تفسير سورة القمر

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة القمر من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
( ٥٤ ) سورة القمر مكية
وآياتها خمس وخمسون
تفسير سورة القمر١
وهي مكية بإجماع إلا آية واحدة اختلف فيها، فقال جمهور الناس : هي مكية، وقال قوم : هي مما نزل يوم بدر، وقيل : بالمدينة، وهي قوله تعالى :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾٢، وسيأتي القول في ذلك.
١ في أكثر الأصول:" تفسير سورة اقتربت الساعة"، وآثرنا الاسم الذي يتفق مع المصحف الشريف الذي بين أيدينا..
٢ هي الآية (٤٥)، وقد قيل عن قتادة: إن الخلاف وقع في ثلاث آيات(٤٤، ٤٥، ٤٦)، ولكن أكثر العلماء يرون أن هذا ضعيف..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القمر
وهي مكية بإجماع إلا آية واحدة اختلف فيها، فقال جمهور الناس هي مكية، وقال قوم هي مما نزل ببدر، وقيل بالمدينة وهي: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر: ٤٥] الآية وسيأتي القول في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
اقْتَرَبَتِ معناه: قربت إلا أنه أبلغ، كما أن اقتدر أبلغ من قدر. و: السَّاعَةُ القيامة وأمرها مجهول التحديد لم يعلم، إلا أنها قربت دون تحديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وأشار بالسبابة والوسطى. وقال أنس: خطب رسول الله ﷺ وقد كادت الشمس تغيب فقال: «ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم».
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم»، وهذا منه على جهة الرجاء والظن لم يجزم به خبرا، فأناب الله به على أمله وأخر أمته أكثر من رجائه، وكل ما يروى عن عمر الدنيا من التحديد فضعيف واهن.
وقوله: انْشَقَّ الْقَمَرُ إخبار عما وقع في ذلك، وذكر الثعلبي أنه قيل إن المعنى ينشق القمر يوم القيامة، وهذا ضعيف الأمة على خلافه، وذلك أن قريشا سألت رسول الله آية فقيل مجملة، وهذا قول الجمهور، وقيل بل عاينوا شق القمر، ذكره الثعلبي عن ابن عباس فأراهم الله انشقاق القمر، فرآه رسول الله وجماعة من المسلمين والكفار، فقال رسول الله «اشهدوا»، وممن قال من الصحابة رأيته: عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأخبر به عبد الله بن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة بن اليمان، وقال المشركون عند ذلك: سحرنا محمد. وقال بعضهم: سحر القمر وقالت قريش استخبروا المسافرين القادمين عليكم، فما
211
ورد أحد إلا أخبر بانشقاقه وقال ابن مسعود: رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء، وقال ابن زيد: كان يرى نصفه على قعيقعان والآخر على أبي قبيس. وقرأ حذيفة: «اقتربت الساعة وقد انشق القمر»، وذكر الثعلبي عنه أن قراءته: «اقتربت الساعة انشق القمر» دون واو.
وقوله: وَإِنْ يَرَوْا جاء اللفظ مستقبلا لينتظم ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأن حالهم هكذا، واختلفت الناس في معنى: مُسْتَمِرٌّ فقال الزجاج قيل معناه: دائم متماد. وقال قتادة ومجاهد والكسائي والفراء معناه: مار ذاهب عن قريب يزول. وقال أبو العالية والضحاك معناه: مشدود من مرائير الحبل كأنه سحر قد أمر، أي أحكم. ومنه قول الشاعر [لقيط بن زرارة] :[البسيط]
حتى استمرت على شزر مريرته صدق العزيمة لا رتّا ولا ضرعا
ثم أخبر تعالى بأنهم كذبوا واتبعوا شهواتهم وما يهوون من الأمور لا بدليل ولا بتثبت، ثم قال على جهة الخبر الجزم، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ يقول: وكل شيء إلى غاية فالحق يستقر ظاهرا ثابتا، والباطل يستقر زاهقا ذاهبا.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «وكل مستقر» بجر «مستقر»، يعني بذلك أشراطها. والجمهور على كسر القاف من «مستقر» وقرأ نافع وابن نصاح بفتحها، قال أبو حاتم: لا وجه لفتح القاف.
و: الْأَنْباءِ جمع نبأ، ويدخل في هذا جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص ومثلات الأمم الكافرة، و: مُزْدَجَرٌ معناه: موضع زجر وانتهاء، وأصله: مزتجر، قلبت التاء دالا ليناسب مخرجها مخرج الزاي، وكذلك تبدل تاء افتعل من كل فعل أوله زاي كازدلف وازداد ونحوه.
وقوله: حِكْمَةٌ مرتفع إما على البدل من ما في قوله: ما فِيهِ، وإما على خبر ابتداء تقديره:
هذه حكمة و: بالِغَةٌ معناه: يبلغ المقصد بها من وعظ النفوس والبيان لمن له عقل. وقوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ، يحتمل أن تكون «ما» نافية، أي ليس تغني مع عتو هؤلاء الناس، ويحتمل أن تكون «ما» استفهاما بمعنى التقرير، أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة، ثم سلى نبيه بقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتم القول في قوله: عَنْهُمْ ثم ابتدأ وعيدهم، والعامل في يَوْمَ قوله:
يَخْرُجُونَ، و: خُشَّعاً حال من الضمير في يَخْرُجُونَ وتصرف الفعل يقتضي تقدم الحال، قال المهدوي: ويجوز أن يكون حالا من الضمير في عَنْهُمْ. قال الرماني المعنى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واذكر يَوْمَ. وقال الحسن المعنى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إلى يَوْمَ، وانحذفت الواو من يَدْعُ لأن كتبة المصحف اتبعوا اللفظ لا ما يقتضيه الهجاء، وأما حذف الياء من: الدَّاعِ ونحوه، فقال سيبويه: حذفوه تخفيفا. وقال أبو علي: حذفت مع الألف واللام إذ هي تحذف مع معاقبهما وهو التنوين.
وقرأ جمهور الناس: «نكر» بضم الكاف. وقرأ ابن كثير وشبل والحسن: «نكر» بكسر الكاف، وقرأ مجاهد والجحدري وأبو قلابة: «نكر» بكسر الكاف وفتح الراء على أنه فعل مبني للمفعول، والمعنى في ذلك كله
212
أنه منكور غير معروف ولا مرئي مثله. قال الخليل: النكر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية. وقال مالك بن عوف النصري: [الرجز]
أقدم محاج إنه يوم نكر... مثلي على مثلك يحمى ويكر
ونكر فعل وهو صفة، وذلك قليل في الصفات، ومنه مشية سجح وقال الشاعر [حسان بن ثابت الأنصاري] :[البسيط]
دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا... إن الرجال ذوو عصب وتذكير
ومنه رجل شلل وناقة أجد.
وقرأ جمهور القراء: «خشعا» وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن وقتادة. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: «خاشعا»، وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري، وهو إفراد بمعنى الجمع، ونظيره قول الشاعر [الحارث بن أوس الإيادي] :[الرمل]
وشباب حسن أوجههم... من إياد بن نزار بن معد
ورجح أبو حاتم هذه القراءة وذكر أن رجلا من المتطوعة قال قبل أن يستشهد: رأيت النبي ﷺ في النوم فسألته عن «خشعا وخاشعا» فقال: «خاشعا» بالألف، وفي مصحف أبيّ بن كعب وعبد الله: «خاشعة».
وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر. و: الْأَجْداثِ جمع جدث وهو القبر، وشبههم بالجراد المنتشر، وقد شبههم في أخرى ب الفراش الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤]، وفيهم من كل هذا شبه، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولا كالفراش حين يموجون بعض في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي، وفي الحديث: إن مريم بنت عمران دعت للجراد فقالت: اللهم اعشها بغير رضاع وتابع بينها بغير شباع.
والمهطع: المسرع في مشيه نحو الشيء مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد، إما لخوف أو طمع أو نحوه، ويَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته.
قوله عز وجل:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)
سوق هذه القصة وعيد لقريش وضرب مثل لهم، وقوله: وَازْدُجِرَ إخبار من الله أنهم زجروا نوحا
213
بالسب والنجه والتخويف، قاله ابن زيد وقرأ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: ١١٦]، وذهب مجاهد إلى أن وَازْدُجِرَ من كلام قَوْمُ نُوحٍ، كأنهم قالوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، والمعنى: استطير جنونا واستعر جنونا، وهذا قول فيه تعسف وتحكم.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج والحسن «أني» بفتح الألف، أي «بأنه» كأن دعاءه كان هذا المعنى. وقرأ عاصم أيضا وابن أبي إسحاق وعيسى «إني» بكسر الألف كأن دعاءه كان هذا اللفظ قال سيبويه: المعنى قال إني.
وذهب جمهور المفسرين إلى أن المعنى أني قد غلبني الكفار بتكذيبهم وتخويفهم، انتصر لي منهم بأن تهلكهم، ويحتمل أن يريد: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك. ويؤيده قول ابن عباس إن المراد بقوله:
لمن كان كفر الله تعالى، فوقعت الإجابة على نحو ما دعا نوح عليه السلام، وذهبت المتصوفة إلى أن المعنى: إني قد غلبتني نفسي في إفراطي في الدعاء على قومي فانتصر مني يا رب بمعاقبة إن شئت.
والقول الأول هو الحق إن شاء الله يدل على ذلك اتصال قوله: فَفَتَحْنا الآية، وذلك هو الانتصار من الكفار.
وقرأ جمهور القراء: «ففتحنا» بتخفيف التاء. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج: «ففتّحنا» بشدها على المبالغة ورجحها أبو حاتم لقوله تعالى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: ٥٠]، قال النقاش: يعني بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العبية، وقال قوم من أهل التأويل: الأبواب حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء. وقال جمهور المفسرين: بل هو مجاز وتشبيه، لأن المطر كثر كأنه من أبواب. والمنهمر الشديد الوقوع الغزير. قال امرؤ القيس: [الرمل]
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
وقرأ الجمهور: «وفجّرنا» بشد الجيم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبو حيوة عن عاصم: «وفجرنا» بتخفيفها. وقرأ الجمهور: «فالتقى الماء» على اسم الجنس الذي يعم ماء السماء وماء العيون. وقرأ الحسن وعلي بن أبي طالب وعاصم الجحدري. «فالتقى الماءان» ويروى عن الحسن: «فالتقى الماوان».
وقوله: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ قال فيه الجمهور على رتبة وحالة قد قدرت في الأزل وقضيت. وقال جمهور من المتأولين المعنى: على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه، ورووا أن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا وكان ماء السماء ينزل عليه بقية أربعين ذراعا أو نحو هذا لأنه مما اختلفت فيه الروايات ولا خبر يقطع العذر في شيء من هذا التحرير. وقرأ أبو حيوة: «قدّر» بشد الدال. وذات الألواح والدسر: هي السفينة قيل كانت ألواحها وخشبها من ساج، والدسر: المسامير، واحدها: دسار، وهذا هو قول الجمهور، وهو عندي من الدفع المتتابع، لأن المسمار يدفع أبدا حتى يستوي. وقال الحسن وابن عباس أيضا:
الدسر: مقادم السفينة، لأنها تدسر الماء أي تدفعه. والدسر: الدفع. وقال مجاهد وغيره: نطق السفينة.
وقال أيضا: هو أرض السفينة. وقال أيضا: أضلاع السفينة، وقد تقدم القول في شرح قصة السفينة مستوعبا، وجمهور الناس على أنها كانت على هيئة السفن اليوم كجؤجؤ الطائر، وورد في بعض الكتب أنها
214
كانت مربعة، طويلة في السماء، واسعة السفل، ضيقة العلو، وكان أعلاها مفتوحا للهواء والتنفس، قال:
لأن الغرض منها إنما كانت السلامة حتى ينزل الماء، ولم يكن طلب الجري وقصد المواضع المعينة، ومع هذه الهيئة فلها مجرى ومرسى، والله أعلم كيف كانت، والكل محتمل.
وقوله: بِأَعْيُنِنا قال الجمهور معناه: بحفظنا وحفايتنا وتحت نظرنا لأهلها، فسمى هذه الأشياء أعينا تشبيها، إذ الحافظ المتحفي من البشر إنما يكون ذلك الأمر نصب عينه، وقيل المراد من حفظها من الملائكة سماهم عيونا، وقال الرماني وقيل إن قوله: بِأَعْيُنِنا يريد العيون المفجرة من الأرض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقرأ أبو السمال: «بأعينا» مدغمة. وقرأ جمهور الناس: «كفر» بضم الكاف وكسر الفاء، واختلفوا في المعنى فقال ابن عباس ومجاهد: «من»، يراد بها الله تعالى كأنه قال: غضبا وانتصارا لله، أي انتصر لنفسه فأنجى المؤمنين وأغرق الكافرين. وقال مكي وقيل «من»، يراد بها نوح والمؤمنين، لأنهم كفروا من حيث كفر بهم فجازاهم الله بالنجاة. وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة: «كفر» بفتح الكاف والفاء، والضمير في: تَرَكْناها قال مكي بن أبي طالب هو عائد على هذه الفعلة والقصة. وقال قتادة والنقاش وغيره: هو عائد على هذه السفينة، قالوا وإن الله تعالى أرسلها على الجودي حين تطاولت الجبال وتواضع وهو جبيل بالجزيرة بموضع يقال له باقردى، وأبقى خشبها هنالك حتى رأت بعضه أوائل هذه الأمة. وقال قتادة: وكم من سفينة كانت بعدها صارت رصودا و: مُدَّكِرٍ أصله: مذتكر، أبدلوا من التاء ذالا ليناسب الدال في النطق، ثم أدغموا الدال في الدال، وهي قراءة الناس، قال أبو حاتم: رويت عن النبي ﷺ بإسناد صحيح وقرأ قتادة: «مذكر» بالذال على إدغام الثاني في الأول، قال أبو حاتم: وذلك رديء ويلزمه أن يقرأ واذكر بعد أمة وتذخرون في بيوتكم.
وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ توقيف لقريش وتوبيخ، والنذر: هنا جمع نذير، المصدر بمعنى كان عاقبة إنذاري لمن لم يجعل به كأنتم أيها القوم. و: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ معناه: سهلناه وقربناه و «الذكر» : الحفظ عن ظهر قلب، قال ابن جبير: لم يستظهر من كتب الله سوى القرآن.
قال القاضي أبو محمد: يسر بما فيه من حسن النظم وشرف المعاني فله لوطة بالقلوب، وامتزاج بالعقول السليمة.
وقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ استدعاء وحض على ذكره وحفظه لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس. قال مطرف في قوله تعالى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هل من طالب علم فيعان عليه.
قال القاضي أبو محمد: الآية تعديد نعمة في أن الله يسر الهدى ولا بخل من قبله، فلله در من قبل وهدى. وقد تقدم تعليل: مُدَّكِرٍ.
قوله عز وجل:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١٨ الى ٢٦]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦)
215
عادٌ قبيلة وقد تقدم قصصها. وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، «كيف» نصب إما على خبر كانَ وإما على الحال. و: كانَ بمعنى وجد ووقع في هذا الوجه. وَنُذُرِ جمع نذير وهو المصدر. وقرأ ورش وحده: «ونذري» بالياء، وقرأ الباقون «ونذر» بغير ياء على خط المصحف.
و: «الصرصر» قال ابن عباس وقتادة معناه الباردة وهو الصر. وقال جماعة من المفسرين معناه: المصوتة نحو هذين الحرفين مأخوذ من صوت الريح إذا هبت دفعا، كأنها تنطق بهذين الحرفين، الصاد والراء، وضوعف الفعل كما قالوا: كبكب وكفكف من كب وكب، وهذا كثير، ولم يختلف القراء في سكون الحاء من «نحس» وإضافة اليوم إليه إلا ما روي عن الحسن أنه قرأ: «في يوم» بالتنوين و: «نحس» بكسر الحاء.
ومُسْتَمِرٍّ معناه: متتابع، قال قتادة: استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم. قال الضحاك في كتاب الثعلبي المعنى كان مرا عليهم، وذكره النقاش عن الحسن، وروي أن ذلك اليوم الذي كان لهم فيه نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ كان يوم أربعاء، وورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ:
يوم الأربعاء، قتأول في ذلك بعض الناس أنه يصحب في الزمن كله، وهذا عندي ضعيف وإن كان الدولابي أبو بشر قد ذكر حديثا رواه أبو جعفر المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر»، ويوجد نحو هذا في كلام الفرس والأعاجم، وقد وجد ذكر الأربعاء التي لا تدور في شعر لبعض الخراسانيين المولدين، وذكر الثعلبي عن زر بن حبيش في تفسير هذا اليوم لعاد أنه كل يوم أربعاء لا تدور، وذكره النقاش عن جعفر بن محمد وقال: كان القمر منحوسا بزحل وهذه نزعة سوء عياذا بالله أن تصح عن جعفر بن محمد.
وقوله: تَنْزِعُ النَّاسَ معناه: تنقلهم من مواضعهم نزعا فتطرحهم. وروي عن مجاهد: أنها كانت تلقي الرجل على رأسه فيتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه فلذلك حسن التشبيه ب «أعجاز» النخل وذلك أن المنقعر هو الذي ينقلب من قعره. فذلك التشعث والشعب التي لأعجاز النخل، كان يشبهها ما تقطع وتشعث من شخص الإنسان، وقال قوم: إنما شبههم ب «أعجاز النخل» لأنهم كانوا يحفرون حفرا ليمتنعوا فيها من الريح، فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل، والنخل يذكّر ويؤنث فلذلك قال هنا: مُنْقَعِرٍ وفي غير هذه السورة: خاوِيَةٍ [الحاقة: ٧] والكاف في قوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ في موضع الحال، قاله الزجاج، وما روي من خبر الخلجان وغيره وقوتهم ضعيف كله، وفائدة تكرار قوله:
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ التخويف وهز الأنفس قال الرماني: لما كان الإنذار أنواعا، كرر التذكير والتنبيه، وفائدة تكرار قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ التأكيد والتحريض وتنبيه الأنفس.
وهذا موجود في تكرار الكلام، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا هل بلغت، ألا هل بلغت». ومثل
216
قوله: «ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور». وكان ﷺ إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا، فهذا كله نحو واحد وإن تنوع، و: ثَمُودُ قبيلة صالح عليه السلام وهم أهل الحجر.
وقرأ الجمهور: «أبشرا منا واحدا» ونصب قوله «بشرا» بإضمار «فهل» يدل عليه قوله: نَتَّبِعُهُ، و: «واحدا» نعت ل «بشر». وقرأ أبو السمال: «أبشر منا واحدا نتبعه» ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول، التقدير: أينبأ بشر، وإما على الابتداء والخبر في قوله نَتَّبِعُهُ و: «واحدا» على هذه القراءة إما من الضمير في: نَتَّبِعُهُ وإما عن المقدر مع: مِنَّا كأنه يقول: أبشر كائن منا واحدا، وفي هذا نظر.
وحكى أبو عمر والداني قراءة أبي السمال: «أبشر منا واحد» بالرفع فيهما.
وهذه المقالة من ثمود حسد منهم واستبعاد منهم أن يكون نوع المبشر يفضل بعضه بعضا هذا الفضل فقالوا: أنكون جمعا ونتبع واحدا، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى من رضيه.
وقوله: في ضَلالٍ معناه: في أمر متلف مهلك بالإتلاف، وَسُعُرٍ معناه: في احتراق أنفس واستعارها حنقا وهما باتباعه، وقيل في السعر: العناء، وقاله قتادة. وقيل الجنون، ومنه قولهم ناقة بمعنى مسعورة، إذا كانت تفرط في سيرها، ثم زادوا في التوقي بقولهم: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا، وأُلْقِيَ بمعنى أنزل، وكأنه يتضمن عجلة في الفعل، والعرب تستعمل هذا الفعل، ومنه قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩] ومنه قوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥]، والذِّكْرُ هنا:
الرسالة وما يمكن أن جاءهم به من الحكمة والموعظة، ثم قالوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي ليس الأمر كما يزعم، والأشر: البطر والمرح، فكأنهم رموه بأنه أَشِرٌ، فأراد العلو عليهم وأن يقتادهم ويتملك طاعتهم فقال الله تعالى لصالح: سَيَعْلَمُونَ غَداً وهذه بالياء من تحت قراءة علي بن أبي طالب وجمهور الناس.
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وابن وثاب وطلحة والأعمش «ستعلمون» بالتاء على معنى قل لهم يا صالح.
وقوله: غَداً تقريب يريد به الزمان المستقبل، لا يوما بعينه، ونحو المثل: مع اليوم غد.
وقرأ جمهور الناس: «الأشر» بكسر السين كحذر بكسر الذال. وقرأ مجاهد فيما ذكر عنه الكسائي:
«الأشر» بضم الشين كحذر بضم الذال، وهما بناءان من اسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة: «الأشر» بفتح الشين، كأنه وصف بالمصدر. وقرأ أبو قلابة: «الأشرّ» بفتح الشين وشد الراء، وهو الأفعل، ولا يستعمل بالألف واللام وهو كان الأصل لكنه رفض تخفيفا وكثرة استعمال.
قوله عز وجل:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢٧ الى ٣٥]
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥)
217
هذه النَّاقَةِ التي اقترحوها أن تخرج لهم من صخرة صماء من الجبل، وقد تقدم قصصها، فأخبر الله تعالى صالحا على جهة التأنيس أنه يخرج لهم الناقة ابتلاء واختبارا، ثم أمره بارتقاب الفرج وبالصبر.
وَاصْطَبِرْ أصله: اصتبر. افتعل، أبدلت التاء طاء لتناسب الصاد. ثم أمره بأن يخبر ثمود أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ: والْماءَ: هو ماء البئر التي كانت لهم، واختلف المتأولون في معنى هذه القسمة، فقال جمهور منهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ: يتواسونه في اليوم الذي لا ترده الناقة وذلك فيما روي أن الناقة كانت ترد البئر غبا، وتحتاج جميع مائه يومها، فنهاهم الله عن أن يستأثر أهل اليوم الذي لا ترد الناقة فيه بيومهم، وأمرهم بالتواسي مع الذين ترد الناقة في يومهم. وقال آخرون معناه: الماء بين جميعهم وبين الناقة قسمة.
و: مُحْتَضَرٌ معناه: محضور مشهود متواسى فيه، وقال مجاهد المعنى: كُلُّ شِرْبٍ أي من الماء يوما ومن لبن الناقة يوما مُحْتَضَرٌ لهم، فكأنه أنبأهم الله عليهم في ذلك. و: صاحِبَهُمْ هو قدار بن سالف، وبسببه سمي الجزار القدار لشبه في الفعل، قال الشاعر [عدي بن ربيعة] :[الكامل]
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ضرب القدار نقيعة القدام
وقد تقدم شرح أمر قدار بن سالف. و: «تعاطى» مطاوع عاطى، فكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وأعطاها بعضهم بعضا، فتعاطاها هو وتناول العقر بيده، قاله ابن عباس، ويقال للرجل الذي يدخل نفسه في تحمل الأمور الثقال متعاط على الوجه الذي ذكرناه، والأصل عطا يعطو، إذا تناول، ثم يقال: عاطى، وهو كما تقول: جرى وجارى وتجارى وهذا كثير، ويروى أنه كان مع شرب وهم التسعة الرهط، فاحتاجوا ماء فلم يجدوه بسبب ورد الناقة، فحمله أصحابه على عقرها. ويروى أن ملأ القبيل اجتمع على أن يعقرها، ورويت أسباب غير هذين، وقد تقدم ذلك.
والصيحة: يروى أن جبريل عليه السلام صاحها في طرف من منازلهم فتفتتوا وهمدوا فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ. والهشيم: ما تفتت وتهشم من الأشياء.
وقرأ جمهور الناس: «كهشيم المحتظر» بكسر الظاء، ومعناه: الذي يصنع حظيرة من الرعاء ونحوهم قاله أبو إسحاق السبيعي والضحاك وابن زيد، وهي مأخوذة من الحظر وهو المنع، والعرب وأهل البوادي يصنعونها للمواشي وللسكنى أيضا من الأغصان والشجر المورق والقصب ونحوه، وهذا كله هشيم يتفتت إما في أول الصنعة، وإما عند بلى الحظيرة وتساقط أجزائها. وحكى الطبري عن ابن عباس وقتادة أن «المحتظر» معناه: المحترق. قال قتادة: كهشيم محرق. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء: «المحتظر» بفتح الظاء، ومعناه: الموضع الذي احتظر، فهو مفعل من الحظر، أو الشيء الذي احتظر به. وقد روي عن سعيد بن جبير أنه فسر: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ بأن قال: هو التراب الذي سقط من الحائط البالي، وهذا متوجه، لأن الحائط حظيرة، والساقط هشيم. وقال أيضا هو وغيره: الْمُحْتَظِرِ، معناه: المحرق بالنار،
218
كأنه ما في الموضع المحتظر بالنار، وما ذكرناه عن ابن عباس وقتادة هو على قراءة كسر الظاء، وفي هذا التأويل بعض البعد. وقال قوم: «المحتظر» بالفتح الهشيم نفسه وهو مفتعل، وهو كمسجد الجامع وشبهه.
وقد تقدم قصص قوم لوط. والحاصب: السحاب الرامي بالبرد وغيره، وشبه تلك الحجارة التي رمى بها قوم لوط به بالكثرة والتوالي، وهو مأخوذ من الحصباء، كان السحاب يحصب مقصده، ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
مستقبلين شمال الشام تحصبهم بحاصب كنديف القطن منثور
وقال ابن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل المدينة: مصروف، لأنه نكرة لم يرد به يوم بعينه. وقوله: نِعْمَةً نصب على المصدر، أي فعلنا ذلك إنعاما على القوم الذين نجيناهم، وهذا هو جزاؤنا لمن شكر نعمنا وآمن وأطاع.
قوله عز وجل:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٣٦ الى ٤٤]
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤)
المعنى: ولقد أنذر لوط قومه أخذنا إياهم، و: بَطْشَتَنا بهم، أي عذابنا لهم. و: «تماروا» معناه: تشككوا وأهدى بعضهم الشك إلى بعض بتعاطيهم الشبه والضلال. و: «النذر» جمع نذير. وهو المصدر، ويحتمل أن يراد بِالنُّذُرِ هنا وفي قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [القمر: ٣٣] جمع نذير، الذي هو اسم الفاعل والضيف: يقع للواحد والجميع، وقد تقدم ذكر أضيافه وقصصهم مستوعبا.
وقوله: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ قال قتادة: هي حقيقة، جر جبريل شيئا من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم. قال أبو عبيدة: مطموسة بجلد كالوجه. وقال ابن عباس والضحاك: هي استعارة وإنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا، فجعل ذلك كالطمس.
وقوله تعالى: بُكْرَةً قيل: كان ذلك عند طلوع الفجر، وأدغم ابن محيصن الدال في الصاد من قوله: وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ والجمهور على غير الإدغام. بُكْرَةً نكرة، فلذلك صرفت. وقوله: فَذُوقُوا عَذابِي يحتمل أن يكون من قول الله تعالى لهم، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، وَنُذُرِ جمع المصدر، أي وعاقبة نذري التي كذبتم بها، وقوله: مُسْتَقِرٌّ في صفة العذاب، لأنه لم يكشف عنهم كاشف، بل اتصل ذلك بموتهم، وهم مدة موتهم تحت الأرض معذبون بانتظار جهنم، ثم يتصل ذلك بعذاب النار، فهو أمر متصل مستقر، وكرر فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ تأكيدا وتوبيخا، وروى ورش عن نافع: «نذري» بياء.
وآلَ فِرْعَوْنَ: قومه وأتباعه ومنه قول الشاعر [أراكة الثقفي] :[الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي وعباس وآل أبي بكر
يريد: المسلمين في مواراة النبي عليه السلام، ويحتمل أن يريد ب آلَ فِرْعَوْنَ: قرابته على عرف الآن، وخصصهم بالذكر، لأنهم عمدة القوم وكبراؤهم.
وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا يحتمل أن يريد آلَ فِرْعَوْنَ المذكورين. و: (أخذناهم) كذلك يريدهم بالضمير، لأن ذلك الإغراق الذي كان في البحر، كان بالعزة والقدرة، ويكون قوله: بِآياتِنا يريد بها:
التسع، ثم أكد بكلها، ويحتمل أن يكون قوله: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كلاما تاما، ثم يكون قوله:
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعود الضمير في كُلِّها على جميع من ذكر من الأمم المذكورة.
وقوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ الآية خطاب لقريش، وفهم على جهة التوبيخ. أثم خصلة من المال أو قوة أبدان وبسطة أو عقول أو غير ذلك ممنا يقتضي أنكم خير من هؤلاء المعذبين لما كذبوا، فيرجى لكم بذلك الفضل النجاء من العذاب حين كذبتم رسولكم؟ أَمْ لَكُمْ في كتب الله المنزلة بَراءَةٌ من العذاب؟ قاله الضحاك وابن زيد وعكرمة، ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: أَمْ يَقُولُونَ نحن واثقون بجماعتنا منتصرون بقوتنا على جهة الإعجاب والتعاطي؟ سيهزمون، فلا ينفع جمعهم. وقرأ أبو حيوة «أم تقولون» بالتاء من فوق.
قوله عز وجل:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٥ الى ٥٥]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
هذه عدة من الله تعالى لرسوله أن جمع قريش سيهزم نصرة له، والجمهور على أن الآية مكية، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنت أقول في نفسي أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ﷺ يثبت في الدرع ويقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
قال القاضي أبو محمد: فإنما كان رسول الله ﷺ في بدر مستشهدا بالآية. وقال قوم: إن الآية نزلت يوم بدر.
وقال أبو حاتم: وقرأ بعض القراء: «سيهزم» بفتح الياء وكسر الزاي «الجمع» نصبا، قال أبو عمرو الداني قرأ أبو حيوة: «سنهزم» بالنون وكسر الزاي «الجمع» نصبا. «وتولون» بالتاء من فوق، ثم تركت هذه
220
الأقوال، وأضرب عنها تهمما بأمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتل فقال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ. و: أَدْهى أفعل من الداهية: وهي الرزية العظمى تنزل بالمرء. وَأَمَرُّ من المرارة، واللفظة ليست هنا مستعارة، لأنها ليست فيما يذاق.
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أنهم في الدنيا في حيرة وإتلاف وفقد هدى وفي الآخرة في احتراق وتسعر من حيث هم صائرون إليه، قال ابن عباس المعنى: في خسران وجنون، والسعر الجنون. وأكثر المفسرين على أن الْمُجْرِمِينَ هنا يراد بهم الكفار. وقال قوم المراد ب الْمُجْرِمِينَ: القدرية الذين يقولون إن أفعال العباد ليست بقدر من الله، وهم المتوعدون بالسحب في جهنم، والسحب: الجر. وفي قراءة ابن مسعود: «إلى النار».
وقوله تعالى: ذُوقُوا مَسَّ استعارات، والمعنى: يقال لهم على جهة التوبيخ.
واختلف الناس في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، فقرأ جمهور الناس: «إنا كلّ» بالنصب، والمعنى: خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، وليست خَلَقْناهُ في موضع الصفة لشيء، بل هو فعل دال على الفعل المضمر، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات. وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح: «إنا كلّ» بالرفع على الابتداء، والخبر: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
قال أبو حاتم: هذا هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع جماعة، وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع، والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق، و: خَلَقْناهُ على هذا ليست صفة لشيء، وهذا مذهب أهل السنة، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين، وقالت القدرية وهم الذين يقولون: لا قدر، والمرء فاعل وحده أفعاله. القراءة «إنا كلّ شيء خلقناه» برفع «كلّ» :
وخَلَقْناهُ في موضع الصفة ب «كلّ»، أي أن أمرنا وشأننا كلّ شيء خلقناه فهو بقدر وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية.
وقال ابن عباس: إني أجد في كتاب الله قوما يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، ويقولون: المرء يخلق أفعاله، وإني لا أراهم، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي؟.
وقال أبو هريرة: خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية، قال أبو عبد الرحمن السلمي: فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه؟ أم في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى»، وقال أنس بن مالك:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا، ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني».
وقوله: إِلَّا واحِدَةٌ، أي: إلا قولة واحدة وهي: كن. وقوله: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تفهيم للناس بأعجل ما يحسون وفي أشياء أمر الله تعالى أوحى من لمح البصر. والأشياع: الفرق المتشابهة في مذهب ودين، ونحوه الأول شيعة للآخر، الآخر شيعة للأول.
221
ثم أخبر تعالى أن كل أفعال الأمم المهلكة مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد. و: مُسْتَطَرٌ مفتعل من السطر، تقول سطرت واستطرت بمعنى، وروي عن عاصم شد الراء في «مستطرّ»، قال أبو عمرو: وهذا لا يكون إلا عند الوقف لغة معروفة.
وقرأ جمهور الناس: «ونهر» بفتح الهاء والنون، على أنه اسم الجنس، يريد به الأنهار، أو على أنه بمعنى: وسعة في الأرزاق والمنازل، ومنه قول قيس بن الخطيم: [الطويل]
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
فقوله: «أنهرت» معناه: جعلت فتقها كنهر. وقرأ زهير الفرقبي والأعمش: «ونهر» بضم النون والهاء، على أنه جمع نهار، إذ لا ليل في الجنة، وهذا سائغ في اللفظ قلق في المعنى، ويحتمل أن يكون جمع نهر. وقرأ مجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان: «نهر» ساكنة الهاء على الإفراد.
وقوله تعالى: مَقْعَدِ صِدْقٍ يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أن يكون من قولك: عود صدق، أي جيد، ورجل صدق، أي خبر وخلال حسان.
وقرأ جمهور الناس: «في مقعد» على اسم الجنس. وقرأ عثمان البتي: «في مقاعد» على الجمع.
والمليك المقتدر: الله تعالى.
222
Icon