تفسير سورة القلم

زاد المسير
تفسير سورة سورة القلم من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة القلم وهي مكية كلها بإجماعهم، إلا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله تعالى :﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.

سورة القلم
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم إلّا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله عزّ وجلّ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧)
قوله عزّ وجلّ: ن قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص: نْ وَالْقَلَمِ النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو، وهذا اختيار الفراء. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يُبين النون من «نون». وبها قرأ الكسائي، وخلف، ويعقوب، وهو اختيار الزجاج. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والأعمش: «نونِ والقلم» بكسر النون وقرأ الحسن، وأبو عمران، وأبو نهيك: «نُ والقلم» برفع النون..
وفي معنى (نون) سبعة أقوال «١» : أحدها: أنها الدواة.
(١٤٧٩) روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النّون،
صدره قوي بشواهده، وعجزه باطل. أخرجه ابن عدي ٦/ ٢٦٩ من طريق محمد بن وهب عن الوليد بن مسلم به، وأعله بمحمد بن وهب، وحكم ببطلانه، ووافقه الذهبي في «الميزان» ٤/ ٦١. وأخرجه الآجري في «الشريعة» ٣٥٨ من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن الحسين أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف الحسن بن يحيى الخشني، وكذا ذكره ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٤٢٨ من هذا الوجه ونسبه لابن أبي حاتم وقال: غريب جدا. ولقوله «أول ما خلق الله القلم» شواهد كثيرة والمنكر فيه لفظ «النون وهي الدواة» ويشهد لصدره حديث عبادة بن الصامت: أخرجه أبو داود ٤٧٠٠ والترمذي ٢١٥٦ وأحمد ٥/ ٣١٧ والآجري ٣٥٩. وحديث ابن عباس: أخرجه أبو يعلى ٢٣٢٩ والبيهقي ٩/ ٣ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ١٩٠ وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات. وانظر «الجامع لأحكام القرآن»
__________
(١) الراجح في هذه الأقوال القول الأول، يدل على ذلك ذكر القلم، والله تعالى أعلم.
318
وهي الدواة» وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، وبه قال الحسن وقتادة.
والثاني: أنه آخر حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه الحوت الذي على ظهر الأرض، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، وهو مذهب مجاهد، والسّدّيّ، وابن السّائب «١». والرابع: أنه لَوْح من نور، قاله معاوية بن قرّة. والخامس: أنه افتتاح اسمين «نصير»، و «ناصر» قاله عطاء. والسادس: أنه قَسَم ٌبِنُصْرَةِ الله للمؤمنين، قاله القرظي. والسابع: أنه نهر في الجنة، قاله جعفر الصادق.
وفي «القلم» قولان «٢» : أحدهما: أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ. والثاني: أنه الذي يكتب به الناس. وإنما أقسم به، لأن كتبه إنما تكتب ويَسْطُرُونَ بمعنى: يكتبون.
وفي المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة. وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان: أحدهما: أنه الذّكر، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أعمال بني آدم، قاله مقاتل. والقول الثاني: أنهم جميع الكتبة، حكاه الثّعلبيّ، قوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي: ما أنت بِإنْعامِ ربِّك عليك بالإيمان والنُّبوَّة بمجنون. قال الزجاج: هذا جواب قولهم: إنك لمجنون. وتأويله: فارقك الجنون بنعمة الله.
قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّ لَكَ بصبرك على افترائهم عليك. ونسبتهم إيّاك إلى الجنون لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع ولا منقوص، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فيه ثلاثة أقوال «٣» :
أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن. والثالث: الطبع الكريم. وحقيقة «الخُلُق» : ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خُلُقاً، لأنه يصير كالخِلْقة في صاحبه. فأما ما طبع عليه فيسمى: «الخِيم» فيكون الخِيم: الطبع الغريزي. والخُلُق: الطبع المُتكلَّف.
هذا قول الماوردي.
(١٤٨٠) وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: كان خُلُقُه القرآن.
تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن.
٦٠٦٤ و ٦٠٦٥ و «أحكام القرآن» ٢١٦٨.
الخلاصة: هو باطل بهذا اللفظ، وذكر القلم قوي له شواهد.
صحيح. أخرجه مسلم ٧٤٦ وأبو داود ١٣٤٢ و ١٣٤٣ وعبد الرزاق ٤٧١٤ و ٤٧٥١ من حديث عائشة مطولا. وأخرجه الحاكم ٢/ ٣٩٢ من حديث عائشة بلفظ: أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: قد أفلح المؤمنون.
__________
(١) هذه الروايات جميعا مصدرها الإسرائيليات، وهي من أباطيل الإسرائيليين وترّهاتهم.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٧٣: وقوله: وَالْقَلَمِ الظاهر أنه جنس القلم يكتب به كقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم.
(٣) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٨/ ١٩٩: أصح الأقوال ما ذكرته عائشة في صحيح مسلم.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٧٥: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن، أمرا ونهيا، سجية له، وخلقه تطبعه، وترك طبعه الجبلّيّ فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق جميل.
319
قوله عزّ وجلّ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ يعني: أهل مكة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى:
سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب بِبَدْرٍ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وفيه أربعة أقوال: أحدها: الضالُّ، قاله الحسن. والثاني: الشيطان، قاله مجاهد. والثالث: المجنون، قاله الضحاك. والمعنى: الذي قد فتن بالجنون. والرابع: المعذَّب، حكاه الماوردي.
وفي الباء قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الفَلَجْ نَضْرِبُ بِالسَّيْف وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ «١»
والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج. قال الزجاج: ليس كونها لغواً بجائز في العربية في قول أحد من أهلها.
وفي الكلام قولان للنحويين: أحدهما: أن «المفتون» هاهنا: الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب: ليس هذا معقود رأي، أي: عقد رأي، تقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره.
والمعنى: بأيكم الجنون. والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين المجنون. وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج. وقد قرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «في أي المفتون». ثم أخبر أنه عالم بالفرقتين بما بعد هذا.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٨ الى ١٦]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)
قوله عزّ وجلّ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وذلك أن رؤساء أهل مكة دَعَوْه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فيه سبعة أقوال «٢» : أحدها: لو ترخص فيرخصون، قاله ابن عباس.
(١) البيت لراجز من بني جعدة، كما في «مجاز القرآن» ٢/ ٥ و «الخزانة» ٤/ ١٦٠ والفلج: موضع بنجد.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ١٨٢: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلبون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ وإنما هو مأخوذ من الدهن شبّه التليين في القول بتليين الدهن.
وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٠٥: وقال أهل اللغة: الإدهان هو التلبيس، معناه: ودوا لو تلبس إليهم في عملهم وعقدهم فيميلون إليك. وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة هو، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول! فقال لي: «يا عائشة، إن شر الناس منزلة من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».
قلت: حديث صحيح. أخرجه البخاري ٦٠٥٤ و ٦١٣١ ومسلم ٢٥٩١ وأبو داود ٤٧٩١ والترمذي ١٩٩٦ وأحمد ٦/ ٣٨ والحميدي ٢٤٩ وابن حبان ٤٥٣٨ والبيهقي ١٠/ ٣٤٥ والبغوي ٣٥٦٣ من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن عائشة به.
320
والثاني: لو تُصَانِعُهم في دِينك فَيَصانِعون في دينهم، قاله الحسن. والثالث: لو تكفر فيكفرون، قاله عطية، والضحاك، ومقاتل. والرابع: لو تَلِينُ لهم فيلينون لك، قاله ابن السائب. والخامس: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون، قاله زيد بن أسلم. والسادس: ودُّوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم. وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مُدَّة، ويعبدوا الله مدة، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة. والسابع: لو تقاربهم فيقاربوك، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ وهو كثير الحلف بالباطل مَهِينٍ وهو الحقير الدنيء. وروى العوفي عن ابن عباس قال: المَهين: الكذَّاب. واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: الأخنس بن شريق، قاله عطاء، والسدي.
والثالث: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد.
قوله عزّ وجلّ: هَمَّازٍ قال ابن عباس: هو المغتاب. وقال ابن قتيبة: هو العيّاب.
قوله عزّ وجلّ: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم «١»، قوله: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ فيه قولان: أحدهما: أنه منع ولده وعشيرته الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: مَنَّاعٍ للحقوق في ماله، ذكره الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: مُعْتَدٍ أي ظلوم أَثِيمٍ فاجر عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ أي مع ما وصفناه به.
وفي «العُتُلِّ» سبعة أقوال: أحدها: أنه العاتي الشديد المنافق، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الموفر الجسم، قاله الحسن. والثالث: الشديدُ الأَشِرُ، قاله مجاهد. والرابع: القويُّ في كفره، قاله عكرمة.
والخامس: الأكول الشروب القوي الشديد، قاله عبيد بن عمير. والسادس: الشديد الخصومة بالباطل، قاله الفراء. والسابع: أنه الغليظ الجافي، قاله ابن قتيبة.
وفي «الزنيم» أربعة أقوال «٢» : أحدها: أنه الدَّعيُّ في قريش وليس منهم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا معروف في اللغة أنّ الزّنيم: هو الملصق في القوم وليس منهم، وبه قال الفراء، وأبو عبيدة وابن قتيبة. قال حسان:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ كما نِيطَ خلف الرّاكب القدح الفرد
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٧٦: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقبرين قال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة». وقال الزمخشري في «الكشاف» ٤/ ٥٩١: حَلَّافٍ كثير الحلف في الحقّ والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومثله قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: ٢٢٤] مَهِينٍ من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في الرأي والتمييز. أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس هَمَّازٍ عياب طعان، وعن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مضرب نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم. والنميم والنميمة: السعاية.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٧٨: الأقوال في هذا كثيرة وترجع إلى ما قلناه، وهو أن الزنيم هو:
المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس، وغالبا يكون دعيّا ولد زنا، فإنه في الغالب يتسلّط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره.
321
والثاني: أنه الذي يعرف بالشَّرِّ، كما تعرف الشاة بِزَنَمتها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: أنه الذي له زَنَمة مثل زنمة الشاة. وقال ابن عباس: نُعت فلم يعرف حتى قيل: زنيم، فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. ولا يعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد، لأنه وصف بالحلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدِّعوة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة، قال الزّجّاج: والزَّنَمَتان:
المعلقتان عند حلوق المعزى. وقال ابن فارس: هي التي تتعلق من أذنها. والرابع: أنه الظلوم، رواه الوالبيّ عن ابن عباس.
قوله عزّ وجلّ: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: «أن كان» على الخبر، أي: لأن كان. والمعنى لا تطعه لماله وبنيه. وقرأ ابن عباس بهمزتين، الأولى: مخففة. والثانية: ملينة، وفصل بينهما بألف أبو جعفر. وقرأ حمزة: «أأن كان» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وله وجهان: أحدهما: ألأن كان ذا مال تطيعه؟ -! والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين؟! إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا يكفر بها؟ فيقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ذكر القولين الفراء. وقرأ ابن مسعود: «أن كان» بهمزة واحدة مقصورة. ثم أوعده فقال عزّ وجلّ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ الخرطوم:
الأنف. وفي هذه السِّمة ثلاثة أقوال: أحدها: سنسمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف، قاله ابن عباس. والثاني: سنُلْحق به شيئاً لا يفارقه، قاله قتادة، واختاره ابن قتيبة. والثالث: أن المعنى: سَنُسَوِّد وجهه. قال الفراء: و «الخرطوم» وإِن كان قد خص بالسِّمة، فإنه في مذهبٍ الوجه، لأن بعض الوجه يؤدِّي عن البعض. وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وجائز- والله أعلم- أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يتبيّن بها عن غيره.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٧ الى ٤١]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يعني: أهل مكة، أي: ابتليناهم بالجوع، والقحط كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ حين هلكت جنّتهم.
322
وهذه الإشارة إِلى قصتهم «١»
ذكر أهل التفسير أن رجلاً كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمنا. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل: كان يترك للمساكين ما تعدَّاه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدّباس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاثة بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإِنما كان أبونا يفعل هذا إذْ كان المال كثيراً، والعيال قليلاً، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدون قبل خروج الناس، فليصرمُنَّ نخلهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: إِذْ أَقْسَمُوا أي:
حلفوا لَيَصْرِمُنَّها أي: ليقطعنّ نخلهم مُصْبِحِينَ أي: في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظُلمة لئلا يبقى للمساكين شيء.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَلا يَسْتَثْنُونَ قولان: أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون.
والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي: من أمر ربك. قال الفراء: الطائف لا يكون إلا بالليل. قال المفسرون: بعث الله عليها ناراً بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: كالرَّماد الأسود، قاله ابن عباس. والثاني: كالليل المسودّ، قاله الفراء. وكذلك قال ابن قتيبة: أصبحت سوداء كالليل محترقة. والليل: هو الصريم، والصبح أيضاً: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه. والثالث: أصبحت قد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجُذَّ حكاه ابن قتيبة أيضا.
قوله عزّ وجلّ: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: نادى بعضهم بعضاً لما أصبحوا أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ يعني:
الثمار والزروع والأعناب إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي: قاطعين للنخل، فَانْطَلَقُوا أي: ذهبوا إلى جنَّتهم وَهُمْ يَتَخافَتُونَ قال ابن قتيبة: يتشاورون ب أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
قوله: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ فيه ثمانية أقوال: أحدها: على قدرة، قاله ابن عباس. والثاني: على فاقة، قاله الحسن في رواية. والثالث: على جد، قاله الحسن في رواية، وقتادة، وأبو العالية، والفراء! ومقاتل.
والرابع: على أمر مجمع قد أسَّسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة. والخامس: أنّ الحرد، اسم الجنّة،
(١) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨/ ٢١٠: قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جدّ ثمره أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: ١٤١] وأنه غير الزكاة. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. وقيل: إنما نهى عن ذلك خشية الحياة وهوام الأرض.
قلت: الأول أصح، والثاني: حسن، وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظير هذه الآية، قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: ٢٥] وفي الصحيح: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» متفق عليه. اه.
323
قاله السدي. والسادس: أنه الحنَق والغضب على المساكين، قاله الشعبي، وسفيان، وأنشد أبو عبيدة:
أُسُودُ شَرَىً لاَقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ تَسَاقَوْا على حَرْدٍ دِمَاءَ الأَسَاوِدِ «١»
والسابع: أنه المنع، مأخوذ من حارَدَتِ السَّنَة فليس فيها مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثامن: أنه القصد. يقال: حَرَدْتُ حَرْدَكَ، أي: قَصَدْتُ قَصْدَكَ، حكاه الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا:
قَدْ جَاءَ سَيْلٌ كَانَ مِنْ أَمْرِ اللهْ يَحْرُدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّةْ
أي: يقصد قصدها. قال ابن قتيبة: وفيها لغتان: حَرَدٌ، وحَرْدٌ، كما يقال: الدَّرَك، والدّرك.
وقوله: قادِرِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: قادرين على جَنَّتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. والثاني:
قادرين على المساكين، قاله الشعبي. والثالث: أن المعنى: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون، قاله ابن قتيبة، قوله: فَلَمَّا رَأَوْها محترقة قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أي: قد ضللنا طريق جَنَّتنا، فليست هذه. ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: حرمنا ثمر جنّتنا بمنعنا المساكين قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم، وأفضلهم لَوْلا أي: هلاَّ تُسَبِّحُونَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: هلا تَسْتَثْنُون عند قولكم:
لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ قاله ابن جريج والجمهور. والمعنى: هلاَّ قلتم: إن شاء الله. قال الزجاج: وإنما قيل للاستثناء: تسبيح، لأنّ التسبيح في اللغة: تنزيه الله عزّ وجلّ عن السوء. والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلاً إلا بمشيئة الله. والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: «سبحان الله» قاله أبو صالح. والثالث: هلا تسبِّحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم، حكاه الثعلبي. وقوله تعالى: قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا فنزَّهوه أن يكون ظالماً فيما صنع، وأقرُّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بمنعنا المساكين فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي: يلوم بعضهم بعضاً في منع المساكين حقوقهم. يقول هذا لهذا: أَنْتَ أَشَرْتَ علينا. ويقول الآخر: أنت فَعَلْتَ، ثم نادَوْا على أنفسهم بالويل، فقالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إِلى الله تعالى فسألوه أن يبدِّلهم خيراً منها، فذلك قوله: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها. وقرأ قوم: «يبدِلنا» بالتخفيف، وهما لغتان. وفرَّق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية. والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره مكانه.
ونقل أن القوم أخلصوا، فبدَّلهم الله جنَّةً العنقودُ منها وقر بغل «٢».
قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ الْعَذابُ ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا. وهاهنا قصة أهل الجنّة. ثم قال عزّ وجلّ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني: المشركين. ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا، فقال المشركون: إنا لنُعْطى في الآخرة أفضل ممّا يعطون، فقال تعالى مكذِّباً لهم: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قال الزجاج: هذه ألف الاستفهام مجازها هاهنا مجاز التوبيخ والتقرير.
قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: كيف تقضون بالجَوْرِ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ أُنْزِلَ من عند الله فِيهِ هذا تَدْرُسُونَ أي: تقرؤون ما فيه إِنَّ لَكُمْ في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ أي: ما تختارون وتشتهون. وقرأ أبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: «أن لكم» بفتح الهمزة. وهذا تقريع
(١) البيت للأشهب بن رميلة الذي كان يهاجي الفرزدق، كما في «الكامل» للمبرد ٤٣٨ و «الخزانة» ٢/ ٥٠٨. [.....]
(٢) وقر بغل: حمل بغل.
324
لهم، وتوبيخ على ما يتمنَّوْن من الباطل، سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على ما تَدَّعُونَ بأَيْمانٍ بالغةٍ، أي: مُؤكَّدةٍ. وكل شيء متناهٍ في الجودة والصحة فهو بالغ. ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأَيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. قال الفراء: والقرَّاء على رفع «بالغة» إلّا الحسن فإنه ينصبها على مذهب المصدر، كقوله عزّ وجلّ:
حَقًّا. ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأنّ لكم ما تحكمون؟! لمّا كانت اللام في جواب «إن» كسرتَها.
قوله عز وجل: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الكفيل، قاله ابن عباس، وقتادة. والمعنى: أيُّهُمْ كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير. والثاني: أنه الرسول، قاله الحسن.
قوله عزّ وجلّ: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا. وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادَّعَوْا فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أنها شركاء لله. وإنما أضيف الشرك إليهم لادّعائهم أنهم شركاء لله.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٧]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
يَوْمَ يُكْشَفُ المعنى: فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق. قرأ الجمهور: «يُكْشَفُ» بضم الياء، وفتح الشين. وقرأ ابن أبي عبلة، وعاصم الجحدريّ، وأبو الجوزاء، بفتح الياء، وكسر الشين. وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس: «تكشف» بتاء مفتوحة، وبكسر الشين. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وابن يعمر، والضحاك: «نَكشف» بنون مفتوحة مع كسر الشين. وهذا اليوم هو يوم القيامة. وقد روى عكرمة عن ابن عباس: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: يكشف عن شدّة، وأنشدوا:
وَقَامَتْ الحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ
وهذا قول مجاهد، وقتادة.
قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إِلى معاناته والجدّ فيه، شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة، هذا قول الفراء وأبي عبيدة، واللغويين. وقد أضيف هذا الأمر إِلى الله تعالى.
(١٤٨١) فروي في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه «يكشف عن
صحيح. أخرجه البخاري ٧٤٣٩ و ٤٩١٩ وابن حبان ٧٣٧٧ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٧٤٥ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٢١ من حديث أبي سعيد. وأخرجه مسلم ١٨٣ من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم به مطوّلا. وأخرجه أحمد ٣/ ١٦- ١٧ من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن زيد بن أسلم به
ساقه»، وهذا إضافة إليه، لأن الكل له وفعله. وقال أبو عمر الزّاهد: السّاق: يراد بها النّفس «١»، ومنه قول عليّ رضي الله عنه: أقاتلهم ولو تلفت ساقي، أي: نفسي. فعلى هذا يكون المعنى: يتجلّى لهم.
قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني: المنافقين فَلا يَسْتَطِيعُونَ كأن في ظهورهم سفافيد الحديد. قال النقاش: وليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا، وهم عجزة، ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي: خاضعةً تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: تغشاهم وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني:
بالأذان في دار الدنيا، ويُؤْمَرون بالصلاة المكتوبة وَهُمْ سالِمُونَ أي: معافَوْن ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد. وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة. وكان كعب يقول: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلَّفون عن الجماعات فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن. والمعنى: خَلِّ بيني وبينه. قال الزجاج: أي: لا تشغل قلبك به، كِلْه إليَّ فأنا أكفيك أمره. وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من الآية إلى قوله: «الحديث» منسوخ بآية السيف. وما بعد هذا مفسر في الأعراف «٢» إِلى قوله عزّ وجلّ: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فإنها مفسّرة والتي تليها في الطّور «٣».
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٨ الى ٥٢]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
قوله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آتٍ. وقيل: معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف.
قوله عزّ وجلّ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس. وفي ماذا نُهِيَ أن يكون مثله قولان:
أحدهما: أنه العجلة، والغضب، قاله قتادة. والثاني: الضعف عن تبليغ الرسالة، قاله ابن جرير. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخْرِجُ يونس من أولي العزم، لأنها خطيئة. ولو قلنا: إن كل مخطئ من الأنبياء ليس من أولي العزم، خرجوا كلهم إلا يحيى. ثم أخبر عن عقوبته إذ لم يصبر، فقال عزّ وجلّ: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ قال الزجاج: مملوء غمّا وكربا.
قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «لولا أن تَداركتْه» بتاء خفيفة، وبتاءٍ ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال. وقرأ أبو هريرة، وأبو المتوكل: «تَدَّاركه» بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال. وقرأ أُبَيّ بن كعب: «تتداركه» بتاءين خفيفتين نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ فرحمه بها، وتاب عليه من معاصيه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وقد بينا معنى «العَراء» في الصافات «٤». ومعنى الآية: أنه نبِذَ غيرَ مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة والرحمة. وقال ابن جريج: نُبِذَ بالعراء، وهي أرض المحشر، فالمعنى: أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي: استخلصه واصطفاه، وخلّصه
مطوّلا. وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٧٣ من طريق هشام بن سعد عن زيد به.
__________
(١) هذه الأقوال جميعا يردها الحديث الصحيح المتقدم، ولم يسق المصنف لفظه.
(٢) الأعراف: ١٨٢- ١٨٣.
(٣) الطور: ٣٩- ٤٠.
(٤) الصافات: ١٤٥.
326
من الذم فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فردَّ عليه الوحي، وشفّعه في قومه ونفسه، قوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قرأ الأكثرون بضم الياء، من أزلقته، وقرأ أهل المدينة، وأبان بفتحها من زَلَقْتُه أزْلِقُهُ، وهما لغتان مشهورتان في العرب. قال الزجاج: يقال: زلق الرّجل رأسه أزلقه: إذا حلقه. وفي معنى الآية للمفسرين قولان «١» :
(١٤٨٢) أحدهما: أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعين، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئاً، ثم يرفع جانب خبائه، فتمرُّ به النَّعم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها عدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعين، فعصم الله نبيَّه، وأنزل هذه الآية، وهذا قول الكلبي، وتابعه قوم من المفسرين تلقَّفوا ذلك من تفسيره، منهم الفراء.
والثاني: أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظرا سديدا يكاد يُزْلِقُه من شدته، أي: يلقيه إلى الأرض. وهذا مستعمل في كلام العرب. يقول القائل: نظر إليَّ فلان نظراً كاد يصرعني. وأنشدوا:
يَتَقَارضُون إذا التَقَوْا في مَوْطنٍ نَظَراً يزيل مواطئ الأَقْدَامِ
أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظراً شديداً بالعداوة يكاد يزيل الأقدام، وإلى هذا ذهب المحققون، منهم ابن قتيبة، والزجاج. ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله تعالى: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ والقوم كانوا يكرهون ذلك أَشَدَّ الكراهة، فيُحِدُّون النظر إليه بالبغضاء. وإصابةُ العين، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان، لا مع البغض فلا يُظن بالكلبي أنه فهم معنى الآية. قوله:
وَما هُوَ يعني: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي: موعظة.
عزاه المصنف للكلبي، وهو متهم بالكذب، فهذا خبر باطل، لا أصل له.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٨٢: وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله- عز وجل-. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٨/ ٢٢٢: أخبر الله بشدة عداوتهم للنبي صلّى الله عليه وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين، فعصم الله نبيه صلّى الله عليه وسلم قال القشيري: وفي هذا نظر، لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض.
قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرناه، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك، يقال: زلقه، يزلقه، أزلقه، إذا نحّاه وأبعده. فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة، وذلك لا يكون في حقّ النبي صلّى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته.
327
Icon