تفسير سورة الدّخان

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ وَٱلْكِتَابِ ﴾ الواو للقسم، و ﴿ ٱلْكِتَابِ ﴾ مقسم به، وجواب القسم هو قوله: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ ﴾ إلخ: وأما قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ فهو تعليل للجواب، وهو أحسن من جعل الجواب قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ وقوله: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ ﴾ جملة معترضة بين القسم وجوابه. قوله: (القرآن) هذا أحد أقوال في تفسير الكتاب وهو أقواها، وعليه فقد أقسم بالقرآن أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة، وهذا من أبلغ الكلام الدال على غاية تعظيم القرآن، كما تقول للعظيم: أتشفع بك لك، وفي الحديث:" أعوذ برضاك من سخطك، ويعفوك من عقوبتك، وبك منك "وقيل المراد به في اللوح المحفوظ.
قوله: ﴿ مِّنْ عِنْدِنَآ ﴾ صفة لأمراً. قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ جملة مستأنفة قصد بها بيان حكمة الإنزال في ليلة مباركة وكونه آمراً. قوله: ﴿ رَحْمَةً ﴾ مفعول لأجله، والعامل فيه: إما ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ وإما ﴿ أَمْراً ﴾ وإما ﴿ مُنذِرِينَ ﴾ وإما ﴿ يُفْرَقُ ﴾ وإما ﴿ مُرْسِلِينَ ﴾ وهو الأقرب، ويصح أن يكون منصوباً بفعل محذوف، أي رحمناهم رحمة، ويصح أن يكون حالاً من ضمير ﴿ مُرْسِلِينَ ﴾ أي ذوي رحمة، ويصح أن يكون بدلاً من ﴿ أَمْراً ﴾.
قوله: ﴿ مِّن رَّبِّكَ ﴾ متعلق برحمة، وفيه التفات من التكلم للغيبة، لمزيد من الإرهاب والترغيب، فالإرهاب للكفار، والترغيب للمؤمنين. قوله: ﴿ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ تعليل لما قبله، وإن حرف توكيد ونصب، والهاء اسمها، وهو ضمير فصل، و ﴿ ٱلسَّمِيعُ ﴾ خبر أول، و ﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ خبر ثان، وقوله: ﴿ رَبِّ ﴾ خبر ثالث كما قال المفسر، ففيه إشارة لهذا الإعراب. قوله: (فأيقنوا) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف، والجملة الشرطية معترضة بين الأخبار، فإن قوله: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ خبر رابع. قوله: ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ﴾ بالرفع في قراءة العامة، على أنه بدل أو بيان أو نعت لرب السماوات والأرض فيمن رفعه، وقرئ شذوذاً بالجر والنصب، فالأول على أنه نعت لرب السماوات وفي قراءة من جره؛ والثاني على المدح. قوله: ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ﴾ إضراب على محذوف، والمعنى: فليسوا موقنين ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ﴾ وقوله: ﴿ يَلْعَبُونَ ﴾ حال، أي حال كونهم يلعبون بظواهرهم، من الأقوال والأفعالـ والمراد بلعبهم انهماكهم في الفاني واعراضهم عن الباقي، قال تعالى﴿ إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ ﴾[محمد: ٣٦].
قوله: (فقال اللهم أعني عليهم بسبع) أي سنين، هذا مفرغ على محذوف، أشار له المفسر بقوله: (استهزاء) أي فلما استهزؤوا به وكثر عنادهم، دعا علهيم بقوله: (اللهم أعني عليهم) أي على هداهم، وفي الحقيقة هو دعاء لهم، لأن من شأن النفوس، أنها إذا شبعت وكثر عليها الخير، تكبرت وطغت وبغت، فإذا جاعت واشتد بها الألم، ذلت وصغرت ورجعت للحق، لما ورد: أن الله تعالى لما خلق النفس قال لها: من أنا؟ قالت له: أنت أنت، وأنا أنا، فألقاها في بحر الجوع، فذلت وقالت أنت الله لا إله غيرك، ومن هنا كانت تربية العارفين نفوسهم بالجوع. قوله: (قال تعالى) أي إجابة لدعوته، واختلف هل حصل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، أو بعد هجرته إلى المدينة، وهو الراجح. قوله: ﴿ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ ﴾ مفعول به، وعامله ﴿ فَٱرْتَقِبْ ﴾.
قوله: ﴿ بِدُخَانٍ ﴾ الدخان بوزن غراب وجبل ورمان الغبار، والجمع أدخنه ودواخن ودواخين، والتلاوة بوزن غراب. قوله: (فأجدبت الأرض) أشار بذلك إلى أن حصول مطلوبه فيهم بالفعل. قوله: (كهيئة الدخان) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد حقيقة الدخان، بل رأوا شيئاً يشبهه من ضعف أبصارهم، وهو قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد وابن مسعود، فلما اشتد الأمر عليهم، جاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا لهم بالمطر فنزل واستمر عليهم سبعة أيام، حتى تضرروا من كثرته، فجاء أبو سفيان وطلب منه أن يدعو برفعه، فدعا فارتفع، وقال ابن عمر وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن: إنه دخان حقيقة، يظهر في العالم في آخر الزمان، يكون علامة على قرب الساعة، يملأ ما بين المشرق والمغرب، وما بين السماء والأرض، يمكث أربعين يوماً وليلة، وأما المؤمن فيصيبه كالزكام، وأما الكافر فيصير كالسكران، فيملأ جوفه ويخرج من منخريه وأذنيه ودبره، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه للنار.
قوله: ﴿ يَغْشَى ٱلنَّاسَ ﴾ صفة ثانية للدخان، والمراد بهم قريش وأمثالهم على ما قاله المفسر، وعلى القول الآخر يكون المراد بالناس جميع الموجودين في ذلك الوقت من المؤمنين والكفار. قوله: ﴿ إِنَّا مْؤْمِنُون ﴾ هذا وعد منهم بالإيمان وقد أخلفوه، وليس المراد أنهم آمنوا حقيقة ثم ارتدوا. قوله: (أي لا ينفعهم الإيمان) إلخ، الأوضح أن يقول: أي لا يوفون بما وعدوا من الإيمان عند كشف العذاب عنهم، فهو استبعاد لإيمانهم. قوله: ﴿ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ ﴾ أي قالوا في حق النبي عليه السلام تارة إنه يعلمه غلام أعجمي، وقالوا تارة إنه مجنون، وتقدم في سورة النحل في قوله:﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾[النحل: ١٠٣] أن رجلاً اسمه جبر، وهو غلام عامر بن الحضرمي، ورجلاً اسمه يسار، كانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان النبي عليه السلام يدخل عليهما ويسمع ما يقرآنه، فقال الكفار﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾[النحل: ١٠٣] فرد الله تعالى عليهم بقوله:﴿ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ﴾[النحل: ١٠٣] الآية. قوله: ﴿ إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ ﴾ جواب عن قوله: ﴿ رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ ﴾.
قوله: ﴿ قَلِيلاً ﴾ قيل إلى يوم بدر، وقيل إلى ما بقي من أعمارهم. قوله: (فعادوا إليه) أي استمروا عليه، لأنه لم يوجد منهم إيمان بالفعل، قوله: (اذكر) ﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ يَوْمَ ﴾ منصوب بمحذوف، ويصح أن يكون بدلاً من ﴿ يَوْمَ تَأْتِي ﴾، قوله: (بلونا) أي امتحنا. والمعنى: فعانا بهم فعل الممتحن، بإقبال النعم عليهم منا، ومقابلتهم لها بالكفر والطغيان. قوله: ﴿ قَبْلَهُمْ ﴾ أي قبل قريش. قوله: (معه) أشار بذلك دفعاً لما يتوهم من ظاهر الآية؛ أن الابتلاء لخصوص قوم فرعون، فأجاب: بأن المراد هو وقومه.
قوله: ﴿ وَجَآءَهُمْ ﴾ هو من جملة الممتحن به. قوله: ﴿ كَرِيمٌ ﴾ (على الله) أي عزيز عليه، حيث اختصه بالرسالة والكلام، وهذا رد لقول فرعون﴿ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ ﴾[الزخرف: ٥٢] كأنه قال: حاشا موسى من المهانة، بل هو كريم عزيز على ربه. قوله: (أي بأن) أشار بذلك إلى أن ﴿ أَنْ ﴾ مصدرية، ويصح أن تكن مفسرة، وأن تكن مخففة من الثقيلة. قوله: ﴿ عِبَادَ ٱللَّهِ ﴾ مشى المفسر على أن مفعول ﴿ أَدُّوۤاْ ﴾ محذوف، و ﴿ عِبَادَ ٱللَّهِ ﴾ منادى، وعليه فالمراد بعباد الله فرعون وقومه، وقيل: إن ﴿ عِبَادَ ٱللَّهِ ﴾ مفعول لأدوا، والمراد بهم بنو إسرائيل: ومعنى تأدية إياهم اطلاقهم من الأسر، يشير إلى هذا قوله تعالى في سورة الشعراء﴿ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾[الشعراء: ١٧] وعلى كلا القولين فالخطاب في ﴿ أَدُّوۤاْ ﴾ لفرعون وقومه. قوله: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ تعليل للأمر، وقوله: (على ما أرسلت به) متعلق بأمين. والمعنى: مأمون على ما أرسلني الله به، فلا أزيد ولا أنقص، وذكر الأمانة بعد الرسالة، وإن كانت تستلزمها، اشارة إلى أنها وصف شريف ينبغي الاعتنا به. قوله: ﴿ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ عطف على قوله: ﴿ أَنْ أَدُّوۤاْ ﴾.
قوله: (تتجبروا) ﴿ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ فسر العلو بالتجبر، وفسره غيره بالتكبر والبغي والافتراء والتعاظم والاستكبار، وكلها معان متقاربة، قوله: ﴿ إِنِّيۤ آتِيكُمْ ﴾ تعليل للنهي. قوله: (فتوعدوه بالرجم) ظاهره أنه حين قال ﴿ إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ توعدوه بالرجم ولم يتمهلوا، مع أنه تقدم أن فرعون قال له:﴿ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾[الأعراف: ١٠٦] ومكث بينهم مدة عظيمة، وهو يأتيهم بالمعجزات الباهرة ثم لما توعدوه دعا عليهم، وحينئذ فيكون بين ما هنا وبين ما تقدم تناف، فالجواب: أن القصة ذكرت هنا مجملة، وما تقدم ذكرت مبسوطة، وذكر الشيء مفصلاً ثم مجملاً أثبت في النفس. قوله: ﴿ أَن تَرْجُمُونِ ﴾ الباء فيه وفي قوله: ﴿ فَٱعْتَزِلُونِ ﴾ من ياءات الزوائد لا يثبت في الرسم، وأما في اللفظ فيجوز إثباتها وحذفها حالة الوصل فقط، وأما في الوقت فيتعين حذفها. قوله: ﴿ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي ﴾ اللام بمعنى الباء، ويصح أن تكون لام العلة. والمعنى: إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، إلخ. قوله: (فاتركوا أذاي) أي لا تتعرضوا لي بسوء. قوله: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ ﴾ عطف على مقدر قدره بقوله: (فلم يتركوه) وقوله: ﴿ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ ﴾ إلخ، تعريض بالدعاء كأنه قال: فافعل ما يليق بهم، و ﴿ أَن ﴾ بفتح الهمزة في قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بكسرها على إضمار القول. قوله: (بقطع الهمزة ووصلها) أي فهما قراءتان سبعيتان ولغتان جيدتان: الأولى من أسرى، والثانية من سرى، قال تعالى:﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ﴾[الإسراء: ١] وقال تعالى:﴿ وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ ﴾[الفجر: ٤] والإسراء السير ليلاً، والإسراء السير ليلاً، وحينئذ فذكر الليل تأكيد بغير اللفظ. قوله: (إذا قطعته أنت وأصحابك) هذا تعليم لموسى بما يفعله في سيره قبل أن يسير، والمعنى: إذا سرت بهم، وتبعك كالعدو، ووصلت إلى البحر، وأمرناك بضربه، ودخلتم فيه ونجوتم منه، فاتركه بحاله ولا تضربه بعصاك فليلتئم، بل أبقه على حاله ليدخله فرعون وقومه فينطبق عليهم.
قوله: ﴿ رَهْواً ﴾ حال من البحر، وهو في الأصل مصدر رها يرهو رهواً، وإما بمعنى سكن، وإما بمعنى انفرج، والمفسر جمع بينهما. قوله: (فاطمأن بذلك) أي بقوله: ﴿ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴾ والضمير في اطمأن عائد على موسى. قوله: ﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ ﴾ ﴿ كَمْ ﴾ مفعول لتركوا، والمعنى: تركوا أموراً كثيرة بينها بقوله: ﴿ مِن جَنَّاتٍ ﴾ إلخ. قوله: (مجلس حسن) أي محافل مزينة ومنازل حسنة، كما هو مشاهد في منازل الملوك الآن. قوله: (متعة) أي أمور يتمتعون بها وينتفعون بها، كالملابس والمراكب. قوله: ﴿ فَاكِهِينَ ﴾ العامة بالألف، وقرئ شذوذاً بغير ألف، معنى الأولى (ناعمين) كما قال المفسر أي متنغمين، ومعنى الثانية مستخفين ومستهزئين بنعمة الله. قوله: (خبر مبتدأ) أي والوقف على كذلك، والجملة معترضة لتوكيد ما قبلها. قوله: (أي الأمر) أي وهو هلاك فرعون وقومه. قوله: ﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا ﴾ معطوف على ﴿ كَمْ تَرَكُواْ ﴾ والمعنى: تركوا أموراً كثيراً، وأورثنا تلك الأمور بني إسرائيل. قوله: (أي بني إسرائيل) فقد رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون إن قلت: كيف قال تعالى: ﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾ مع أنه تقدم أن أموالهم طمست ومسخت حجارة؟ قلت: لعل الجواب أنها بعد غرقهم، أعيدت كما كانت، اكراماً لبني إسرائيل، فحين رجعوا وجدوها كما كانت قبل الطمس.
قوله: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ ﴾ اختلف في البكاء، فقيل حقيقة وعليه فقيل هو واقع من ذات السماوات والأرض، ويؤيد ما ورد: ما من مؤمن ألا وله في السماء بابان: باب ينزل منه رزقه، وباب يدخل منه كلامه وعمله، فإذا مات فقدان فيبكيان عليه، وتلا ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ ﴾ ويؤيده أيضاً قول مجاهد: إن السماء والأرض ليبكيان على المؤمن أربعين صباحاً، قال أبو يحيى: فعجبت من قوله: فقال: أتعجب! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبده كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدويّ النحل؟ وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أهل السماوات والأرض، وقيل: إن بكاهما حمرة أطرافهما، ويؤيده قول السدي لما قتل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما: بكت عليه السماء، وبكاها حمرتها، وقول محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنه، وقال سليمان القاضي: مطرنا دماً يوم قتل الحسين، وقيل: إن البكاء كناية عن عدم الاكتراث وعدم المبالاة بهم. قوله: ﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ هذا من جملة تعداد النعم على بني إسرائيل، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم وتبشيره بأنه سينجيه وقومه المؤمنين من أيدي المشركين، فإنهم لم يبلغوا ي التجبر مثل فرعون وقومه. قوله: (وقيل حال من العذاب) أي متعلق بمحذوف، والمعنى واقعاً من جهة فرعون. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾ خبر ثان لكان، والمعنى من المتجاوزين الحد. قوله: ﴿ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾ ﴿ عَلَىٰ ﴾ بمعنى مع، وقوله: ﴿ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ ﴿ عَلَى ﴾ على بابه للاستعلاء، فاختلف معناهما، وحينئذ فجاز تعلقهما بعامل واحد وهو اخترنا. قوله: (بحالهم) أي بكونهم أهلاً للاصطفاء، لكون أكثر الأنبياء منهم. قوله: (أي عالمي زمانهم) دفع بذلك ما يقال: إن ظاهر الآية، يدل على كون بني إسرائيل، أفضل من كل العالمين، مع أن محمد أفضل منهم، فدفع ذلك بأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم، فلا ينافي في أمة محمد أفضل منهم. قوله: (العقلاء) المناسب أن يقول الثقلين، فإن من جملة العقلاء الملائكة، وبنو إسرائيل ليسوا أفضل منهم. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلآيَاتِ ﴾ بيان مقدم على المبين. قوله: (نعمة ظاهرة) هذا تفسير للبلاء، فإن البلاء معناه الاختبار، وهو يكون بالمحن وبالنعم، هل يصبر أو لا؟ وهل يشكر أو لا؟ قوله: (أي كفار مكة) إنما أشار إليهم بإشارة القريب، تحقيراً لهم وازدراء بهم. قوله: ﴿ لَيَقُولُونَ ﴾ أي جواباً لما قيل لهم: إنكم تموتون موته تعقبها حياة، دل عليه قوله تعالى:﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[البقرة: ٢٨] كأنهم قالوا: مسلم أن لنا موتة تعقبها حياة، لكن المراد بها الأولى، وهي حالة النطفة، لا الثانية التي ينقضي بها العمر، فإنها لا تعقبها حياة. قوله: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ هذه الآية نظير قوله تعالى:﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾[الأنعام: ٢٩].
قوله: ﴿ فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا ﴾ أي أحيوهم لنا ليخبرونا بصدقكم.
قوله: ﴿ أَهُمْ خَيْرٌ ﴾ أي أمور الدنيا. قوله: ﴿ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ﴾ هو تبع الحميري أبو كرب واسمه أسعد، وإليه تنسب الأنصار، بني الحيرة بكسر الحاء بعدها مثناة تحتية فراء مهملة، مدينة بالقرب من الكوفة، وبني سمرقند، وأراد غزو البيت وتخريب المدينة، فأخبر بأنها مهاجر نبي اسمه أحمد، فكف عنهما، وكسا البيت بالحبرة، وكتب كتاباً وأودعه عند أهل المدينة، وكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر، إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فدفعوه إليه، يقال: إن الكتاب عند أبي أيوب خالد بن زيد وفيه: شهدت على أحمد أنه   رسول الله بارئ النسمفلو مد عمري إلى عمره   لكنت وزيراً له وابن عمأما بعد: فإني آمنت بك وبكتابك الذي ينزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمتت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شراع الإسلام، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي، ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين، وبايعتك قبل مجيئك، وأما على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب ونقش عليه: لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب على عنوانه: إلى محمد بن عبد الله، نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، من تبع الأول. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع، إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة، لا يزيد ولا ينقص. قوله: (هو بني أو رجل صالح) أو لحكاية الخلاف، فالقول الأول لابن عباس، والثاني لعاشة رضي الله عنهما، وكان ملكاً من الملوك، وكان قومه كهاناً، وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قرباناً ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ عطف على ﴿ قَوْمُ تُبَّعٍ ﴾ وقوله: ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ حال من المعطوف والمعطوف عليه. قوله: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ إلخ، هذا دليل على صحة الحشر ووقوعه، وذلك أن الله تعالى خلق النوع الإنساني، وخلق له ما في الأرض جميعاً، وكلفه بالإيمان والطاعة، فآمن البعض وكفر البعض، وختم الله في اسبق أزله، أن النعيم للمؤمن، والعقاب للكافر، وذلك لا يكون في الدنيا لعدم الاعتداء بها، فحينئذ لا بد من البعث، لتجزى كل نفس بما كسبت. قوله: ﴿ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ أي بين الجنسين. قوله: (حال) أي وهي لا يستغنى عنها. قوله: (أي محقين في ذلك) أي لنا فيه حكمة، وقد بينها المفسر بقوله: (ليستدل به) إلخ. قوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي ليس عندهم علم بالكلية. قوله: ﴿ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ ﴾ الإضافة على معنى اللام. قوله: ﴿ مِيقَاتُهُمْ ﴾ أي موعدهم، والمراد جميع الخلق. قوله: (للعذاب الدائم) أي للكفار والنعيك الدائم للمؤمنين. قوله: ﴿ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى ﴾ المولى يطلق على المعتق بالكسر والفتح، وابن العم والناصر والجار والحليف. قوله: (بقابة) أي بسببها. قوله: ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ الضمير للمولى، وجمع باعتبار المعنى، وهذه الجملة توكيد لما قبلها، والمعنى: لا ينصر الكافر، ولو كان بينهما علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما.
قوله: ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ ﴾ يصح أن يكون الاستثناء متصلاً، والمعنى: لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون لبعضهم، وهو ما مشى عليه المفسر، ويصح أن يكون منقطعاً، أي ولك من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من ينفعهم من المخلوقين. قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ الخ تعليل لما قبله. قوله: ﴿ إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ ﴾ ترسم شجرت بالتاء المجرورة في هذا الموضع دون غيره من القرآن، ويوقف عليه بالهاء والتاء؛ وأما غير هذا الموضع، فيرسم بالهاء، ويوقف عليه بالهاء لا غير، والزقوم يطلق على نبات بالبادية، له زهر ياسميني الشكل، طعام أهل النار، ويطلق على شجر له ثمر كالتمر، وله دهن عظيم المنافع، عجيب الفعل في تحليل الرياح الباردة، وأمراض البلغم، وأوجاع المفاصل وعرق النساء، والريح الساقطة في الورق، يشرب زنة سبعة دراهم ثلاثة أيام، وربما أقام الزمنى والمقعدين، ويقال أصله الأهليلج الكابلي. قوله: (أي كدردري الزيت الأسود) هذا أحد معاني المهل، ويطلق على القيح والصديد والنحاس المذاب. قوله: (وبالتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (حال من المهل) الأظهر أنه حال من طعام، لأن المراد وصف الطعام المشبه بالمهل الغليان، لا وصف المهل لأنه لا يتصف بذلك. قوله: ﴿ كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ ﴾ صفة لمصدر محذوف، أي تغلى غلياً مثل غلي الحميم. قوله: (بكسر التاء وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان، من باب ضرب ونصر. قوله: (جروه بغلظة) أي أو اضربوه بالعتلة، وهي بفتحتين، العصا الضخمة من الحديد لها رأس. قوله: ﴿ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ ﴾ أي ليكون محيطاً بجميع جسده. قوله: (من الحميم الذي) إلخ، أي فإذا صب عليه الحميم، فقد صب عليه عذابه وشدته. قوله: (ويقال له) ﴿ ذُقْ ﴾ الأمر للإهانة والتحقير. قوله: ﴿ إِنَّكَ ﴾ بفتح الهمزة على معنى التعليل، وكسرها على الاستئناف المفيد للعلة، قراءتان سبعيتان، ووصفه بهين الوصفين للتهكم والاستهزاء. قوله: (وقولك) تفسير بقوله: (بزعمك) وقوله: (ما بين جبليها) أي مكة. قوله: ﴿ مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ﴾ الجمع باعتبار المعنى، لأن المراد جنس الأثيم. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾ مقابل: ﴿ إِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلأَثِيمِ ﴾ لأنه جرت عادة الله تعالى في كتابه، أنه إذا ذكر أحوال أهل النار، أتبعه بذكر أحوال أهل الجنة، وقوله: ﴿ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ أي الشرك بأن ماتوا على التوحيد، وهذا أعم من أن يكونوا في أعلى مراتب التقوى، وهي تقوى الأغيار، بأن لا يخطر الغي ببالهم، أو أوسطها وهي تقوى المعاصي بفعل الطاعات، أو أدناها وهي تقوى مجرد الشرك بالإيمان. قوله: ﴿ فِي مَقَامٍ ﴾ بفتح الميم وضمها، قراءتان سبعيتان، فالفتح هو موضع القيام ومكانه، والضم موضع الإقامة والمكث. قوله: (يؤمن فيه الخوف) أي من الخلق والخالق، والمعنى: تطمئن فيه النفس لا تنزعج من شي أصلاً، فأهل الجنة آمنون من غضب الله، ومن جميع ما يؤذي في البدن والأهل والمال، وآمنون من خطور الأكدار ببالهم. قوله: ﴿ فِي جَنَّاتٍ ﴾ إلخ، بدل من مقام، وتقديمه عليه من باب تقديم التخلية على التحلية، لأن الأمن من المخاوف تحلية، وكونهم ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ إلخ تخلية. قوله: ﴿ وَعُيُونٍ ﴾ أي أنهار تجري تحت القصور.
قوله: ﴿ يَلْبَسُونَ ﴾ خبر آخر لأن أو مستأنف. قوله: (أي ما رق من الديباج) إلخ لف ونشر مرتب، والديباج هو الحرير، إن قلت: كيف يكون لبس الغليظ من الحرير نعيماً من الجنة، مع أنه في الدنيا ربما كان غير نعيم؟ أجيب: بأن غليظ حرير الجنة، ليس كغليظ حرير الدنيا، بل هو أعلى، على أن من غليظ حرير الدنيا ما يؤلف وينعم به كالقطيفة مثلاً. قوله: ﴿ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ أي يواجه بعضهم بعضاً ليحصل الانس لبعضهم بعضاً، وهذا في غير وقت النظر إلى وجه الله الكريم، وأما عنده فينسون النعيم، بل ومقابلة اخوانهم، لكونه أعلى نعيم الجنة رتبة، ومن هنا قيل: إن حكمة المقابلة في حلق العلم والذكر في الدنيا، التشبه بمجالس الجنة والإنس بمقابلة الإخوان، وحكمة الاصطفاف وبالصلاة وعدم المقابلة فيها، التشبه بالنظر لوجه الله الكريم في الجنة، لأن في الصلاة إقبالاً بالكلية على الله تعالى، وقطعاص للشواغل. قوله: (أي لا ينظر بعضم إلى قفا بعض) أي لأن النظر للقفا مما يحزن، ولا حزن في الجنة. قوله: (يقدر قبله الأمر) أي فهو مبتدأ، وقوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبره، والجملة معترضة لتقدير ما قبلها. قوله: ﴿ وَزَوَّجْنَاهُم ﴾ عطف على قوله: ﴿ يَلْبَسُونَ ﴾.
قوله: (من التزويج) أي وهو جعل الشيء زوجاً، والمعنى جعلناهم اثنين اثنين، فقوله: (أو قرناهم) مرادف له، وليس المراد بالتزويج الانكاح بالعقد، فإنه لا قابل به. قوله: ﴿ عِينٍ ﴾ جمع عيناء، وأصله عين بضم العين وسكون الياء، فكسرت العين لتصح الياء. قوله: (بنساء بيض) تفسير للحور، وقوله: (واسعات الأعين) تفسير لعين، وها على أن المراد بالحور البياض مطلقاً، وقيل: الحور شدة بياض العين وشدة سوادها، واختلف هل الأفضل في الجنة نساء الدنيا، أو الحور العين؟ والحق أن نساء الدنيا أفضل، لما روي: أن الآدميات أفضل من الحور بسبعين ضعف. قوله: ﴿ يَدْعُونَ ﴾ حال من الهاء في ﴿ زَوَّجْنَاهُم ﴾.
قوله: ﴿ لاَ يَذُوقُونَ ﴾ حال من الضمير في ﴿ آمِنِينَ ﴾.
قوله: (قال بعضهم) هو الطبري، وبهذا اندفع ما قيل: كيف قال صفة أهل الجنة ذلك، مع أنهم لم يذوقوه فيها أصلاً؟ وهذا القول وإن كان يدفع الإشكال، إلا أن مجيء ﴿ إِلاَّ ﴾ بمعنى بعد لم يرد، وبعضهم يجعل الاستثناء منقطعاً، والمعنى: لكن الموتة الأولى قد ذاقوها. قوله: (منصوب بتفضل) أي على أنه مفعول مطلق. قوله: ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي لأنه خلوص من المكاره وظفر بالمطلوب. قوله: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ﴾ هذا إجمال لما فصل في السورة كأنه قال: ذكر قومك بهذا الكتاب المبين، فإننا سهلنا عليك تلاوته وتبليغه إليهم. قوله: (لكنهم لا يؤمنون) دخول على قوله: ﴿ فَٱرْتَقِبْ ﴾ قوله: ﴿ فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ﴾ أشار المفسر إلى أن مفعول (كل) محذوف قدر الأول بقوله: (هلاكهم) والثاني بقوله: (هلاكك). قوله: (وهذا قبل الأمر بالجهاد) أي فهو منسوخ، لأن معنى ارتقب أمهلهم من غير قتال، حتى يحكم الله بينك وبينهم.
Icon