ﰡ
حدثنا محمد بن الجهم عن الفراء ﴿ الحيّ القيُّوم ﴾ قراءة العامة، وقرأها عمر بن الخطاب وابن مسعود " القيَّام " وصورة القَيُّوم : الفيعول، والقيَّام الفيعال، وهما جميعا مَدْح. وأهل الحجاز أكثر شيء قولا : الفَيْعال من ذوات الثلاثة. فيقولون للصوَّاغِ : الصيَّاغ.
﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَماتٌ ﴾ يعني : مبيّنات للحلال والحرام ولم يُنْسَخن. وهنّ الثلاث الآياتِ في الأنعام أوّلها :﴿ قل تعالَوا أَتل ما حرّم ربّكم عليكم ﴾ والآيتان بعدها. وقوله :﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾. يقول : هنّ الأصل.
﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ ﴾ وهنّ : ألمص، وألر، وألمر ؛ اشتبهن على اليهود لأنهم التمسوا مدّة أَكْل هذه الأمّة من حساب الجُمَّل، فلما لم يأتهم على ما يريدون قالوا : خلّط محمد - صلى الله عليه وسلم - وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فقال الله :﴿ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ﴾ يعنى تفسير المدّة.
ثم قال :﴿ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ ثم استأنف " والراسخون " فرفعهم ب " يقولون " لا بإتباعهم إعراب الله. وفي قراءة أبىّ " ويقول الراسخون " وفي قراءة عبد الله " إنْ تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون ".
يقول : كفرت اليهود ككفر آل فرعون وشأنهم.
تقرأ بالتاء والياء. فمن جعلها بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وإلى أن الغلبة على المشركين [ بعد ] يوم أُحُد. وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما هزم المشركين يوم بدر وهم ثلاثمائة ونيّف والمشركون ألف إلا شيئا قالت اليهود : هذا الذي لا تردّ له راية، فصدِّقوا. فقال بعضهم : لا تعجَلوا بتصديقه حتى تكون وقعةٌ أخرى. فلما نُكِب المسلمون يوم أُحُد كذَّبوا ورجعوا. فأنزل الله : قل لليهود سيُغلب المشركون ويحشرون إلى جهنم. فليس يجوز في هذا المعنى إلا الياء.
ومن قرأ بالتاء جعل اليهود والمشركين داخلين في الخطاب. فيجوز في هذا المعنى سيُغلَبون وستُغْلَبون ؛ كما تقول في الكلام : قل لعبد الله إنه قائم، وإنك قائم. وفي حرف عبد الله ﴿ قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف ﴾ وفي قراءتنا " [ إن ينتهوا ] يُغْفَر لهم ما قد سلف " وفي الأنعام ﴿ هذا لِلَّه بِزَعْمِهمْ وهَذَا لِشُركَائهم ﴾ وفي قراءتنا " لشركائنا ".
يعنى النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، والمشركين يوم بدر. ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ ﴾ قرئت بالرفع ؛ وهو وجه الكلام على معنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله ﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ على الاستئناف ؛ كما قال الشاعر :
فكنتُ كذِي رِجْلينِ رجلٌ صحيحةٌ | ورِجْلٌ رمَى فيها الزّمان فشَلّتِ |
إذ مُِتُّ كان الناس نصفين شامتٌ | وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كنت أفعل |
حتى إذا ما استقلّ النجمُ في غَلَس | وغودِر البقلُ ملْوِىٌّ ومحصود |
وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الذي ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاتصال بما قبله ؛ من ذلك : رأيت القوم قائما وقاعدا، وقائم وقاعد ؛ لأنك نويت بالنصب القطع، والاستئناف في القطع حسن. وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز ؛ فتقول : أظنّ القوم قياما وقعودا، وقيام وقعود، وكان القوم بتلك المنزلة. وكذلك رأيت القوم في الدار قياما وقعودا، وقيامٌ وقعود، وقائما وقاعدا، وقائم وقاعد ؛ فتفسّره بالواحد والجمع ؛ قال الشاعر :
وكتيبةٍ شَعْواء ذات أشِلّة | فيها الفوارس حاسر ومقنَّع |
أما الذي على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله : اضرب أخاك ظالما أو مسيئا، تريد : اضربه في ظلمه وفي إساءته. ولا يجوز هاهنا الرفع في حاليه ؛ لأنهما متعلقتان بالشرط. وكذلك الجمع ؛ تقول : ضربت القوم مجرَّدين أو لابسين ولا يجوز : مجردون ولا لابسون ؛ إلا أن تستأنف فتخبر، وليس بشرط للفعل ؛ ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم في هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا ؛ فتقول : اضرب القوم مجرّدين أو لابسين ؛ لأن الشرط في الأمر لازم. وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا. فلذلك جاز الوجهان في الماضي.
وقوله :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ ﴾ زعم بعض مَن رَوَى عن ابن عبَّاس أنه قال : رأي المسلمون المشركين في الحَزْر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين، فهذا وجه. ورُوى قول آخر كأنه أشبه بالصواب : أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلاثمائة وأربعة عشر، فلذلك قال :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ يعني اليهود " آيةٌ " في قلّة المسلمين وكثرة المشركين.
فإن قلت : فكيف جاز أن يقال " مِثْلَيْهِمْ " يريد ثلاثة أمثالهم ؟ قلت : كما تقول وعندك عبد : أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، وتقول : أحتاج إلى مِثلَىْ عبدي، فأنت إلى ثلاثة محتاج. ويقول الرجل : معي ألف وأحتاج إلى مثليه، فهو يحتاج إلى ثلاثة. فلما نوى أن يكون الأَلْف داخلا في معنى المِثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة. ومثله في الكلام أن تقول : أراكم مثلكم، كأنك قلت : أراكم ضعفكم، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم، فهذا على معنى الثلاثة.
فإن قلت : فقد قال في سورة الأنفال :﴿ وإِذْ يُرِيكُموهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ في أَعْيُنِكُمْ قلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ في أَعينِهِم ﴾ فكيف كان هذا ها هنا تقليلا، وفي الآية الأولى تكثيرا ؟ قلت : هذه آية المسلمين أخبرهم بها، وتلك الآية لأهل الكفر. مع أنك تقول في الكلام : إني لأرى كثيركم قليلا، أي قد هُوّن علىّ، لا أنى أرى الثلاثة اثنين.
ومن قرأ ( تَرَوْنَهم ) ذهب إلى اليهود لأنه خاطبهم، ومن قال ( يَرَوْنهم ) فعلى ذلك ؛ كما قال :﴿ حتى إِذا كُنْتُمْ في الفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ وإن شئت جعلت ( يَرَوْنَهم ) للمسلمين دون اليهود.
واحد القناطير قِنطار. ويقال إنه مِلء مَسْك ثَور ذهبا أو فضّة، ويجوز ( القناطيرُ ) في الكلام، والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة. كذلك سمعت، وهو المضاعف.
ثم قال ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَناتٌ ﴾ فرفع الجنات باللام. ولم يجز ردّها على أوّل الكلام ؛ لأنك حُلْت بينهما باللام، فلم يضمر خافض وقد حالت اللام بينهما. وقد يجوز أن تحول باللام ومثلِها بين الرافع وما رَفَع، والناصبِ وما نَصَب. فتقول : رأيت لأخيك مالا، ولأبيك إبلا. وترفع باللام إذا لم تُعمِل الفعل، وفي الرفع : قد كان لأخيك مال ولأبيك إبل. ولم يجُز أن تقول في الخفض : قد أمرتُ لك بألف بألف ولأخيك ألفين، وأنت تريد ( بألفين ) لأن إضمار الخفض غير جائز ؛ ألا ترى أنك تقول : مَنْ ضربتَ ؟ فتقول : زيدا، ومن أتاك ؟ فتقول : زيدٌ. فيضمر الرافع والناصب. ولو قال : بمن مررت ؟ لم تقل : زيدٍ ؛ لأن الخافض مع ما خَفَض بمنزلة الحرف الواحد. فإذا قدّمت الذي أخرته بعد اللام جاز فيه الخفض ؛ لأنه كالمنسوق على ما قبله إذا لم تَحُلْ بينهما بشيء. فلو قُدّمِت الجنات قبل اللام فقيل :( بخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ جناتٍ للذين اتقوا ) لجاز الخفض والنصب على معنى تكرير الفعل بإسقاط الباء ؛ كما قال الشاعر :
أتيتَ بعبد الله في القِدّ مُوثَقا | فهلا سعِيدا ذا الخيانةِ والغدرِ |
ألا يا لقومٍ كُلُّ ما حُمَّ واقع | ولِلطيرِ مَجْرىً والجُنُوبِ مَصَارع |
أوعدني بالسجن والأداهِم | رِجلِي ورِجلي شَثْنَة المناسِمِ |
وقوله :﴿ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَرَاء إسْحاقَ يَعْقُوبَ ﴾ والوجه رفع يعقوب. ومن نصب نوى به النصب، ولم يجز الخفض إلا بإعادة الباء : ومن وراء إسحاق بيعقوب.
وكلّ شيئين اجتمعا قد تقدم [ أحدهما ] قبل المخفوض الذي ترى أن الإضمار فيه يجوز على هذا. ولا تبالِ أن تفرق بينهما بفاعل أو مفعول به أو بصفة. فمن ذلك أن تقول : مررت بزيد وبعمرو ومحمد [ أو ] وعمرو ومحمد. ولا يجوز مررت بزيد وعمرو وفي الدار محمدٍ، حتى تقول : بمحمد. وكذلك : أمرت لأخيك بالعبيد ولأبيك بالوِرِق. ولا يجوز : لأبيك الوِرِق. وكذلك : مَُرَّ بعبد الله موثَقا ومطلقا زيدٍ، وأنت تريد : ومطلقا بزيد. وإن قلت : وزيدٍ مطلقا جاز ذلك على شبيه بالنَسَق إذا لم تَحُل بينهما بشيء.
وقوله :﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرّ مِن ذَلِكُمُ النارُ وَعَدها الله الَّذِينَ كَفَروا ﴾ فيها ثلاثة أوجه أجودها الرفع، والنصب من جهتين : من وعدها إذ لم تكن النار مبتدأة، والنصب الآخر بإيقاع الإنباء عليها بسقوط الخفض. جائز لأنك لم تَحُلْ بينهما بمانع. والرفع على الابتداء.
فإن قلت : فما تقول في قول الشاعر :
الآن بعد لجاجتي تَلْحَوْننِي | هلا التقدّمُ والقلوبُ صِحاحُ |
ولو جعلت اللام في قوله :﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ من صلة الإنباء جاز خفص الجنات والأزواج والرضوان.
إن شئت جعلته خفضا نعتا للذين اتقوا، وإن شئت استأنفتها فرفعتها إذ كانت آية وما هي نعت له آيةٌ قبلها. ومثله قول الله تبارك وتعالى
﴿ إنّ اللهََ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ فلما انقضت الآية قال ﴿ التّائبُونَ الْعَابِدُونَ ﴾، وهي في قراءة عبد الله " التائبين العابدين ".
موضعها خفض، ولو كانت رفعا لكان صوابا. وقوله ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحارِ ﴾ المصلّون بالأسحار، ويقول : الصلاة بالسحر أفضل مواقيت الصلاة. أخبرنا محمد ابن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثني شريك عن السُّدِّيّ في قوله ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى ﴾ قال : أخّرهم السَحَر.
قد فتحت القُرّاء الألِف من ( أنه ) ومن قوله ﴿ أنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ﴾. وإن شئت جعلت ( أنه ) على الشرط وجعلت الشهادة واقعة على قوله :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ وتكون ( أنّ ) الأولى يصلح فيها الخفض ؛ كقولك : شهد الله بتوحيده أن الدين عنده الإسلام.
وإن شئت استأنفت ( إِن الدين ) بكسرتها، وأوقعت الشهادة على ﴿ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ ﴾. وكذلك قرأها حمزة. وهو أحبّ الوجهين إلىّ. وهي في قراءة عبد الله " إن الدين عند الله الإسلام ". وكان الكسائي يفتحهما كلتيهما. وقرأ ابن عباس بكسر الأوّل وفتح " أن الدين عند الله الإسلام "، وهو وجه جيد ؛ جعل ( أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ ) مستأنفة معترضة -كأنّ الفاء تراد فيها - وأوقع الشهادة على ( أن الدين عند الله ). ومثله في الكلام قولك للرجل : أشهد - إني أعلم الناس بهذا - أنّك عالم، كأنك قلت : أشهد - إني أعلم بهذا من غيري - أنك عالم. وإذا جئت بأنّ قد وقع عليها العلم أو الشهادة أو الظن وما أشبه ذلك كسرت إحداهما ونصبت التي يقع عليها الظنّ أو العلم وما أشبه ذلك ؛ نقول للرجل : لا تحسبن أنك عاقل ؛ إنك جاهل، لأنك تريد فإنك جاهل، وإن صلحت الفاء في إن السابقة كسرتها وفتحت الثانية. يقاس على هذه ما ورد.
وقوله ﴿ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائما بِالْقِسْطِ ﴾ منصوب على القطع ؛ لأنه نكرة نعت به معرفة. وهو في قراءة عبد الله " القائمُ بالقسط " رَفْع ؛ لأنه معرفة نعت لمعرفة.
( وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) للعرب في الياءات التي في أواخر الحروف - مثل اتبعن، وأكرمن، وأهانن، ومثل قوله " دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ - وَقَدْ هَدَانِ " - أن يحذفوا الياء مرة ويثبتوها مرة. فمن حذفها اكتفي بالكسرة التي قبلها دليلا عليها. وذلك أنها كالصلة ؛ إذ سكنت وهي في آخر الحروف واستثقلت فحذفت. ومن أتمها فهو البناء والأصل. ويفعلون ذلك في الياء وإن لم يكن قبلها نون ؛ فيقولون هذا غلامي قد جاء، وغلامِ قد جاء ؛ قال الله تبارك وتعالى ﴿ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ ﴾ في غير نداء بحذف الياء. وأكثر ما تحذف بالإضافة في النداء ؛ لأن النداء مستعمل كثيرا في الكلام فحذف في غير نداء. وقال إبراهيم ﴿ رَبَّنا وتَقَبَّل دُعَاء ﴾ بغير ياء، وقال في سورة الملك ﴿ كَيْفَ كَانَ نَكِير ﴾ و " نذِير " وذلك أنهن رءوس الآيات، لم يكن في الآيات قبلهن ياء ثانية فأُجرين على ما قبلهن ؛ إذ كان ذلك من كلام العرب.
ويفعلون ذلك في الياء الأصلية ؛ فيقولون : هذا قاض ورام وداع بغير ياء، لا يثبتون الياء في شيء من فاعِل. فإذا أدخلوا فيه الألف واللام قالوا بالوجهين ؛ فأثبتوا الياء وحذفوها. وقال الله ﴿ من يهدِ الله فهو المهتدِ ﴾ في كل القرآن بغير ياء. وقال في الأعراف " فهو المهتدى " وكذلك قال ﴿ يَوْمَ يُنادِي المُنادِ ﴾ و ﴿ أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ ﴾. وأحبّ ذلك إليّ أن أثبت الياء في الألف واللام ؛ لأن طرحها في قاض ومفترٍ وما أشبهه بما أتاها من مقارنة نون الإعراب وهي ساكنة والياء ساكنة، فلم يستقم جمع بين ساكنين، فحذفت الياء لسكونها. فإذا أدخلت الألف واللام لم يجز إدخال النون، فلذلك أحببت إثبات الياء. ومن حذفها فهو يرى هذه العلّة : قال : وجدت الحرف بغير ياء قبل أن تكون فيه الألف واللام، فكرهت إذ دخلت أن أزيد فيه ما لم يكن. وكلّ صواب.
وقوله ﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾ وهو استفهام ومعناه أمر. ومثله قول الله ﴿ فهل أَنْتُم مُنتهون ﴾ استفهام وتأويله : انتهوا. وكذلك قوله ﴿ هل يَسْتَطِيع ربُّك ﴾ وهل تستطيع رَبَّك إنما [ هو ] مسألة. أوَ لا ترى أنك تقول للرجل : هل أنت كافّ عنا ؟ معناه : اكفف، تقول للرجل : أين أين ؟ : أقِم ولا تبرح. فلذلك جوزى في الاستفهام كما جوزى في الأمر. وفي قراءة عبد الله " هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. آمِنوا " ففسّر ( هل أدلكم ) بالأمر. وفي قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله
( هل أدلكم ) والمجازاة في قراءة عبد الله على الأمر ؛ لأنه هو التفسير.
تقرأ : ويقتلون، وهي في قراءة عبد الله " وقاتلوا " فلذلك قرأها من قرأها ( يقاتلون )، وقد قرأ بها الكسائي دَهْراً ( يقاتلون ) ثم رجع، وأحسبه رآها في بعض مصاحف عبد الله ﴿ وقَتَلوا ﴾ بغير الألف فتركها ورجع إلى قراءة العامّة ؛ إذ وافق الكتاب في معنى قراءة العامّة.
قيلت باللام. و( في ) قد تصلح في موضعها ؛ تقول في الكلام : جُمِعوا لِيوم الخميس. وكأنّ اللام لفعل مضمر في الخميس ؛ كأنهم جُمِعوا لِما يكون يوم الخميس. وإذا قلت : جمعوا في يوم الخميس لم تضمِر فعلا. وفي قوله :﴿ جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي للحساب والجزاء.
﴿ اللهم ﴾ كلمة تنصبها العرب. وقد قال بعض النحويين : إنما نصبت إذ زيدت فيها الميمان لأنها لا تنادى بيا ؛ كما تقول : يا زيد،
ويا عبد الله، فجعلت الميم فيها خَلَفا من يا. وقد أنشدني بعضهم :
وما عليكِ أن تقولي كُلَّما | صلَّيتِ أو سبَّحتِ يا اللهمَّ ما |
ولم نجد العرب زادت مثل هذه الميم في نواقص الأسماء إلا مخفَّفة ؛ مثل الفم وابنم وهم، ونرى أنها كانت كلمة ضمّ إليها ؛ اُمّ، تريد : يا ألله اُمّنا بخير، فكثرت في الكلام فاختلطت. فالرفعة التي في الهاء من همزة أُمّ لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. ونرى أن قول العرب :( هَلُمَّ إلينا ) مثلها، إنما كانت ( هل ) فضمّ إليها أُمّ فتركت على نصبها. ومن العرب من يقول إذا طرح الميم : يا ألله اغفر لي، ويا الله اغفر لي، فيهمزون ألفها ويحذفونها. فمن حذفها فهو على السبيل ؛ لأنها ألف ولام مثل الحارث من الأسماء. ومن همزها توهّم أنها من الحرف إذ كانت لا تسقط منه ؛ أنشدني بعضهم :
مباركٌ هُوّ ومَن سماه | على اسمك اللهمَّ يا ألله |
كحَلْفَةٍ من أبي رياح | يسمعها اللهمَ الكُبار |
*** يسمعها الله والله كبار ***
وقوله تبارك وتعالى :﴿ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاء ﴾. ( إذا رأيت من تشاء مع من تريد من تشاء أن تنزِعه منه ). والعرب تكتفي بما ظهر في أوّل الكلام مما ينبغي أن يظهر بعد شئت. فيقولون : خذ ما شئت، وكن فيما شئت. ومعناه فيما شئت أن تكون فيه. فيحذف الفعل بعدها ؛ قال تعالى : " اعملوا ما شِئتم " وقال تبارك وتعالى ﴿ في أي صورةٍ ما شاء ركّبك ﴾ والمعنى -والله أعلم - : في أي صورة شاء أن يركّبك ركّبك. ومنه قوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شَاء الله ﴾ وكذلك الجزاء كله ؛ إن شئت فقم، وإن شئت فلا تقم ؛ المعنى : إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت ألاَّ تقوم فلا تقم. وقال الله ﴿ فَمَنْ شَاء فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ فهذا بيّن أنّ المشيئة واقعة على الإيمان والكفر، وهما متروكان. ولذلك قالت العرب :( أَيُّها شئت فلك ) فرفعوا أيّا لأنهم أرادوا أيُّها شئت أن يكون لك فهو لك. وقالوا ( بِأيِّهم شئت فمرّ ) وهم يريدون : بأيّهم شئت أن تمرّ فمرّ.
جاء التفسير أنه نقصان الليل يولَج في النهار، وكذلك النهار يولَج في الليل، حتى يتناهى طولُ هذا وقِصَر هذا.
وقوله ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ ذُكر عن ابن عباس أنها البيضة : ميتة يخرج منها الفرخ حيّا، والنُطْفة : ميتة يخرج منها الولد.
نهي، ويُجزم في ذلك. ولو رُفع على الخبر كما قرأ من قرأ :﴿ لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِها ﴾. وقوله ﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ هي أكثر كلام العرب، وقرأه القرّاء. وذكِر عن الحسن ومجاهد أنهما قرءا " تَقِيَّة " وكلّ صواب.
جزم على الجزاء. ﴿ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماوَاتِ وَما فِي الأَرْضِ ﴾ رفع على الاستئناف ؛ كما قال الله في سورة براءة ﴿ قاتِلوهم يعذِّبْهم الله ﴾ فجزم الأفاعيل، ثم قال ﴿ ويتوبُ الله على من يشاء ﴾ رفعا على الاسئتناف. وكذلك قوله ﴿ فإن يشأ الله يختِمْ على قلبِك ﴾ ثم قال ﴿ ويمح الله الباطِل ﴾ ويَمْحُ في نِيَّة رفع مستأنفة وإن لم تكن فيها واو ؛ حذفت منها الواو كما حذفت في قوله ﴿ سندعُ الزّبانية ﴾. وإذا عطفت على جواب الجزاء جاز الرفع والنصب والجزم. وأما قوله ﴿ وإن تبدوا ما في أنفسِكم أو تخفوه يحاسِبْكم بِهِ الله فيغفِرُ ﴾ وتقرأ جزما على العطف ومسكَّنة تشبه الجزم وهي في نية رفع تدغم الراء من يغفر عند اللام، والباء من يعذب عند الميم ؛ كما يقال
﴿ أرَأَيْتَ الذي يُكذِّب بِالدّين ﴾ وكما قرأ الحسن ﴿ شهر رمضان ﴾.
ما في مذهب الذي. ولا يكون جزاء لأن ( تجد ) قد وقعت على ما.
وقوله ﴿ وَما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ﴾ فإنك تردّه أيضا على ( ما ) فتجعل ( عملت ) صلة لها في مذهب رفع لقوله ﴿ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها ﴾ ولو استأنفتها فلم توقع عليها ( تجد ) جاز الجزاء ؛ تجعل ( عملت ) مجزومة. ويقول في تودّ : تودَّ بالنصب وتودِّ. ولو كان التضعيف ظاهر لجاز تَوْدَدْ. وهي في قراءة عبد الله " وما عملت من سوء ودَّت " فهذا دليل على الجزم، ولم أسمع أحدا من القراء قرأها جزما.
يقال اصطفى دينهم على جميع الأديان ؛ لأنهم كانوا مسلمين، ومثله مما أضمر فيه شيء فأُلقِي قوله ﴿ واسألِ القرية التي كنا فيها ﴾.
ثم قال ﴿ ذرية بعضها مِن بعضٍ ﴾ فنصب الذرّية على جهتين ؛ إحداهما أن تجعل الذرّية قطعا من الأسماء قبلها لأنهن معرفة. وإن شئت نصبت على التكرير، اصطفى ذرّية بعضها من بعض، ولو استأنفت فرفعت كان صوابا.
لبيت المقدس : لا أشغله بغيره.
قد يكون من إخبار مريم فيكون ﴿ والله أعلم بِما وضعْتُ ﴾ يسكن العين، وقرأ بها بعض القراء، ويكون من قول الله تبارك وتعالى، فتجزم التاء ؛ لأنه خبر عن أنثى غائبة.
من شدّد جعل زكريا في موضع نصب ؛ كقولك : ضمَّها زكريا، ومن خفف الفاء جعل زكريا في موضع رفع. وفي زكريا ثلاث لغات : القصر في ألِفه، فلا يستبِين فيها رفع ولا نصب ولا خفض، وتمدّ ألفه فتنصب وترفع بلا نون ؛ لأنه لا يُجْرَى، وكثير من كلام العرب أن تحذف المدّة والياء الساكنة فيقال : هذا زكرىّ قد جاء فيُجْرَى ؛ لأنه يشبه المنسوب من أسماء العرب.
الذرّية جمع، وقد تكون في معنى واحد. فهذا من ذلك ؛ لأنه قد قال :﴿ فهب لِي مِن لدنك ولِيا ﴾ ولم يقل أولياء. وإنما قيل " طيبة "
ولم يقل طيبا لأن الطيبة أُخرِجت على لفظ الذرّية فأنثت لتأنيثها، ولو قيل ذرّية طيبا كان صوابا. ومثله من كلام العرب قول الشاعر :
أبوك خليفةٌ وَلَدتْه أخرى | وأنت خليفة ذاك الكمال |
فما تزْدَرِي من حَيَّة جَبَليّةٍ | سُكَاتٍ إذا ماعَضّ ليس بأدْرَدَا |
تَجوبُ بنا الفلاةَ إِلى سعِيدٍ | إذا ما الشّاةُ في الأَرطَاة قالا |
وعنترةُ الفلحاء جاء مُلأَّما | كأنَّهُ فِنْدٌ من عَماية أَسود |
يقرأ بالتذكير والتأنيث. وكذلك فِعْل الملائكة وما أشبههم من الجمع : يؤنّث ويذكّر. وقرأت القراء ﴿ يعرج الملائكة، وتعرج ﴾ و " تتوفاهم - و- يتوفاهم الملائكة " وكل صواب. فمن ذكّر ذهب إلى معنى التذكير، ومن أنَّث فلِتأنيث الاسم، وأن الجماعة من الرجال والنساء وغيرهم يقع عليه التأنيث. والملائكة في هذا الموضع جبريل صلّى الله عليه وسلم وحده. وذلك جائز في العربيّة : أن يخبر عن الواحد بمذهب الجمع ؛ كما تقول في الكلام : خرج فلان في السُفُن، وإنما خرج في سفينة واحدة، وخرج على البغال، وإنما ركب بغلا واحدا. وتقول : مِمَّن سمعت هذا الخبر ؟ فيقول : من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قال الله تبارك وتعالى :﴿ وإذا مَسَّ الناسَ ضُرّ ﴾، ﴿ وإذا مسَّ الإنسان ضر ﴾ ومعناهما والله أعلم واحد : وذلك جائز فيما لم يُقصَد فيه قصدُ واحدٍ بعينه.
وقوله ﴿ وَهُوَ قَائمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ ﴾ تقرأ بالكسر. والنصب فيها أجود في العربيّة فمن فتح ( أنّ ) أوقع النداء عليها ؛ كأنه قال : نادَوه بذلك أن الله يبشرك. ومن كسر قال : النداء في مذهب القول، والقولُ حكاية. فاكسر إنّ بمعنى الحكاية. وفي قراءة عبد الله " فناداه الملائكة وهو قائم يصلِّي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك " فإذا أُوقع النداء على منادىً ظاهر مثل ( يا زكريا ) وأشباهه كسرت ( إن ) لأن الحكاية تخلص، إذا كان ما فيه ( يا ) ينادَى بها، لا يخلص إليها رفع ولا نصب ؛ ألا ترى أنك تقول : يا زيد إنك قائم، ولا يجوز يا زيد أنك قائم. وإذا قلت : ناديت زيدا أنه قائم فنصبت ( زيدا ) بالنداء جاز أن توقع النداء على ( أنّ ) كما أوقعته على زيد. ولم يجز أن تجعل إنّ مفتوحة إذا قلت يا زيد ؛ لأن زيدا لم يقع عليه نصب معروف. وقال في طه :﴿ فلّما أتاها نودِي يا موسى إِني أنا ربك ﴾ فكُسِرت ( إِني ). ولو فُتحت كان صوابا من الوجهين ؛ أحدهما أن تجعل النداء واقعا على ( إنّ ) خاصّة لا إضمار فيها، فتكون ( أنّ ) في موضع رفع. وإن شئت جعلت في ( نودي ) اسم موسى مضمرا، وكانت ( أنّ ) في موضع نصب تريد : بأني أنا ربك. فإذا خلعت الباء نصبته. فلو قيل في الكلام : نودي أنْ يا زيد فجعلت ( أن يا زيد ) [ هو المرفوع بالنداء ] كان صوابا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدّقت الرؤيا ﴾.
فهذا ما في النداء إذا أوقعت ( إن ) قيل يا زيد، كأنك قلت : نودي بهذا النداء إذا أوقعته على اسم بالفعل فتحت أن وكسرتها. وإذا ضممت إلى النداء الذي قد أصابه الفعل اسما منادىً فلك أن تُحدِث ( أن ) معه فتقول ناديت أن يا زيد، فلك أن تحذفها من ( يا زيد ) فتجعلها في الفعل بعده ثم تنصبها. ويجوز الكسر على الحكاية.
ومما يقوّى مذهب من أجاز " إن الله يبشرك " بالكسر على الحكاية قوله :﴿ ونادَوا يا مالك ليقض علينا ربك ﴾ ولم يقل : أن ليقض علينا ربك. فهذا مذهب الحكاية. وقال في موضع آخر ﴿ ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة أن أفيضوا ﴾ ولم يقل : أفيضوا، وهذا أمر وذلك أمر ؛ لتعلم أن الوجهين صواب.
و " يبشرك " قرأها [ بالتخفيف ] أصحابُ عبد الله في خمسة مواضع من القرآن : في آل عمران حرفان، وفي بنى إسرائيل، وفي الكهف، وفي مريم. والتخفيف والتشديد صواب. وكأنّ المشدّد على بِشارات البُشَراء، وكأن التخفيف من وجهة الإفراح والسرور. وهذا شيء كان المشيخة يقولونه. وأنشدني بعض العرب :
بَشَرتُ عِيالي إذْ رأيت صحيفةً | أتتك من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها |
وإذا رأيت الباهشين إلى العلى | غُبْرا أكفُّهم بِقاع ممحِل |
فأَعِنْهُمُ وابْشَرْ بما بَشِرُوا به | وإذا همُ نزلوا بضَنْك فانزِل |
وقوله :﴿ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً ﴾ نصبت ( مصدّقا ) لأنه نكرة، ويحيى معرفة. وقوله :﴿ بكلمة ﴾ يعنى مصدِّقا بعيسى.
وقوله :﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً ﴾ مردودات على قوله : مصدّقا. ويقال : إن الحَصُور : الذي لا يأتي النساء.
إذا أردت الاستقبال المحض نصبت ( تكلِّم ) وجعلت ( لا ) على غير معنى ليس. وإذا أردت : آيتك أنك على هذه الحال ثلاثةَ أيام رفعت، فقلت : أن لا تكلِّمُ الناس ؛ ألا ترى أنه يحسن أن تقول : آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا. والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين. وأكثره في الشفتين. كلّ ذلك رَمْز.
مما ذكرت لك في قوله ﴿ ذُرّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ قيل فيها ( اسمه ) بالتذكير للمعنى، ولو أنَّث كما قال ﴿ ذُرّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ كان صوابا.
وقوله :( وَجِيها ) قطعا من عيسى، ولو خفضت على أن تكون نعتا للكلمة لأنها هي عيسى كان صوابا.
والكهل مردود على الوجيه. ﴿ وَيُكَلِّمُ الناسَ ﴾ ولو كان في موضع ( ويكلّم ) ومكلما كان نصبا، والعرب تجعل يفعل وفاعِلٌ إذا كانا في عطوف مجتمعين في الكلام، قال الشاعر :
بِتّ أعَشِّيها بغَضْبٍ باتِرِ | يقصِد في أَسْوُقِها وجائر |
من الذَّرِيحيَّات جَعْدا آرِكا | يقصُر يمشى ويطول باركا |
يا ليتني عَلِقْتُ غير خارج | قبل الصباح ذاتَ خَلْقٍ بارِج |
يذهب إلى الطين، وفي المائدة ﴿ فتنفخ فيها ﴾ ذهب إلى الهيئة، فأنث لتأنيثها، وفي إحدى القراءتين ( فأنفخها ) وفي قراءة عبد الله
( فأنفخها ) بغير في، وهو مما تقوله العرب : ربّ ليلة قد بِتّ فيها وبِتُّها.
ويقال في الفعل أيضا :
*** ولقد أَبيت على الطَوَى وأظلهُّ ***
تُلْقَى الصفات وإن اختلفت في الأسماء والأفاعيل. وقال الشاعر :
إذا قالت حذامِ فأنصِتوها | فإن القول ما قالت حذام |
ما شُقّ جَيْب ولا قامتك نائحة | ولا بكتك جِياد عند أسلابِ |
فأما الذين يقولون : يدّخر ويذّكِر ومذّكِر فإنهم وجدوا التاء إذا سكنت واستقبلتها ذال دخلت التاء في الذال فصارت ذالا، فكرِهوا أن تصير التاء ذالا فلا يعَرفُ الافتعال من ذلك، فنظروا إلى حرف يكون عَدْلا بينهما في المقارَبة، فجعلوه مكان التاء ومكان الذال.
وأما الذين غلَّبوا الذال فأمضوُا القياس، ولم يلتفتوا إلى أنه حرف واحد، فأدغموا تاء الافتعال عند الذال والتاء والطاء.
ولا تنكرنّ اختيارهم الحرف بين الحرفين ؛ فقد قالوا : ازدجر ومعناها : ازتجر، فجعلوا الدال عدلا بين التاء والزاي. ولقد قال بعضهم : مُزجَّر، فغلَّب الزاي كما غلَّب التاء. وسمعت بعض بنى عُقَيل يقول : عليك بأبوال الظِباء فاصَّعِطْها فإنها شِفاء للطَحَل، فغلب الصاد على التاء، وتاء الافتعال تصير مع الصاد والضاد طاء، كذلك الفصيح من الكلام كما قال الله عز وجل :﴿ فَمَن اضْطُرّ في مَخْمَصَةٍ ﴾ ومعناها افتعل من الضرر. وقال الله تبارك وتعالى ﴿ وأْمُرْ أهْْلَكَ بالصَّلاَةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها ﴾ فجعلوا التاء طاء في الافتعال.
نصبت ( مصدّقا ) على فِعل ( جئت )، كأنه قال : وجِئتكم مصدّقا لِما بين يدىّ من التوراة، وليس نصبُه بتابع لقوله ( وَجِيها ) لأنه لو كان كذلك لكان ( ومصدّقا لما بين يديه ).
وقوله :﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم ﴾ الواو فيها بمنزلة قوله ﴿ وكذَلِكَ نُرِى إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين ﴾.
يقول : وجد عيسى. والإحساس : الوجود، تقول في الكلام : هل أحسست أحدا. وكذلك قوله ﴿ هل تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ﴾. فإذا قلت : حَسَسْت، بغير ألف فهي في معنى الإفناء والقتل. من ذلك قول الله عز وجل ﴿ إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإذْنِهِ ﴾ والحَسّ أيضا : العطف والرِقّة ؛ كقول الكُمَيت :
هل مَنْ بكى الدار راجٍ أن تحِسّ له | أو يُبْكِىَ الدارَ ماء العَبْرةِ الخَضِل |
*** حسِينَ بِه فَهُنّ إليه شُوس ***
وقد تقول العرب ما أحَستْ بهم أحدا، فيحذفون السين الأولى، وكذلك في وددت، ومسِست وهَمَمْت، قال : أنشدني بعضهم :
هل ينفَعَنْك اليوم إِن هَمْت بِهَمّْ | كثرةُ ما تأتي وتَعْقاد الرَتَمْ |
والحواريُّون كانوا خاصَّة عيسى. وكذلك خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع عليهم الحواريّون. وكان الزبير يقال له حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما جاء في الحديث لأبى بكر وعمر وأشباههما حوارىّ. وجاء في التفسير أنهم سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم.
نزل هذا في شأن عيسى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فيه كوّة وقد أيَّده الله تبارك وتعالى بجبريل صلى الله عليه وسلم، فرفعه إلى السماء من الكوّة، ودخل عليه رجل منهم ليقتله، فألقى الله على ذلك الرجل شَبَه عيسى بن مريم. فلما دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول : ما في البيت أحد، فقتلوه وهم يَرُون أنه عيسى. فذلك قوله ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ والمكر من الله استدراج، لا على مكر المخلوقين.
يقال : إن هذا مقدّم ومؤخَّر. والمعنى فيه : إني رافعك إلىَّ ومطهِّرك من الذين كفروا ومتوفِّيك بعد إنزالي إيّاك في الدنيا. فهذا وجه.
وقد يكون الكلام غير مقدّم ولا مؤخَّر ؛ فيكون معنى متوفّيك : قابضك ؛ كما تقول : توفيت مالي من فلان : قبضته من فلان. فيكون التوفي على أخذه ورفعه إليه من غير موت.
هذا لقول النصارى إنه ابنه، إذ لم يكن أب، فأنزل الله تبارك وتعالى عُلُوّا كبيرا ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ لا أب له ولا أم، فهو أعجب أمرا من عيسى، ثم قال :﴿ خَلَقَهُ ﴾ لا أن قوله " خلقه " صلة لآدم ؛ إنما تكون الصلات للنكرات ؛ كقولك : رجل خلقه من تراب، وإنما فسَّر أمر آدم حين ضرب به المثل فقال " خلقه " على الانقطاع والتفسير، ومثله قوله ﴿ مَثَلُ الذين حُمِّلوا التّوْرَاة ثم لم يَحْمِلُوها كَمَثَل الْحِمارِ ﴾ ثم قال ﴿ يَحْملُ أَسْفَاراً ﴾ والأسفار : كتب العلم يحملها ولا يَدْرى ما فيها. وإن شئت جعلت " يحمل " صلة للحمار، كأنك قلت : كمثل حمار يحمل أسفارا ؛ لأن ما فيه الألف واللام قد يوصل فيقال : لا أمرَّ إلا بالرجل يقول ذلك، كقولك بالذي يقول ذلك. ولا يجوز في زيد ولا عمرو أن يوصل كما يوصل الحرف فيه الألف واللام.
رفعته بإضمار ( هو ) ومثله في البقرة ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أي هو الحق، أو ذلك الحق فلا تَمْتَرِ.
وهي في قراءة عبد الله " إلى كلمة عدل بيننا وبينكم " وقد يقال في معنى عدل سِوىً وسُوىً، قال الله تبارك وتعالى في سورة طه
﴿ فاجْعَلْ بَيْنَنا وبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَانا سِوىً ﴾ وسُوىً ؛ يراد به عَدْل ونصف بيننا وبينك.
ثم قال ﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ فأن في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى ألاّ نعبد إلا الله. ولو أنك رفعت ( ما نعبد ) مع العطوف عليها على نية تعالوا نتعاقد لا نعبد إلا الله ؛ لأن معنى الكلمة القول، كأنك حكيت تعالوا نقول لا نعبدُ إلا الله. ولو جزمت العُطُوف لصَلَح على التوهّم ؛ لأن الكلام مجزوم لو لم تكن فيه أن ؛ كما تقول : تعالوا لا نقل إلا خيرا.
ومثله مما يرِد على التأويل ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ولا تَكُونَنّ ﴾ فصيَّر ( ولا تكونن ) نهيا في موضع جزم، والأول منصوب، ومثله ﴿ وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ ﴾ فردَّ أن على لام كي لأن ( أن ) تصلح في موقع اللام. فردَّ أن على أن مثلها يصلح في موقع اللام ؛ ألا ترى أنه قال في موضع ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا ﴾ وفي موضع ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا ﴾.
فإن أهل نَجْران قالوا : كان إبراهيم نصرانيّا على ديننا، وقالت اليهود : كان يهوديا على ديننا، فأكذبهم الله فقال ﴿ وَما أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي بعد إبراهيم بدهر طويل، ثم عيَّرهم أيضا.
إلى آخر الآية. ثم بيَّن ذلك.
فقال :﴿ ما كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِما ﴾
إلى آخر الآية.
إلى آخر الآية. ثم بيَّن ذلك.
فقال :﴿ ما كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِما ﴾
إلى آخر الآية.
يقول : تشهدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بصفاته في كتابكم. فذلك قوله :( تشهدون ).
لو أنك قلت في الكلام : لِمَ تقومُ وتقعدَ يا رجل ؟ على الصرف لجاز، فلو نصبت ( وتكتموا ) كان صوابا.
يعنى صلاة الصبح ﴿ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ ﴾ يعنى صلاة الظهر. هذا قالته اليهود لما صُرِفت القِبلة عن بيت المَقْدِس إلى الكعبة ؛ فقالت اليهود : صَلُّوا مع محمد - صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم - الصبحَ، فإذا كانت الظهرُ فصلّوا إلى قبلتكم لتشكّكوا أصحاب محمد في قبلتهم ؛ لأنكم عندهم أعلم منهم فيرجعوا إلى قبلتكم.
فأنه يقال : إنها من قول اليهود. يقول : ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم. واللام بمنزلة قوله :﴿ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ﴾ المعنى : ردِفكم.
وقوله :﴿ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ ما أُوتِيتُمْ ﴾
يقول : لا تصدّقوا أن يؤتَى أحد مثل ما أوتيتم. أوقعت ﴿ تؤمنوا ﴾ على ﴿ أن يؤتى ﴾ كأنه قال : ولا تؤمنوا أن يعطى أحد مثل ما أُعطِيتم، فهذا وجه.
ويقال : قد انقطع كلام اليهود عند قوله ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾، ثم صار الكلام من قوله قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتي أهل الإسلام، وجاءت ( أن ) لأنّ في قوله ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى ﴾ مثلَ قوله : إن البيان بيان الله، فقد بيّن أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي أهلُ الإسلام. وصلحت ( أحد ) لأن معنى أن معنى لا كما قال تبارك وتعالى ﴿ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا ﴾ معناه : لا تضلّون. وقال تبارك وتعالى ﴿ كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمينَ. لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أن تصلح في موضع لا.
وقوله ﴿ أوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْد رَبِّكُمْ ﴾ في معنى حَتَّى وفي معنى إلاّ ؛ كما تقول في الكلام : تعلَّقْ به أبدا أو يعطيَك حقّك، فتصلح حتَّى وإلاَّ في موضع أو.
كان الأعمش وعاصم يجزمان الهاء في يؤدِّه، و " نُولِّهْ ما تَوَلّى "، و " أرجِهْ وأخاه "، و " خيرا يرهْ "، و " شرا يرهْ ". وفيه لهما مذهبان ؛ أما أحدهما فإن القوم ظنّوا أن الجزم في الهاء، وإنما هو فيما قبل الهاء. فهذا وإن كان توهُّما ؛ خطأٌ. وأما الآخر فإن من العرب من يجزم الهاء إذا تحرّك ما قبلها ؛ فيقول ضربتهْ ضربا شديدا، أو يترك الهاء إذ سكَّنها وأصلها الرفع بمنزلة رأيتهم وأنتم ؛ ألا ترى أن الميم سكنت وأصلها الرفع. ومن العرب من يحرّك الهاء حركة بلا واو، فيقول ضربتهُ ( بلا واو ) ضربا شديدا. والوجه الأكثر أن توصَل بواو ؛ فيقال كلمتهو كلاما، على هذا البناء، وقد قال الشاعر في حذف الواو :
أنا ابن كِلاب وابن أوْس فمن يكنْ | قِناعهُ مَغْطِيّا فإنّي لمُجْتَلَى |
وقوله ﴿ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائما ﴾ يقول : ما دمت له متقاضيا. والتفسير في ذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا بايعهم أهل الإسلام أدّى بعضهم الأمانة، وقال بعضهم : ليس للأمِّيِّين - وهم العرب - حُرْمة كحرمة أهل ديننا، فأخبر الله - تبارك وتعالى - أنّ فيهم أمانة وخيانة ؛ فقال تبارك وتعالى ﴿ وَيَقُولُونَ على اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ في استحلالهم الذهاب بحقوق المسلمين.
تقرأ : تُعلِّمون وتَعْلَمون، وجاء في التفسير : بقراءتكم الكتب وعِلمكم بها. فكان الوجه ( تَعْلَمون ) وقرأ الكسائي وحمزة ( تُعَلِّمون ) لأن العالِم يقع عليه يُعَلِّم ويَعلَم.
أكثر القراء على نصبها ؛ يردونها على ﴿ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ ﴾ : ولا أن يأمركم. وهي في قراءة عبد الله ( ولن يأمركم ) فهذا دليل على انقطاعها من النَسَق وأنها مستأنفة، فلما وقعت ( لا ) في موقع ( لن ) رفعت كما قال تبارك وتعالى ﴿ إِنا أرْسَلْناكَ بالْحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيم ﴾ وهي في قراءة عبد الله ( ولن تسأل ) وفي قراءة أبىّ ( وما تُسأل عن أصحاب الجحيم ).
ولِما آتيتكم، قرأها يحيى بن وَثّاب بكسر اللام ؛ يريد أخذ الميثاق للذين آتاهم، ثم جعل قوله ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾ من الأخذ ؛ كما تقول : أخذتُ ميثاقك لتعمَلَنّ ؛ لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. ومن نصب اللام في ( لما ) جعل اللام لاما زائدة ؛ إذْ أُوقعت على جزاء صيّر على جهة فعل وصيّر جواب الجزاء باللام وبإن وبلا ويما، فكأنّ اللام يمين ؛ إذ صارت تُلْقَى بجواب اليمين. وهو وجه الكلام.
أسلم أهل السماوات طَوعا. وأما أهل الأرض فإنهم لما كانت السُّنَّة فيهم أن يقاتَلوا إن لم يُسلموا أسلموا طوعا وكرها.
نصبت الذهب لأنه مفسِّر لا يأتي مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك : عندي عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا. ومثله قوله ﴿ أوْ عَدْلُ ذلك صِيَاما ﴾ وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذي تراه قد ذكر قبله، مثل ملء الأرض، أو عَدْل ذلك، فالعَدْل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شيء له قدر ؛ كقولك : عندي قدر قَفِيز دقيقا، وقدر حَمْلةٍ تبْنا، وقدر رطلين عسلا، فهذه مقادير معروفة يخرج الذي بعدها مفسِّرا ؛ لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدلّ على جنس المقدار من أي شيء هو ؛ كما أنك إذا قلت : عندي عشرون فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تمّ خبره، وجهُل جنسُه وبقى تفسيره، فصار هذا مفسِّرا عنه، فلذلك نُصِب. ولو رفعته على الاسئتناف لجاز ؛ كما تقول : عندي عشرون، ثم تقول بعد : رجالٌ، كذلك لو قلت : مِلْء الأرض، ثم قلت : ذَهَبٌ، تخبر على غير اتّصال.
وقوله :﴿ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ الواو ها هنا قد يُستغنَى عنها، فلو قيل مِلْء الأرض ذهبا لو افتدى به كان صوابا. وهو بمنزلة قوله :
﴿ ولِيكون مِن الموقِنِين ﴾ فالواو ها هنا كأن لها فعلا مضمرا بعدها.
يُذكَر في التفسير أنه أصابه عِرْق النَسَا فجعل على نفسه إن برأ أن يحرِّم أحبّ الطعام والشراب إليه، فلما برأ حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، وكان أحبّ الطعام والشراب إليه.
يقول : إنّ أوّل مسجد وُضع للناس ﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ وإنما سمّيت بَكّة لازدحام الناس بها ؛ يقال : بَكَّ الناسُ بعضُهم بعضا : إذا ازدحموا.
وقوله :﴿ هُدىً ﴾ موضع نصب متبعة للمبارك. ويقال إنْما قيل : مباركا لأنه مغفِرة للذنوب.
يقال : الآيات المقامُ والْحِجر والحَطِيم، وقرأ ابن عباس " فيه آية بيِّنة " جعل المقام هو الآية لا غير.
وقوله :﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ يقول : من قال ليس على حجّ فإنما يجحد بالكفر فرضه لا يتركه.
يريد السبيل فأنَّثها، والمعنى تبغون لها. وكذلك ﴿ يبغونكم الفِتنة ﴾ : يبغون لكم الفتنة. والعرب يقولون : ابغني خادما فارِها، يريدون : ابتغِهِ لي، فإذا أرادوا : ابتغِ معِي وأعِنِّى على طلبه قالوا أَبْغنى ( ففتحوا الألِف الأولى من بغيت، والثانية من أبغيت ) وكذلك يقولون : المِسنى نارا وألمِسنى، واحلبنى وأَحلبنى، واحْمِلنى وأحملنى، واعكمنى وأعكمنى ؛ فقوله : احلِبنى يريد : احلب لي ؛ أي اكفنى الحَلَب، وأحلبنى : أعِنِّى عليه، وبقِيته على مثل هذا.
الكلام العربىّ هكذا بالباء، وربما طرحت العربُ الباء فقالوا : اعتصمت بك واعتصمتك ؛ قال بعضهم :
إذا أنت جازيت الإخاء بمثله | وآسيتنى ثم اعتصمتَ حباليا |
تعلَّقت هندا ناشئا ذات مِئزَرٍ | وأنت وقد قارَفْتَ لم تَدْر ما الحلُمْ |
لم يذكِّر الفعلَ أحد من القرّاء كما قيل ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ) وقوله ( لا يحِلّ لك النِساء مِن بعد ) وإنما سهل التذكير في هذين لأن معهما جحدا، والمعنى فيه : لا يحلّ لك أحد من النساء، ولن ينال الله شيء من لحومها، فذهب بالتذكير إلى المعنى، والوجوه ليس ذلك فيها، ولو ذكِّر فعل الوجوه كما تقول : قام القوم لجاز ذلك.
وقوله :﴿ فَأَما الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ ﴾ يقال :( أما ) لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هي ؟ فيقال : إنها كانت مع قولٍ مضمر، فلما سقط القول سقطت الفاء معه، والمعنى - والله أعلم - فأما الذين اسودّت وجوههم فيقال : أكفرتم، فسقطت الفاء مع ( فيقال ). والقول قد يضمر. ومنه في كتاب الله شيء كثير ؛ من ذلك قوله ﴿ ولو ترى إِذِ المجرِمون ناكِسوا رءوسِهِم عِند ربهم ربنا أبصرنا وسمِعنا ﴾ وقوله ﴿ وإِذ يرفع إِبراهِيم القواعِد من البيت وإِسماعيل ربنا تقبل منا ﴾ وفي قراءة عبد الله " ويقولان ربَّنا ".
يريد : هذه آيات الله. وقد فسّر شأنها في أوّل البقرة.
في التأويل : في اللوح المحفوظ. ومعناه أنتم خير أمّة ؛ كقوله ﴿ واذكروا إِذ كنتم قلِيلا فكثركم ﴾، و ﴿ إِذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ﴾ فإضمار كان في مثل هذا وإظهارها سواء.
مجزوم ؛ لأنه جواب للجزاء ﴿ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ مرفوع على الائتناف، ولأن رءوس الآيات بالنون، فذلك مما يقوّى الرفع ؛ كما قال ﴿ ولا يؤذن لهم فيعتذِرون ﴾ فرفع، وقال تبارك وتعالى ﴿ لا يقضى عليهِم فيموتوا ﴾.
يقول : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ؛ فأضمر ذلك، وقال الشاعر :
رأتنى بحبليها فصَدَّت مخافةً | وفي الحبل روعاء الفؤادِ فروق |
حنتنِي حانياتُ الدهِر حتى | كأنى خاتِل أَدنو لِصَيدِ |
قريبُ الخَطْوِ يحسب من رآنى | ولست مقيَّدا أنى بِقَيْدِ |
ذَكَر أمّه ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبنىّ على أخرى يراد ؛ لأن سواء لا بدّ لها من اثنين فما زاد.
ورفع الأمة على وجهين ؛ أحدهما أنك تَكُرُّه على سواء كأنك قلت : لا تستوى أمة صالحة وأخرى كافرة منها أمّة كذا وأمّة كذا، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه، قال الشاعر :
عصيت إليها القلب إنى لأمرها | سميع فما أَدرى أَرُشْد طِلابُها |
أراك فلا أدرى أهمّ هممته | وذو الهمّ قِدما خاشع متضائل |
وما أدرى إذا يمَّمت وجها | أريد الخير أيُّهما يلِينى |
أألخير الذي أنا أبتغيه | أم الشرُّ الذي لا يأتلينى |
وقوله :﴿ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آناء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ السجود في هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود ؛ لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع.
وفي قراءة عبد الله " وقد بدا البغضاء من أفواههم " ذكَّر لأنّ البغضاء مصدر، والمصدر إذا كان مؤنّثا جاز تذكير فِعله إذا تقدّم ؛ مثل ﴿ وأَخذ الذِين ظلموا الصيحةُ ﴾ و ﴿ قد جاءكم بينة مِن ربكم ﴾ وأشباه ذلك.
العرب إذا جاءت إلى اسم مكنىّ قد وُصِف بهذا وهاذان وهؤلاء فرّقوا بين ( ها ) وبين ( ذا ) جعلوا المكنَّى بينهما، وذلك في جهة التقريب لا في غيرها، فيقولون : أين أنت ؟ فيقول القائل : هأنذا، ولا يكادون يقولون : هذا أنا، وكذلك التثنية والجمع، ومنه ﴿ ها أَنْتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ ﴾ وربما أعادوا ( ها ) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء ؛ فيقولون : ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال الله تبارك وتعالى في النساء :﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم ﴾.
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا ( ها ) موصولة بذا، فيقولون : هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفي كلُّ واحد بصاحبه بلا فِعل، والتقريب لا بدّ فيه من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح.
إن شئت جُعِلت جزما وإن كانت مرفوعة، تكون كقولك للرجل : مُدُّ يا هذا، ولو نصبتها أو خفضتها كان صوابا ؛ لأن من العرب من يقول مُدِّ يا هذا، والنصب في العربية أهيؤها، وإن شئت جعلته رفعا وجعلت ( لا ) على مذهب ليس فرفعت وأنت مضمِر للفاء ؛ كما قال الشاعر :
فإن كان لا يُرضِيك حتى تردَّنى | إلى قَطَرِىّ لا إخالك راضِيا |
وفي قراءة عبد الله " تبوّى للمؤمنين مقاعد للقتال " والعرب تفعل ذلك، فيقولون : رَدِفك ورَدف لك. قال الفرّاء قال الكسائي : سمعت بعض العرب يقول : نقدت لها مائة، يريدون نقدتها مائة، لامرأة تزوّجها. وأنشدني الكسائي :
أستغفر الله ذنبا لست مُحصِيَه | ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعمل |
أستغفر الله من جِدّى ومن لعبي | وِزرِى وكلُّ امرِئٍ لا بدّ مُتَّزِرُ |
إن أَجْزِ علقمةَ بن سعدٍ سعيه | لا تلقنِي أَجزِى بسعى واحدِ |
لأحبني حُبَّ الصبِيّ وضمَّنِي | ضمَّ الهدِىّ إِلى الكرِيم الماجِدِ |
وفي قراءة عبد الله " والله ولِيُّهم " رجع بهما إلى الجمع ؛ كما قال الله عز وجل :﴿ هذانِ خصمانِ اختصموا في ربهِم ﴾ وكما قال :﴿ وإِن طائفتانِ مِن المؤمِنِين اقتتلوا ﴾.
في نصبه وجهان ؛ إن شئت جعلته معطوفا على قوله :﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الذِينَ كَفَرُوا أوْ يَكْبِتَهُمْ ﴾ أي ﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ﴾ وإن شئت جعلت نصبه على مذهب حتَّى ؛ كما تقول : لا أزال ملازِمك أو تعطِيَنِي، أو إلا أن تعطِيني حقيّ.
يقال [ ما قبل إلا ] معرفة، وإنما يرفع ما بعد إلا بإتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جَحد ؛ كقولك : ما عندي أحد إلا أبوك، فإن معنى قوله :﴿ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ ما يغفر الذنوب أحد إلا الله، فجعل على المعنى. وهو في القرآن في غير موضع.
وقُرْح. وأكثر القرّاء على فتح القاف. وقد قرأ أصحاب عبد الله : قُرْح، وكأنّ القُرْح ألم الجراحات، وكأنّ القَرْح الجراح بأعيانها. وهو في ذاته مثل قوله :﴿ أَسْكِنُوهنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُم مِن وُجْدِكُم ﴾ ووَجْدكُم ﴿ والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ وجَهْدهم، و ﴿ لاَ يُكَلّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَها ﴾ [ ووَسْعها ].
وقوله :﴿ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ يعلم المؤمن من غيره، والصابر من غيره. وهذا في مذهب أي ومَنْ ؛ كما قال :﴿ لِنَعْلَمَ أي الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ﴾ فإذا جعلت مكان أي أو مَن الذي أو ألفا ولاما نصبت بما يقع عليه ؛ كما قال الله تبارك :﴿ فَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الكّاذِبِين ﴾ وجاز ذلك لأن في " الذي " وفي الألف واللام تأويل مَنْ وأيّ ؛ إذ كانا في معنى انفصال من الفعل.
فإذا وضعت مكانهما اسما لا فعل فيه لم يحتمل هذا المعنى. فلا يجوز أن تقول : قد سألت فعلمت عبد الله، إلا أن تريد علمت ما هو. ولو جعلت مع عبد الله اسما فيه دلالة على أي جاز ذلك ؛ كقولك : إنما سألت لأعلم عبد الله مِن زيد، أي لأعرِف ذا مِن ذا. وقول الله تبارك وتعالى :﴿ لم تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ ﴾ يكون : لم تعلموا مكانهم، ويكون لم تعلموا ما هم أكفار أم مسلمون. والله أعلم بتأويله.
يريد : يمحّص الله الذنوب عن الذين آمنوا، ﴿ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ : ينقصهم ويفنيهم.
خفض الحسن " ويعلمِ الصابِرين " يريد الجزم. والقرّاء بعدُ تنصبه. وتهو الذي يسمّيه النحويّون الصرف ؛ كقولك : " لم آته وأُكرِمَهُ إلا استخفّ بي " والصرف أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثم أو الفاء أو أو، وفي أوّله جحد أو استفهام، ثم ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يُكَرَّ في العطف، فذلك الصرف. ويجوز فيه الإتباع ؛ لأنه نسق في اللفظ ؛ وينصب ؛ إذ كان ممتنعا أن يحدث فيهما ما أحدث في أوّله ؛ ألا ترى أنك تقول : لست لأبى إن لم أقتلك أو إن لم تسبقني في الأرض. وكذلك يقولون : لا يسعُني شيء ويضيقَ عنك، ولا تكرّ ( لا ) في يضيق. فهذا تفسير الصرف.
معناه : رأيتم أسباب الموت. وهذا يومَ أُحُد ؛ يعنى السيف وأشباهه من السلاح.
كلُّ استفهام دخل على جزاء فمعناه أن يكون في جوابه خبر يقوم بنفسه، والجزاء شرط لذلك الخبر، فهو على هذا، وإنما جزمته ومعناه الرفع لمجيئه بعد الجزاء ؛ كقول الشاعر :
حلفت له إنْ تُدْلجِ اللَّيْلَ لاَ يَزَلْ | أَمامكَ بَيْتٌ من بيُوتِىَ سائرُ |
والربّيون الأُلوف.
تقرأ : قُتِل وقاتل. فمن أراد قُتل جعل قوله :﴿ فَما وَهَنُواْ لِما أَصَابَهُمْ ﴾ للباقين، ومن قال : قاتل جعل الوهن للمقاتِلين. وإنما ذكر هذا لأنهم قالوا يوم أُحُد : قُتِل محمد صلى الله عليه وسلم، ففشِلوا، ونافق بعضهم، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ وما محمد إِلاّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾، وأنزل :﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾.
ومعنى وكأين : وكم.
وقد قال بعض المفسرين : " وكأين من نبي قُتِل " يريد : و " معه ربيون " والفعل واقع على النّبي صلّى الله عليه وسلم، يقول : فلم يرجعوا عن دينهم ولَم ينهوا بعد قتله. وهو وجه حسن.
نصبت القول بكان، وجعلت أنْ في موضع رفع. ومثله في القرآن كثير. والوجه أن تجعل ( أن ) في موضع الرفع ؛ ولو رفع القول وأشباهه وجعل النصب في " أن " كان صوبا.
رفع على الخبر، ولو نصبته :( بل أطيعوا الله مولاكم ) كان وجها حسنا.
يقال : إنه مقدّم ومؤخر ؛ معناه : " حتى إذا تنازعتم في الأمر فشِلتم ". فهذه الواو معناها السقوط : كما يقال :﴿ فلما أسلما وتَلَّه للْجَبِين. وناديْناه ﴾ معناه : ناديناه. وهو في " حتى إذا " و " فلما أن " مقول، لم يأت في غير هذين. قال الله تبارك وتعالى :﴿ حتى إذا فُتِحتْ يأجوجُ وماجوجُ وهُمْ مِن كل حَدَبٍ يَنْسِلون ﴾ ثم قال :﴿ واقتربَ الوعدُ الحقُّ ﴾ معناه : اقترب، وقال تبارك وتعالى :﴿ حتى إِذا جاءوها وفُتِحت أبوابها ﴾ وفي موضع آخر :﴿ فتِحت ﴾ وقال الشاعر :
حتى إذا قَمِلت بطونُكُم | ورأيتُم أبناءكُمْ شَبُّوا |
وقلبتُم ظهرَ المِجَنِّ لنا | إن اللئِيم العاجِزُ الخَبّ |
الإصعاد في ابتداء الأسفار والمخارج. تقول : أصعدنا من مكة ومن بغداد إلى خراسان، وشبيهَ ذلك. فإذا صعدت على السلم أو الدّرجة ونحوهما قلت : صعِدت، ولم تقل أصعدت. وقرأ الحسن البصرىّ : " إِذ تَصْعَدون ولا تلوون " جعل الصعود في الجبل كالصعود في السلم.
وقوله :﴿ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ﴾ ومن العرب من يقول : أُخراتِكم، ولا يجوز في القرآن ؛ لزيادة التاء فيه على كِتَاب المصاحف ؛ وقال الشاعر :
ويتّقى السيف بأُخْراتِه | من دون كفّ الجارِ والمِعصمِ |
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه | أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا |
ومعنى قوله ﴿ غَما بِغَمٍّ ﴾ ما أصابهم يوم أُحُد من الهزيمة والقتل، ثم أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيله فخافوه، وغَمَّهم ذلك.
وقوله :﴿ وَلاَ ما أَصَابَكُمْ ﴾ ( ما ) في موضع خفض على " ما فاتكم " أي ولا على ما أصابكم.
تقرأ بالتاء فتكون للأمنة ؛ وبالياء فيكون للنعاس، مثل قوله ﴿ يَغْلِى في البُطون ﴾ وتغلى، إذا كانت ( تغلى ) فهي الشجرة، وإذا كانت ( يغلِى ) فهو للمُهْل.
وقوله :﴿ يَغْشَى طَائفَةً مِّنْكُمْ وَطَائفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ ترفع الطائفة بقوله ( أهمتهم ) بما رجع من ذكرها، وإن شئت رفعتها بقوله ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ﴾ ولو كانت نصبا لكان صوابا ؛ مثل قوله في الأعراف :﴿ فَرِيقاً هَدَى وفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِم الضَّلاَلَةُ ﴾.
وإذا رأيت اسما في أوّله كلام وفي آخره فعل قد وقع على راجع ذِكره جاز في الاسم الرفع والنصب. فمن ذلك قوله :﴿ والسماء بَنَيْناها بِأَيْدٍ ﴾ وقوله :﴿ والأرضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُون ﴾ يكون نصبا ورفعا. فمن نصب جعل الواو كأنها ظرف للفعل متصلة بالفعل، ومن رفع جعل الواو للاسم، ورفعه بعائد ذكرِه ؛ كما قال الشاعر :
إن لَمَ اشفِ النفوسَ من حىِّ بَكْرٍ | وعدِىٌّ تطَاهُ جُرْبُ الجمال |
إذا ابنَ أبِى موسى بِلالاً أتيته | فقام بفأسٍ بين وُِصْلَيْكَ جازِر |
وأما قوله :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهما ﴾ فوجه الكلام فيه الرفع ؛ لأنه غير موَقَّت فرفع كما يرفع الجزاء، كقولك : من سرق فاقطعوا يده. وكذلك قوله ﴿ والشعراء يَتَّبِعُهُم الغاوون ﴾ معناه والله أعلم من ( قال الشعر ) اتبعه الغاوون. ولو نصبت قوله ( والسارقَ والسارقَة ) بالفعل كان صوابا.
وقوله ﴿ وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائرَهُ في عُنُقه ﴾ العرب في ( كل ) تختار الرفع، وقع الفعل على راجع الذكرِ أو لم يقع. وسمعت العرب تقول ( وكُلُّ شيء أحْصَيْناهُ في إمامٍ مُبِينٍ ) بالرفع وقد رجع ذكره. وأنشدوني فيما لم يقع الفعلُ على راجع ذكرِه :
فقالوا تَعَرّفْها المنازِلَ مِن مِنىً | وما كلُّ من يَغْشَى مِنىً أنا عارِفُ |
ألِفْنا دِيارا لم تكن مِن ديارِنا | ومن يُتَأَلّفْ بالكرامَةِ يَأْلَفُ |
قد عَلِقَت أمُّ الخِيارِ تدّعِى | على ذنبا كلُّه لم أَصنعِ |
وقوله :﴿ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ ﴾ فمن رفع جعل ( كل ) اسما فرفعه باللام في لِلّه كقوله ﴿ ويومَ القيامة تَرَى الذِين كَذَبُوا على اللهِ وجوههم مسودّة ﴾ ومن نصب ( كله ) جعله من نعت الأمر.
كان ينبغي في العربية أن يقال : وقالوا لإخوانهم إذ ضربوا في الأرض، لأنه ماض ؛ كما تقول : ضربتك إذ قمت، ولا تقول ضربتك إذا قمت. وذلك جائز، والذي في كتاب الله عربىّ حسن ؛ لأن القول وإن كان ماضيا في اللفظ فهو في معنى الاستقبال ؛ لأن ( الذين ) يُذهب بها إلى معنى الجزاء مِن مَنْ وما. فأنت تقول للرجل : أحبِب من أحبَّك، وأحبب كلّ رجل أحبَّك، فيكون الفعل ماضيا وهو يصلح للمستقبل ؛ إذ كان أصحابه غير موَقَّتين، فلو وَقَّته لم يجز. من ذلك أن تقول : لأضربن هذا الذي ضربك إذ سلَّمت عليك، لأنك قد وقَّته فسقط عنه مذهب الجزاء. وتقول : لا تضرب إلا الذي ضربك إذا سلمت عليه، فتقول ( إذا ) لأنك لم توقته. وكذلك قوله :﴿ إِنّ الذِين كَفَرُوا ويَصُدُّون عَنْ سَبيل الله ﴾ فقال ﴿ ويَصُدُّون ﴾ فردّها على ( كفروا ) لأنها غير موقَّتة، وكذلك قوله ﴿ إِلاَّ الذِين تابوا من قَبلِ أن تَقْدِروا عليهِم ﴾ المعنى : إلا الذِين يتوبون من قبلِ أن تقدِروا عليهم. والله أعلم. وكذلك قوله ﴿ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وعَمِلَ صَالِحا ﴾ معناه : إِلا من يتوب ويعمل صالحا. وقال الشاعر :
فإني لآتيكم تشَكُّرَ ما مضى | مِن الأَمرِ واستِيجابَ ما كان في غدِ |
ما ذاقَ بُؤسَ معِيشةٍ ونعيمها | فيما مَضَى أَحدٌ إذا لم يَعْشقِ |
العرب تجعل ( ما ) صلة في المعرفة والنكرة واحدا.
قال الله ﴿ فبِما نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ ﴾ والمعنى فبنقضِهِم، و ﴿ عَما قَليلٍ لَيُصْبِحُنّ نادِمِينَ ﴾ والمعنى : عن قليل. والله أعلم. وربما جعلوه اسما وهي في مذهب الصلة ؛ فيجوز فيما بعدها الرفع على أنه صلة، والخفض على إتباع الصلة لما قبلها ؛ كقول الشاعر :
فكفي بنا فضلا على من غيرِنا | حبُّ النبِيّ محمدٍ إيانا |
إني وإياك إن بلَّغن أرحُلَنا | كمن بِواديه بعد المَحْل ممطورِ |
لم أَرَ مثل الفتيان في غِيَرِ ال | أيامِ يَنْسَوْنَ ما عواقبُها |
يقرأ بعض أهل المدينة أن يُغَلَّ ؛ يريدون أن يخان. وقرأه أصحاب عبد الله كذلك : أن يُغَلَّ ؛ يريدون أن يُسرَّق أو يخوّن. وذلك جائز وإن لم يقل : يُغَلَّل فيكون مثل قوله :﴿ فإنهم لا يكذِّبونك - ويُكْذِبونك ﴾ وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن السُلَمِيّ " أن يَغُلَّ "، وذلك أنهم ظنُّوا يوم أحد أن لن تُقسم لهم الغنائم كما فعِل يوم بدر. ومعناه : أن يتَّهم ويقالَ قد غَلّ.
يقول : هم في الفضل مختلفون : بعضهم أرفع من بعض.
يأخذ منهم الزكاة ؛ كما قال تبارك وتعالى :﴿ خُذْ مِنْ أموالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكّيهِم بها ﴾.
يقول : تركتم ما أمِرتم به وطلبتم الغنيمة، وتركتم مراكزكم، فمِن قِبَلكم جاءكم الشرّ.
يقول : كثّروا، فإنكم إذا كثّرتم دفعتم القوم بكثرتكم.
وقوله :﴿ فَرِحِينَ... ﴾
[ لو كانت رفعا على " بل أحياء فرحون " لجاز. ونصبها على الانقطاع من الهاء في " ربهم ". وإن شئت يرزقون فرحين ] ﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ ﴾ من إخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة للذي رأوا من ثواب الله فهم يستبشرون بهم.
وقوله :﴿ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم " ولا حزن ".
وقوله :﴿ فَرِحِينَ... ﴾
[ لو كانت رفعا على " بل أحياء فرحون " لجاز. ونصبها على الانقطاع من الهاء في " ربهم ". وإن شئت يرزقون فرحين ] ﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ ﴾ من إخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة للذي رأوا من ثواب الله فهم يستبشرون بهم.
وقوله :﴿ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم " ولا حزن ".
تقرأ بالفتح والكسر. من فتحها جعلها خفضا متبعة للنعمة. ومن كسرها استأنف. وهي قراءة عبد الله " والله لا يضيع " فهذه حجَّة لمن كسر.
و( الناس ) في هذا الموضع واحد، وهو نُعَيم بن مسعود الأشجعىّ. بعثه أبو سفيان وأصحابه فقالوا : ثَبِّط محمدا - صلى الله عليه وسلم - أو خوّفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى، وكانت ميعادا بينهم يوم أحُد. فأتاهم نُعَيم فقال : قد أتوكم في بلدتكم فصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا وردتم عليهم في بلدتهم وهم أكثر وأنتم أقلّ ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّما ذلكمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ﴾.
يقول : يخوّفكم بأوليائه " فلا تخافوهم " ومثل ذلك قوله :﴿ لِينذِر يوم التلاقِ ﴾ معناه : لينذركم يوم التلاق. وقوله :﴿ لِينذِر بأسا شدِيدا ﴾ المعنى : لينذركم بأسا شديدا ؛ البأس لا ينذر، وإنما ينذَر به.
ومن قرأ " ولا تحسبن " قال " إنما " وقد قرأها بعضهم " ولا تحسبن الذِين كفرا أنما " بالتاء والفتح على التكرير : لا تحسبنهم لا تحسبن أنما نملى لهم، وهو كقوله :﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم ﴾ على التكرير : هل ينظرون إلا أن تأتيهم.
قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : مالك تزعم أن الرجل منا في النار، فإذا صبأ إليك وأسلم قلت : هو في الجنة، فأعلمنا من ذا يأتيك مِنا قبل أن يأتيك حتّى نعرفهم، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ ما كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ على ما تقولون أيها المشركون " حتّى يَميزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ " ثم قال : لم يكن الله ليعلمكم ذلك فيطلعكم على غيبه.
[ يقال : إنما " هو " ههنا عماد، فأين اسم هذا العماد ؟ قيل : هو مضمر، معناه : فلا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم ] فاكتفي بذكر يبخلون من البخل ؛ كما تقول في الكلام : قدم فلان فسُرِرت به، وأنت تريد : سررت بقدومه، وقال الشاعر :
إِذا نُهي السفِيهُ جَرَى إليه | وخالف، والسفِيهُ إلى خِلافِ |
وقوله :﴿ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُواْ بِهِ ﴾ يقال : هي الزكاة، يأتى الذي مَنَعها يوم القيامة قد طُوِّق شجاعا أقرع بفيه زبيبتان يلدغ خدّيه، يقول : أنا الزكاة التي منعتني.
وقوله :﴿ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾. المعنى : يميت الله أهل السموات وأهل الأرض ويبقى وحده، فذلك ميراثه تبارك وتعالى : أنه يبقى ويفنى كل شيء.
وقرئ " سيُكتب ما قالوا " قرأها حمزة اعتبارا ؛ لأنها في مصحف عبد الله.
كان هذا. والقربان نار لها حفيف وصوت شديد كانت تنزل على بعض الأنبياء.
فلما قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى " قل " يا محمد ﴿ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ ﴾ وبالقربان الذي قلتم ﴿ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
يقول : بما فعلوا ؛ كما قال :﴿ لقد جئتِ شيئا فرِيا ﴾ كقوله :﴿ واللذان يَأْتِيانِها مِنكم ﴾ وفي قراءة عبد الله " فمن أتى فاحشة فعله ". وقوله :﴿ ويُحِبُّون أَن يُحْمَدُوا بِما لم يفعلوا ﴾ قالوا : نحن أهل العلم الأوّل والصلاة الأولى، فيقولون ذلك ولا يقرّون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله :﴿ ويُحِبُّون أن يُحْمدوا بِما لم يَفْعَلُوا ﴾.
وقوله :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ﴾. يقول : ببعيد من العذاب. ( قال قال الفراء : من زعم أن أوفي هذه الآية على غير معنى بل فقد افترى على الله ؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يَشُكّ، ومنه قول الله تبارك وتعالى :﴿ وأرسلناه إلى مائةِ ألفٍ أَو يزِيدون ﴾. )
يقول القائل : كيف عطف بعلى على الأسماء ؟ فيقال : إنها في معنى الأسماء ألا ترى أن قوله :﴿ وَعلى جُنُوبِهِمْ ﴾ : ونياما، وكذلك عطف الأسماء على مثلها في موضع آخر، فقال : " دعانا لِجنْبِه "، يقول : مضطجعا " أو قاعدا أو قائما " فلجنبه، وعلى جنبه سواء.
كما قال : " الذي هدانا لهذا " و " أوْحَى لها " يريد إليها، وهدانا إلى هذا.
كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فقال الله عزّ وجلّ : لا يغرَّنك ذلك.
في الدنيا.
و( ثوابا ) خارجان من المعنى : لهم ذلك نزلا وثوابا، مفسِّرا ؛ كما تقول : هو لك هبةً وبيعا وصدقة.
معناه : يؤمنون به خاشعين.
مع نبيكم على الجهاد ( وصابِروا ) عدوّكم فلا يكوننّ أصبر منكم.