تفسير سورة النحل

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة النحل من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية وستة عشر ركوعات.

﴿ أَتَى١ أَمْرُ اللّه ﴾ أي : القيامة التي هي بمنزلة الواقع في تحققه، أو العذاب الذي وعده نبينا فيمنِ٢ خالفه، ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ فإنه لا محالة واقع، ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ٣ ما مصدرية أو موصولة بحذف مضاف أي : إن مشاركة ما يشركون رد لما قالت الكفرة لو صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا.
١ روي أنه لما نزلت وثب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفع الناس رءوسهم فنزلت "فلا تستعجلوه" / ١٢ منه..
٢ في النسخة (ن): من..
٣ ولما نزه ذاته الأقدس عن الشريك شرع يصف نفسه بصفات الكمال من الأمر والخلق فبدأ بالأمر لأنه مقدم وأعلى وكان ما يشركون لا تصرف له أصلا، قال: "ينزل الملائكة" الآية م ١٢ وجيز..
﴿ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ١ بالوحي، ﴿ مِنْ أَمْرِهِ ﴾ من أجل أمر الله تعالى، ﴿ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ ﴾ أي : بأن اعلموا متعلق بالروح٢ أو بدل منه، ﴿ أَنَّهُ ﴾ إن الشأن، ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ ﴾ عقوبتي لمن عبد غيري رجع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود.
١ الذي بمنزلة الروح للجسد /١٢ منه..
٢ لما كان الروح بمعنى الوحي يمكن أن يكون متعلقا وجاز أن يكون مفسرة؛ لأن الروح لما كان بمعنى الوحي دل على القول / ١٢ منه.
.

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ متلبسا، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ لتجزى كل نفس بما كسبت، ﴿ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ نزه نفسه عن مشاركة غيره فإنه الخالق وحده ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق.
﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ ﴾ أي : جنسه، ﴿ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ ﴾ حين استقل، ﴿ خَصِيمٌ ﴾ يخاصم ربه ويكذب رسله، ﴿ مُّبِينٌ ﴾ ظاهر الخصومة.
﴿ وَالأَنْعَامَ ﴾ منصوب بما أضمر عامله، ﴿ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾ أو عطف على الإنسان وخلقها لكم مستأنفة يبين ما خلق لأجله، ﴿ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ ما يدفأ به من البرد، فإن من أشعارها بيوتا ولباسا وملاحف، ﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ بالنسل. والدر والركوب وغيرها، ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ قدر الظرف للاختصاص كأن الأكل من الصيد والطيور ليس هو المعتدل بل بمنزلة التفكه.
﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ : زينة، ﴿ حِينَ تُرِيحُونَ ﴾ حين تردونها بالعشي من مراعيها إلى مراحها، ﴿ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ حين تخرجونها إلى المراعي بالغداة وقدم الأول، لأن الزينة إذا أقبلت ملأى البطون ممتلئة الضروع أظهر.
﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ﴾ أحمالكم، ﴿ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ ﴾ إن لم تكن الأنعام، ﴿ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ﴾ بكلفة ومشقة، ﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ لرءوف رَّحِيمٌ ﴾.
﴿ وَالْخَيْلَ ﴾ عطف على الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، ﴿ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً١ عطف على محل لتركبوها أو تقديره ولتتزينوا بها زينة، ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي : ويخلق لكم ما لم يحط به علمكم.
١ وتغيير النظم حيث لم يقل ولتتزينوا بها ليعلم المقصود من الخلق الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض ولأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله / ١٢ منه..
﴿ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ أوجب على نفسه بفضله ولطفه بيان مستقيم الطريق أو معناه طريق الحق١ على الله تعالى يصل إليه لا محالة من يسلكه والمراد بالسبيل الجنس، ﴿ وَمِنْهَا ﴾ أي : وبعض السبيل، ﴿ جَائِرٌ ﴾ مائل عن الحق، ﴿ وَلَوْ شَاء ﴾ هدايتكم، ﴿ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ إلى قصد السبيل.
١ يعني قصد السبيل الذي هو الإسلام مؤد إلى رضاه ولقائه وثوابه نحو: "هذا صراط على مستقيم" (الحجر: ٤١) /١٢ منه.
.

﴿ هُوَ الَّذِي١ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء ﴾ من جانبه أو من السحاب، ﴿ مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ ﴾ ما تشربونه ومياه العيون والآبار مما أنزل من السماء، ﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ ﴾ أي : في الشجر، ﴿ تُسِيمُونَ٢ ترعون أنعامكم والمراد من الشجر الجنس الذي ترعاه المواشي، وقيل هو كل نبت من الأرض.
١ ولما أمتن عليهم بإيجادهم بعد العدم و إيجاد ما ينتفعون به امتن عليهم بما هو قيام حياتهم وحياة كل حيوان وما يتولد ويحصل منه من الزرع والضرع فقال هو (الذي) الخ /١٢ وجيز..
٢ أي: في جنس الشجر ترعون أنعامكم و تقديم ففيه لرعاية الفواصل أسأم الماشية جعلها ترعى وسامت رعت حيث شاءت /١٢ وجيز..
﴿ يُنبِتُ لَكُم بِهِ ﴾ أي : بسبب الماء، ﴿ الزَّرْعَ ١وَالزَّيْتُونَ ٢وَالنَّخِيلَ ٣وَالأَعْنَاب٤ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ٥ أي : بعض كلها لأن ما يمكن من الثمار لم ينبت في الأرض كله، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ على وجوده وكما قدرته ووحدته.
١ التي فيه قوت العالم..
٢ فيه الاستصباح والائتدام والاطلاء /١٢..
٣ فاكهة وقوت /١٢..
٤ فيه قوت وهو فاكهة..
٥ وكل الثمرات لا يكون إلا في الجنة وفي الأرض بعض منها للتذكرة وفي قوله: "من كل الثمرات" إشارة إلى أن تفصيلها لا يكاد يحصر كما أن تفصيل ما خلق كذلك /١٢ وجيز.
.

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ١ أي : هيأها لمنافعكم حال كون الكل مسخرات تحت قدرة الله تعالى وسلطانه، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ فإن من له عقل يفهم أنواع دلالاتها ولا يحتاج إلى إمعان نظر كأحوال٢ النبات.
١ فيه رد الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر سبحانه أنها مذللات تحت قهره و إرادته /١٢..
٢ قوله: كأحوال النبات الخ فإن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل فإن الجنة الواحدة إذا مرت عليها أيام في الأرض لحقها من نداوة الأرض ينشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء وتغوص أسفلها في عمق الأرض ثم ينمو ثم يخرج الأوراق والأغصان والأزهار والثمار المشتملة على طباع مختلفة وطعوم وألوان وروائح وأشكال وكل ذلك بتقدير قادر مختار /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ﴾ عطف على الليل، ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ من الحيوانات والجمادات، ﴿ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ﴾ أشكاله، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ فإن اختلاف أشكالها دال على حكمته وقدرته.
﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ﴾ جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به، ﴿ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ أي : السمك، ﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً ﴾ كاللؤلؤ والمرجان، ﴿ تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ ﴾ المخر شق الماء بصدرها أو صوت جري الفلك بالرياح، ﴿ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ سعة رزقه أي : سخر البحر للأكل والاستخراج والتجارة للربح، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ١ نعمه وإحسانه.
١ ولا تكفرونه بالشرك..
﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ ﴾ جبالا ثوابت، ﴿ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ كراهة أن تميل بكم وتضطرب فإنه لما خلق الأرض كانت تتحرك فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد فأصبحت الملائكة وقد خلقت الجبال ولم تدر الملائكة مم خلقت، ﴿ وَأَنْهَارًا ﴾ أي : وجعل فيها أنهارا لأن في ألقى معنى الجعل، ﴿ وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ إلى مقاصدكم.
﴿ وَعَلامَاتٍ ﴾ كالجبال والتلال والوهاد وغيرها فإنها علامات للطرق، ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ أي : بجنس النجم خصوصا القريش خصوصا يهتدون في البراري والبحار فإن لقريش بذلك علما لم يكن مثله لقوم غيهم فالشكر عليهم أوجب.
﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ ﴾ وهو الله سبحانه، ﴿ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ وهو كل معبود من دون الله تعالى وغلب جانب أولي العلم فجاء بمن أو المراد الأصنام وجعلها من أولي العلم بزعمهم أو للمشاكلة وحق الكلام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق وعكس للتنبيه على أنهم جعلوا الله بالإشراك من جنس المخلوقات العجزة شبيها بها، ﴿ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ فتعرفوا فساد ذلك.
﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ لا تضبطوا عددها لكثرتها فكيف تطيقون القيام بشكرها، ﴿ إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ حيث لا يعاقبكم بتقصير في شكرها ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
﴿ وَاللّهُ ١يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ من عقائدكم وأعمالكم.
١ ولما أثبت لنفسه الإحسان وأن الخلق مغرقون في إنعامه و أنه قادر مطلق أراد أن يثبت له إحاطة العلم صريحا فقال: "والله يعلم" الآية /١٢ وجيز.
.

﴿ والَّذِينَ١ أي : والآلهة الذين، ﴿ يدعون ﴾ أي : يعبدونهم، ﴿ من دون الله لا يخلقون شيئا ﴾ فكيف تجوزون شركتهم مع الله الخالق لاسيما، ﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ بخلق الله أو بخلقهم الناس بالنحت والتصوير.
١ ولما أثبت الإحسان والقدرة والعلم لنفسه أراد أن ينفي كل ذلك عن آلهتهم ليظهر التباين فقال: "والذين" الآية /١٢ وجيز.
.

﴿ أَمْواتٌ ﴾ أي : هم أموات لا أرواح لهم، ﴿ غَيْرُ أَحْيَاء ﴾ في وقت من الأوقات لا يعقب موته حياة فهم أغرق في الموت من النطف أيضا، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ لا يعرفون وقت بعثهم فإن الأصنام تبعث فتتبرأ من عبادتها وقيل : ضمير يبعثون إلى عبدتهم يعني هم جهلاء فلا يستحقون الإلهية.
﴿ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ بعد ذكر حجج وحدانيته أخبر بالنتيجة، ﴿ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ لا يتأملون في الحجج وإن كانت واضحات ويستكبرون عن إتباع الرسل بخلاف من يؤمن بالآخرة فإنه طالب الدلائل متبع للحق.
﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ فيجازيهم وهو في موضع الرفع بمحذوف أي : حق أن الله تعالى يعلم سرهم وعلانيتهم حقا، ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ لا يثيبهم.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ السائل الحاج يسألون هؤلاء المكذبين، ﴿ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ أي : ما يدعي نزوله مأخوذ من الكتب المتقدمة ليس بمنزل من الله تعالى.
﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ هي لام العاقبة فإن قولهم هذا أداهم إلى حمل أوزارهم ضلالهم كاملة لم يكفر منها شيء بمصيبة أصابتهم في الدنيا لكفرهم، ﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ ﴾ أي : ليحملوا أوزار أنفسهم وبعض أوزار، ﴿ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم ﴾ يعني خطيئة إغوائهم لغيرهم، ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ حال من مفعول يضلون أو من فاعله، ﴿ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ﴾ أي : بئس شيئا يزرونه صنيعهم.
﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ليهدموا ما أسس الله من بنيان دينه، ﴿ فَأَتَى اللّهُ ﴾ أي : أمر الله تعالى، ﴿ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ﴾ أي : من جهة أساطين ما بنوا عليه وخربت من أصله وأسه، ﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ١ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ وصار سبب هلاكهم، ﴿ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ لا يتوقعون وهذا على سبيل التمثيل وعن ابن عباس٢ رضي الله عنهما أن المراد به نمرود٣ حين بنى الصرح ليصعد إلى السماء فهبت الريح وألقت رأسها في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته وكان طولها خمسة آلاف ذراع.
١ والأظهر أن ذلك على سبيل التمثيل /١٢ منه..
٢ رواه ابن أبي حاتم عن مجاهد أيضا /١٢ منه..
٣ ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمرود بن كنعان حيث بنى بناء عظيما ببابل طوله في السماء خمسة آلاف ذاع وقيل فرسخان ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخر ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا وكان أعظم أهل الأرض تجبرا في زمن إبراهيم عليه السلام و نمروذ بضم النون والذال المعجمة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة والأولى أن الآية عامة في جميع البطلين الماكرين الذين يحاولون إلحاق الضر بالمحققين المؤمنين ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم /١٢..
﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ﴾ يذلهم، ﴿ وَيَقُولُ ﴾ الله تعالى تقريعا١ وتوبيخا، ﴿ أَيْنَ شُرَكَائِيَ ﴾ في زعمكم ليدفعوا العذاب عنكم، ﴿ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ ﴾ : تحاربون، ﴿ فِيهِمْ ﴾ في سبيلهم، ﴿ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ هم السادة في الدارين إظهارا للشماتة وزيادة للإهانة، ﴿ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ ﴾ العذاب، ﴿ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.
١ فإهانتهم جامعة بين الفعل والقول / ١٢..
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ﴾ حال من مفعول تتوفى، ﴿ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ ﴾ سالموا وانقادوا عند الموت قائلين :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾ كفر وعدوان، ﴿ بَلَى ﴾ أي : فقالت الملائكة بلى، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فيجازيكم.
﴿ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾ أي : كل صنف بابها المعد له، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ﴾ : منزل، ﴿ الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ عن عبادة الله جهنم.
﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا اَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا ﴾ أنزل ﴿ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ﴾ مكافأة ﴿ فِي هَذِه ﴾ الحياةِ ﴿ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْر ﴾ لهمٌ ﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ دار الآخرة.
﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ خبر مبتدأ محذوف أو مخصوص بالمدح أو بدل من دار المتقين، ﴿ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يشاءون ﴾ كل ما يشتهون يجدون فيها لا في الدنيا، ﴿ كَذَلِك ﴾ مثل هذا الجزاء، ﴿ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾.
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِين ﴾ طاهرين من الشرك وقيل : فرحين ﴿ يَقُولُون ﴾ أي : الملائكة ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُم ﴾ لا يلحقكم بعد مكروه، وقيل : يبلغونهم سلام الله تعالى، ﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّة ﴾ المعدة لكم حين تبعثون، ويمكن أن يكون المراد دخول أرواحهم الجنة قبل البعث كما في الحديث١، ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
١ الذي رواه مالك في الموطأ والترمذي قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) وقد صححه الترمذي وغيره، قال المحققون: هذا غير مختص بالشهداء /١٢ وجيز ومنه..
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ١ أي : هل ينتظر الكفرة، ﴿ إلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ﴾، لقبض أرواحهم ﴿ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّك ﴾ العذاب أو الهلاك أو القيامة يعني مآلهم إما أن يموتوا حتف أنفهم أو يقتلوا، فكأنهم لا ينتظرون إلا فردا من هذين، لكن المؤمنون ينتظرون أنواع رحمة الله تعالى بعد الموت، ﴿ كَذَلِك ﴾ أي : مثل فعلهم من التكذيب، ﴿ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ ﴾ بتعذيبهم، ﴿ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ فاستحقوا به عذاب الله تعالى.
١ لما ذكر طعن الكفار في القرآن كقولهم: أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم ثم أردف حال المؤمنين ووعد لهم كما هو دأب القرآن رجع إلى حال الكفرة فإن المقصود بيان حالهم (هل ينظرون) الآية: ١٢ وجيز..
﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ ﴾ أي : وبال سيئات عملهم، ﴿ وَحَاق ﴾ أحاط ﴿ بِهِم ﴾ جزاء ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ﴾.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ ﴾ أن لا نعبد غيره، ﴿ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ﴾ أي : ما عبدنا نحن، ﴿ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾ أي : البحيرة والسائبة وغيرهما ومضمون كلامهم لأنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا١، ولما مكننا منه وقيل : إنما قالوا استهزاء، ﴿ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ من الشرك وتحريم الحلال ورد الرسل، ﴿ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ﴾ أي : ليس الأمر كما زعمتم من عدم الكره كيف وقد أنكرنا عليكم أشد الإنكار بلسان رسلنا وإنما عليهم التبليغ لا الإهداء.
١ حاصلة أنهم استدلوا على عدم قبح أعمالهم بأنها برضاه فمذهبهم أن المشيئة ملزوم لا تنفك عن الرضاء كمذهب المعتزلة بعينه هداهم الله /١٢ وجيز ومنه..
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ١أي : بعثناهم بذلك الأمر فكيف يتمسكون بمشيئته ؟ ! ﴿ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ ﴾ فلا يشرك و لا يحرم حلاله، ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ ﴾ وجبت، ﴿ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ﴾ إذ لم يوفقهم ولم يهدهم فالله تعالى عنهم غير راض ؛ بل أراد شقاوتهم، ﴿ فَسِيرُواْ ﴾ يا معشر قريش، ﴿ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ حتى تعرفوا أنهم في سخط من الله تعالى.
١ هو كل معبود من دون الله / ١٢ معالم..
﴿ إِن ١تَحْرِصْ ﴾ يا محمد، ﴿ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ﴾ من أراد الله تعالى إضلاله ولا يغير إرادته القديمة بحرصك على هدايتهم، ﴿ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ٢ ينصرونهم وينجونهم من عذابه عطف على إن الله أي : إن تحرص على هدايتهم فلا فائدة فيه، لأن الله لا يهديهم وليس لهم ناصر فمجموع المعطوف والمعطوف عليه علة للجزاء قائمة مقامه.
١ ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم في كمال الشفقة على من بعثه الله إليهم وقد أنزل عليه ومنهم من حقت عليه الضلالة اغتنم قلبه الرحيم للضالين فقال الله: "إن تحرض على هداهم" الآية /١٢ وجيز..
٢ ولما ذكر فيه إقناط من هدايتهم يذكر ما يشعر على سبب الإقناط فقال: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم" الآية /١٢ وجيز.
.

﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ١َ أيْمَانِهِمْ ﴾ غلظوا في الحلف، ﴿ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ٢بَلَى ﴾ يبعثهم، ﴿ وَعْدًا ﴾، مصدر مؤكد لنفسه فإن بلي دال على وعد الله تعالى بعثهم، ﴿ عليه ﴾ إنجازه لامتناع خلف وعد، ﴿ حَقًّا ﴾ صفة أخرى لوعدا، ﴿ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أنهم يبعثون.
١ نصبه على أنه مصدر أو حال كما مر..
٢ ونعم قول من قال: أمر البعث مجملا عقلي لا حاجة إلى مخبر فإنا نرى من يظلم صالحا كمال الظلم، وماتا فلو لم يكن بعده قصاص فأين العدل وحاشا لله أن يرضى بذلك و لا ينتقم منه /١٢ وجيز.
.

﴿ لِيُبَيِّنَ ﴾ أي : يبعثهم ليبين، ﴿ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيه ﴾ الضمير لمن يموت المختلف فيه هو الحق، ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ﴾ في إقسامهم لا يبعث الله من يموت.
﴿ إِنَّمَا ١قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن ﴾ أي : احدث، ﴿ فَيَكُونُ٢ فيحدث وهو بيان سهولة الأشياء له حتى يعلم أن البعث لا يتعسر على الله بوجه.
١ ولما كان إنكارهم البعث لحسبانهم أن البدن الممزق إحياؤه بعيد عن العقل قال: "إنما قولنا" الآية /١٢وجيز..
٢ ولما بين أن ما أراد لا يتخلف ولا شيء عليه عسير أخذ يبين أنه تعالى لما أراد نصرة دين نبيه وعد أن العاقبة للمتقين خاب سعيهم وجهدهم في خلاف مراد لله ورجع عليهم شؤم مكرهم و بين كذب ما أقسموا بأن الآخرة و البعث بعد الموت ثابت فقال: "والذين هاجروا" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ ﴾ أي : في رضاه وحقه، ﴿ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾، عذبوا وأوذوا والمراد المهاجرون إلى الحبشة وغيرها كعثمان بن عفان رضي الله عنه وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهما، ﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا ﴾ بثوية١، ﴿ حَسَنَةً ﴾ وهي أن مكنهم الله تعالى في البلاد وحكمهم على رقاب العباد فصاروا أمراء حكاما وللمتقين إماما أو مباءة حسنة وهي المدينة، ﴿ وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾ مما أعطي لهم في الدنيا، ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ قيل الضمير للكفار فإن المؤمنين يعلمون.
١ إشارة إلى أن حسنة صفة مصدر محذوف /١٢.
.

﴿ الَّذِينَ١ صَبَرُواْ ﴾ منصوب أو مرفوع عل المدح، ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون٢.
١ أي: هم الذين صبروا على الأذى ومفارقة الوطن لاسيما حرم الله المحبوب على القلوب، فكيف لمن كان مسقط رأسه وأول مس جلده ترابها؟ /١٢ وجيز..
٢ و لما ذكر ومدح الصابرين المتوكلين وقدرتهم وإمامهم الأنبياء مخاطبا لنبيه: "و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا" الآية / وجيز..
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ لا ملائكة رد على من قال : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، ﴿ نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ ﴾ أهل الكتاب ليخبروكم أنهم بشر لا ملائكة، ﴿ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ﴾ كأنه جواب قائل : بم أرسلوا ؟ فقال : أرسلناهم بالمعجزات والكتب وقيل صفة رجالا، وقيل : متعلق بما أرسلنا، وقيل : بما تعلمون أو بنوحي، ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ : يا محمد، ﴿ الذِّكْرَ ﴾ : ، القرآن، ﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ يعني لتفصل بهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك عليه، ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيما أنزلنا إليك فيهتدون.
﴿ أَفَأَمِنَ١ الَّذِينَ مَكَرُواْ ﴾ المكرات، ﴿ السَّيِّئَاتِ ﴾ كأهل مكة، ﴿ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ ﴾ كما خسف بقارون، ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون ﴾ لا يعلمون مجيئه إليهم.
١ ولما ذكر أن الإنزال للتبيين والتفكر ناسب إن يسأل أن بعد تبيينك وتفكرهم آمنوا إن لم يطيعوا
أنواع العقوبة فقال: "أفأمن الذين" الآية /١٢ وجيز..

﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمِْ في تَقَلُّبِهِمْ ﴾ : في المعايش واشتغالهم بها من أسفار ونحوها من الأشغال الملهية، أو تقلبهم في الليل والنهار١، ﴿ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين ﴾ الله.
١ قول مجاهد و الضحاك /١٢..
﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ أي : في حال خوفهم من أخذه لا بغتة أو على تنقص بأن يأخذ شيئا بعد١ شيء حتى يستأصلوا، ﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لرءوف رَّحِيمٌ ﴾ حيث لا يعاجلكم بعقوبته.
١ من قولك: تخوفته وتخونه إذا انتقصته، وقيل: هذا لغة بني هذيل /١٢..
﴿ أَوَ لَمْ ١يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ ﴾ ما موصولة مبهمة، ﴿ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ ﴾ بيانه أي : يميل ويدور، ﴿ عَنِ الْيَمِينِ والشمائل ﴾ جمع الشمال باعتبار معنى ما خلق٢ الله تعالى، ﴿ سُجَّدًا لِلّهِ ﴾ حال من الظلال كل شيء له ظل يسجد ظله لله تعالى ولا يبعد ذلك عن قدرة الله تعالى أو سجودها انقيادها لما قدر له من التفيؤ، أو حال من ضمير ظلاله قال كثير من السلف : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله تعالى، ﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ : صاغرون حال من ضمير ظلاله لأنه في معنى الجمع وجمعه بالواو والنون للتغليب، أو لأن الدخور والسجود من أوصاف العقلاء٣. واليمين يمين الفلك أي : الجانب الشرقي والشمال الجانب الغربي أو المراد من اليمين والشمائل جانبا كل شيء استعارة من يمين الإنسان وشماله.
١ ولما بين قدرته على تعذيب الماكرين أراد تنبيههم على أنه يجب عليهم أن يكونوا طائعين فقال: ﴿أو لم يروا﴾ الآية / ١٢ وجيز.
٢ فإنما خلق الله أشياء كثيرة لكل شيء منها جانبان فوحد الضمير باعتبار اللفظ كما وحد الضمير في ضلاله و جميع الشمائل رعاية للمعنى كما جمع قوله سجدا وهو داخرون /١٢..
٣ فإنه لما وصفه بوصف العقلاء جمعه جمعهم /١٢ منه.
.

﴿ وَلِلّهِ يَسْجُدُ ﴾ : ينقاد١، ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ ﴾ والدبيب هي الحركة الجسمانية فجاز أن يكون بيانا٢ لما في السماوات أيضا، ﴿ والملائكة ﴾ عطف على ما في السماوات عطف خاص على عام فإن في السماوات غير الملائكة من الأرواح، ﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ عن عبادته.
١ فسرنا السجود بالانقياد ليشمل السجود المتعارف و غيره /١٢ منه..
٢ كما أنه بيان لما في الأرض /١٢..
﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُم ﴾ حال١ أو بيان أو تأكيد لنفي الاستكبار، ﴿ مِّن ٢فَوْقِهِمْ٣ أي : حال كون الرب قاهرا عاليا٤ لهم ٥، وهو القاهر فوق عباده، أو معناه يخافون من فوقهم، أي : أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وقيل : أي يخافون والحال أن الملائكة من فوق ما في الأرض من الدواب فمن دونهم أحق بالخوف، ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾.
١ فإن من خاف أحدا لا يستكبر عليه /١٢..
٢ قوله تعالى: "يخافون ربهم من فوقهم" وكم في القرآن الكريم من أمثالها ونظائرها مما يدل على فوقية الله تعالى على خلقه ومبائنته من جميع مخلوقاته قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في النقض على المريسى: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته فقال الإمام أبو سليمان الخطابي في كتابه شعار الإيمان إن إنكار الفوقية شيء سرقه المتأخرون من الفلاسفة وفي ذلك رد لكتاب الله وسنة رسوله، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: العرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، و قال الإمام أبو حنيفة: من أنكر الله عز وجل في السماء فقد كفر وقال الإمام مالك: الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان، وسئل الإمام أحمد: ما تقول في من قال إن الله ليس على العرش؟ قال: كلامهم كله يدور على الكفر، وأيضا قال: ما فطر العباد إلا على أن ربهم في السماء وقال الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة: إن الله تبارك وتعالى على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علما، ليس كمثله شيء والسميع والبصير انتهى.
وقال الإمام البخاري في كتاب خلق الأفعال: قال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية أنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى، وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: نعرفه بأنه فو ق سماواته على عرشه بائن خلقه، وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله استوى على عرشه فوق سبع سماواته بائن من خلقه فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقى على بعض المزابل لئلا يتأذي بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة، و قال الحافظ الذهبي: ما أدركنا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا و عراقا وشاما ويمنا يقولون: إن الله عل عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه بلا كيف وأحاط بكل شيء علما وهكذا يقولون في جميع الصفات القدسية انتهى.
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه "مختلف الحديث": ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم وما ركبت عليه ذواتهم من معرفة الخالق لعلموا أن الله عز و جل هو العلي الأعلى وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه والأمم كلها أعجميها وعربيها تقول: إن الله في السماء ما تركت على فطرتها انتهى.
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه "اختلاف المضلين" ومقالات الإسلاميين: فلولا أن الله تعالى على عرشه ما قال في حق ملائكته: "يخافون ربهم من فوقهم" ولما فطر الخلق عند سؤاله على رفع الأيدي إلى السماء انتهى /١٢..

٣ الذي فو قهم على العرش /١٢..
٤ لما بين أن كل ما سوى الله سوء كان من عالم الأرواح أو عالم الأجسام فهو منقاد خاضع لجلال الله وكبريائه أتبعه بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وأنه غني عن الكل فقال: "لا تتخذوا إلهين اثنين" الآية /١٢ كبير..
٥ في النسخة (ن): عاليا عليهم..
﴿ وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ فإن الاثنينية تنافي الإلهية١، ﴿ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ ﴾ فإن الوحدة من لوازم الإلهية، ﴿ فَإيَّايَ فَارْهَبُون ﴾ كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد فإياي فارهبون لا غيري.
١ يعني ذكر العدد مع المعدود ويدل إيماء إلى أن الاثنينية تنافيها /١٢..
﴿ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ ﴾ أي : الطاعة، ﴿ وَاصِبًا ﴾ : دائما ؛ فإن طاعة غير الله تنقطع، ﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ١ مع أنه تعالى خالق الأشياء وحده.
١ يعني بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد وكل ما سواه محتاج إليه في كل حال فبعد العلم بهذا كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى فلهذا قال على سبيل التعجب: "أفغير الله تتقون" /١٢ كبير..
﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ ١فَمِنَ اللّهِ ﴾ " ما " شرطية، أي : أي شيء اتصل بكم من النعم، فهو من الله تعالى، ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ إليه لا إلى غيره تتضرعون.
١ يعني أن جميع النعم من الله تعالى ثم إذا اتفق مضرة تزيل شيئا من تلك النعم فإلى الله يجر أي: لا يستغيث أحدا إلا الله لعمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو فكأنه قال لهم: فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة؟ /١٢ كبير.
.

﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ وهم الكفار.
﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ ﴾ من النعم، كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعم. واللام لام العاقبة، ﴿ فَتَمَتَّعُواْ ﴾ : أمر وتهديد، ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ : عاقبة أمركم.
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي : لأصنامهم التي لا علم لهن، فضمير الجمع لما، ﴿ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾، كما مر، " هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا " ( الأنعام : ١٣٦ ). ﴿ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ ﴾، سؤال توبيخ، ﴿ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ﴾، من إثبات الشريك وغيره.
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ ﴾، يقولون : الملائكة بنات الله تعالى. ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾، تنزيه له من قولهم، ﴿ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ﴾، أي : البنون، والجملة مبتدأ وخبر، أو تقديره يجعلون لهم١ ما يشتهون، أي : يختارون لأنفسهم البنين.
١ فعلى هذا "لهم" عطف على الله و "يشتهون" على البنات / ١٢ منه..
﴿ وَإِذَا بُشِّرَ ﴾ : أخبر، ﴿ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ﴾، بولادتها، ﴿ ظَلَّ ﴾ : صار، ﴿ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ﴾ من الكآبة، وهو كناية عن شدة الغم، ﴿ وَهُوَ كَظِيم ﴾ مملوء غما وغيظا.
﴿ يَتَوَارَى ﴾ : يستخفي، ﴿ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ ﴾، الضمير لما ولفظه مذكر، أي : متفكرا في أن يتركه، ﴿ عَلَى هُونٍ ﴾ : على ذل، ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ ﴾ : يخفيه، ﴿ فِي التُّرَابِ ﴾ فإنهم كانوا يدفنون البنات أحياء، ﴿ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾، حيث يجعلون لمن تنزه عن الولد، أخس الولد عندهم.
﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ﴾ : صفة النقص، ﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ﴾ الكمال المطلق، والنزاهة عن صفات الخلائق، ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ﴾ : المتفرد بكمال الغلبة والحكمة التامة.
﴿ وَلَوْ١ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم ﴾، بما كسبوا من المعاصي، ﴿ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ﴾، الضمير للأرض، لدلالة الدابة عليها، ﴿ مِن دَابَّةٍ٢، وعن بعض السلف : كاد الجعل٣ يهلك في جحره بذنب ابن آدم، وعن بعضهم، معنى ﴿ من دابة ﴾ :" من " مشرك يدب على الأرض، فإنه لو أهلك الآباء الكفرة لم تكن الأبناء، ﴿ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾، انقضاء عمرهم المقدر، فيتوالدون، ﴿ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ ﴾، أي : وقته، ﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾، أي : لا يمهلون لحظة.
١ لما حكى عظيم كفرهم وقبيح قولهم بين أنه يمهل هؤلاء الكفار و لا يعاجلهم بالعقوبة إظهارا للفصل والرحمة والكرم فقال: "ولو يؤاخذ الله الناس" الآية /١٢ كبير..
٢ سمع أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ رجلا يقول إن الظالم لا يهلك إلا نفسه، فقال: لا والله الحبارى تموت في وكرها بظلم الظالم /١٢ وجيز..
٣ الجعل كـ "صرد": دويبة في تاج الأسامي الجعل سركين غلطان وفي حياة الحيوان هو كصرد جمعه جعلان بالكسر دويبة معروفة شديد السواد في بطنه لون حمرة ومن شأنه جمع النجاسات /١٢..
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾ أي : ما يكرهون لأنفسهم من البنات، والشريك في الرياسة والأموال، ﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ﴾، فسر الكذب بقوله :﴿ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ﴾، كما قال تعالى :" ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " ( فصلت : ٥٠ )، ﴿ لاَ جَرَمَ١ أي : ليس الأمر كما زعم كسب قولهم هذا، ﴿ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ٢، مقدمون إلى النار، من الفرط، وهو السابق إلى الماء، أو منسيون، من أفرطت فلانا خلفي، إذا نسيته، ومن قرأ بكسر الراء، فهو من الإفراط بالمعاصي.
١ معنى لا جرم يأتي في سورة"حم" "المؤمن" واختار هاهنا هذا المعنى لتعلم كلا معنييه /١٢ منه..
٢ ولما استوفى الكلام في عنادهم وجهلهم بحيث يظن ظان أنهم أجهل الأمم وأضل أكد في نفي هذا الظن بالقسم تسلية لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك" الآية /١٢ وجيز..
﴿ تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا ﴾، رسلا، ﴿ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾، فأصروا على ما هم عليه، ولم يتبعوا رسلنا، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة، ﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ﴾، أي : الشيطان ناصرهم الآن، وهم تحت نكاله، ومن هو ناصره فالويل عليه، وقيل : المراد من اليوم : يوم القيامة، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : في الآخرة.
﴿ وَمَا ١أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ﴾ : للناس، ﴿ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ : من أمر الآخرة، ﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً ﴾ معطوفان على محل " لتبين " ولا يجوز أن يقال إلا تبيينا ؛ لأنه فعل المخاطب، لا المنزل بخلاف الهداية والرحمة، ﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ٢.
١ ولما أعلم أنهم في خلاف و ضلال أراد التحريض في تبيين الحق لهم وإهدائهم فقال: (وما أنزلنا عليك الكتاب) الآية /١٢ وجيز..
٢ أي: لقوم في علم الله أنهم يؤمنون فإن ما أنزلنا حياة لأرواحهم وشفاء لما في صدورهم ولما أراد التشبيه قال: "والله أنزل من السماء ماء" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ١إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ٢، لا لمن هو أصم، فيتدبر في دلالته على البعثة المختلف فيها.
١ تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب " إن في ذلك" الآية /١٢..
٢ كأنه في كونه آية دالة على إمكان البعث لا يحتاج إلا إلي حس السمع ولا يحتاج معه إلى كثير عمل بالقلب من عمق الفكر /١٢ وجيز..
﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ﴾، دلالة على كمال قدرته. ﴿ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾، لما كان الأنعام اسم جمع وحد ضميره، ومن قال : جمع نعم، فالضمير للبعض ؛ فإن اللبن لبعضها، أو " من " للتبعيض، ﴿ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ﴾، هو ما في الكرش من الثقل ومن للابتداء، ﴿ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا ﴾ : صافيا، ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث، ﴿ سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾، هنيئا يجري على السهولة في حلوقهم.
﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ ﴾، متعلق بمحذوف، أي : ونسقيكم من ثمراتهما، يعني : عصيرهما، ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾، استئناف لبيان الإسقاء، ﴿ مِنْهُ ١سَكَرًا ﴾، وهو : الخمر. والآية قبل تحريمه، وتذكير الضمير ؛ لأنه يرجع إلى المضاف٢ المقدر، أعني : العصير، قيل :" من ثمرات "، متعلق ب " تتخذون " و " منه "، تكرير التأكيد، وقيل : تقديره : ومن ثمراتهما، ثمر تتخذون منه، ف " تتخذون "، صفة لمبتدأ محذوف، ﴿ وَرِزْقًا٣ حَسَنًا ﴾، كالخل والدبس، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾، يستعملون عقولهم، قيل : ناسب ذكر العقل ها هنا، فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرم السكر، صيانة لعقولهم.
١ ولما كان اللبن ليس فيه معالجة لأحد قال نسقيكم والسكر والنحل والدبس يحتاج إلى معالجة قال: "تتخذون" /١٢ وجيز..
٢ مع أن المرجع بحسب الظاهر الثمرات /١٢..
٣ وفيه إيماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن قيل: السكر الطعم وقال الطبري: السكر في كلام العرب ما يطعم /١٢ وجيز..
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾، ألهمها وأرشدها، ﴿ أَنِ اتَّخِذِي ﴾، أي : بأن اتخذي، أو أن مفسرة للوحي، وتأنيث الضمير ؛ لأن المراد منه الجمع، ﴿ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ﴾ تأوي إليها، ﴿ وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾، ضمير الجمع للناس، يعني : أرشدنا النحل باتخاذ المسكن لأنفسها من الجبال، والأشجار، ومما يبنون لها في أي موضع كان، أو منهما ومن البيوت، فإنه قد يكون بيوت الناس مسكنه.
﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾، التي تشتهينها، ﴿ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ﴾، في الجبال والبراري والأودية، في ذهابك إلى رعيك وإيابك إلى بيتك، ﴿ ذُلُلاً ﴾، حال كون السبل مذللة سهلها لك، أو اسلكي أنت كونك ذللا منقادة لما أمرتك به، ﴿ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ ﴾، هو حال كونك ذللا منقادة لما أمرتك به، ﴿ يخرج من بطونها شراب ﴾ : هو العسل، ﴿ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾، أبيض وأصفر وأحمر وأسود، ﴿ فِيهِ شِفَاء ١ لِلنَّاسِ ﴾، في الحديث :٢ ( عليكم بالشفائين : العسل والقرآن )، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ في صنع الله وإحكام أمره.
١ في بعض الأحاديث ما يدل على أنه شفاء لكل داء وصرح بذلك ابن مسعود، فالتنوين للتعظيم ولما كان أمر النحل عجيب في بنائها البيوت المسدسة وفي أكلها الأزهار المتنوعة وفي طواعيتها لأميرها وكان النظر في ذلك محتاجا إلى تأمل ختم بقوله: "إن في ذلك" الآية /١٢ وجيز. [حديث"عليكم بالشفاء، العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور" أخرجه ابن عدي في "الكامل" (١٨٣/٢) عن سفيان بن و كيع: ثنا أبي عن سينان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله مرفوعا... فذكره. وضعفه الشيخ الألباني في "الضعيفة" تحت حديث (١٥١٤).].
٢ رواه ابن ماجه وابن جرير.[و ضعفه الشيخ الألباني في "الضعيفة" (١٤١٥).].
﴿ وَاللّهُ ١خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ٢ الْعُمُر ﴾، أخسه، وهو : الهرم، وعن علي رضي الله عنه أنه خمس٣ وسبعون سنة، ففيه ضعف القوى، وسوء الحفظ، وقلة العلم، ﴿ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ : ليصير إلى حالة شبيهة بالطفولية في أكثر الأشياء، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ ﴾، بما يصنع، ﴿ قَدِيرٌ ﴾، على ما يريد.
١ ولما أثبت كمال قدرته في الأربعة المتقدمة نبه على قدرته التامة في لأنفسنا فقال: "والله خلقكم" الآية /١٢ وجيز..
٢ ولا يقيد بسن مخصوص ويتفاوت بالأشخاص قيل: أرذل العمر للكافر ولذلك قال تعالى "ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات" (التين: ٥، ٦)، قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر /١٢ وجيز..
٣ وعن قتادة وهو خمس وتسعون /١٢..
﴿ وَاللّهُ١ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ ﴾، بسط واحد، وضيق على آخر. ﴿ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ ﴾ : في الرزق، ﴿ بِرَادِّي ﴾ : بمعطي، ﴿ رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، أي : مماليكهم، ﴿ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء ﴾ : فيستوون في الرزق، عن ابن عباس رضي الله عنه غيره يقول الله تعالى :" لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ ! " فهو رد وإنكار على المشركين، حيث لا يرضون أن يكون حيوانا مثلهم شريكا لهم، ويقولون مخلوقات الله شركاؤه في ألوهيته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ﴿ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ﴾، حيث يتخذون معه شركاء، والباء لتضمين الجحود معنى الكفر، وقيل : معناه : جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم : وهو بشر مثلكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في المطعم والملبس، ثم جعل عدم ردهم إلى المماليك من جملة جحود النعمة.
١ ولما ذكر خلقنا وإماتتنا وتفوتنا في العمر أراد ذكر تفاوتنا في الرزق فقال: "والله فضل" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ١، أي : من جنسكم، وقيل : المراد خلق حواء من آدم، ﴿ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ ٢وَحَفَدَةً ﴾، أولاد الأولاد، أو بني امرأة الرجل، أي : الربائب أو الخدم، فعلى هذا تكون عطفا على أزواجا، لا على بنين أو البنات، أو الأختان، أي : الأصهار، والحفد٣ في اللغة الخدمة، ﴿ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾، اللذائذ، ﴿ أَفَبِالْبَاطِلِ ﴾ : الأصنام، ﴿ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾، حيث يضيفونها إلى غيره.
١ لما امتن بالرزق جعل يمتن بما هو من مصالحه و يستأنس به والمراد بالأنفس الجنس /١٢..
٢ ولم يذكر البنات لأن الآية للامتنان والبنات عند أكثرهم مكروه /١٢ وجيز..
٣ ومنه إليك نسعى ونحفد أي نسرع في الطاعة /١٢ وجيز..
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ١ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : لا المطر ولا النبات والثمار، ﴿ شَيْئًا ﴾، بدل من رزقا، أي : لا قليلا ولا كثيرا، وإن جعلت رزقا مصدرا مفعوله، أي : لا يملك أن يرزق شيئا، ﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾، أي : لا يستطيع تلك الآلهة أن يتملكوه، أو لا استطاعة لهم أصلا.
١ عن قتادة قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقا من السماوات والأرض ولا ضرا ولا حياة و لا نشورا /١٢..
﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ ١لِلّهِ الأَمْثَالَ ﴾ : لا تشبهوه بخلقه، فإن ضرب المثل : تشبه ذات بذات، أو وصف بوصف، وتعالى عن ذلك، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ﴾، خطأ ما تضربون، ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، قيل : معناه لا تضربوا لله المثل، فإنه يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ثم علمهم كيف تضرب فقال :﴿ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
١ أقول يحتمل أن يكون المراد أن عبدة الأوثان كانوا يقولون إن إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا، بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هذه الأصنام ثم إن الكواكب و الأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم والدليل عليه العرف فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك وأولئك الأكابر يخدمون الملك، فكذا هاهنا فعند هذا قال الله تعالى لهم اتركوا عبادة هذه الأصنام والكواكب ولا تضربوا لله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله الحكيم القدير واتركوا دليلكم الذي عولتم إليه وهو قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك لأن هذا قياس والقياس يجب تركه عند ورود النص فلهذا قال إن الله يعلم أنه لا مثل له في الخلق وأنتم لا تعلمون بشيء من ذلك وفعلكم هذا هو عن توهم محض وخاطر باطل وخيال مختل /١٢ كبير مع الفتح..
﴿ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا ﴾، لا عبدا١ حرا، ﴿ لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾، هو تمثيل٢ للكافر والمؤمن، فالكافر رزقه الله مالا فلم يقدم فيه خيرا، فهو كالعبد لا يملك شيئا، وإن كان هو متصرفا فيه، والمؤمن أعطاه الله مالا، فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه في رضاه سرا وجهرا، فهو كالحر يتصرف في ماله ولا يسلب عنه أبدا، أو مثل الصنم بالمملوك العاجز، ومثل نفسه الأقدس بالحر المالك الذي رزقه الله مالا يتصرف فيه كيف يشاء، فالتسوية بينهما مع الاشتراك في النوعية ممتنعة، فكيف بالقادر الغني المطلق والصنم العاجز على الإطلاق ؟ ! وجمع الضمير في " يستوون " ؛ لأن معناه هل يستوي الأحرار والعبيد ؟ ! ﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ ﴾، كل الحمد له ؛ لأنه وحده مولي النعم كلها، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، أنه وحده مولي النعم، فيعبدون غيره.
١ فإن كل حر عبد من عباد الله /١٢ منه..
٢ قاله ابن عباس وقتادة واختاره بن جرير /١٢ منه..
﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ ﴾، أي : جعل رجلين مثلا، ﴿ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ﴾، ولد أخرس، ﴿ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ ﴾، من الصنائع لنقصان جسده وعقله، ﴿ وَهُوَ كَلٌّ ﴾ ثقل، ﴿ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ ﴾، حيثما يرسله سيده في أمر، ﴿ لاَ يَأْتِ بِخَيْر ﴾، لا يكف مهم مرسله، ﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾، فهم منطيق ذو رشد ينفع الناس أحسن نفع، ﴿ وَهُوَ ﴾ في نفسه، ﴿ عَلَى صِرَاطٍ١ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : مسيرة صالحة لا يرجى منه شيء إلا وهو يأتي بأمثل منه فالأول : هو الأصنام لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، ومع ذلك كلفة إلى عابدها تحتاج إلى أن يخدمها، والثاني : هو الله القادر، المتكلم النافع الصمد، المستغني مطلقا المحتاج إليه ما عداه، أو مثل للكافر والمؤمن، وقد نقل أن الأول : في عبد رجل٢ من قريش، والثاني : في عثمان بن عفان، والأبكم : الذي هو مولاه ينفق عليه عثمان، وهو يكره الإسلام ويأباه.
١ ولما قال: إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون و ضرب المثل وصف نفسه بأنه عالم قادر قال: "ولله غيب السماوات" /١٢ وجيز..
٢ نقله ابن جرير عن ابن عباس وراده أن الممثل به في قوله: "ضرب الله مثلا عبدا مملوكا" عبد رجل من قريش وفي قو له: "ضرب الله مثلا رجلين" عبد لعثمان وحاصله أن الممثل به موجود لا مخيل كما هو الشأن أكثر المثل /١٢ منه.
.

﴿ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾، يختص به علم ما غاب عن العباد، ﴿ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ ﴾، قيام القيامة في السرعة والسهولة، ﴿ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾، أو أمرها أقرب منه ؛ بأن يكون في أقل من ذاك الزمان، و " أو " للتخيير، أو بمعنى بل، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، فيقدر على إعادة الخلائق دفعة.
﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم ﴾، دليل على كمال قدرته، ﴿ مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ حال كونكم، ﴿ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ ﴾ أنشأ، ﴿ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ١ التي هي سبب معرفتكم الجزئية والكلية، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ هذه النعم، فلا تعبدون غير موليها.
١ ولما ذكر السمع والبصر والفؤاد وهي الحس والعقل ذكر مدركها فقال: "ألم يروا" الآية /١٢ وجيز..
﴿ ألَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ ﴾، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، ﴿ فِي جَوِّ السَّمَاء ﴾، الجو : الهواء المتباعد من الأرض، أي : في هواء العلو، ﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ ﴾ فيه، ﴿ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، والآيات خلق الطير بهيئة يمكن معها الطيران، وخلق الجو بحيث يمكن فيه الطيران، وإمساكها في الهواء مع ثقل جثة الطير، ولا ينتفع بها إلا كل مؤمن.
﴿ وَاللّهُ١ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ﴾ : موضعا تسكنونها، كالبيوت الحجرية والمدرية، والسكن بمعنى المسكون، أي : ما يسكن إليه، بأن خلق الآلات ثم علمكم الترصيف، ﴿ وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا ﴾، هي القباب المتخذة من الأدم والأنطاع، ﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾، تجدونها خفيفة٢، ﴿ يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ﴾، ترحالكم في سفركم، ﴿ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾ : وقت حضركم أو نزولكم، ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا ﴾ : هي للضأن، ﴿ وَأَوْبَارِهَا ﴾ : هي للإبل، ﴿ وَأَشْعَارِهَا ﴾ : هي للمعز، ﴿ أَثَاثًا ﴾، من الفرش والأكسية وغيرهما، ﴿ وَمَتَاعًا ﴾، ما يتمتعون به، ﴿ إِلَى حِينٍ ﴾، مدة متطاولة، أو إلى أجل معلوم.
١ ولما ذكر الطير الذي ليس له إلا الوكر في مثل الأشجار، وقد خلق له من الريش التي منها الطيران وهي دافعة عنه ضر الحر و البرد عقبه امتنانا لمن لا يتمكن من الطيران وليس معه ما يدفع به ضر البرد والحر بذكر ما هو دافع عنه فقال: "و الله جعل لكم بيوتكم" الآية /١٢ وجيز..
٢ يعني خففه عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا أو خفف عليكم حملها ونقلها يوم ترحالكم وضربها يوم نزولكم وإقامتكم في مكان /١٢ منه..
﴿ وَاللّهُ جَعَلَ ١لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾ تستظلون بها من الحر كالأشجار وغيرها، ﴿ وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ﴾، جمع كن : وهو ما يستكن به من الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال والحصون، ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ ﴾، القمصان و الثياب، ﴿ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ والبرد، واكتفى بأحد الضدين عن الآخر، أو خصه بالذكر ؛ لأن الحجاز بلاد الحر، ﴿ وَسَرَابِيلَ ﴾، لباس الحرب كالدروع، ﴿ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾، تمنعكم الطعن والقطع والرمي، ﴿ كَذَلِكَ ﴾، مثل تمام هذه النعم التي مر ذكرها، ﴿ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ لتستعينوا بها على الطاعة، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ : تنظرون في نعمه فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه. وعن عطاء : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب، هم أصحاب جبال وأوبار وأشعار، ألا ترى إلى قوله :" سرابيل تقيكم الحر "، وما يقي من البرد أعظم لكنهم أصحاب حر.
١ ولما كانت بلاد العرب غالبا عليها الحر امتن عليهم بذكر ما يكنهم من الحر فقال: "والله جعل لكم" الآية /١٢ وجيز.
.

﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ : أعرضوا عن قبول كلامك، ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾، لا يضرك إعراضهم.
﴿ يَعْرِفُونَ ﴾، أي : المشركون، ﴿ نِعْمَتَ اللّهِ ﴾، وأن كلها من الله، ﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا١ بعبادتهم غيره ويقولون : إنها بشفاعة آلهتنا، ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ : الجاحدون عنادا، وذكر الأكثر ؛ لأن بعضهم لنقصان عقلهم لم يعرفوا أنها من الله، أو الأكثر، بمعنى : الجميع، وعن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على أعرابي أتاه :" والله جعل لكم من بيوتكم سكنا "، قال الأعرابي : نعم " وجعل لكم من جلود الأنعام " إلى آخر النعم، فقال : نعم، فلما بلغ " كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون "، ولى الأعرابي، فأنزل الله " يعرفون نعمة الله " إلى " وأكثرهم الكافرون " ٢.
١ يعترفون أنها من الله ثم يقولون: حصلت بسبب الآلهة /١٢ منه، و نقل البغوي عن الكلبي قال: هو إنه لما ذكر لهم هذه النعمة قالوا: نعم هذه كلها من الله ولكنها حاصلة بشفاعة آلهتنا /١٢.
.

٢ أخرجه ابن أبي حاتم في "في تفسيره" (١٢٦٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٣٨) وعزاه لابن أبي حاتم في "تفسيره"..
﴿ وَيَوْمَ ١نَبْعَثُ ﴾، أي : اذكر هول هذا اليوم، ﴿ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ﴾، يعني : رسولها يشهد لهم وعليهم، ﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، في الاعتذار لأنه لا عذر لهم، ﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾، ولا هم يسترضون، أي : لا يكلفون بإرضاء ربهم ؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل.
١ ولما ذكر إنكارهم لنعمة الله ذكر لهم هول يوم لا ينفع فيه ندم نادم فقال: "ويوم نبعث" الآية /١٢ وجيز.
.

﴿ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ ﴾ : عذاب جهنم عطف على " يوم نبعث "، ﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ : يمهلون.
﴿ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ ﴾، أوثانهم التي جعلوها شركاء لله، ﴿ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ ﴾، نعبدهم، ﴿ مِن دُونِكَ ﴾، كأن هذا القول منهم التماس بأن يشاركهم في عذابهم، ﴿ فَألْقَوْا ﴾، آلهتهم، ﴿ إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ١إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾، أي : أجابوهم بالتكذيب٢، وقالوا : لسنا شركاء الله، وما دعوناكم إلى عبادتنا، بل عبدتم أهواءكم، وليس ببعيد إنطاق الله الأصنام.
١ يعني قالوا لهم: إنكم لكاذبون /١٢..
٢ أجاب شركاؤهم عابديهم بالتكذيب و قالوا: حاشا لله أن نكون شركاء إلى عبادتنا؛ بل عبدتم أهواءكم وشركاءهم عام من صنم ووثن و ملك وشيطان فيكذبهم من له نطق وانطق الله الأوثان /١٢ وجيز..
﴿ وَأَلْقَوْاْ ﴾ : الكفار، ﴿ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ﴾، استسلموا لحكمه، ﴿ وَضَلَّ ﴾ : ضاع وبطل، ﴿ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾، من شفاعة آلهتهم ونصرتها.
﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ ﴾، الناس، ﴿ عَن سَبِيلِ اللّه ﴾، عن دخوله في الإسلام، ﴿ زِدْنَاهُمْ ١عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾، بسبب إفسادهم ؛ فإنهم ضالون مضلون.
١ قال ابن مسعود و ابن عباس: المزيد عقارب أنيابها كالنخل الطوال وأنهار من صفر مذاب /١٢ وجيز..
﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ ﴾، أي : اذكر هذا اليوم وهوله، ﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾، نبي كل أمة بعث من قومه، ﴿ وَجِئْنَا بِكَ ﴾ : يا محمد، ﴿ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء ﴾ : على أمتك، ﴿ وَنَزَّلْنَا ﴾، حال بإضمار قد، ﴿ عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا ﴾ : بيانا بليغا، ﴿ لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ يحتاجون إليه من أمور الدين، ﴿ وَهُدًى ﴾ من الضلال، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ للجميع، ﴿ وَبُشْرَى ﴾ : وبشارة ﴿ لِلْمُسْلِمِينَ١ خاصة، وحاصله أن الله أمره يخوف أمته بيوم شهادته عليه الصلاة والسلام على أمته، حال كونه مسئولا عن تبليغ أحكام الله المبينة في القرآن، والأمة عن قبولها، كما قال تعالى :" فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " ( الأعراف : ٦ )، " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " ( الحجر : ٩٢ ).
١ ولما قال في وصف القرآن: تبيانا لكل شيء وصل به ما يقتضي التكاليف فرضا ونفلا و أخلاقا وآدابا وعقبة بآية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقا لذلك فقال: "إن الله يأمر بالعدل" الآية /١٢ وجيز.
.

﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ ١بِالْعَدْلِ ﴾، بالتوسط في الأمور اعتقادا وعملا، ﴿ وَالإِحْسَانِ٢، إلى الناس، وعن ابن عباس : العدل : التوحيد، والإحسان : الإخلاص فيه، ﴿ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ﴾ : صلة الرحم، ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء ﴾ : ما غلظ من المعاصي كالزنا، ﴿ وَالْمُنكَر ﴾، وما تنكره الشريعة، ﴿ وَالْبَغْيِ ﴾ : العدوان على الناس، ﴿ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ : تتعظون، ولله در من قال٣ : لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه، أنه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة، ولعل إيرادها عقيب قوله :" ونزلنا عليك الكتاب "، للتنبيه عليه.
١ قوله تعالى "إن الله يأمر" الآية، قال ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن للخير والشر /١٢ منه..
٢ إلى الخلق كلهم ولهذا قيل: من أحسن إلى الجميع سوى هرة في بيته لم يكن محسنا /١٢ وجيز..
٣ قائله القاضي البيضاوي /١٢ منه..
﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾، البيعة التي بايعتم على١ الإسلام أو كل عهد وميثاق، ﴿ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾، أي : أيمان البيعة بعد توكيدها بذكر الله، أو الأيمان مطلقا، ﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾ : شاهدا بتلك البيعة، والواو للحال، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾، تهديدا لمن نقض الأيمان.
١ وكل من دخل في الإسلام فقد بايع ولم يرد بيعة الرضوان؛ لأن السورة مكية والوفاء بالعهد من العدل والإحسان، و نقضه من الفحشاء والمنكر /١٢ وجيز.
.

﴿ وَلاَ تَكُونُواْ ﴾ : في نقض الأيمان، ﴿ كَالَّتِي نَقَضَتْ ﴾ : أفسدت، ﴿ غَزْلَهَا ﴾، مصدر بمعنى المفعول، أي : ما غزلته، ﴿ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ﴾، أي : نقضت بعد إحكامه وفتله، ﴿ أَنكَاثًا ﴾، جمع نكث، وهو ما ينكث فتله، ثاني مفعولي نقضت بتضمين معنى الجعل، أو بأنه بمعنى صيرت، أو مفعول مطلق لنقضت، وهو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وقد نقل أن في مكة كانت امرأة حمقاء تفعل١ ذلك، ﴿ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ ﴾، حال من اسم كان، ﴿ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾، أي : مفسدة٢ ودغلا، و هو ثاني مفعولي تتخذون، ﴿ أَن تَكُونَ ﴾، أي : بسبب أن تكون، ﴿ أُمَّةٌ ﴾ : جماعة، ﴿ هِيَ أَرْبَى ﴾ أكثر عددا وعددا، ﴿ مِنْ أُمَّةٍ ﴾ : من جماعة أخرى، كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر وأعز منهم فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون الأكثرين، ﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّه بِهِ ﴾، يختبركم الله بكونهم أربى، لينظر أنكم متمسكون بحبل الوفاء، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين وفقرهم، أو ضمير به راجع إلى الأمر بالوفاء، ﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ : في الدنيا فيجازي كل بعمله.
١ فيكون الممثل به موجودا لا مخيلا /١٢..
٢ أي: لا تكونوا مثلها متخذي أيمانكم مفسدة بينكم /١٢..
﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ : متفقة الكلمة والدين، ﴿ وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء ﴾ عدلا منه، ﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَاء ﴾ : فضلا منه، ﴿ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ : يوم القيامة بنقير وقطمير ويجازيكم.
﴿ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ ﴾، صرح بالنهي بعد النهي مبالغة، ﴿ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ : مكرا وخديعة، ﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ١ عن محجة الإسلام، ﴿ بَعْدَ ثُبُوتِهَا٢ عليها، ﴿ وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ ﴾ : العذاب في الدنيا، ﴿ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾، أي : بسبب صدكم غيركم عنه، فإن الكافر إذا رأى المؤمن قد غدر لم يبق له وثوق بالدين فانصد عن الإسلام، أو لأن من نقض البيعة جعل ذلك سنة لغيره، أو بصدودكم عن الوفاء، ﴿ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ : في الآخرة.
١ المراد من قدم أقدامكم، قال الزمخشري: وحدو نكر للدلالة على أن ذلك قدم و احد عظيم فكيف بالكثير /١٢ منه..
٢ فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين، والعرب تقول "لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة به زلت قدمه" /١٢ معالم..
﴿ وَلاَ١ تَشْتَرُواْ ﴾ : لا تستبدلوا، ﴿ بِعَهْدِ اللّهِ ﴾ : بيعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿ ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ : عرضا يسيرا من الدنيا، ﴿ إِنَّمَا عِندَ اللّهِ ﴾ : من الثواب على الوفاء، ﴿ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، أي : من أهل العلم دائم والتمييز.
١ ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا و الرجوع عن العهد لأجله فقال: "ولا تشتروا" الآية /١٢ فتح.
.

﴿ مَا عِندَكُمْ ﴾ : من أمتعة الدنيا، ﴿ يَنفَدُ ﴾ : ينقضي، ﴿ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ ﴾ : دائم لا ينقطع، ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾ : على الوفاء أو على أذى الكفار، ﴿ أَجْرَهُم ﴾ ثاني مفعولي نجزين، فإنه بمعنى نعطين، ﴿ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، بجزاء أحسن من أعمالهم، قيل معناه : نجزيهم بما ترجح فعله من أعمالهم، وهو الواجب والمندوب.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ : نرزقه رزقا حلالا وقناعة، وحلاوة طاعة وانشراح صدر، ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ﴾ : ولنعطينهم، ﴿ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون ﴾.
﴿ فَإِذَا ١قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ﴾، أردت قراءته، ﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ : سل الله أن يعيذك من وساوسه، وهو أمر ندب.
١ ولما قال: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" و أعقبه بما يؤيده حتى ختم بالحث على الأعمال الصالحة التي في القرآن تبيينها و ذكر أن الإيمان شرطها والمؤمن من هو سالم من غوائل الشيطان وهو الذي يحول بينه وبين فهم القرآن و صالحة الأعمال أمر أن يستعيذ من خداعه ووساوسه ويلجأ إلى ربه فقال: "فإذا قرأت القرآن" الآية /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ ﴾ : تسلط، ﴿ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ ﴾ : تسلطه، ﴿ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه ﴾ : يحبونه ويطيعونه، ﴿ وَالَّذِينَ هُم بِهِ ﴾ : بالله أو بسبب الشيطان، ﴿ مُشْرِكُونَ ﴾.
﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا ١آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾ : رفعناها وأنزلنا غيرها لمصالح، ﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ : أعلم بمصالح عباده في التبديل والنسخ، ﴿ قَالُواْ ٢إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ﴾، أي : قالت الكفرة، وهو جواب إذا، وما بينهما اعتراض أو حال، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
١ ولا يبعد أن يقال المراد من الذين يتولونه الفجار من المسلمين، ولما ذكر تسلط الشيطان لأوليائه بين بعض ما أنتج تسلطه فقال: ﴿وإذا بدلنا﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ من تعليم الشيطان ووساوسه /١٢ منه..
﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ﴾ : جبريل عليه السلام، ﴿ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾، متلبسا بالحكمة، ﴿ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ على إيمانهم حين تأملوا وفهموا مصالح النسخ، ﴿ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾، معطوفان على محل " ليثبت "، أي : تثبيتا وهداية وبشارة.
﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾، كان غلام لبعض١ قريش، وكان بياعا، فربما كان صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه، ولسانه أعجمي لا يعرف من العربي إلا قدر ما يرد الجواب، فقال المشركون : هو الذي٢ يعلمه القرآن، وقد نقل أن كاتب وحيه الذي ارتد افترى هذه المقالة، ﴿ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ ﴾ : لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة، ﴿ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا ﴾ : القرآن، ﴿ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾، ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلمه من لا يعرفه ؟ !٣.
١ قاله سعيد بن المسيب /١٢ منه..
٢ وأما نسبة تعلمه من سلمان فباطل؛ لأن الآية مكية وقد أسلم سلمان بالمدينة /١٢ وجيز..
٣ يعني هب أنه تعلم منه المعني لكن من أين تلقف لفظه والقرآن كما هو معجز بحسب المعني معجز بحسب اللفظ /١٢ وجيز.
.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ ﴾ : إلى الحق فيتفوهون بكلمات هي أضحوكة لمن يسمع، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ : في الآخرة.
﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ ﴾ : بالله، ﴿ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ﴾ : فلا يخافون عقابه، ﴿ وَأُوْلئِكَ ﴾ : المفترون بهذا الافتراء، ﴿ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ : الكاملون في الكذب، فإن الطعن بمثل هذه الخرافات أعظم الكذب.
﴿ مَن كَفَرَ ١بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ ﴾، مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله :" فعليهم غضب "، ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ﴾، على كلمة الكفر استثناء٢ متصل، ﴿ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾ : لم يتغير عقيدته، ﴿ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ﴾ : طاب به نفسا، ﴿ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ ﴾ جزاء لمن شرح، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، عن٣ ابن عباس : إنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون ليرتد فوافقهم مكرها، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرا٤. والإجماع على جواز كلمة الكفر عند الإكراه، لكن الأفضل تركه وإن قتل.
١ وإنما قال: "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون" ذكر أن من المفترى من هو ألد أشد الكاذبين ومنه من ليس من الكاذبين حقيقة فقال: "من كفر بالله" الآية /١٢ وجيز..
٢ لأن الكفر لغة يعم القول والعقيدة كالإيمان /١٢ منه و وجيز..
٣ رواه البيهقي وغيره /١٢ منه. [ وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/٢٤٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.].
٤ فقبل رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ عذره /١٢ وجيز..
﴿ ذَلِكَ ﴾ : الكفر بعد الإيمان، أو غضب الله عليهم، ﴿ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾، أي : قوما كفروا في علم الله، وخلقهم على الكفر.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ ﴾ : ختم، ﴿ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾، فلا يفهمون و لا يسمعون ولا يبصرون الحق، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ : الكاملون في الغفلة.
﴿ لاَ جَرَمَ ١ : حقا، ﴿ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ﴾، إذا اشتروا برأس مالهم العذاب المخلد.
١ قد بسطنا تحقيق معنى لا جرم في سورة حم المؤمن /١٢ منه..
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾، أي : ربك لهم لا عليهم، وليهم وناصرهم، وهم المستضعفون الذين كانوا بمكة ما تيسرت لهم الهجرة مع المهاجرين، ﴿ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ﴾، عذبوا ١ و " ثم " لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، ﴿ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ ﴾، على المشاق للدين، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ﴾، بعد الهجرة والجهاد والصبر، ﴿ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، يغفر ذنوبهم، ويرحمهم فينعم عليهم.
١ وهم المستضعفون الذين كانوا بمكة ما تيسرت لهم الهجرة مع المهاجرين /١٢ وجيز..
﴿ يَوْمَ ﴾، منصوب ب " غفور رحيم "، أو بتقدير " اذكر "، ﴿ تأتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾، تحتج عن ذاتها وتسعى في خلاصها، ﴿ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ﴾ : جزاء، ﴿ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ : بنقص أجورهم.
﴿ وَضَرَبَ١ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً ﴾، أي : جعلها مثلا لمن أنعم الله عليه فكفر بالنعمة فأنزل الله عليه النقمة، ﴿ كَانَتْ آمِنَةً ﴾، أي : كمكة، ٢ كانت ذات أمن، ﴿ مُّطْمَئِنَّةً ﴾ : مستقرة لا يزعج أهلها خوف، ﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا ﴾ : أقواتها، ﴿ رَغَدًا ﴾ : واسعا، ﴿ مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ : من نواحيها، ﴿ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾، قد جرت الإذاقة عندهم مجرى الحقيقة ؛ لشيوعها في الشدائد، فيقولون : ذاق فلان البؤس، واستعار اللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، ثم إن أهل مكة لما استعصوا فدعا عليه السلام عليهم بسبع كسبع يوسف أصابهم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف، وأما الخوف فمن سطوة سرايا المؤمنين حتى فتح الله على أيديهم، ﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ : بسبب صنيعهم.
١ ولما بين أن كل نفس لا تجزى إلا جزاء عملها في الآخرة غير مظلومين في ذلك ضرب مثلا أنموذجا في تحقق ما بين فقال: "و ضرب الله" الخ /١٢ وجيز..
٢ كما نقل عن ابن عباس: القرية المضروب بها المثل مكة ضرب مثلا لغيرها مما يأتي بعدها /١٢ وجيز..
﴿ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ١ : من نسبهم وأصلهم، ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ﴾، من الجوع والخوف والقتل، ﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾، أي : حال التباسهم بالظلم.
١ و هذا صريح في أن القرية المضروبة مثلا ليست مقدرة كما جوزه الزمخشري بل هي قرية كانت موجودة /١٢ وجيز..
﴿ فكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ ﴾، أمرهم الله بأكل الحلال وشكر النعمة بعد أن هددهم وزجرهم عن الكفر، ﴿ حَلالاً طَيِّبًا ﴾، مفعول كلوا، والظرف حال، أو بالعكس، ﴿ وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾، إن كنتم تطيعون الله وحده.
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ١ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، عدد عليهم ما حرم الله لا ما حرموا من عند أنفسهم من البحائر والسوائب وغيرهما بعد ما أمرهم بتناول٢ ما أحل لهم، وقد مر تفسيره مفصلا في سورة البقرة.
١ أمرهم الله بأكل الحلال المستلذ وشكر النعمة بعد أن هددهم عن الكفر ولما قال: "مما رزقكم الله حلالا" شرع يبين ما هو حرام ليظهر الحلال فقال: "إنما حرم" الآية /١٢ وجيز..
٢ فلا يدل على حصر المحرمات في تلك الأشياء كأنه قال الرمة محصورة في تلك الأشياء لا تجاوز إلى البحائر والسوائب /١٢ منه و وجيز.
.

﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ ﴾، وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في كذبهم، كأن الكذب مجهول وألسنتهم تعرفه وتصفه بكلامهم هذا، كقولهم : وجهها يصف الجمال. والكذب مفعول تصف، وما مصدرية، أي : لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، يعني : لا تحللوا ولا تحرموا بمجرد قو ل ينطق به ألسنتكم من غير حجة، أو نصب الكذب بلا تقولوا، واللام في " لما تصف " كاللام في لا تقولوا لما أحل الله لك هذا حرام، وقوله :" هذا حلال وهذا حرام " بدل من الكذب، أو متعلق بتصف بالحل على إرادة القول، أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من الأنعام والحرث بالحل و الحرمة فيقول هذا حلال وهذا حرام، ﴿ لتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ ﴾، اللام لام العاقبة، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ : لا ينجون من عذابه.
﴿ متَاعٌ قَلِيلٌ ﴾، أي : ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة، ﴿ وَلَهُمْ ﴾ : في الآخرة، ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
﴿ وَعَلَى١ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ ﴾ في سورة الأنعام، وهو :" على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " ( الأنعام : ١٤٦ ) الآية، ﴿ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ : بالتحريم، ﴿ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾، فاستحقوا التضييق عليهم، وهذا إشارة إلى أن تحريم بعض الأشياء على المؤمنين لمضرة فيه وعناية في شأنهم، وأما تحريم بعض الأشياء على اليهود فجزاء نكالهم وتضييق ليهم كما قال تعالى :" فبظلم من الذين هادوا " الآية ( النساء : ١٦ ).
١ ولما ضرب مثلا لمن لم يشكر نعم الله من المشركين بين مثلا آخر من أهل الكتاب فقال: "وعلى الذين هادوا" الآية /١٢ وجيز..
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ ﴾، لا عليهم، أي : لهم بالنصر والرحمة، ﴿ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾، أي : متلبسين١ بها أو بسببها، وعن بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل، ﴿ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ ﴾. حالهم، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ﴾، من بعد التوبة، ﴿ لَغَفُورٌ ﴾ : كثير المغفرة، ﴿ رَّحِيمٌ٢ : واسع الرحمة لهم، فيثيبهم على أعمالهم، وجاز أن يكون ﴿ لغفور رحيم ﴾ خبر " إن " الأولي، ﴿ وإن ربك من بعدها ﴾، تكرير وتأكيد.
١ غير عارفين بعقابه غير مدبرين للعاقبة ملتذا بهواه لا يبالي بمعصية مولاه مغبرا بالحال عن المآل /١٢ وجيز..
٢ ولما أمر قريشا و نهاهم و هم مفتخرون بجدهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ مقرون بحسن سيرته ووجوب اتباعه ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه فقال: "إن إبراهيم" الآية /١٢ وجيز.
.

﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾، أي : مأموما مقصودا يقصده الناس ليأخذوا منه الخير١، أو مؤتما به مقتدى فعلة بمعنى مفعول كرحلة ونخبة، أي : ما يرتحل إليه وما ينتخب، أي : يختار أو أمة ؛ لأنه وحده مؤمن٢ والناس كلهم كفارا، أو لكماله واستجماعه فضائل لا توجد إلا في أمة، ﴿ قَانِتًا ﴾ : مطيعا، ﴿ لِلّهِ حَنِيفًا ﴾، مائلا عن الباطل، ﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، كما زعم قريش أنهم على ملة إبراهيم٣ وهم مشركون.
١ قاله ابن مسعود /١٢..
٢ قاله مجاهد /١٢..
٣ من وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان غارقا في بحر التوحيد /١٢ كبير..
﴿ شَاكِرًا لأنْعُمِه ﴾، لقلائل نعمهِ١ فكيف بالكثير، ﴿ اجْتَبَاهُ ﴾ للنبوة، ﴿ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ عبادة الله وحده.
١ علم ذلك وقف من أنعمه فإن أفعل جمع قلة / ١٢ منه..
﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾، هي كونه حبيب الخلائق ومن أولاده الأنبياء، ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾، أي : جمعنا له خير الدارين ومن دعائه عليه السلام :" وألحقني بالصالحين ".
﴿ ثُمَّ١ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾، أي : يا محمد، ﴿ أَنِ اتَّبِعْ ﴾، أي : بأن أو تفسيرية، ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾، وهذا أدل على عظمته، فإن مثل أفضل الخلائق قاطبة مأمور باتباعه، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، كما يزعم قومك.
١ ولما وصفه صلى الله عليه وسلم بتلك الأوصاف الحسنى أمر نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم باتباعه فقال: "ثم أوحينا" الآية /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ ﴾، فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه، ﴿ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ : اليهود، فإن موسى عليه السلام أمرهم تعظيم الجمعة١ فأبوا إلا شرذمة منهم وقالوا : نريد يوما فرغ الله فيه من الخلق وهو السبت، فأذن الله لهم في السبت وغلظ وشدد الأمر فيه عليهم، فابتلاهم بتحريم صيده فما أطاعوا إلا الشرذمة التي رضوا بيوم الجمعة، وعن قتادة :﴿ اختلفوا فيه ﴾، أي : استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وقيل : أي : إنما جعل وبال السبت، أي : المسخ على الذين حرموه تارة وحللوه أخرى وهو الاختلاف، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾، فيجازي كل فريق بما يستحقه.
١ ذكره مجاهد وفي صحيح البخاري ومسلم ما يدل على ذلك /١٢ منه. [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس فيه تبع اليهود غدا، والنصارى بعد غد"]..
﴿ ادْعُ١ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾ : دينه، ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾ : بالقرآن٢، ﴿ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ : مواعظ القرآن، وقيل المراد القول اللين بلا تغليظ وتعنيف، ﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، أي : من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق وحسن خطاب٣، وقيل نسختها آية القتال، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾، أي : قد علم الشقي والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم أنت إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات فإنما عليك البلاغ.
١ ولما ذكر أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مأمور بإتباع خليله أمر حبيبه بما هو الأصل والمقصود من إتباعه وإرساله فقال: "ادع إلى سبيل ربك" الآية /١٢..
٢ قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ /١٢..
٣ وتوضيح مقصود بمثل مثال ودليل ظاهر الدلالة /١٢ وجيز..
﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ﴾، السورة مكية وهذه الآيات١ مدنية نزلت٢ حين وقعت وقعة أحد، وفعلوا ما فعلوا بحمزة رضي الله عنه، فحين نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك، فلما نزلت كفر عن يمينه، وعن بعضهم أن هذا أمر بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء٣ الحق مطلقا، ﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ ﴾ : عن المجازاة بالمثلة، ﴿ لَهُوَ ﴾، أي : الصبر، ﴿ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ من الانتقام للمنتقمين، وعلى ما فسرنا الآية محكمة وعن بعضهم، هذا هو الأمر بالصبر عن القتال والابتداء به، فنسخت بسورة براءة، وعلى كل تقدير الآية في غاية المناسبة مع قوله :" ادع إلى سبيل ربك " الآية.
١ من هاهنا إلى آخر السورة /١٢ وجيز..
٢ كذا قاله عطاء بن يسار وفيه حديث مرسل و ذكر الحافظ البزار بطريق متصل وفيه ضعف /١٢ منه. [وأخرجه الترمذي (٣٣٤٩) من حديث أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ وقال الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (٢٥٠١): حسن صحيح الإسناد.].
٣ فلا يلزم أن يكون تلك الآيات في تلك السورة مدنية /١٢ وجيز..
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ﴾ : بتوفيقه وعونه، ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾، على من خالفك وقيل : على ما فعل بالمؤمنين، ﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون ﴾، في ضيق صدر من مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك.
﴿ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾ المحرمات أو الشرك بتأييده ومعونته، ﴿ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ١ في العمل، وقيل : بالشفقة على خلقه.
اللهم اجعلنا منهم برحمتك الواسعة.
١ قيل لهرم بن حران عند الموت: أوص فقال إنما الوصية في المال و لا مال لي و لكني أوصيك بخواتيم سورة النحل /١٢ فتح. [ذكره السيوطي في "الدر المنثور " (٤/٢٥٦) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن سعد وابن شيبة وهناد و ابن رير وابن المنذر وابن أبي خاتم.]..
Icon