي حَضَّض عليها، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ، ولذلك فَسَّرْتُها.
قال الشيخ:»
وإذا ليسَتْ شرطاً؛ بل ظرفاً يعمل فيها «تَرْجعونها» المحذوفُ بعد «لولا» لدلالةِ «تَرْجِعونها» في التحضيض الثاني عليه، فجاء التحضيضُ الأولُ مقيَّداً بوقتِ بلوغِ الحُلْقومِ. وجاء التحضيضُ الثاني مُعَلَّقاً على انتفاء مَرْبُوْبيَّتهم وهم لا يَقْدرون على رَجْعِها إذ مَرْبُوبِيَّتُهم موجودةٌ، فهم مقْهورون لا قُدْرَةَ لهم «انتهى. فجعل» تَرْجِعونها «المذكورَ ل» لولا «الثانية، وهو دالٌّ على محذوفٍ بعد الأولى، وهو أحد الأقوالِ التي نَقَلها أبو البقاء فيما تقدم.
230
قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ : شرطٌ آخرُ، وليس هذا من اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ نحو: «إنْ ركبتِ إنْ لَبِسْتِ فأنتِ طالق» حتى يجيءَ فيه ما قَدَّمْتُه في هذه المسألةِ؛ لأنَّ المرادَ هنا: إنْ وُجِد الشرطان كيف كانا فهلا رَجَعْتُمْ بنفِس الميتِ.
قوله: ﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ﴾ قد تقدَّم الكلامُ في «إمَّا» في أولِ هذا
230
الموضوعِ مستوفىً ولله الحمدُ. وهنا أمرٌ زائدٌ وهو وقوعُ شرطٍ آخرَ بعدها. واختلف النحاةُ في الجوابِ المذكورِ بعدها: هل هو ل «أمَّا» أو ل «إنْ»، وجوابُ الأخرى محذوفٌ لدلالةِ المنطوقِ عليه، أو الجوابُ لهما معاً؟ ثلاثةُ أقوالٍ، الأولُ لسيبويه والثاني للفارسيِّ في أحدِ قولَيْه، وله قولٌ آخرُ كسيبويهِ، والثالث للأخفش، وهذا كما تقدَّم في الجوابِ بعد الشرطَيْن المتواردَيْن. وقال مكي: «ومعنى» أمَّا «عند أبي إسحاقَ الخروجُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ، أي: دَعْ ما كُنَّا فيه وخُذْ في غيره». قلت: وعلى هذا فيكونُ الجوابُ ل «إنْ» فقط لأنَّ «أمَّا» ليسَتْ شرطاً. ورجَّح بعضُهم أنَّ الجوابَ ل «أمَّا» ؛ لأنَّ «إنْ» كَثُرَ حَذْفُ جوابِها/ منفردةً، فادِّعاءُ ذلك مع شرطٍ آخرَ أَوْلَى. والضميرُ في «كان» و «كان» للمتوفَّى لدلالةِ قولِه: «فلولا تَرْجِعُونَها».
231
والرَّوْحُ: الاستراحةُ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف. وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة في جماعةٍ كثيرة بضمِّ الراءِ، وتُرْوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الحسن: الرَّوْحُ: الرحمةُ؛ لأنها كالحياة للمرحومِ. وعنه أيضاً: رُوْحُه تَخْرُج في رَيْحان. وقد تقدَّم
231
الكلامُ على ﴿رَيْحَانٌ﴾ والخلافُ فيه وكيفيةُ تصريفِه في السورةِ قبلها.
و [قوله] :﴿فَرَوْحٌ﴾ مبتدأٌ، خبرُه مقدَّر قبلَه أي: فله رَوْحٌ. ويجوزُ أَنْ يُقَدَّر بعدَه لاعتمادِه على فاءِ الجزاءِ.
232
قوله: ﴿فَسَلاَمٌ لَّكَ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ. و «مِنْ أصحاب». قال الزمخشري: «فسلامٌ لك يا صاحبَ اليمين من إخوانك إصحابِ اليمينِ، أي: يُسَلِّمون عليك». وقال ابن جرير: «معناه فسلامٌ لكَ أنت مِنْ أصحابِ». وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ كقولِ الزمخشريِّ، ويكونَ «أنت» تأكيداً للكافِ في «لك»، ويَحْتمل أَنْ يكونَ أراد أنَّ «أنت» مبتدأٌ و «من أصحابِ» خبرُه، ويؤيِّدُ هذا ما حكاه قومٌ مِنْ أنَّ المعنى: فيُقال لهم: سلامٌ لك إنَّك من أصحاب اليمين. وأولُ هذه الأقوالِ هو الواضحُ البيِّن؛ ولذلك لم يُعرِّجْ أبو القاسمِ على غيرِه.
قوله: ﴿وَتَصْلِيَةُ﴾ : عطفٌ على «فُنُزُل» أي: فله نُزُلٌ وتَصْلِيَةٌ. وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ اللُّؤْلؤي عنه وأحمد بن موسى والمنقري بجرِّ التاءِ عَطْفاً على «مِنْ حميمٍ».
قوله: ﴿حَقُّ اليقين﴾ : فيه وجهان، أحدهما: هو من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه. والثاني: أنه من باب إضافةِ المترادَفَيْن على سبيل المبالغةِ. وسهَّلَ ذلك تخالُفُ لفظِهما. وإذا كانوا فعلوا ذلك في
232
اللفظِ الواحدِ فقالوا: صوابُ الصوابِ، ونفس النفس، مبالغةً فَلأَنْ يَفْعلوه عند اختلافِ اللفظِ أَوْلَى.
233
قوله: ﴿باسم رَبِّكَ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي: فسَبِّحْ مُلْتَبِساً باسمِ ربك على سبيلِ التبرُّكِ كقوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ [البقرة: ٣٠]، وأَنْ تكونَ للتعديةِ، على أنَّ «سَبَّح» يتعدَّى بنفسه تارةً كقولِه: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ﴾ [الأعلى: ١] وبحرفِ الجرِّ تارةً كهذه الآيةِ، وادعاءُ زيادتها خلافُ الأصلِ.
و «العظيم» يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للاسم، وأَنْ يكونَ لربك؛ لأنَّ كلاً منهما مجرورٌ. وقد وُصِفَ كلٌّ منهما في قوله: «تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذُو الجلال» [الرحمن: ٧٨] و ﴿ذي الجلال﴾. ولتغايُرِ المتضايفَيْن في الإِعراب ظهر الفرقُ في الوصف.
Icon