تفسير سورة سورة الحجر من كتاب أوضح التفاسير
المعروف بـأوضح التفاسير
.
لمؤلفه
محمد عبد اللطيف الخطيب
.
المتوفي سنة 1402 هـ
ﰡ
(انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿رُّبَمَا﴾ بتخفيف الباء وتشديدها؛ وقرىء بهما ﴿يَوَدُّ﴾ يتمنى ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ حين يروا العذاب يوم القيامة ﴿لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ أي لو كانوا أسلموا في الدنيا، ونجوا من هول هذا العذاب
﴿ذَرْهُمْ﴾ دعهم واتركهم ﴿يَأْكُلُواْ﴾ كما تأكل الأنعام ﴿وَيَتَمَتَّعُواْ﴾ بدنياهم الفانية ﴿وَيُلْهِهِمُ﴾ يشغلهم عن الإيمان بربهم، وعن الاهتمام بآخرتهم ﴿الأَمَلُ﴾ في طول الحياة، وجمع المال ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ تهديد ووعيد؛ أي سوف يعلمون ما يحل بهم في الآخرة؛ من عذاب أليم مقيم
﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ من القرى الظالمة ﴿إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ أجل محدود لإهلاكها
﴿مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾ الذي حدد لهلالكها ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عنه؛ بل ينزل بها الدمار في الوقت الذي حدده الله لها
﴿وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ القرآن ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ يعنون بذلك سيد العقلاء محمداً
﴿لَّوْ مَا﴾ هلا ﴿تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ﴾ فنراهم عياناً؛ يشهدون بصدقك، وأن القرآن قد نزل عليك من عندالله. أو هلا تأتينا بالملائكة بالعذاب على تكذيبنا لك؟ قال تعالى رداً عليهم
﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ﴾ أي إلا بالعذاب الحق؛ الذي يستحقونه ﴿وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ﴾ أي وما كانوا عند نزول الملائكة - إذا أنزلناهم بالعذاب - مؤخرين؛ بل يحل بهم بغتة
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ القرآن ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ طول العمر، وأبد الدهر؛ لا يعتريه تغيير أو تبديل، ولا يشوبه تصحيف أو تحريف، ولا تدركه زيادة أو نقصان
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ﴾ أي في فرق المتقدمين
﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ﴾ ندخله؛ أي القرآن، لا الكفران كما ذهب إليه أكثر المفسرين (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء) الكافرين
﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾ أي سنة الله تعالى فيهم، وعادته معهم؛ من تعذيبهم بتكذيبهم، واستئصالهم بطغيانهم
﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ يرونه بأعينهم ﴿فَظَلُّواْ فِيهِ﴾ أي في هذا الباب ﴿يَعْرُجُونَ﴾ يصعدون
﴿لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ﴾ حيرت، أو حبست ﴿أَبْصَارُنَا﴾ عن الإبصار
﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً﴾ هي منازل الكواكب السيارة؛ وهي اثنا عشر: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والكواكب السيارة سبعة: المريخ: وله من البروج الحمل والعقرب. والزهرة: ولها الثور والميزان. وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة. والقمر: وله السرطان. والشمس: ولها الأسد. والمشتري: وله القوس والحوت. وزحل: وله الجدي والدلو
﴿وَحَفِظْنَاهَا﴾ أي حفظنا السموات ﴿مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ مرجوم، أو ملعون
﴿إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ من هؤلاء الشياطين ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾ شعلة من نار؛ تحرق كل ما تمسه كالصاعقة
﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ جبالاً ثوابت ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ بميزان الحكمة: كتناسب العناصر في الخضر والفاكهة وغيرهما؛ مما يحير العقول، ويدهش الأفكار أو «موزون» بميزان التقدير؛ فلا يزيد على حاجة الخلق ولا ينقص ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ أو ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا﴾ أي في الجبال ﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾
مما يوزن من المعادن: كالذهب والفضة، والنحاس، والرصاص، وما شاكل ذلك
﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ أي أسباب العيش: من المطعومات والمشروبات ﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ أي وجعلنا لكم من العيال، والمماليك، والأنعام؛ من لستم له برازقين؛ لأننا نخلق طعامهم وشرابهم لا أنتم
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ﴾ وما من شيء قلَّ أو جلَّ، دق أو رق ﴿إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ التي ننفق منها ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ﴾ للخلق ﴿إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ حسب حاجتهم إليه، وحسب مشيئتنا وإرادتنا بالتوسعة على البعض، والتضييق على الآخرين. وقد يوسع الله تعالى على العاصين، ويضيق على المتقين؛ لحكمة يعلمها، وغرض يريد إمضاءه: ابتلاء لبعض خلقه، وإملاء لآخرين «وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال»
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ أي حوامل بالسحاب؛ لأنها تحمله في جوفها، ولأن الرياح تلقح النبات والأشجار؛ فتنقل من ذكرها لأنثاها «فتبارك الله أحسن الخالقين»
﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ أي قد أحطنا بالخلق علماً من لدن آدم إلى قيام الساعة
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ﴾ طين يابس؛ تسمع له صلصلة إذا ضرب عليه ﴿مِّنْ حَمَإٍ﴾ طين أسود ﴿مَّسْنُونٍ﴾ متغير منتن
﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ هي نار لا دخان لها؛ تنفذ من المسام، وتسري مع الريح ﴿﴾ أتممت خلقته
﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ ذهب الأكثرون إلى أنه سجود تحية بالانحناء فحسب؛ ويأبى ذلك قوله تعالى: «فقعوا» لأنه أمر بالوقوع متلبسين بالسجود، وذهب بعضهم إلى أنه امتحان للملائكة، واختبار لطاعتهم؛ لأنهم - بلا شك - نوع أرقى من النوع الإنساني؛ وليثبت تعالى للملإ حسن طاعتهم، ومزيد انقيادهم؛ وأنهم ﴿لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (انظر آية ٢٢ من سورة التكوير)
﴿قَالَ﴾ الله تعالى مخاطباً إبليس اللعين؛ ليقطع الشك باليقين أمام سائر المخلوقين؛
قال ﴿يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ الذين سجدوا إطاعة لأمري، وتنفيذاً لقضائي فابتدأ اللعين، في مجادلة رب العالمين، وأحكم الحاكمين
﴿قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ﴾ أقل مرتبة مني؛ إذ ﴿خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ﴾ طين يابس؛ تسمع له صلصة إذا ضرب عليه ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ طين أسود متغير؛ وقد خلقتني من نار؛ والنار أفضل من الطين
﴿قَالَ﴾ تعالى ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا﴾ أي من الجنة؛ فلست أهلاً للبقاء في النعيم ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ مطرود
﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم الجزاء: يوم القيامة
﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي﴾ أخرني وأمهلني
﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ﴾ المؤخرين
﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ يوم القيامة. من هنا نعلم أن الله تعالى قد يستجيب للظالم - لحكمة قدرها وعلمها - امتحاناً به لغيره، وابتلاءاً لبعض مخلوقاته
﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ لقن اللعين حجة لأوليائه الملاعين؛ وهي أن الإغواء جاءه من أحكم الحاكمين؛ فقال لربه: بحق إغوائك لي؛ في حين أن ربه لم يغوه؛ وإنما غوى هو بنفسه، وأغوى غيره وقد جرت سنة الله تعالى في خليقته أن يضل الضالين، ويهدي المهتدين ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً﴾ ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ ﴿قَالَ﴾ الله تعالى:
{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي هذا طريق مستقيم، على أن أراعيه: وهو ألا يكون لك قوة ولا تسلط على عبادي المخلصين ﴿إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ الكافرين ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾
﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي إن جهنم لموعد لمن اتبعك
﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ﴾ من الأبواب السبعة ﴿مِنْهُمُ﴾ أي من الكافرين الغاوين ﴿جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾ نصيب مقسم على هذه الأبواب. قيل: إن هذه الأبواب لدركات جهنم، وهي مرتبة فوق بعضها؛ وفي أعلاها عصاة هذه الأمة، وفي أسفلها المنافقين ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿وَعُيُونٍ﴾ ماء جار يرى بالعين؛ ويقال لهم
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ من كل سوء وعناء
﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾ تعب ﴿وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ أبد الآبدين، ودهر الداهرين
﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ﴾ للتائبين المستغفرين ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالمؤمنين الطائعين
﴿وَأَنَّ عَذَابِي﴾ للكافرين والعاصين ﴿هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾ المؤلم
﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾ أخبر قومك يا محمد ﴿عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ من الملائكة
﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ﴾ بعد أن رد عليهم السلام ﴿إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾ خائفون وذلك لأنه رآهم لا يأكلون من طعامه الذي قدمه إليهم
﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ﴾ لا تخف
-[٣١٦]- ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ ذي علم كثير؛ وهو إسحاق عليه السلام
﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي﴾ بالغلام ﴿عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ﴾ أي بعد أن كبرت، ولم أعد صالحاً لإنجاب الولد ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ بعد ذلك
﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ أي بما سيقع حتماً، ويكون حقاً ﴿فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾ الآيسين
﴿قَالَ﴾ معاذ الله أن أقنط من وعده ورحمته ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ ولست منهم
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ﴾ ما شأنكم ﴿أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ ولأي شيء جئتم
﴿قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ قوم لوط؛ لننزل عليهم العذاب بأمر رب العالمين
﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ﴾ أهله من المؤمنين، ومن آمن به من قومه ﴿إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ من العذاب
﴿إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ الباقين في العذاب
﴿فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ﴾ من الملائكة الذين بشروا إبراهيم بغلام عليم
﴿قَالَ﴾ لوط أي لا أعرفكم؛ وقد أنكرهم لوط لأنه رآهم في زي نظيف لا يتفق وحال المسافر؛ وليسوا ممن يعرف من أهل قريته
﴿قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ أي بالعذاب الذي كان قومك يشكون في مجيئه
﴿فَأَسْرِ﴾ أي سر ليلاً ﴿بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ﴾ بطائفة من الليل، أو ببقية منه، أو بجنح الليل ﴿وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾
أي امش خلف المؤمنين من أهلك وقومك ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ خلفه؛ لئلا يرى ما ينزل بقومك من العذاب؛ الذي يخلع القلب، ويطيح باللب
﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ﴾ أوحينا إليه ﴿ذَلِكَ الأَمْرَ﴾ الذي ذكرناه؛ وهو ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ أي مستأصلون عن آخرهم صباحاً؛ لأن الدابر: آخر كل شيء وأصله
﴿وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ بمجيء الملائكة عند لوط، طمعاً في ارتكاب الفاحشة معهم؛ ظناً منهم أنهم من عامة الناس أمثالهم؛ وقد دخلوا على لوط بأكمل شكل، وأجمل صورة
﴿قَالَ﴾ لوط لقومه - لما رأى إقبالهم إليه - وعلم نواياهم السيئة ﴿إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي﴾ ضيوفي
-[٣١٧]- ﴿فَلاَ تَفْضَحُونِ﴾ معهم
﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ﴾ خافوه، واخشوا عقابه ﴿وَلاَ تُخْزُونِ﴾ الخزي: الذل والهوان
﴿قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ أي عن الاختلاط بالناس، وتسميم أفكارهم بما تزعمه من الرسالة، وما تدعو إليه من الإيمان بإلهك؟
﴿قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي﴾ أي بنات أمته؛ لأن كل نبي يعتبر أباً لقومه؛ وإلا فليس بجائز أن تزوج بنات أصلح الصالحين، لأفسق الفاسقين ﴿لَعَمْرُكَ﴾ أي وحقك ﴿إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي في ضلالهم يتخبطون. لقد تجلى الإله على مصطفاه، وأقسم الجليل بالخليل، وشرف الكريم عبده العظيم، وأفاض المنعم على نبيه الأكرم؛ فأظهر للملإ قدره، وأعلا في الآفاق شأنه؛ وحلف بحياته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما خلق الله، وما ذرأ، وما برأ، نفساً أكرم عليه تعالى من محمدصلى الله عليه وسلّم، وما سمعت أن الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ الصيحة: العذاب. وقيل: صاح بهم جبريل عليه السلام حين بدأ بتعذيبهم. والصيحة: مقدمة لكل عذاب ﴿مُشْرِقِينَ﴾
وقت شروق الشمس
﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ قيل: حمل جبريل عليه السلام قريتهم إلى أن قاربوا الأفلاك، وسمعوا تسبيح الأملاك؛ وجعل عاليها سافلها؛ بأمر ربه المنتقم الجبار أعاذنا الله تعالى من غضبه بمنه، وعافانا من عذابه بكرمه ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ السجيل، والسجين: المكتوب في السجل، أي وأمطرنا عليهم حجارة مكتوب عليهم أن يعذبوا بها؛ قال تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ أي مكتوب. وقيل: سجيل وسجين: اسم وادٍ في جهنم؛ أي وأمطرنا عليهم حجارة من جهنم: إذا لم يصبهم جرمها؛ أحرقتهم حرارتها
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ العذاب الذي أنزلناه بقوم لوط، وبغيرهم من المكذبين ﴿لآيَاتٍ﴾ لعبر وعظات ﴿لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ للمتأملين، والمتفكرين
﴿وَإِنَّهَا﴾ أي قرى قوم لوط، وما فيها من آثار تعذيبهم واستئصالهم ﴿لَبِسَبِيلٍ﴾ طريق ﴿مُّقِيمٍ﴾ باق لم يندرس؛ وهي مدينة سدوم، أو سذوم. وقيل: عاموراء؛ وهما قريتان من قرى قوم لوط
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإبقاء على هذه القرى إلى الآن، على حالها البادي للعيان ﴿لآيَةً﴾ عبرة وعظة ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الصادقين في الإيمان
﴿وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ﴾ الأيكة: الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر. قيل: إنهم قوم شعيب عليه السلام ﴿لَظَالِمِينَ﴾ لكافرين
﴿فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ أهلكناهم؛ لما كذبوا شعيباً ﴿وَإِنَّهُمَا﴾ أي قرى قوم لوط، والأيكة ﴿لَبِإِمَامٍ﴾ طريق واضح؛ لمن يريد أن يراهما ويتعظ بما حل بأهلهما
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ﴾ ثمود: قوم صالح عليه السلام؛ و «الحجر» واد بين المدينة والشام؛ عند وادي القرى،
-[٣١٨]- أو بين مكة وتبوك ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ﴾ الصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب. وقيل: صرخ فيهم الملك المأمور بإهلاكهم صباحاً
﴿فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ﴾ فما دفع عنهم العذاب ﴿مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ ما كانوا يعملونه: من جمع للأموال، وبناء للقصور والحصون
﴿فَاصْفَحِ﴾ يا محمد عن قومك ﴿الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ أي الصفح الذي لا يبقي أثراً في القلوب لقد أقام الله تعالى عليهم الحجة التي لا تدحض، والبرهان الذي لا يدفع: فأمر رسوله عليه الصلاة والسلام بملاينتهم وملاطفتهم، والصفح عنهم صفحاً جميلاً؛ يلين من شكيمتهم، ويسلس من قيادهم. وبعد ذلك أمره بهجرهم هجراً رفيقاً رقيقاً «واهجرهم هجراً جميلاً» فأفاد ذلك بعض من هدى الله تعالى، وكتب له السعادة والسيادة، ولم يفد مع الآخرين؛ فكانوا كالعضو الفاسد المريض؛ الذي لا يسلم الجسم إلا ببتره، ولا يبرأ إلا بقطعه فأنزل تعالى على رسوله «فخذوهم واقتلوهم حين ثقفتموهم»
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي﴾ وهي - على القول الراجح - الفاتحة؛ لأنها سبع آيات، ولأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة. وقيل: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معاً؛ وذلك لأنه قد ثنى فيها الأمثال، والخبر، والعبر، والفرائض، والحدود، والقضاء، والقصص
﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾ أي لا تطمح بعينيك إلى ما آتينا أصنافاً من الكفار؛ من متاع الدنيا ونعيمها الزائل، وتراثها الفاني ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي لا تحزن لعدم إيمانهم ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ تواضع، وألن جانبك ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أمر الله تعالى رسوله الكريم - وهو سيد الخلق وخيرهم - بأن يتواضع ويلين جانبه للمؤمنين؛ وأي مؤمن - وإن سما وعلا - فهو دون الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه رتبة؛ فكيف بنا معشر المؤمنين ونحن نتعالى على من هم أعلا منا ديناً، وأرقى منا مرتبة، وأسمى منا تقى وورعاً وقد فسدت المقاييس، وانخرمت المعايير وأصحبت الأقدار، تقاس بالدرهم والدينار فأي درك هذا الذي هوينا إليه؟ وأي إثم هذا الذي وقعنا فيه؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ولم يقل تعالى: إن أكرمكم عندي أغناكم، أو أجملكم، أو أقواكم فاعلم - هداك الله - أن أقدار الناس لا تقاس إلا بمقياس الدين والورع، لا الحرص والطمع (انظر آية ٢٢ من سورة الروم)
﴿كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾ أي كما أنزلنا من البلاء والعذاب على المقتسمين. قيل: هم جماعة من المشركين. وقيل: هم أهل الكتاب؛ لأنهم قسموا القرآن، وقالوا بصحة ما يوافق كتبهم، وكذبوا باقيه
﴿الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾
-[٣١٩]- أي أعضاء وأجزاء، وأقوال متفرقة: شعر، سحر، كهانة، اختلاق
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ أي فامض في تنفيذ ما أمرتك به؛ واجهر بما أنزلته عليك من القرآن، وأعلن كلمة التوحيد، وشق باطلهم بحقك
﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ أي منعنا عنك شرهم وأذاهم؛ بأن أهلكناهم، وقطعنا دابرهم
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ فيك، وفي الله
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ قدسه واحمده على ما أفاء عليك من نعم
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾ داوم على عبادته
﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ الموت: المتيقن وقوعه.
319
سورة النحل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
319