هذه السورة مكية، قيل : إلا قوله :﴿ إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون ﴾.
ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها :﴿ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ فذكر يوماً غير معين، ولا موصوفاً.
فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم، بوصف وصفه فقال :﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ﴾، وأن العذاب يأتيهم من قبلك، ويحل بهم من الجدب والقحط، ويكون العذاب في الدنيا، وإن كان العذاب في الآخرة، فيكون يومهم الذي يوعدون يوم القيامة.
ﰡ
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٥٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
دِخْنَانٌ، نَحْوُ: غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ وَغِرْبَانٍ. وَشَذُّوا فِي جَمْعِهِ عَلَى فَوَاعِلَ فَقَالُوا: دَوَاخِنُ، كَأَنَّهُ جَمْعُ دَاخِنَةَ تَقْدِيرًا، كَمَا شَذُّوا فِي عُثَانٍ قَالُوا: عَوَاثِنُ. رَهَا الْبَحْرُ، يَرْهُو رَهْوًا: سَكَنَ. يُقَالُ جَاءَتِ الْخَيْلُ رَهْوًا: أَيْ سَاكِنَةً. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْخَيْلُ تَمْزَعُ رَهْوًا فِي أَعِنَّتِهَا | كَالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشَّرْنُوبِ ذِي الْبَرَدِ |
يَمْشِينَ رَهْوًا فَلَا الْأَعْجَازُ خَاذِلَةٌ | وَلَا الصُّدُورُ عَلَى الْأَعْجَازِ تَتَّكِلُ |
حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ، فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ، رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ، فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ، كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ، فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قِيلَ: إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَاخِرِ مَا قَبْلَهَا: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ «١»، فَذَكَرَ يَوْمًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَا مَوْصُوفًا. فَبَيَّنَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، بِوَصْفٍ وَصَفَهُ فَقَالَ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، وَأَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ: أَيْ مُخَوِّفِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، مَا مَوْقِعُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ؟ قُلْتُ: هُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ مَلْفُوفَتَانِ، فُسِّرَ بِهِمَا جَوَابُ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
أَنْزَلْنَاهُ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِنَا الْإِنْذَارَ وَالتَّحْذِيرَ مِنَ الْعِقَابِ. وَكَانَ إِنْزَالُنَا إِيَّاهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خُصُوصًا، لِأَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْكَمَةِ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ مَفْرِقُ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وَالْمُبَارَكَةُ: الْكَثِيرَةُ الْخَيْرِ، لِمَا يُنْتَجُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مَنَافِعُ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَوْ لَمْ يُوجِدْ فِيهَا إِلَّا إِنْزَالَ الْقُرْآنَ وَحْدَهُ، لَكَفَى بِهِ بَرَكَةً. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ: يَفْرُقُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، كُلَّ: بِالنَّصْبِ، أَيْ يَفْرُقُ اللَّهُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، فِيمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُفْرِقُ بِالنُّونِ، كُلَّ بِالنَّصْبِ وَفِيمَا ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ: عَيْنُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَنَصْبِ كُلِّ، وَرَفْعِ حَكِيمٍ، عَلَى أنه الفاعل بيفرق.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَزَائِدَةٌ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَوْ مَعْنَى يَفْرِقُ: يَفْصِلُ من غيره ويلخص. وَوَصْفُ أَمْرٍ بِحَكِيمٍ، أَيْ أَمْرٍ ذِي حِكْمَةٍ وَقَدْ أَبْهَمَ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَفْصِلُ كُلَّ مَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنَ الْأَقْدَارِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَكْتُبُ ذَلِكَ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ.
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ: لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ، ذَكَرَ الْمُرْسَلَ، أَيْ مُرْسِلِينَ الْأَنْبِيَاءَ بِالْكُتُبِ لِلْعِبَادِ. فَالْجُمْلَةُ الْمُؤَكَّدَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ.
وَجَوَّزُوا فِي رَحْمَةً أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ رَحِمْنَا رَحْمَةً، وَأَنْ يكون مفعولا له بأنزلناه، أو ليفرق، أو لأمرا مِنْ عِنْدِنَا. وَأَنْ يَكُونَ مفعولا بمرسلين وَالرَّحْمَةُ تُوصَفُ بِالْإِرْسَالِ، كَمَا وُصِفَتْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «٢». وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّا نَفْصِلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ كُلَّ أَمْرٍ، أَوْ تَصْدُرُ الْأَوَامِرُ مِنْ عِنْدِنَا، لِأَنَّ مِنْ عَادَتِنَا أَنْ نُرْسِلَ رَحْمَتَنَا.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ: رَحْمَةٌ، بِالرَّفْعِ: أَيْ تِلْكَ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّكَ، الْتِفَاتًا مِنْ مُضْمَرٍ إِلَى ظَاهِرٍ، إِذْ لَوْ رُوعِيَ مَا قَبْلَهُ، لَكَانَ رَحْمَةً مِنَّا، لَكِنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، إِيذَانًا بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ: رَبِّ السَّماواتِ، بِالْخَفْضِ بَدَلًا مِنْ رَبِّكَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ: بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ هُوَ رَبُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ، بِرَفْعِهِمَا وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ سُلَيْمَانَ، وَصَالِحٌ النَّاقِطُ، كِلَاهُمَا عَنِ الْكِسَائِيِّ:
بِالْجَرِّ وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ: رَبَّكُمْ وَرَبَّ، بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَهُمْ يُخَالِفُونَ بَيْنَ
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٢.
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٌ الْخُدْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحَسَنُ: هُوَ دُخَانٌ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْهُ مِثْلُ الزُّكَامِ، وَيُنْضِجُ رؤوس الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، حَتَّى تَكُونَ مِصْلَقَةٌ حَنِيذَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ الدُّخَانُ الَّذِي رَأَتْهُ قُرَيْشٌ. قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ قَاصًّا عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ يَقُولُ إِنَّهُ دُخَانٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ أَنْفَاسَ النَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ.
أَلَا وَسَأُحَدِّثُكُمْ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»، فَأَصَابَهُمُ الْجَهْدُ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ، وَالْعِلْهِزُ.
وَالْعِلْهِزُ:
الصُّوفُ يَقَعُ فِيهِ الْقُرَادُ فَيُشْوَى الصُّوفُ بِدَمِ الْقُرَادِ وَيُؤْكَلُ. وَفِيهِ أَيْضًا: حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ.
وَكَانَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الدُّخَانَ، وَكَانَ يُحَدَّثُ الرَّجُلُ فَيَسْمَعُ الْكَلَامَ وَلَا يَرَى الْمُحَدِّثَ مِنَ الدُّخَانِ. فَمَشَى إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَنَفَرٌ مَعَهُ، وَنَاشَدَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، وَوَاعَدُوهُ، إِنْ دَعَا لَهُمْ وَكَشَفَ عَنْهُمْ، أَنْ يُؤْمِنُوا. فَلَمَّا كَشَفَ عَنْهُمْ، رَجَعُوا إِلَى شِرْكِهِمْ.
وَفِيهِ: فَرَحِمَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِصَدَقَةٍ وَمَالٍ. وَفِيهِ: فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ «١»
، قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ، هُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ، لَمَّا حَجَبَتِ السَّمَاءَ الْغَبَرَةُ.
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: أَوَّلُ الْآيَاتِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَالدُّخَانُ، وَنُزُولُ عيسى بن مَرْيَمَ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ وَفِيهِ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا الدُّخَانُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ؟ وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ، وَاخْتَصَرْنَاهُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، أَيْ ظَاهِرٍ.
لَا شَكَّ أَنَّهُ دُخَانٌ يَغْشَى النَّاسَ: يَشْمَلُهُمْ. فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي رَأَتْهُ قُرَيْشٌ، فَالنَّاسُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ مَضَى كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالنَّاسُ عَامٌّ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ وَقْتُ الْأَشْرَاطِ، وَعَامٌّ بِالنَّاسِ يَوْمَ القيامة. هذا عَذابٌ
إِنَّا مُؤْمِنُونَ: وَعْدٌ بِالْإِيمَانِ إِنْ كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَالْإِيمَانُ وَاجِبٌ، كُشِفَ الْعَذَابُ أَوْ لَمْ يُكْشَفْ. أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى: أَيْ كَيْفَ يَذَّكَّرُونَ وَيَتَّعِظُونَ وَيَقُولُونَ بِمَا وَعَدُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ عِنْدَ كَشْفِ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ؟ وَأُدْخِلَ فِي بَابِ الِادِّكَارِ مِنْ كَشْفِ الدُّخَانِ؟ وَهُوَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، مِنَ الْكِتَابِ الْمُعْجِزِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَلَمْ يَذَّكَّرُوا، وَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَبَهَتُوهُ بِأَنَّ عَدَّاسًا غُلَامًا أَعْجَمِيًّا لِبَعْضِ ثَقِيفٍ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: مُعَلِّمٌ، بِكَسْرِ اللَّامِ.
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا: إِخْبَارٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الْإِمْلَاءِ لَهُمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَائِدُونَ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ تَوَعُّدٌ بِمَعَادِ الْآخِرَةِ: وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ حِينَ حَلَّ بِهِمُ الْجَدْبُ، كَانَ ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ الدُّخَانُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا أَتَتِ السَّمَاءُ بِالْعَذَابِ، تَضَرَّعَ مُنَافِقُوهُمْ وَكَافِرُوهُمْ وَقَالُوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ.
فَيَكْشِفُ عَنْهُمْ، قِيلَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَحِينَ يَكْشِفُهُ عَنْهُمْ يَرْتَدُّونَ. وَيَوْمُ الْبَطْشَةِ الْكُبْرَى عَلَى هَذَا: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى «٢». وَكَوْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَكَوْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، هُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ نَبْطِشُ، قيل: بذكراهم، وقيل: بننتقم الدَّالِّ عَلَيْهِ مُنْتَقِمُونَ، وَضَعُفَ بِأَنَّهُ لَا نَصْبَ إِلَّا بالفعل، وقيل: بمنتقمون. وَرُدَّ بِأَنَّ مَا بَعْدَ أَنْ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَبْطِشُ، بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّهَا وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَطَلْحَةُ: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، بِمَعْنَى: نُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ من يبطش بهم.
والبطشة عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَيْسَ منصوبا بنبطش، بَلْ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ نَبْطِشُ ذَلِكَ الْمُسَلِّطَ الْبَطْشَةَ، أَوْ يَكُونُ الْبَطْشَةَ فِي مَعْنَى الإبطاشة، فينتصب بنبطش.
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ: هَذَا كَالْمِثَالِ لِقُرَيْشٍ، ذُكِرَتْ قِصَّةُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فكذبوه، فأهلكهم الله. وقرىء: فَتَّنَّا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، أَوِ التَّكْثِيرِ، مُتَعَلِّقَةً وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ: أَيْ كِرِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ أَوْ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا يُبْعَثُونَ مِنْ سَرَوَاتِ النَّاسِ، قَالَهُ أبو
(٢) سورة النازعات: ٧٩/ ٣٤.
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ: أَيْ لَا تَسْتَكْبِرُوا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ.
قَالَ ابن جريح: لَا تَعْظُمُوا عَلَى اللَّهِ. قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّعْظِيمَ تَطَاوُلُ الْمُقْتَدِرِ، وَالِاسْتِكْبَارَ تَرَفُّعُ الْمُحْتَقَرِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَأَنْ هُنَا كَانَ السَّابِقُ فِي أَوْجُهِهَا الثَّلَاثَةَ. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ: أَيْ بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَمُوَضِّحَةٍ صِدْقَ دَعْوَايَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنِّي، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَالْمَعْنَى:
لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنِّي آتِيكُمْ، فَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَتَغْضَبُ إِنْ قَالَ لَكَ الْحَقَّ؟ وَإِنِّي عُذْتُ: أَيِ اسْتَجَرْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ: كَانُوا قَدْ تَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، فَاسْتَعَاذَ مِنْ ذلك. وقرىء: عُدْتُ، بِالْإِدْغَامِ. قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الرَّجْمُ هُنَا بِالْحِجَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو صَالِحٍ: بِالشَّتْمِ وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ أَلْفَاظٌ لَا تُنَاسِبُ وَهَذِهِ الْمَعَاذَةُ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما «١».
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا إلي: أَيْ تُصَدِّقُوا، فَاعْتَزِلُونِ: أَيْ كُونُوا بِمَعْزَلٍ، وَهَذِهِ مُشَارَكَةٌ حَسَنَةٌ.
فَدَعا رَبَّهُ: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، أَنَّ هؤُلاءِ: لَفْظُ تَحْقِيرٍ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
أَنَّ هَؤُلَاءِ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِكَسْرِهَا. فَأَسْرِ بِعِبادِي: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ فَانْتَقِمْ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: أَسْرِ بعبادي، وهم بنوا إِسْرَائِيلَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْقِبْطِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: إِضْمَارُ الْقَوْلِ بَعْدَ الْفَاءِ، فَقَالَ: أَسْرِ بِعِبَادِي، وَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا بالشرط مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَالَ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ، فَأَسْرِ بِعِبَادِي. انْتَهَى. وَكَثِيرًا مَا يُجِيزُ هَذَا الرجل
دَمِثًا لَيِّنًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: جُدُدًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: سَهْلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مُنْفَرِدًا. قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، لَمَّا قَطَعَهُ، حَتَّى يَلْتَئِمَ وَخَافَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ، فَقِيلَ: لِمَهْ هَذَا؟ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ: أَيْ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ سَاكِنًا عَلَى حَالَتِهِ حِينَ دَخَلَ فيه موسى وبنوا إِسْرَائِيلَ، أَوْ مَفْتُوحًا طَرِيقًا يَبَسًا، دَخَلُوا فِيهِ، فَيُطْبِقُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
كَمْ تَرَكُوا: أَيْ كَثِيرًا تَرَكُوا. مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي الشُّعَرَاءِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَقامٍ، بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وابن جُبَيْرٍ: أَرَادَ الْمَقَامَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَنَافِعٌ: فِي رِوَايَةٍ خَارِجَةٍ بِضَمِّهَا. قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ الْمَوَاضِعَ الْحِسَانَ مِنَ الْمَجَالِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَغَيْرِهَا. وَنَعْمَةٍ، بِفَتْحِ النُّونِ:
نَضَارَةُ الْعَيْشِ وَلَذَاذَةُ الْحَيَاةِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: وَنَعْمَةٍ، بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى كَمْ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِأَلِفٍ، أَيْ طَيِّبِيِ الْأَنْفُسِ وَأَصْحَابِ فَاكِهَةٍ، كَلَابِنٍ، وَتَامِرٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ: بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَالْفَكِهُ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمُسْتَخِفِّ الْمُسْتَهْزِئِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخِفِّينَ بِشَكْلِ النِّعْمَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَكِهَ الرَّجُلُ، بِالْكَسْرِ، فَهُوَ فَكِهٌ إِذَا كَانَ مَزَّاحًا، وَالْفَكِهُ أَيْضًا الْأَشِرُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَاكِهِينَ: لَاهِينَ كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَيُوقَفُ عَلَى كَذَلِكَ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ يَفْعَلُ فِعْلًا كَذَلِكَ، لِمَنْ يُرِيدُ إِهْلَاكَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَذَلِكَ أَفْعَلُ بِمَنْ عَصَانِي. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا، وَانْتَقَمْنَا انْتِقَامًا كَذَلِكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى: مِثْلَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا، وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ، وهم بنوا إِسْرَائِيلَ. كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ فِي يَدِ الْقِبْطِ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِبْطَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَأَوْرَثَهُمْ مُلْكَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، وَضُعِّفَ قَوْلُ قَتَادَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ فِي مَشْهُورِ التَّوَارِيخِ إن بني إسرائيل رجعوا إِلَى مِصْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَا مَلَكُوهَا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ قَتَادَةُ أَنَّهُمْ وَرِثُوا نَوْعَهَا فِي بِلَادِ الشَّأْمِ. انْتَهَى. وَلَا اعْتِبَارَ بِالتَّوَارِيخِ، فالكذب فيها
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ | وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامِهِ |
فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ | تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومُ اللَّيْلِ والقمرا |
بكى حادث الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ | وَحَوْرَانُ مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ |
لَمَّا أَتَى الزَّهْوُ تَوَاضَعَتْ | سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ |
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ، بَكَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ مَوْضِعُ عِبَادَتِهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَبَكَى عليه السَّمَاءِ مَوْضِعُ صُعُودِ عَمَلِهِ.
قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ تَمْثِيلٌ. وَما كانُوا مُنْظَرِينَ: أَيْ مُؤَخَّرِينَ عَنِ الْعَذَابِ لَمَّا حَانَ وَقْتُ هَلَاكِهِمْ، بَلْ عَجَّلَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا.
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ، إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ، وَما خَلَقْنَا
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِهْلَاكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ذَكَرَ إِحْسَانَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَبَدَأَ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَهُوَ نَجَاتُهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ اتِّصَالَ النَّفْعِ لَهُمْ، مِنِ اخْتِيَارِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَإِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: قَتْلُ أَبْنَائِهِمْ، وَاسْتِخْدَامُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ: وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صفته، كبقلة الحمقاء. ومِنْ فِرْعَوْنَ: بَدَلٌ مِنَ الْعَذابِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ. أَوَّلًا حُذِفَ جَعَلَ فِرْعَوْنَ نَفْسَهُ هُوَ الْعَذَابَ مُبَالَغَةً. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنًا وَصَادِرًا مِنْ فِرْعَوْنَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ فِرْعَوْنَ، مَنْ: اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَفِرْعَوْنُ خَبَرُهُ. لَمَّا وَصَفَ فِرْعَوْنَ بِالشِّدَّةِ وَالْفَظَاعَةِ قَالَ: مَنْ فِرْعَوْنُ؟ عَلَى مَعْنَى: هَلْ تَعْرِفُونَهُ مَنْ هُوَ فِي عُتُوِّهِ وَشَيْطَنَتِهِ؟ ثُمَّ عَرَّفَ حَالَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ: أَيْ مُرْتَفِعًا عَلَى الْعَالَمِ، أَوْ مُتَكَبِّرًا مُسْرِفًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ.
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ: أَيِ اصْطَفَيْنَاهُمْ وَشَرَّفْنَاهُمْ. عَلى عِلْمٍ عِلْمٍ مَصْدَرٌ لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، فَقِيلَ: عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ، وَفَضْلٍ فِيهِمْ، فَاخْتَرْنَاهُمْ لِلنُّبُوَّاتِ وَالرِّسَالَاتِ. وَقِيلَ: عَلَى عِلْمٍ مِنَّا، أَيْ عَالِمِينَ بِمَكَانِ الْخِيرَةِ، وَبِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءٌ بِأَنْ يُخْتَارُوا. وَقِيلَ: عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا يَصْدُرُ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، بِأَنَّهُمْ يُزَيِّفُونَ، وَتَفْرُطُ مِنْهُمُ الْهَنَاتُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: اخْتَرْنَاهُمْ بِهَذَا الْإِنْجَاءِ وَهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى سَابِقِ عِلْمٍ لَنَا فِيهِمْ، وَخَصَصْنَاهُمْ بِذَلِكَ دُونَ الْعَالَمِ. عَلَى الْعالَمِينَ: أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ، لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مُفَضَّلَةٌ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَالَمِينَ عَامٌّ لِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَهَذَا خَاصٌّ بِهِمْ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ. وَكَانَ الِاخْتِيَارُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ. وعلى، فِي قَوْلِهِ: عَلى عِلْمٍ، لَيْسَ
وَيَوْمًا على ظهر الكتيب تَعَذَّرَتْ | عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لم يحلل |
فَأْتُوا بِآبائِنا: خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعِدُونَهُمْ بِالْبَعْثِ، أَيْ إِنْ صَدَقْتُمْ فِيمَا تَقُولُونَ، فَأَحْيُوا لَنَا مَنْ مَاتَ مِنْ أَبْنَائِنَا، بِسُؤَالِكُمْ رَبَّكُمْ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْبَعْثِ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: طَلَبُوا مِنَ الرسول أن يدعوا اللَّهَ فَيُحْيِيَ لَهُمْ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ، لِيُشَاوِرُوهُ فِي صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، إِذْ كَانَ كَبِيرُهُمْ وَمُشَاوِرُهُمْ فِي النَّوَازِلِ.
أَهُمْ: أَيْ قُرَيْشٌ، خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ تُبَّعًا هُوَ شَخْصٌ مَعْرُوفٌ، وَقَعَ التَّفَاضُلُ بَيْنَ قَوْمِهِ وَقَوْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِنْ كَانَ لَفْظُ تُبَّعٍ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الْعَرَبَ، كَمَا يُطْلَقُ كِسْرَى عَلَى مَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَقَيْصَرُ عَلَى مَنْ مَلَكَ الرُّومَ قِيلَ:
وَاسْمُهُ أَسْعَدُ الْحِمْيَرِيُّ، وَكُنِّيَ أَبَا كَرِبٍ وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ الرِّيَاشِيُّ أَنَّهُ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا آمَنَ بِالْمَدِينَةِ، كَتَبَ كِتَابًا وَنَظَمَ شِعْرًا. أَمَّا الشِّعْرُ فَهُوَ:
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٨.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٢٩.
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدٍ أَنَّهُ | رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ |
فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إِلَى عُمْرِهِ | لَكُنْتُ وَزِيرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ |
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا، وَعَنْهُ لَمَّا أَقْبَلَ تُبَّعٌ مِنَ الشَّرْقِ، بَعْدَ أَنْ حَيَّرَ الْحِيرَةَ وَسَمَرْقَنْدَ، قَصَدَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ قَدْ خَلَّفَ بها حين سافر ابنا، فَقُتِلَ غِيلَةً، فَأَجْمَعَ عَلَى خَرَابِهَا وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا. فَجَمَعُوا لَهُ الْأَنْصَارَ، وَخَرَجُوا لِقِتَالِهِ، وَكَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ وَيُقِرُّونَهُ بِاللَّيْلِ. فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَكِرَامٌ، إِذْ جَاءَهُ كَعْبٌ وَأَسَدٌ، ابْنَا عَمٍّ مِنْ قُرَيْظَةَ جِيرَانٌ، وَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيدُ، فَإِنَّهَا مَهَاجِرُ نَبِيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، فَثَنَاهُ قَوْلُهُمَا عَمَّا كَانَ يُرِيدُ. ثُمَّ دَعَوَاهُ إِلَى دِينِهِمَا، فَاتَّبَعَهُمَا وَأَكْرَمَهُمَا. وَانْصَرَفُوا عَنِ الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ نَفَرٌ مِنْ هُذَيْلٍ: يَدُلُّكَ عَلَى بَيْتٍ فِيهِ كَنْزٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَفِضَّةٍ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَتْ هُذَيْلٌ هَلَاكَهُ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ مَا أَرَادَهُ أَحَدٌ بِسُوءٍ إِلَّا هَلَكَ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَبْرَيْنِ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ لِلَّهِ بَيْتًا فِي الْأَرْضِ غَيْرَ هَذَا، فَاتَّخِذْهُ مَسْجِدًا، وَانْسُكْ عِنْدَهُ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ، وَمَا أَرَادَ الْقَوْمُ إِلَّا هَلَاكَكَ. فَأَكْرَمَهُ وَكَسَاهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ وَقَطَعَ أَيْدِيَ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ هُذَيْلٍ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَّرَ أَعْيُنَهُمْ وَصَلَبَهُمْ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِتُبَّعٍ رَجُلًا وَاحِدًا، إِنَّمَا الْمُرَادُ مُلُوكُ الْيَمَنِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ التتابعة. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ، تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِهَذَا الِاسْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ غَيْرِهِ بِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا»
، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التتابعة مُلُوكُ الْيَمَنِ، وَالتُّبُّعُ: الظِّلُّ، وَالتُّبَّعُ: ضَرْبٌ مِنَ الطَّيْرِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: تُبَّعٌ لِكُلِّ مَلِكِ الْيَمَنِ، وَالشِّحْرِ حَضْرَمَوْتَ، وَمَلِكُ الْيَمَنِ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى تُبَّعًا،
أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ: إِخْبَارٌ عَمَّا فَعَلَ تَعَالَى بِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِهْلَاكِ هِيَ الْإِجْرَامُ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ، وَتَهْدِيدٌ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ بِقَوْمِ تُبَّعٍ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ لِإِجْرَامِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ خَلْقُ الْعَالَمِ بِالْحَقِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما بَيْنَهُما مِنَ الْجِنْسَيْنِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْسٍ: وَمَا بينهن لا عبين. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَابِثِينَ.
مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ: أَيْ بِالْعَدْلِ، يُجَازِي الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ بِمَا أَرَادَ تَعَالَى مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ ذَلِكَ، فَهُمْ لَا يَخَافُونَ عِقَابًا وَلَا يَرْجُونَ ثوابا. وقرىء: مِيقَاتَهُمْ، بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ إِنَّ، وَالْخَبَرُ يَوْمَ الْفَصْلِ، أَيْ:
إِنَّ يَوْمَ الفصل ميعادهم وجزاؤهم، يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَوَالِي مِنَ الْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ وَالصِّلَةِ شَيْئًا مِنْ إِغْنَاءٍ، أَيْ قَلِيلًا مِنْهُ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: جَمْعٌ، لِأَنَّ عَنْ مَوْلًى فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ، فَعَادَ عَلَى الْمَعْنَى، لَا عَلَى اللَّفْظِ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَنْ رَحِمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنْ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنَالُهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ مَنْ لَعَنَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، أَيْ لَا يُغْنِي قَرِيبٌ عَنْ قَرِيبٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي شَفَاعَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَوْلًى الْمَرْفُوعِ، وَيَكُونُ يُغْنِي بِمَعْنَى يَنْفَعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، فِي مَحَلِّ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي يُنْصَرُونَ، أَيْ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَبْلَهُ. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ:
لَا يَنْصُرُ مَنْ عَصَاهُ، الرَّحِيمُ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَمَنْ عَفَا عَنْهُ.
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ: قرىء بِكَسْرِ الشِّينِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
طَعامُ الْأَثِيمِ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْآثَامِ، وَيُقَالُ لَهُ: أَثُومٌ، صِفَةُ مُبَالَغَةٍ أَيْضًا، وَفُسِّرَ بِالْمُشْرِكِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: الْمُكْتَسِبُ لِلْإِثْمِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدَانَ: الْأَثِيمُ هُنَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ: الْوَلِيدُ. كَالْمُهْلِ: هُوَ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، أَوْ مُذَابُ الْفِضَّةِ، أَوْ مُذَابُ
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَالْمَهْلِ، بِفَتْحِ الْمِيمِ: لُغَةٌ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
الْمُهْلُ: مَا أُذِيبَ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالِابْنَانِ، وَحَفْصٌ: يَغْلِي، بِالْيَاءِ، أَيِ الطَّعَامُ. وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْحَسَنُ: فِي رِوَايَةٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: تَغْلِي بِالتَّاءِ، أَيِ الشَّجَرَةُ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ: وَهُوَ الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ الَّذِي يَتَطَايَرُ مِنْ غَلَيَانِهِ. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ، يُقَالُ لِلزَّبَانِيَةِ: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ، أَيْ سُوقُوهُ بِعُنْفٍ وَجَذْبٍ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: مَعْنَى اعْتِلُوهُ: اقْصِفُوهُ كَمَا يُقْصَفُ الْحَطَبُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَسَطُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُعْظَمُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاعْتِلُوهُ، بِكَسْرِ التَّاءَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالِابْنَانِ، وَنَافِعٌ: بِضَمِّهَا وَالْخِلَافُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَعْرَجِ، وَأَبِي عَمْرٍو.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ: وفي الحج يصيب من فوق رؤوسهم الْحَمِيمُ، وَالْمَصْبُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْحَمِيمُ، فَتَارَةً اعْتُبِرَتِ الْحَقِيقَةُ، وَتَارَةً اعْتُبِرَتِ الِاسْتِعَارَةُ، لِأَنَّهُ أَذَمُّ مِنَ الْحَمِيمِ، فَقَدْ صَبَّ مَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مِنَ الْآلَامِ وَالْعَذَابِ، فَعَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، لِأَنَّ الْعَذَابَ هُوَ الْمُسَبَّبُ عَنِ الْحَمِيمِ، وَلَفْظَةُ الْعَذَابِ أَهْوَلُ وَأَهْيَبُ. ذُقْ:
أَيِ الْعَذَابَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالْهُزْءِ لِمَنْ كَانَ يَتَعَزَّزُ وَيَتَكَرَّمُ عَلَى قَوْمِهِ.
وَعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتُهَدِّدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَإِنَّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَعَزُّ مِنِّي وَلَا أَكْرَمُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
، وَفِي آخِرِهَا: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، أَيْ عَلَى قَوْلِكَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
أَلَمْ تَكُنْ فِي رُسُومٍ قَدْ رَسَمْتَ بِهَا | مَنْ كَانَ مَوْعِظَةً يَا زَهْرَةَ الْيَمَنِ |
أَبْلِغْ كُلَيْبًا وَأَبْلِغْ عَنْكَ شَاعِرَهَا | إِنِّي الْأَعَزُّ وَإِنِّي زَهْرَةُ الْيَمَنِ |
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: فِي مُقَامٍ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَأَبُو رَجَاءٍ،
الْأَمِينُ، مِنْ قَوْلِكَ: أَمِنَ الرَّجُلُ أَمَانَةً، فَهُوَ أَمِينٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَائِنِ فَوَصَفَ بِهِ الْمَكَانَ اسْتِعَارَةً، لِأَنَّ الْمَكَانَ الْمُخِيفَ كَانَ يُخَوِّفُ صَاحِبَهُ بِمَا يَلْقَى فِيهِ مِنَ الْمَكَارِهِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَإِسْتَبْرَقٍ، جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. مُتَقابِلِينَ:
وَصْفٌ لِمَجَالِسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لَا يَسْتَدْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَجَالِسِ. كَذلِكَ: أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِحُورٍ مُنَوَّنًا، وَعِكْرِمَةُ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، لِأَنَّ الْعِينَ تُقَسَّمْنَ إِلَى حُورٍ وَغَيْرِ حُورٍ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ حُورِ الْعِينِ، لَا مِنْ شَهْلَنَ مَثَلًا. يَدْعُونَ فِيها: أَيِ الْخَدَمَ وَالْمُتَصَرِّفِينَ عَلَيْهِمْ، بِكُلِّ فاكِهَةٍ أَرَادُوا إِحْضَارَهَا لَدَيْهِمْ، آمِنِينَ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالتُّخَمِ.
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَا يُذَاقُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى ذَاقُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ، وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِمُفَارَقَةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اسْتَثْنَيْتَ الْمَوْتَةَ الْأُولَى الْمَذُوقَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْمَوْتِ الْمَنْفِيِّ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ الْبَتَّةَ، فَوَضَعَ قَوْلَهُ:
إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى مَوْضِعَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَوْتَةَ الْمَاضِيَةَ مُحَالٌ ذَوْقُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُمْ يَذُوقُونَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدَّرَ قَوْمٌ إِلَّا بِسِوَى، وَضَعَّفَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَقَدَّرَهَا بِبَعْدِ، وَلَيْسَ تَضْعِيفُهُ بِصَحِيحٍ، بَلْ يَصِحُّ الْمَعْنَى بِسِوَى وَيَتَّسِقُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمْ ذَوْقَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَوَقاهُمْ، مُشَدَّدًا بِالْقَافِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَسَّرْناهُ عَائِدٌ على القرآن وبِلِسانِكَ: بلغتك، وهي لغة لعرب.