تفسير سورة الدّخان

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٤٤ - سورة الدخان
قال المهايمي : سميت به لدلالة آيته على أنه جزاء غشيان أدخنة النفوس الخبيثة، بصائر قلوب أهلها وأرواحهم. ولذلك رأوا الدلائل شبهات الشياطين. وجعلوا المميز بينهما مجنونا. وإن القرآن كاشف عنه ككشف الدخان المحسوس عنهم، وهي مكية. وآيها خمسون وتسع. روى١ الترمذيّ مرفوعا :( من قرأ ( حم الدخان ) في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ). ثم قال : غريب. وعمرو بن أبي خثعم راويه، يضعّف. قال البخاريّ : منكر الحديث. أفاده ابن كثير.
١ أخرجه في: ٤٢ – كتاب ثواب القرآن، ٨ – باب ما جاء في فضل ﴿حم الدخان﴾..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يعني ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم. وكانت في رمضان. كما قال سبحانه شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: ١٨٥]، قال ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، فقد أبعد النجعة. فإن نص القرآن أنها في رمضان. وما روي من الآثار في فضلها، فمثله لا تعارض به النصوص. هذا على فرض صحتها. وإلا فهي ما بين مرسل وضعيف. والبركة اليمن. ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى، والنجاة من الضلال والردى. قال القاشاني: ووصفها بالمباركة، لظهور الرحمة والبركة، والهداية والعدالة في العالم بسببها. وازدياد رتبته صلّى الله عليه وسلّم وكماله بها، كما سماها (ليلة القدر) لأن قدره وكماله إنما ظهر بها إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذامّ وتذلل للهوى ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٤]
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي يفصل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة، على وجه متين محمود عند الكمل تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥ الى ٦]
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص. أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من
عندنا على مقتضى حكمتنا. وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي مرسلين إلى الناس رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، رحمة منه تعالى بهم، لمسيس الحاجة إليه، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧]، وجوز كون (رحمة) علة للإنزال. أي رحمة تامة كاملة على العالمين بإنزاله، لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية، وصلاح معاشهم ومعادهم، وظهور الخير والكمال والبركة والرشاد فيهم بسببه. والوجه هو الأول. وهو كونه غاية للإرسال.
لإفصاح تلك الآية عنه إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها الْعَلِيمُ أي بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال، قاله المهايمي.
وقال القاشاني: أي: السميع لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم، (العليم) أي بعقائدهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وأمورهم المختلة ومعايشهم غير المنتظمة. فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا، المرشد إلى الصواب فيهما، بتوضيح الصراط المستقيم، وتحقيق التوحيد بالبرهان، وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٧ الى ٩]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قال أبو مسلم: أي إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا. كقولهم (فلان منجد متهم) أي يريد نجدا وتهامة. وقيل: معناه إن كنتم موقنين بما تقرون به، من أنه رب الجميع وخالقه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته، لأن الإيقان يستتبع قبول البرهان، وإنما هو قول ممزوج بلعب، لغشيان أدخنة أهوية نفوسهم، بصائر قلوبهم وأرواحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١٢]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا
408
الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ
أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل. ولا يستعمل (الارتقاب) إلا في أمر مكروه. وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه: الأول- قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة. قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع.
من الظلمة كهيئة الدخان،
روى ابن جرير عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا. فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصا عند أبواب كندة يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله. فمن علم شيئا فليقل بما يعلم. ومن لا يعلم فليقل (الله أعلم). فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم (الله أعلم) وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم (لا أعلم) فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: ٨٦]، إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف. ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا، من الجوع. فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم. وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم
. قال الله عز وجل فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، إلى قوله:
إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: ١٥]، قال: فكشف عنهم يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: ١٦]، فالبطشة يوم بدر. وقد مضت آية الروم وآية الدخان. والبطشة واللزام.
قال ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في الصحيحين «١» ورواه الإمام أحمد «٢» في مسنده وهو عند الترمذي «٣» والنسائي في تفسيرهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة وقد وافق ابن مسعود رضي الله على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وو إبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٤٤- سورة الدخان، ٢- باب يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ، حديث رقم ٥٧٠، عن عبد الله بن مسعود وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم ٣٩.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٣٨٠. الحديث رقم ٣٦١٣.
(٣) أخرجه في: التفسير، ٤٤- سورة الدخان، ١- باب حدثنا محمود بن غيلان.
409
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة. لقول ابن مسعود (ثم عادوا) ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر.
وعلي هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك. فلذلك قال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدّا. والله المستعان. انتهى.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما- أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء.
وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة (الغبراء) ثانيهما- أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان. فيقولون (كان بيننا أمر ارتفع له دخان). والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
انتهى.
وقال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة. لأن الدخان مما يتأذى به.
فأطلق على كل مؤذ يشبهه، أو على ما يلزمه، ولذا قيل:
تريد مهذّبا لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
الوجه الثاني في الآية- أنه دخان يظهر في العالم. وهو إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد، وهو آت وهو قول حذيفة. ويروى عن عليّ وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الأول- أن قوله: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ يقتضي وجود دخان تأتي به السماء. وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع، فذاك ليس بدخان أتت به السماء. فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه، عدولا عن الظاهر، لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز.
الثاني- أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا. والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم. ومثل هذا لا يوصف بكونه دخانا مبينا. والثالث- أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس. وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز. وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الرابع- ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من عدّه الدخان من الآيات المنتظرة.
410
أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا. فإن قالوا:
الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة، استقام. فإنه نقل أن التقحط لما اشتد، بمكة مشى إليه أبو سفيان وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية، أن يؤمنوا به. فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم. أما إذا حلمناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة، لم يصحّ ذلك. لأن عند ظهور علامات القيامة. لا يمكنهم أن يقولوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ولم يصح أيضا أن يقال لهم إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة. ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون. فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق. وإذا كان هذا محتملا، فقد سقط ما قالوه، والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني، ذهابا إلى ما صح عن ابن عباس، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن الدخان من الآيات المنتظرة. مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي بيّن واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى:
يَغْشَى النَّاسَ أي يتغشاهم ويعمّهم. ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه يَغْشَى النَّاسَ وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. كقوله عزّ وجلّ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: ١٣- ١٤]، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه، سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: ٢٧]، وكذا قوله جلّ وعلا وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: ٤٤]. وهكذا قال جلّ جلاله.
411
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولا بيّن الرسالة والنذارة. ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه. بل كذبوه وقالوا معلم مجنون. وهذا كقوله جلت عظمته يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: ٢٣] الآية. وكقوله عزّ وجلّ وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [سبأ: ٥١]. إلى آخر السورة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ١٥]
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يحتمل معنيين: أحدهما- أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: ٧٥]، وكقوله جلت عظمته وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: ٢٨]، والثاني- أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم. كقوله تعالى:
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس: ٩٨]. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم. بل كان قد انعقد سببه عليهم. ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى، إخبارا عن شعيب عليه السلام، أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها [الأعراف: ٨٨- ٨٩]. وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم. وقال قتادة: إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى عذاب الله. وقوله عزّ وجلّ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ١٦]
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فسرّ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه
412
بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم. وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا. قال ابن جرير: حدثني يعقوب. حدثنا ابن علية.
حدثنا خالد الحذّاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر. وأنا أقول هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول الحسن البصريّ وعكرمة في أصح الروايتين عنه. والله أعلم.
انتهى كلام ابن كثير.

فصل:


وممن رجح الوجه الأول، وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازا، بذكر المسبّب وإرادة السبب. أو بالاستعارة، العلامة أبو السعود حيث قال: والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعا. فإن قوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى إلخ، ردّ لكلامهم واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، أي كيف يتذكرون؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم؟ وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر. وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها. حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبيّن لهم مناهج الحق، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صمّ الجبال ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ عن ذلك الرسول وهو هو، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولي وَقالُوا في حقه مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قالوا تارة: يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف. وأخرى مجنون، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا. فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف، وإذا شبع طغى. وقوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ جواب من جهته تعالى عن قولهم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ بطريق الالتفات، لمزيد التوبيخ والتهديد. وما بينهما اعتراض. ألى إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفا قليلا، أو زمانا قليلا. إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتوّ والإصرار على الكفر. وتنسون هذه الحالة. وفائدة التقييد بقوله:
قَلِيلًا الدلالة على زيادة خبثهم. لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف، كانوا بعده
413
أسرع إلى العود. وصيغة الفاعل في الفعلين، للدلالة على تحققهما لا محالة. ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى، بدعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتوّ والعناد. انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة.

فصل:


وأما الوجه الثالث في الآية، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا جعفر بن مسافر. حدثنا يحيي بن حسان. حدثنا ابن مهيعة. حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ قال: كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب جدّا. بل منكر. انتهى.
أى لأنه لم يرو مرفوعا ولا موقوفا على ابن عباس، ترجمان القرآن. أو غيره من الصحب. إلا أن عدم كونه مأثورا لا ينافي احتمال لفظ الآية له. وصدقها عليه. لا سيما، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ مما هو وعد بظهوره عليهم. وكان ذلك يوم الفتح. وحينئذ، فمعنى قوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ أي ما ينزل بهم يومئذ، برفع القتل والأسر عنهم. ومعنى عائِدُونَ أي إلى لقاء الله ومجازاته.

فصل:


يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب، عليهم الرضوان، اهتماما في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها. حتى كان ابن مسعود مصرّا على وجه، وعليّ وابن عباس وحذيفة على وجه آخر. على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية. وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار. وسبب الاختلاف هو إيجار الأسلوب الكريم، وإيثاره من الألفاظ أرقها، وأوجزها. مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازا أخرى. هذا أولا. وثانيا، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات، كان ذلك مما يقرب بينهما ويدعوا إلى اتحاد المراد منهما. لما تقرر من شرح السنة للكتاب، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة.
فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده. وأما من فتح للتدبر بابا ومهد للنظر مجالا، ورأى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها، وأنها أعم وأشمل، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه. فذاك وسّع للسالك المسالك، وفتح للمريد المدارك، ورقاه من
414
حظيرة النقل إلى فضاء العقل. ولكلّ وجهة.
إذا علمت ذلك، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازا في بعض مفرداتها، وحقيقة في بقيّتها وفي وقوع مصداقها، في رأيه. ومن فسرها بالدخان المنتظر، المروي من أشراط الساعة، وقف مع المروي ورأى أنه تفسيرها. لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود. لأنه الأقرب خطورا والأسبق حضورا، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح، رأى أنها من بليغ المجاز وبديع الكناية في ذلك. وأن الوعد بالارتقاب. كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية، مرادا به الفتح. كآية وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: ٢٨- ٣٠]، فهذا وأمثاله يبين مآخذ الأئمة ومداركهم في التأويل. وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر. ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازي المتقدّم، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به، أن لا منتدح، بعد، عنه. مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز. بل وقوّته هنا، لأن المقام مقام إنذار وإيعاد، والذوق أكبر حاكم وإليه مردّ البلاغة. ولا يلزم المتأوّل نكرانه للدخان المنتظر كما قد يتوهم. بل يعترف بأنه آية آتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية. وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظي اتحاد المتلوّ والمروي. وبالجملة، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة. وسببه تحقق مصداق الجميع. وأما تعيين واحد منها للمراد، فصعب جدّا فيما أراه، لا سيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها. هذا ما نقوله الآن. والله العليم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ١٧]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي ابتلينا، قبل هؤلاء المشركين، قوم فرعون، بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا. فاختاروا الكفر على الإيمان وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي على الله والمؤمنين، أو في نفسه. فعلى الأول كريم بمعنى مكرّم أي. معظّم. وعلى الثاني، من الكرم بمعنى الاتصاف بالخصال الحميدة، حسبا ونسبا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ١٨]
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي أرسلوا معي بني إسرائيل، لأسير بهم إلى بلادنا الأولى. وأطلقوهم من أسركم وحبسكم. فإنهم قوم أحرار، أبوا، للضيم. هذه الديار إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي على وحيه ورسالته، التي حملنيها إليكم. لأنذركم بأسه إن عصيتم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ١٩]
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩)
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم، وتكذيب رسوله وغضب عباده إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة على ربوبية الله، ونفي ربوبيتكم. وعلى رسالتي. وعلى أن بني إسرائيل عباده الخاصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢٠]
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي اعتصمت به من رجمكم. يعني القتل، فعصمني، فلا ينالني منكم مكروه، مع أنه لا يعصم من افترى عليه، وقصد بهذه الجملة. إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطرب فيه الأفئدة، وتزلّ الأقدام، خوفا ورعبا. وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله وتأييده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢١]
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي فكونوا بمعزل عني. فلست بموال منكم أحدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢٢]
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)
فَدَعا رَبَّهُ أي لما تابوا عن إجابته أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي مشركون مفسدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢٣]
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣)
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي فأجاب دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي إن فرعون وقومه من القبط متبعوكم. إذا شخصتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي فإذا قطعت البحر أنت وأصحابك، فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته، ولا تضربه بعصاك ليدخله القبط فيغرقوا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا أي بعد هلاكهم بالغرق مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي بساتين وعيون يسقى منها ويتنعم بالنظر فيها، هذا في التفكه والتنزه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢٦]
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَزُرُوعٍ أي قائمة مزارعهم للقوت وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي محافل مزينة ومنازل مزخرفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢٧]
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي متنعمين من نساء وأموال وحشم، وما لا يحصى من المشتهيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢٨]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨)
كَذلِكَ أي أخرجناهم مثل هذا الإخراج. فالكاف، أو الجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك. أو هو خبر محذوف. أي الأمر كذلك. والمراد به التأكيد والتقرير وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني من خلفهم بعد مهلكهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٢٩]
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ قال الزمخشري: إذا مات رجل خطير، قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس. قال جرير:
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل. مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه من بكاء مصلّى المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء: تمثيل. ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ فيه تهكم بهم وبحالهم. المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض، وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. يعني: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي مؤخّرين بالعقوبة. بل عوجلوا بها، زيادة سخط عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٣٠]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني استعباد فرعون وقتله أبناءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٣١]
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب، على حذف مضاف. أو جعله عذابا مبالغة لإفراطه في التعذيب. أو حال من (المهين) بمعنى واقعا من جهته إِنَّهُ كانَ عالِياً أي متكبرا على الناس مِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزين الحدّ، في العتوّ والشرّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٣٢]
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ أي فضلناهم لأجل علم معهم، على عالمي زمانهم. أو عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٣٣]
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
وَآتَيْناهُمْ أي زيادة على اختبارهم وتفضيلهم مِنَ الْآياتِ أي المعجزات ولكرامات ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة ظاهرة، لأنهم حجة واضحة على أعدائهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)
إِنَّ هؤُلاءِ أي مشركي قريش لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي المتعقبة للحياة. كأنهم أرادوا إلا موتتنا هذه. وليس القصد إلى إثبات ثانية. قال الإسنوي في (التمهيد) : الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون. كما تقول: هذا أول ما اكتسبته. فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب. كذا ذكره جماعة، منهم الواحدي في تفسيره، والزجاج. ومن فروع المسألة، ما لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره، بالاتفاق. قال أبو عليّ: اتفقوا على أن ليس من شرط كونه أولا، أن يكون بعده آخر. وإنما الشرط أن لا تقدم عليه غيره. انتهى.
وما ذكر أظهر مما للزمخشري هنا وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي مبعوثين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٣٦]
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦)
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في بعثنا بعد بلائنا في قبورنا. قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة. فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في دار الدنيا. بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها، يعيد الله العالمين خلقا جديدا. ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا. ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يردّ، كما حلّ بأشباههم من المشركين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٣٧]
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)
أَهُمْ خَيْرٌ أي في القوة والمنعة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي أهلكناهم بجرمهم. وهو كفرهم وفسادهم. وهم ما هم. فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ. أهلكهم الله عزّ وجلّ وفرقهم في البلاد شذر مذر. كما تقدم في سورة (سبأ) قال ابن كثير: وقد كانوا عربا من قحطان. كما أن هؤلاء عرب من عدنان. وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا. كما يقال (كسرى) لمن ملك الفرس و (قيصر) لمن ملك الروم.
و (فرعون) لمن ملك مصر كافرا. و (النجاشي) لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، لكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند. واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه. واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل. فاستحيا منه وكفّ عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود، كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة. فإنها مهاجر نبيّ يكون في آخر الزمان. فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن. فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة. فنهياه عن ذلك أيضا. وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
وأنه سيكون له شأن عظيما على يدي ذلك النبيّ المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر. ثم كرّ راجعا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه. وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام. فتهود معه عامة أهل اليمن. وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه (السيرة). وترجمة الحافظ ابن عساكر في (تاريخه) ترجمة حافلة، وذكر أنه ملك دمشق. وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه. قال ابن كثير: وكأنه، والله أعلم. كان كافرا ثم أسلم، وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام. وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء، والوصائل من الحرير والحبر.
ونحر عنده ستة آلاف بدنة. وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن. وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة، عن أبي بن كعب وعبد
الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وكعب الأحبار. وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضا. وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهبه بن منبه ومحمد بن إسحاق في (السيرة) كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات، ترجمة تبع هذا، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل. فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه. ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى، كما ذكره في سورة سبأ.
وتبع هذا هو تبع الأوسط. واسمه أسعد أبو كرب. ولم يكن في حمير أطول مدة منه. وتوفي قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنحو من سبعمائة سنة وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة، أن هذه البلدة مهاجر نبيّ في آخر الزمان اسمه أحمد، قال في ذلك شعرا، واستودعه عند أهل المدينة. فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف. وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، الذي نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في داره، وهو:
شهدت على أحمد أنه... رسول من الله باري النّسم
فلو مدّ عمري إلى عمره... لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه... وفرّجت عن صدره كلّ غم
ثم ساق ابن كثير آثارا في النهي عن سبه: وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروي في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح، إلا أن ذلك مما يتحمل التوسع فيه، لكونه نبأ محضا مجردا عن حكم شرعي. نعم، لا يشك أن قريشا كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر، ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه، إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به من شأنه. وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا قصّ ذلك خبرا من الأخبار، وسمرا من الأسمار، كما هو السر في أمثال نبئه. وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي الاستدلال على خالقهما، لعبادته وطاعته وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي حكمة خلقها، فيعرضون عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي فصل الله بين الخلائق وقضاءه عليهم، ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شرّ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي عليه إثابة أو تحمل عقاب وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي بأن وفّقه للإيمان والعمل الصالح إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب في انتقامه من أعدائه الرَّحِيمُ أي بأوليائه وأهل طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٤٣]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ أي التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٤٤]
طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤)
طَعامُ الْأَثِيمِ أي الفاجر الكثير الآثام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)
كَالْمُهْلِ وهو دردي الزيت، أي عكره في قعره يَغْلِي فِي الْبُطُونِ أي يضطرب فيها من شدة الحرارة فيقلق القلوب ويحرقها. وقوله كَغَلْيِ الْحَمِيمِ أي الماء الحارّ الذي انتهى غليانه. وقوله: فِي الْبُطُونِ كقوله نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: ٦- ٧]، وهذه الآية كآية الصافات أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: ٦٢- ٦٧]،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٤٧]
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ أي ادفعوه بعنف إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي وسطها ومعظمها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٤٨]
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ أي لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٤٩]
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي يقال له ذلك، على سبيل الهزء والتهكم، فيتم له، مع العذاب الأول، وهو الحسىّ، العذاب العقلي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٥٠]
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)
إِنَّ هذا أي العذاب أو الأمر ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي تشكّون، مع ظهور دلائله. أو تتمارون وتتلاحقون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٥١]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي يأمن صاحبه من الخوف والفزغ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣)
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ أي ما رقّ من الحرير وكثف مُتَقابِلِينَ أي في مجالسهم أو أماكنهم، لحسن ترتيب الغرف، وتصفيف منازلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٥٤]
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرنّاهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم، لوصولهم بمحبوبهم، وحصولهم على كمال مرادهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : آية ٥٥]
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أي يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، آمنين من كل ضرر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قال ابن جرير: أي لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة، الموت بعد الموتة الأولى، التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه إِلَّا هنا بمعنى (سوى) أي سوى الموتة الأولى. انتهى.
يعني أن الاستثناء منقطع، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهلناه حيث أنزلناه بلغتك، وهو فذلكة للسورة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون بعبره وعظاته وحججه، فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق فَارْتَقِبْ أي ما يحل بهم من زهوق باطلهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي منتظرون عند أنفسهم غلبتك. أو هو قولهم نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ وهذا وعد له صلّى الله عليه وسلّم بالنصرة والفتح عليهم، وتسلية ووعيد لهم. وقد أنجز الله وعده، كما قال سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١]، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: ٥١].
424

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الجاثية
سميت بها لتضمن آيها بيان سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة، لأجل اجتماع الأمم محاكمة إلى الله تعالى، وفصله بينهم يوم القيامة، وهي من المطالب الشريفة في القرآن. وتسمى (سورة الشريعة) لتضمن آيها وجه نسخ هذه الشريعة، سائر الشرائع، وفضلها عليها. وهو أيضا من المطالب العزيزة فيه. قاله المهايمي.
وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية:
١٤]، فإنه قيل إنها مدنية، نزلت في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما سيأتي، وآياتها سبع وثلاثون آية.
425
Icon