ﰡ
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكفار فينفخه حتى يخرج من لك مسمع منه »، وقال ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه قال : لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ، وروى ابن جرير، عن عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت : لِمَ؟ قال، قالوا : طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين من الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردها، ما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى :﴿ فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى :﴿ يَغْشَى الناس ﴾ أي يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه ﴿ يَغْشَى الناس ﴾، وقوله تعالى :﴿ هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي يقا للهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله عزّ وجلّ :﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الطور : ١٣-١٤ ]، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى :﴿ رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ ﴾ أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ]، وكذا قوله جل وعلا :﴿ وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ]، وهكذا قال جلّ وعلا هاهنا :﴿ أنى لَهُمُ الذكرى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴾. يقول : كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بيِّن الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه ما وافقوه، بل كذبوه وقالوا معلم مجنون، وهذا كقوله جلَّت عظمته :
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ﴾ يحتمل معنيين :( أحدهما ) : أنه يقول تعالى : ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ]. ( والثاني ) : أين يكون المراد : إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان الضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى :﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾ [ يونس : ٩٨ ] أولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا :﴿ قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ [ الأعراف : ٨٨-٨٩ ]، وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطرقتهم وقال قتادة : إنكم عائدون إلى عذاب الله. وقوله عزّ وجلّ :﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴾ : فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو محتمل، والظاهر أن ذلك يومالقيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً، روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال ابن مسعود رضي الله عنه ﴿ البطشة الكبرى ﴾ يوم بدر، وأنا أقول هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس، والله أعلم.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض ﴾ أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم، روى الحافظ الموصلي، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« ما من عبد إلاّ وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه »، وتلا هذه الآية :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض ﴾ وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم، وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل علياً رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك؛ إنه ليس من عبد إلاّ له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عمل يصعد في السماء، ثم قرأ علي رضي الله عنه :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ﴾. وقال ابن جرير، عن سعيد بن جبير قال : أتى ابنَ عباس رضي الله عنهما رجلٌ فقال : يا أبا العباس، أرأيت قول الله تعالى :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ﴾ فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلاّ وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاة من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عزَّ وجلَّ فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولمك يكن يصعد إلى الله عزَّ وجلَّ منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض. وقال سفيان الثوري : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً، وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلاّ بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فقلت له : أتبكي الأرض : فقال : أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل، وقال قتادة : كانوا أهون على الله عزَّ وجلَّ من أن تبكي عليهم السماء والأرض.
وقوله تعالى :﴿ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم ﴾ أي مع هذا النعيم العظيم المقيم، قد وقاهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم، في دركات الجحيم، ولهذا قال عزّ وجل :﴿ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾ أي إنما كان هذا بفضله عليهم، وإحسانه إليهم، كما ثبت في الصحيح « عن رسول الله ﷺ أنه قال :» اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً لن يدخله عمله الجنة «، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال ﷺ :» ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل « » وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي إنما يسرنا هذا الرآن الذي أنزلناه سهلاً واضحاً بيناً جلياً بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي يتفهمون ويعملون، ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان، من الناس من كفر وخالف وعاند، قال الله تعالى لرسوله صلى اله عليه وسلم مسلياً له وواعداً له بالنصر، ومتوعداً لمن كذبه بالعطف والهلاك ﴿ فارتقب ﴾ أي انتظر ﴿ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ﴾ أي فيسعلمون لمن تكون النصرة والظفر، وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين، ومن اتبعكم من المؤمنين، كما قال تعالى :