ﰡ
١٥٥ - قال اللَّه تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنَّسَائِي عن مسروق قال: جاء إلى عبد الله رجل فقال: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: اللَّه أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: اللَّه أعلم، إنما كان هذا أن قريشاً لما استعصت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا عليهم بسنين كسني يوسف. فأصابهم قحط وجهد. حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. وحتى أكلوا العظام فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، فقال: يا رسول الله استغفر اللَّه لِمُضَرَ فإنهم قد هلكوا فقال: (لمضر إنك لجريء) قال: فدعا اللَّه لهم، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) قال: فمطروا، فلما أصابتهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه. قال فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) قال: يعني يوم بدر.
وفي لفظ له أيضاً: (ثم قرأ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) حتى بلغ (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ). قال عبد الله: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر جمهور المفسرين
قال الطبري: (وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرتقبه هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم؛ لأن اللَّه جل ثناؤه توعد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) في سياق خطاب اللَّه كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)، ثم اتبع ذلك قوله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أمرا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه، وتهديدًا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدًا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
وبعد فإنه غير منكر أن يكون أَحلَّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم ويكون مُحِلًّا فيما يستأنف بعد بآخرين دخانًا على ما جاءت به الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندنا كذلك لأن الأخبار عن رسول اللَّه - ﷺ - قد تظاهرت بأن ذلك كائن) اهـ بتصرف.
وقال ابن عطية: (وقالت فرقة منها عبد اللَّه بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي هو الدخان الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع كسبع يوسف... حتى قال: وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل) اهـ.
وقال ابن عاشور: (فالمراد بالناس من قوله: (يَغْشَى النَّاسَ) هم المشركون كما هو الغالب في إطلاق لفظ الناس في القرآن، وأنه يكشف زمنًا قليلاً عنهم عذارا لهم لعلهم يؤمنون وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا) وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب، وإذ قد كانت
والأصح أن هذا الدخان عُني به ما أصاب المشركين من سني القحط بمكة بعد هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، والأصح في ذلك حديث عبد اللَّه بن مسعود في صحيح البخاري ثم ساق الحديث حتى قال: وعلى هذه الرواية يكون قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) تمثيلاً لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجو بهيئة الدخان النازل من الأفق) اهـ بتصرف.
ومنهم من اختار أن الدخان لم يأتِ بعد وأنه من الآيات المنتظرة كابن كثير والسعدي.
قال ابن كثير: (قال ابن جرير: ثم ساق الإسناد إلى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذات يوم فقال ما نمتُ الليلة حتى أصبحت قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمتُ حتى أصبحت) وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن. قال الله تبارك وتعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أي بيّن واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) أي يتغشاهم ويعميهم، ولو كان
وقوله تعالى: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) يحتمل معنيين أحدهما أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، وكقوله جلت عظمته: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨).
والثاني: أن يكون المراد إنا مؤخروا العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى: (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم) اهـ بتصرف.
وقال السعدي: (واختلف المفسرون بهذا الدخان فقيل إنه الدخان، الذي يغشى الناس ويعمهم، حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة، وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم. ويؤيد هذا
ويؤيده أيضاً أنه قال في هذه الآية: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) وهذا يقال يوم القيامة للكفار حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا فيقال قد ذهب وقت الرجوع. وهذا يتناول قوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) إلى قوله (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) فهذا كله يوم القيامة.
وأن قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أن هذا ما وقع لقريش.
وإذا نزلت هذه الآيات على هذين المعنيين لم تجد في اللفظ ما يمنع من ذلك بل تجدها مطابقةً لهما أتم المطابقة، وهذا الذي يظهر عندي ويترجح والله أعلم) اهـ بتصرف.
وقال عن حديث ابن مسعود: (وفي هذا القول نظر ظاهر).
ولما ذكر القول بأن الدخان من أشراط الساعة وأنه يكون في آخر الزمان قال: (والقول هو الأول) اهـ.
ومن المفسرين من ذكر الأحاديث في هذا الشأن لكن لم يذكر قوله فيها أو اختياره كالبغوي والقرطبي.
وقال أبو العباس القرطبي متعقباً قول ابن مسعود: (لا شك في أن تسمية هذا دخاناً تجوز، وحقيقة الدخان، ما ذكر في حديث أبي سعيد، والذي حمل عبد اللَّه بن مسعود على هذا الإنكار قوله: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) وقوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) ولذلك قال أفيكشف عذاب الآخرة؟ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل، لأن حديث أبي سعيد إنما دلّ على أن ذلك الدخان يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة، فيجوز انكشافه كما تنكشف فتن الدجال ويأجوج ومأجوج، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت فلا معارضة بين الآية والحديث) اهـ بتصرف يسير.
وإذا أردنا أن نختصر حجج الفريقين فإننا نقول إن الذين احتجوا بحديث ابن مسعود استدلوا بدليلين: الأول: أن الله قال في سياق الآيات: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) وعذاب الآخرة لا يكشف.
الثاني: أن سياق الآيات في مخاطبة المشركين لقوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)،
وأما الذين ذهبوا إلى أن الدخان من الآيات المنتظرة فاستدلوا بما يلي:
أولاً: أن هذا اختيار أكثر الصحابة والتابعين.
ثانياً: أن الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان تدل على أن الدخان منتظر.
ثالثاً: أن هذا هو ظاهر القرآن لقوله (بِدُخَانٍ مُبِينٍ).
وسأناقش الأقوال مستعيناً باللَّه تعالى فأقول:
أولاً: أن هذا العذاب لو كان في الآخرة فإنه لا يكشف فدل على أنه في الدنيا، وهذا صحيح أن عذاب الآخرة لا يكشف لكن من قال إن الدخان في الآخرة؟ النصوص تدل على خلاف هذا وستأتي إن شاء اللَّه.
وبناء على ما تقدم فالخطأ في النتيجة مبني على الخطأ في المقدمة.
ثانياً: أن سياق الآيات في مخاطبة المشركين وهذا حق لا إشكال فيه ولا يلزم من كون الآيات في سياق مخاطبتهم أن يفسر الدخان بما ذكره ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بل غاية ما في الأمر أن الآيات تخاطبهم وتهددهم بعذاب الله سواءً أكان في الدنيا أو في الآخرة أو فيما بين ذلك، أما تحديد زمنه فلا يستفاد من مجرد السياق بل تحدده دلائل وقرائن أخر.
أما من ذهب إلى أن الدخان منتظر فاستدلوا بما يلي:
ثانياً: أن الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان تدل على أن الدخان منتظر وهذا أيضاً حق فمن ذلك:
أولاً: عن حذيفة بن أَسيد الغفاري قال: اطلع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علينا ونحن نتذاكر. فقال: (ما تذاكرون)؟ قالوا: نذكر الساعة قال: (إنها لن تقوم حتى ترونَ قبلها عشر آيات) فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.
ثانياً: عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بادروا بالأعمال ستاً: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصةَ أحدكم).
ثالثاً: عن أبي مالك الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن ربكم أنذركم ثلاثاً الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال).
رابعاً: عن عبد اللَّه بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذات يوم فقال: ما نمتُ الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمتُ حتى أصبحت.
فإن قيل: ما الجواب عن قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ)؟
فالجواب: أن ابن كثير أجاب بجوابين:
الأول: (أننا لو كشفنا العذاب لعدتم لما كنتم فيه من الكفر) وهذا مدفوع بأن اللَّه أخبر أنه سيكشف العذاب ثم يعودون، ومقتضى قوله: أن الله لن يكشفه عنهم لأنه لو كشفه عادوا.
الثاني: (أننا مؤخرو العذاب قليلاً بعد انعقاد أسبابه) وهذا مدفوع بأن اللَّه أخبر عن مجيء العذاب وأنه يغشى الناس حتى يقال هذا عذاب أليم، ومقتضى قول ابن كثير أن العذاب يرجأُ وإن انعقدت أسبابه.
أما جواب السعدي عن هذه الآية فهي أنها في قريش خاصة بينما المراد بقوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) إنما هو يوم القيامة فهذا قول بعيد لا يسعفه سياق القرآن؛ لأن المراد بقوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا) هو الدخان المبين؛ لأن اللَّه وصفه بقوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فإذا كان المراد بالعذاب في الآيتين هو الدخان فكيف تكون الأولى يوم القيامة، والثانية في قريش؟
فإن قال قائل: ما الصواب إذن في معنى الآية؟
فالجواب: أن جملة الآيات يدور حديثها على علامة من علامات الساعة الكبرى التي تسبقها وهو الدخان الذي دلت على مجيئه أحاديث صحيحة لا مطعن فيها. ففي حديث حذيفة الغفاري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: (إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر منها الدخان) وهذا نص في أن الدخان يسبق يوم القيامة.
أما قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) فقد قال أبو العباس القرطبي - رحمه الله -: (فيجوز انكشاف الدخان كما تنكشف فتن الدجال، ويأجوج وما جوج). اهـ.
وأما قوله: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فيوم البطشة هو
فعن عكرمة قال: قال ابن عبَّاسٍ: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة.
وإذا فسرت الآيات على هذا النحو خلت من التعارض والاضطراب وسلمت من التكلف وحصل من ذلك تفسير القرآن بالسنة والنظر الصحيح.
وبما تقدم يتبين أن التصريح بنزول الآية لا يتفق مع التفسير الذي اخترناه لأن المختار أن الجميع يتحدث عن آية الدخان التي تسبق الساعة، والنزول على تفسير ابن مسعود إنما يتناول القحط الذي أصاب قريشاً مع غزوة بدر.
وإذا كان الراجح في تفسير الآية يمنع القول بسبب النزول، فكذلك دراسة الإسناد قد تبين من خلالها أن التصريح بالنزول شاذ غير محفوظ، وتفصيله بيِّن في موضعه.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآيات الكريمة لأن التصريح بنزول الآية غير محفوظ، بل هو شاذ كما أن سياق الآيات يدل على تأخر الدخان، وعلى هذا أكثر المفسرين والله أعلم.
* * * * *