تفسير سورة الدّخان

اللباب
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية١ وهي تسع وخمسون آية٢، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا.
١ باتفاق إلا قوله تعالى: ﴿إنا كاشفو العذاب قليلا﴾..
٢ وقيل: سبع وانظر القرطبي ١٦/١٢٥..

مكية وهي تسع وخمسون آية، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿حموالكتاب المبين﴾ فيه احتمالان:
الأول: أن يكون التقدير: هذه حمَ والكِتَابِ المُبِين، كقولك: هَذَا زَيْدٌ واللهِ.
والثاني: أن يكمون التقدير: (و) حمَ وَالكِتَابِ المبين إنَّا أَنْزَلْنَاهُ؛ فيكون في ذلك تقدير قسمين على شيء واحد.
قوله: إنَّا أَنْزَلْنَاهُ «يجوز أن يكون جواب القسم، وأن يكون اعتراضاً، والجواب قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ واختاره ابن عطية.
306
وقيل: إنَّا كُنَّا (مُنْذِرِينَ) مستأنف، أو جواب ثانٍ من غير عاطف.
قوله:» يُفْرَقُ «يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون صفة الليلة وما بينهما اعتراض.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ »
فِيهَا يُفْرَقُ «ما موقع هاتين الجملتين؟.
قلتُ: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم الذي هو:»
إنَّا أَنْزَلْنَاهُ «كأنه قيلأ: أنزلناه؛ لأن من شأننا الإنذارَ والتحذيرَ، وكأن إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزالَ القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم.
وقرأ الحسن، والأعرج والأعمش: يَفْرُقُ بفتح الياء، وضَمِّ الراء»
كُلَّ «بالنصب، أي يَفْرُقُ اللهُ كُلَّ أمرٍ. وزيدُ بن علي: نَفْرِقُ بنون العظمة،» كُلَّ «بالنصب (كذا) نقله الزمشخري. ونل عن الأهوازي بفتح الياء وكسر الراء كُلّ بالنصب حَكِيمٌ بالرفع على أنه فاعل يَفْرِقُ. وعن الحسن والأعمش أيضاً يُفَرَّقُ كالعامة، إلا أنه بالتشديد.

فصل


استدلوا بهذه الآية على حدوث القرآن من وجوه:
الأول: أن قوله حم تقديره: هذه حم يعني هذا شيء مُؤَلَّف من هذه الحروف والمؤلف من لاحروف المتعاقبة مُحْدَثٌ.
الثاني: أنه ثبت أن الحَلِفَ لا يصح بهذه الأشياء، بل بإِله هذه الأشياء فيكون التقدير: وَرَبِّ حَمَ وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينَ، وكُلُّ ما كان مربوباً فهو مُحْدَثٌ.
الثالث: أنه وصفه بكون»
كتاباً «، والكتاب مشتق من الكتبِ، وهو الجمع فمعناه أنه مجموع، والمجموع مَحَلُّ تصرفِ الغير. وما كان كذلك فهو مُحْدَث.
307
الرابع: قوله: إنا أنزلناه» والمنزَل مَحَلّ تصرفِ الغير، وما كان كذلك فهو محدث. قال ابن الخطيب: وقد ذكرنا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروب المتعاقبة، والأصواب المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بَديهِيّ لا نزال فيه، إنما القديم شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات؟

فصل


يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء، كما قال: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان﴾ [الحديد: ٢٥] ويجوز أن يكون المراد به اللوحُ المحفوظ. قال الله تعالى: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ [الرعد: ٣٩] وقال: ﴿وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: ٤] ويجوز أن يكون المراد به القرآن، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل في ليلية مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل (له) إليه حاجةً: «أسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَيْكَ، وأُقْسِمُ بِحَقِّكَ عَلَيْكَ».
وجاء في الحديث: «أَعوذُ بِرِضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ».
قوله: «المُبين» هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فصوفه بكونهن مبيناً وإذا كانت حقيقة الإبانة لله تعالى، لأن الإبانةَ حَصَلَتْ به، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ﴾ [النمل: ٧٦] وقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص﴾ [يوسف: ٣] وقوله: ﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٣٥] فوصفه بالتكلم، إذ كان غاية في الإبانة، فكأنه ذُو لسانٍِ ينطق مبالغةً.

فصل


قال قتادة وابنُ زيد وأكثر المفسرين: المراد بقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وقال عكرمة وطائفة: إنها ليلة البَرَاءَة وهي ليلة النصفِ مِن شعبان. واحتج الأولون بوجوه:
الاول: قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١] وقوله: ههنا: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ فوجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض.
308
الثاني: قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ [البقرة: ١٨٥] فقوله ههنا: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣] فيجب أن تكون تلك الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر.
الثالث: قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: ٤] وقال ههنا: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ وقال ههنا: ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ وقال في ليلة القدر: ﴿سَلاَمٌ هِيَ﴾ [القدر: ٥]، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى.
الرابع: نقل محمد بن جَرير الطَّبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والإنجيل لِثماني عشرة ليلةً مضت منه، والقرآن لأربعٍ وعشرينَ مضت منه، والليلة المباركة هي ليلة القدر.
الخامس: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب نفس الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاتهخ فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمورٌ شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن؛ لأنه ثبت به نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته: «وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً، وأعْلَى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة.
واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بأنها لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصَكّ، وليلة الرحمة، ولأنها مختصة بخمسِ خصالٍ: الأولى: قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ والثانية: فضيلة العبادة فيها، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَرْسَلَ اللهُ تعالى إليه مائةَ مَلَكٍ، ثلاثونَ يبشرونَه بالجنةِ، وثلاثونَ يُؤَمِّنُونَهُ من عذاب النار، وثلاثونَ يدْفَعُونَ عنه آفاتِ الدنيا وعشرةٌ يدفعون عنه مكايدَ الشيطان»
الثالثة: نزول الرحمة قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «إنَّ اللهَ يَرْحَمُ أُمَّتِي فِي هَذِنِ اللَّيلَةِ بعَدَدِ شَعْرِ أَغْنَام بَنِِي كَلْبٍ» الرابعة: حصول المغفرة قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ
309
المُسْلمِينِ في تلك الليلة إلا الكاهنَ، والمشاحنَ ومُدْمِنَ الخمر وعاقَّ والديه والمصرَّ على الزنا» والخامسة: أنه تعالى أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الليلة تمام الشّفاعة وذلك أنه سأل في الليلة الثالثةَ عَشَرَ الشفاعة في أمته فأعطي الثُّلُثَ منها ثم سأل الليلة الرابِعَةَ عَشَرَ فأعطِي الثُلْثَينِ ثم سأل ليلةَ الخامس عشرة فأعطي جميعَ الشفاعة إلا من شَرَدَ عن الله شِرَادَ البَعِيرِ، نقله الزمخشري.

فصل


رُوِيَ أن عطية الحَرُورِيَّ سأل ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم) عن قوله: ﴿إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ وقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١] كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الأيام؟.
فقال ابن عباس: يا ابن الأسود لو هكلتُ أنا ووقع في نفسك هذا، ولم تجد جوابه لهلكت، نزنل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً. قال قتادة وابن زيد: أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم انزل به جبريلُ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نجوماً في عشرينَ سنةً.
قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ يعني إن الحكمة في إنزال القرآن أن إنذارَ الخلق لا يتم إلا به.
قوله: «فِيهَا» أي في الليلة المباركة «يُفرقُ» يُفصَلُ ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ محكم ومعناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل واحد بحالة معينة من الأجل والرزق والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله عَزَّ وَجَلَّ، فلما دلت تلك الأقضية على حكمة فاعلها، وصفت بكونها حكمة، وهذا إسناد مجازيّ لأن الحكيم صفة صابح الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز. قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير، والشر، الأرزاق، والآجال حتى الحُجَّاج يقال: يَحُجُّ فلانٌ ويَحُجُّ فلان.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يُبْرَمُ في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل، وعمل، وخلق، ورزق، وما يكون في تلك السنة. وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يقوم فيها أمر السنة، وتنسخُ الأحياء من الأموات، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منه أحد. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تُقْطَع الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ، ويُولدُ لَهُ، وَلَقْدَ أُخْرِج اسْمُهُ في المَوْتَى» وعن ابن عباس (
310
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر وروي أن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ووقع الفراغ في ليلة القدر، وتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروف إلى جبريل، وكذلك الزَّلازِل، والصواعق، الخسف، ونَسخَة الأعمال إلى إسرافيل صابح سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
قوله: «أَمْراً» فيه اثْنَا عَشَرَ وَجْهَاً:
أحدهما: أن ينتصب حالاً من فاعل «أَنْزَلْنَاهُ».
الثاني: (أنه) حال من مفعوله أي أنْزَلْنَاهُ آمرينَ، أو مَأمُوراً بِهِ.
الثالث: أن يكون مفعولاً له وناصبه إمَّا «أَنْزَلْنَاهُ» وإما «مُنْذِرِينَ» وإما «يُفْرَقُ».
الرابع: أنه مصدر من معنى يفرق أي فَرْقاً.
الخامس: أنه مصدر «لأَمْرَنَا» محذوفاً.
السادس: أن يكون يُفْرَقُ بمعنى يأمر. والفرق بين هذا وما تقدم أنك رددت في هذا بالعامل إلى المصدر، وفميا تقدم بالعكس.
السابع: أنه حال من «كُلُّ». حكى أبو علي الفارسي عن «أبي) الحسن أنه حمل قوله:» أمْراً «على الحال، وذُو الحال» كل أمر حكيم «.
الثامن: أنه حال من»
أَمْرٍ «. وجاز ذلك؛ لأنه وصف؛ إلا أن فيه شيئين: مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة. والثاني: أنها مؤكدة.
التاسع: أنه مصدر لأَنْزَلَ، أي (إنَّا) أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالاً، قاله الأخفش.
311
العاشر: أنه مصدر لكان بتأويل العامل فيه إلى معناه، أي أَمَرْنَا به أَمْراً بسبب الإنْزَال، كما قالوا ذلك في وجهي:» فِيهَا يُفْرَقُ «فرقاً، أو يَنْزِلُ إنزالاً.
الحادي عشر: أنه منصوب على الاختصاص، قاله الزمخشري. ولا يعني بذلك الاختصاص الاصطلاحي فإنه لا يكون نكرةً.
الثاني عشر: أن يكون حالاً من الضمير في»
حَكِيمٍ «.
الثالث عشر: أن ينتصب مفعولاً به بمُنْذِرينَ، كقوله: ﴿لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً﴾ [الكهف: ٢] ويكون المفعول الأول محذوفاً أي مُنْذِرينَ الناسَ أمراً، والحاصل أن انتصابه يرجع إلى أربعة أشياء: المفعول به والمفعول له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثير بحسب المحالِّ.
وقرأ زيد بن علي: أَمْرٌ بالرفع. قال الزمخشري: وهي تُقَوِّي النصب على الاختصاص.
قوله: «مِنْ عِنْدنَا»
يجوز أن يتعلق «بيُفْرَقُ» أي من جهتنا وهي لابتداء الغاية مجازاً.
ويجوز أن تكون صفة لأمراً.
قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ جواب ثالث، أو مستأنف، أو بدل من قوله: إنا كمنا منذرين. قال ابن الخطيب: أي إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أَنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، يعني الأنبياء.
قوله: «رَحْمَةً» فيها خمسة أوجه:
الأول: المفعول له والعامل فيه: إما «أنزلناه»، وإما «أمراً»، وإما «يفرق»، وإما «منذرين».
الثاني: مصدر بفعل مقدراً، أي رَحِمْنَا رحمة.
312
الثالث: مفعول بمرسِلِينَ.
الرابع: حال من ضمير «مرسلين»، أي ذَوِي رَحْمَةٍ.
الخامس: أنها بدل من «أَمْراً» فيجيء فيها ما تقدم، وتكثر الأوجه فيها حينئذ. و «مِنْ رَبِّكَ» يتعل برَحْمةٍ، أو بمحذوف على أنها صفة. وفي: «مِنْ رَبِّكَ» التفات من المتكلم إلى الغيبة ولو جرى على مِنْوَالِ ما تقدم لقال: رَحْمَةً مِنَّا.

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَّ اللهُ عَنُهُمْ) : معنى رحمة من ربك أي رأفة مني بخلقي، ونعمةً عليهم بما بعثت إليهم من الرسل. وقال الزجاج: أنزلناه في ليلةٍ مباركة، «إنه هو السميع العليم» أي إن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة؛ لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجتهم بألسنتهم أول يذكروها فإن ذكروها فهو سميع، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالمٌ بها.
قوله تعالى: ﴿السماوات والأرض﴾ قرأ الكوفيون بخفض «رَبّ» والباقون برفعه. فالجر على البدل أو البيان، أو النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، أو على أنه مبتدأ خبره: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾.

فصل


المقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المُنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة. ثم قال: ﴿إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ قال أبو مسلم معناه: إن كنتم تطلبونه وتريدونه فاعرفوا أن الأمور كما قلنا؛ كقولهم: فُلاَنٌ مُنْجِدٌ مُنْهِمٌ، أي يريد نَجْداً وتِهَامَةً. وقال الزمخشري: كانوا يقرون بأن (رب)
313
قوله :﴿ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ ﴾ يجوز أن يكون جواب القسم، وأن يكون اعتراضاً، والجواب قوله :﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾١ واختاره ابن عطية٢.
وقيل : إنَّا كُنَّا ( مُنْذِرِينَ ) مستأنف، أو جواب ثانٍ من غير عاطف٣.
قوله :«يُفْرَقُ » يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون صفة الليلة وما بينهما اعتراض٤.
قال الزمخشري : فإن قلتَ :﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ «فِيهَا يُفْرَقُ » ما موقع هاتين الجملتين ؟.
قلتُ : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم الذي هو :«إنَّا أَنْزَلْنَاهُ » كأنه قيل : أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذارَ والتحذيرَ، وكأن إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزالَ القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم٥.
وقرأ الحسن، والأعرج والأعمش : يَفْرُقُ بفتح الياء، وضَمِّ الراء «كُلَّ » بالنصب، أي يَفْرُقُ اللهُ كُلَّ أمرٍ٦. وزيدُ بن علي : نَفْرِقُ بنون العظمة، «كُلَّ » بالنصب ( كذا ) نقله الزمشخري٧. ونقل عن الأهوازي٨ بفتح الياء وكسر الراء كُلّ بالنصب٩ حَكِيمٌ بالرفع على أنه فاعل يَفْرِقُ. وعن الحسن والأعمش أيضاً يُفَرَّقُ كالعامة، إلا أنه بالتشديد١٠.

فصل


استدلوا بهذه الآية على حدوث القرآن من وجوه :
الأول : أن قوله حم تقديره : هذه حم يعني هذا شيء مُؤَلَّف من هذه الحروف والمؤلف من الحروف المتعاقبة مُحْدَثٌ.
الثاني : أنه ثبت أن الحَلِفَ لا يصح بهذه الأشياء، بل بإِله هذه الأشياء فيكون التقدير : وَرَبِّ حَمَ وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينَ، وكُلُّ ما كان مربوباً فهو مُحْدَثٌ.
الثالث : أنه وصفه بكون «كتاباً »، والكتاب مشتق من الكتبِ، وهو الجمع فمعناه أنه مجموع، والمجموع مَحَلُّ تصرفِ الغير. وما كان كذلك فهو مُحْدَث.
الرابع : قوله :«إنا أنزلناه » والمنزَل مَحَلّ تصرفِ الغير، وما كان كذلك فهو محدث. قال ابن الخطيب : وقد ذكرنا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروف المتعاقبة، والأصوات المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بَديهِيّ لا نزاع فيه، إنما القديم شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات١١ ؟

فصل


يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء، كما قال :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان ﴾ [ الحديد : ٢٥ ] ويجوز أن يكون المراد به اللوحُ المحفوظ. قال الله تعالى :﴿ يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٩ ] وقال :﴿ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [ الزخرف : ٤ ] ويجوز أن يكون المراد به القرآن، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل في ليلة مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل ( له١٢ ) إليه حاجةً :«أسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَيْكَ، وأُقْسِمُ بِحَقِّكَ عَلَيْكَ ».
وجاء في الحديث :«أَعوذُ بِرِضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وبِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ »١٣.
قوله :«المُبين » هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فصوفه بكونهن مبيناً وإذا١٤ كانت حقيقة الإبانة لله تعالى، لأن الإبانةَ حَصَلَتْ به، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ النمل : ٧٦ ] وقوله :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ﴾ [ يوسف : ٣ ] وقوله :﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٣٥ ] فوصفه بالتكلم، إذ كان غاية في الإبانة، فكأنه ذُو لسانٍِ ينطق مبالغةً.

فصل١٥


قال قتادة وابنُ زيد وأكثر المفسرين : المراد بقوله : إنا أنزلناه في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وقال عكرمة وطائفة : إنها ليلة البَرَاءَة وهي ليلة النصفِ مِن شعبان. واحتج الأولون بوجوه :
الأول : قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ] وقوله : ههنا :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ فوجب أن تكون هي تلك الليلة المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض.
الثاني : قوله تعالى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] فقوله ههنا :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [ الدخان : ٣ ] فيجب أن تكون تلك الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر.
الثالث : قوله تعالى :﴿ تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [ القدر : ٤ ].
وقال ههنا :﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ وقال ههنا :﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ وقال في ليلة القدر :﴿ سَلاَمٌ هِيَ ﴾ [ القدر : ٥ ]، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى.
الرابع : نقل محمد بن جَرير الطَّبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت منه، والإنجيل لِثماني عشرة ليلةً مضت منه، والقرآن لأربعٍ وعشرينَ مضت منه، والليلة المباركة هي ليلة القدر.
الخامس : أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب نفس الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمورٌ شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن ؛ لأنه ثبت به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته :«وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ »١ : وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً، وأعْلَى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة.
واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بأنها لها أربعة أسماء : الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصَكّ، وليلة الرحمة، ولأنها مختصة بخمسِ خصالٍ : الأولى : قال تعالى :﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ والثانية : فضيلة العبادة فيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَرْسَلَ اللهُ تعالى إليه مائةَ مَلَكٍ، ثلاثونَ يبشرونَه بالجنةِ، وثلاثونَ يُؤَمِّنُونَهُ من عذاب النار، وثلاثونَ يدْفَعُونَ عنه آفاتِ الدنيا وعشرةٌ يدفعون عنه مكايدَ الشيطان » الثالثة : نزول الرحمة قال عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللهَ يَرْحَمُ أُمَّتِي فِي هَذِه اللَّيلَةِ بعَدَدِ شَعْرِ أَغْنَام بَنِِي كَلْبٍ »٢ الرابعة : حصول المغفرة قال عليه الصلاة والسلام :«إنَّ اللهَ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ المُسْلمِينِ في تلك الليلة إلا الكاهنَ، والمشاحنَ ومُدْمِنَ الخمر وعاقَّ والديه والمصرَّ على الزنا » الخامسة : أنه تعالى أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة تمام الشّفاعة وذلك أنه سأل في الليلة الثالثةَ عَشَرَ الشفاعة في أمته فأعطي الثُّلُثَ منها ثم سأل الليلة الرابِعَةَ عَشَرَ فأعطِي الثُلْثَينِ ثم سأل ليلةَ الخامس عشرة فأعطي جميعَ الشفاعة إلا من شَرَدَ عن الله شِرَادَ البَعِيرِ، نقله الزمخشري.

فصل


رُوِيَ أن عطية الحَرُورِيَّ٣ سأل ابن عباس ( رضي الله عنهم ) عن قوله :﴿ إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة ﴾ وقوله :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ] كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الأيام ؟.
فقال ابن عباس : يا ابن الأسود لو هكلتُ أنا ووقع في نفسك هذا، ولم تجد جوابه لهلكت، نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً. قال قتادة وابن زيد : أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريلُ على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً في عشرينَ سنةً.
قوله :﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ يعني إن الحكمة في إنزال القرآن أن إنذارَ الخلق لا يتم إلا به.
قوله :«فِيهَا » أي في الليلة المباركة «يُفرقُ » يُفصَلُ ﴿ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ محكم ومعناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل واحد بحالة معينة من الأجل والرزق والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله عز وجل، فلما دلت تلك الأقضية على حكمة فاعلها، وصفت بكونها حكمة، وهذا إسناد مجازيّ لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز. قال ابن عباس : يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير، والشر، والأرزاق، والآجال حتى الحُجَّاج يقال : يَحُجُّ فلانٌ ويَحُجُّ فلان.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة : يُبْرَمُ في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل، وعمل، وخلق، ورزق، وما يكون في تلك السنة. وقال عكرمة : هي ليلة النصف من شعبان يقوم فيها أمر السنة، وتنسخُ الأحياء من الأموات، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منه أحد. قال عليه الصلاة والسلام :«تُقْطَع الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ، ويُولدُ لَهُ، وَلَقْدَ أُخْرِج اسْمُهُ في المَوْتَى »٤ وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما٥ ) إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر وروي أن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ووقع الفراغ في ليلة القدر، وتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروف إلى جبريل، وكذلك الزَّلازِل، والصواعق، الخسف، ونَسخَة الأعمال إلى إسرافيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت٦.
١ البحر المحيط ٨/٣٢ والدر المصون ٤/٨٠٩..
٢ السابقين..
٣ حكاه أبو البقاء في التبيان ١١٤ وانظر الدر المرجع السابق أيضا..
٤ الدر المصون السابق..
٥ الكشاف معنى ٣/٥٠٠..
٦ شاذة غير متواترة انظر مختصر ابن خالويه وشواذ القرآن ٢١٩..
٧ الكشاف ٣/٥٠٠، وشواذ القرآن ٢١٨..
٨ الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزيد الأستاذ أبو علي الأهوازي صاحب المؤلفات شيخ القراء في عصره قرأ على إبراهيم بن أحمد الطبري، ومحمد بن فيروز الكرخي وعليه أبو علي الحسن بن قاسم وأبو قاسم الهذلي مات سنة ٤٤٦ هـ. انظر الغاية ١/٢٢٠، ٢٢٢..
٩ البحر المحيط ٨/٣٣..
١٠ السابق والكشاف ٣/٥٠٠..
١١ انظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧/٢٣٦ و٢٣٧..
١٢ زيادة من أ عن ب والرازي..
١٣ جزء من حديث طويل أخرجه البيهقي وضعفه عن عائشة انظر الدر المنثور ٧/٤٠٣ و٤٠٤..
١٤ كذا في النسختين وفي الرازي وإن..
١٥ هذا الفصل كله سقط من ب..

فصل


رُوِيَ أن عطية الحَرُورِيَّ٣ سأل ابن عباس ( رضي الله عنهم ) عن قوله :﴿ إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة ﴾ وقوله :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ] كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الأيام ؟.
فقال ابن عباس : يا ابن الأسود لو هكلتُ أنا ووقع في نفسك هذا، ولم تجد جوابه لهلكت، نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً. قال قتادة وابن زيد : أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريلُ على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً في عشرينَ سنةً.
قوله :﴿ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ يعني إن الحكمة في إنزال القرآن أن إنذارَ الخلق لا يتم إلا به.
قوله :«أَمْراً » فيه اثْنَا عَشَرَ١ وَجْهَاً :
أحدهما : أن ينتصب حالاً من فاعل «أَنْزَلْنَاهُ »٢.
الثاني :( أنه٣ ) حال من مفعوله أي أنْزَلْنَاهُ آمرينَ، أو مَأمُوراً بِهِ٤.
الثالث : أن يكون مفعولاً له وناصبه إمَّا «أَنْزَلْنَاهُ » وإما «مُنْذِرِينَ » وإما «يُفْرَقُ »٥.
الرابع : أنه مصدر من معنى يفرق أي فَرْقاً٦.
الخامس : أنه مصدر «لأَمْرَنَا » محذوفاً٧.
السادس : أن يكون يُفْرَقُ بمعنى يأمر٨. والفرق بين هذا وما تقدم أنك رددت في هذا بالعامل إلى المصدر، وفميا تقدم بالعكس.
السابع : أنه حال من «كُلُّ »٩. حكى أبو علي الفارسي عن ( أبي١٠ ) الحسن أنه حمل قوله :«أمْرا » على الحال، وذُو الحال «كل أمر حكيم »١١.
الثامن : أنه حال من «أَمْرٍ ». وجاز ذلك ؛ لأنه وصف ؛ إلا أن فيه شيئين : مجيء الحال من المضاف إليه في١٢ غير المواضع المذكورة. والثاني : أنها مؤكدة١٣.
التاسع : أنه مصدر لأَنْزَلَ، أي ( إنَّا١٤ ) أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالاً، قاله الأخفش١٥.
العاشر : أنه مصدر لكان بتأويل العامل فيه إلى معناه، أي أَمَرْنَا به أَمْراً بسبب الإنْزَال، كما قالوا ذلك في وجهي :«فِيهَا يُفْرَقُ » فرقاً، أو يَنْزِلُ إنزالاً١٦.
الحادي عشر : أنه منصوب على الاختصاص، قاله الزمخشري١٧. ولا يعني بذلك الاختصاص الاصطلاحي فإنه لا يكون نكرةً.
الثاني عشر : أن يكون حالاً من الضمير في «حَكِيمٍ »١٨.
الثالث عشر١٩ : أن ينتصب مفعولاً به بمُنْذِرينَ٢٠، كقوله :﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً ﴾ [ الكهف : ٢ ] ويكون المفعول الأول محذوفاً أي مُنْذِرينَ الناسَ أمراً، والحاصل أن انتصابه يرجع إلى أربعة أشياء : المفعول به والمفعول له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثير بحسب المحالِّ٢١.
وقرأ زيد بن علي : أَمْرٌ بالرفع٢٢. قال الزمخشري : وهي تُقَوِّي النصب على الاختصاص٢٣.
قوله :«مِنْ عِنْدنَا » يجوز أن يتعلق «بيُفْرَقُ » أي من جهتنا وهي لابتداء الغاية مجازاً.
ويجوز أن تكون صفة لأمراً٢٤.
قوله :﴿ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ جواب ثالث، أو مستأنف، أو بدل من قوله : إنا كنا منذرين٢٥. قال ابن الخطيب : أي إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أَنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، يعني الأنبياء٢٦.
١ في ب: فيها اثني عشر خطأ نحوي..
٢ ذكره الزمخشري في الكشاف ٣/٥٠١..
٣ سقط من ب..
٤ البيان ٢/٣٥٧ والتبيان ١١٤٤ والكشاف ٣/٥٠١ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٨٧..
٥ التبيان السابق..
٦ البيان ٢/٣٥٧ وهو ظاهر قول الفراء ٣/٣٩ قال: أمرا منصوب بقوله: يفرق على معنى يفرق كل أمر فرقا..
٧ التبيان ١١٤٤..
٨ ذكره السمين في الدر المصون ٤/٨١٠..
٩ التبيان السابق..
١٠ سقط من النسختين والأصح ما أثبت أعلى فهو الأخفش..
١١ معاني الأخفش ٦٩١..
١٢ في ب من..
١٣ نقله أبو حيان في البحر المحيط ٨/٣٣..
١٤ سقط من ب..
١٥ المعاني له ٦٩١..
١٦ التبيان ١١٤٤..
١٧ الكشاف ٣/٥٠٠..
١٨ ذكره أبو البقاء في التبيان ١١٤٤..
١٩ أتى به على الرغم من أنه أخبر أن الأوجه اثنا عشر فقط..
٢٠ قاله أبو البقاء بادئا به انظر تبيانه ١١٤٤..
٢١ ولقد ذكر هذه الأوجه مجتمعة في كتابه السمين الحلبي في الدر المصون ٤/٨٠٩ و٨١٠..
٢٢ شواذ القرآن ٢١٩، والقرطبي ١٦/١٢٩، والكشاف ٣/٥٠١..
٢٣ الكشاف المرجع السابق..
٢٤ الدر المصون ٤/٨١٠ و٨١١ والتبيان ١١٤٤ والكشاف ٣/٥٠١..
٢٥ الدر المصون السابق..
٢٦ الرازي ٢٧/٢٤١..
قوله :«رَحْمَةً » فيها خمسة أوجه :
الأول : المفعول له والعامل فيه : إما «أنزلناه »، وإما «أمراً »، وإما «يفرق »، وإما١ «منذرين ».
الثاني : مصدر بفعل مقدراً، أي رَحِمْنَا رحمة٢.
الثالث : مفعول بمرسِلِينَ٣.
الرابع : حال من ضمير «مرسلين »٤، أي ذَوِي رَحْمَةٍ.
الخامس : أنها بدل من «أَمْراً » فيجيء فيها ما تقدم٥، وتكثر الأوجه فيها حينئذ. و«مِنْ رَبِّكَ » يتعلق٦ ٧ برَحْمةٍ، أو بمحذوف على أنها صفة. وفي :«مِنْ رَبِّكَ » التفات من المتكلم إلى الغيبة ولو جرى على مِنْوَالِ ما تقدم لقال : رَحْمَةً مِنَّا٨.

فصل


قال ابن عباس ( رَضِيَّ اللهُ عَنُهُمْ٩ ) : معنى رحمة من ربك أي رأفة مني بخلقي، ونعمةً عليهم بما بعثت١٠ إليهم من الرسل. وقال الزجاج : أنزلناه في ليلةٍ مباركة١١، «إنه هو السميع العليم » أي إن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة ؛ لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجتهم بألسنتهم أولم يذكروها فإن ذكروها فهو سميع، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالمٌ بها.
١ البيان ٢/٣٥٧ والتبيان ١١٤٤ و١١٤٥، والدر المصون السابق وإعراب النحاس ٤/٢٢٦..
٢ السابق وانظر السابقين عليه أيضا..
٣ إعراب القرآن السابق والبيان ٢/٣٥٧ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٨٨..
٤ وهو رأي الفراء انظر المعاني ٣/٣٩..
٥ رأي الأخفش نقله ابن الأنباري عنه في البيان ٢/٣٥٧..
٦ المرجع السابق..
٧ في ب متعلق..
٨ الكشاف ٣/٥٠١..
٩ سقط من ب..
١٠ في ب بعثت..
١١ فسرها الزجاج بليلة القدر قال: "وقال المفسرون: في ليلة مباركة هي ليلة القدر" معاني القرآن وإعرابه ٤/١٢٣..
قوله تعالى :﴿ السماوات والأرض ﴾ قرأ الكوفيون بخفض «رَبّ » والباقون برفعه١. فالجر على البدل أو البيان، أو النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، أو على أنه مبتدأ خبره :﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾٢.

فصل


المقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المُنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة. ثم قال :﴿ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴾ قال أبو مسلم معناه : إن كنتم تطلبونه٣ وتريدونه فاعرفوا أن الأمور كما قلنا ؛ كقولهم : فُلاَنٌ مُنْجِدٌ مُنْهِمٌ، أي يريد نَجْداً وتِهَامَةً٤. وقال الزمخشري : كانوا يقرون بأن ( رب٥ ) السموات والأرض ربُّ خالقٌ فقيل لهم : إن إرسالنا الرسل وإِنْزَالَنَا الكتبَ رحمةً من الرّب ثم قال٦ : إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به، ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين، كما تقول : هذا إنْعَامُ زَيْد الّذِي تَسَامَع الناسُ بكَرَمِهِ إن٧ بَلَغَكَ حديثُه وسمعت بصِيتِهِ٨.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والمعنى إن كنتم موقنين بقوله. ﴿ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ﴾، وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن حد وحقيقة بل قول مخلوط بهُزْءِ ولَعِبٍ٩.

١ السبعة ٥٩٢ وإبراز المعاني ٦٨٢، والإتحاف ٣٨٨، ومعاني الفراء ٣/٣٩، والكشف ٢/٢٦٤..
٢ انظر هذه التوجيهات في الكشف المرجع السابق والبيان ٢/٣٥٨، والحجة لابن خالويه ٣٢٤..
٣ في الرازي: تطلبون اليقين وتريدونه..
٤ الرازي ٢٧/٢٤١..
٥ زيادة من النسختين..
٦ في الكشاف ثم قيل بالياء..
٧ في ب أي..
٨ كذا في النسختين وفي الكشاف: بقصته..
قوله تعالى :﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ﴾ العامة على الرفع، بدلاً أو بياناً أو نعتاً لرب السموات فيمن رفعه أو على أنه مبتدأ، والخبر : لا إله إلا هو.
أو خبر بعد خبر، لقوله : إنه هو السميع أو خبر مبتدأ مضمر عند الجميع، أعني قراء الجر والرفع، أو فاعل لقوله :«يُمِيتُ ». وفي «يُحْيِي » ضمير يرجع إلى ما قبله أي يُحْيِي هو أي رب السموات، ويُميت هو، فأوقع الظاهر موقع المضمر. ويجوز أن يكون «يحيي ويميت » من التنازع يجوز أن ينسب الرفع إلى الأول أو الثاني، نحو : يَقُومُ وَيَقْعُدُ زَيْدٌ. وهذا عنى أبو البقاء بقوله : على شريطة التفسير١. وقرأ ابن مُحَيْصِن وابنُ أبي إسحاقَ وأبو حَيْوَةَ والحَسَنُ بالجر٢، على البدل أو البيان أو النعت لرب السموات، وهذا يوجب أن يكونوا يقرأون رب السموات بالجر. والأنطاكي٣ بالنصب على المَدْح.
١ البحر المحيط لأبي حيان ٨/٣٣ والتبيان ١١٤٥ والدر المصون ٤/٨١١..
٢ من القراءات الأربع فوق العشر المتواترة، الإتحاف ٣٨٨ والبحر ٨/٣٣ ومختصر ابن خالويه ١٣٧ وانظر هذه القراءة مع الإعراب أيضا تفسير الجامع للقرطبي ١٦/١٢٩..
٣ هو أحمد بن جبير بن أحمد أبو جعفر الكوفي نزيل أنطاكية، أخذ عرضا وسماعا عن الكسائي وغيره وقرأ عليه محمد بن العباس بن شعبة وغيره، مات سنة ٢٥٨ هـ. انظر غاية النهاية ١/٤٢، ٤٣ وذكرها أبو حيان في البحر ٨/٣٤ والسمين في الدر ٤/٨١١..
السموات والأرض ربُّ خالقٌ فقيل لهم: إن إرسلنا الرسل وإِنْزَالَنَا الكتبَ رحمةً من الرّ ثم قال: إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به، ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين، كما تقول: هذا إنْعَامُ زَيْد الّذِي تَسَامَع الناسُ بكَرَمِهِ إن بَلَغَكَ حديثُه وسمعت بصِيتِهِ. والمعنى إن كنتم موقنين بقوله. ﴿هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾، وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن حد وحقيقة بل قول مخلوط بهُزْءِ ولَعِبٍ.
قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ﴾ العامة على الرفع، بدلاً أو بياناً أو نعتاً لرب السموات فيمن رفعه أو على أنه مبتدأ، وةالخير: لا إله إلا هو.
أو خبر بعد خبر، لقوله: إنه هو السميع أو خبر مبتدأ مضمر عند الجميع، أعني قراء الجر والرفع، أو فاعل لقوله: «يُمِيتُ». وفي «يُحْيِي» ضمير يرجع إلى ما قبله أي يُحْيِي هو أي رب السموات، ويُميت هو، فأوقع الظاهر موقع المضمر. ويجوز أن يكمون «يحيي ويميت» من التنازع يجوز أن ينسب الرفع إلى الأول أو الثاني، نحو: يَقُومُ وَيَقْعُدُ زَيْدٌ. وهذا عنى أبو البقاء بقوله: على شريطة التفسير. وقرأ ابن مُحَيْصِن وابنُ أبي إسحاقَ وأبو حَيْوَةَ والحَسَنُ بالجر، على البدل أو البيان أو النعت لرب السموات، وهذا يوجب أن يكونوا يقرأونه رب السموات بالجر. والأنطاطي بالنصب على المَدْح.
قوله
تعالى
: ﴿فارتقب
يَوْمَ تَأْتِي السمآء﴾
«يوم» منصوب بارتقب على الظرف، ومفعول الارتقاب محذوف لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: هذا عذاب أليم، أي ارتقب
314
وعيد الله في ذلك اليوم. ويجوز أن يكن «يوم» هو المفعول المرتقب.

فصل


اختلفوا في هذا الدخان، فروى الضحاك عن مسروق قال: بينما رجل يُحَدِّث في كِنْدَةَ فقال يجيء دُخَانٌ يوم القيامة فيِأخذ بأسماعهم وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ففزعنا فأتينا ابن مسعود، وكان متكئاً فعضب فجلس فقال: من علم فليقل ومن لم يعلم فيلقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾ [ص: ٨٦].
«وإن قريشاً لما اسْتَعْصَتْ عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: اللَّهم أعِنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هَلَكُو فيها، وأكلوا الميتة، والعظامَ، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد: جئت كافراً بصلة الرحم، وإن قومك قَدْ هلكوا، فادعُ الله فقرأ: ﴿فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ إلى قوله» عَابِدُونَ «» وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراءِ والزجاجِ وهو قول ابن مسعود، وكان ينكر أن يكون الدخان إلا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظُّلْمَةِ على أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دُخَاناً. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين:
الأول: أن في سَنَةِ القحط لعِظَم يُبْسِ الأرض بسبب انْقِطَاع المطر يرتفع الغبارُ الكثيرُ، ويُظْلم الهواء وذلك يشبه الدخان، ويقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان ولهذا يقال للسنة المُجْدِبة الغبراء.
الثاني: أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه، ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. وقيل: إنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عباس في المشهور عنه لما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أَوَّل الآيَاتِ الدُّخَانُ، ونزولُ عيِسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ونارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَن تَسُوق النَّاسَ إلى المَحْشَرِ. قال
315
حذيفة: يا رسول الله، وما الدخانُ؟ فَتَلاَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الآية به وكان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كالزُّكْمَةِ. وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه، وأذنيه، دبره. ويكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه النار قال عليه الصلاة السلام:» بَاكِرُوا بالأَعْمَالِ «
، وذَكَر منها طلوعَ الشمسِ من مَغْرِبَها، والدُّخَانَ والدابةَ، رواه الحسن.
واحتج الأولون بأن الله تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: ربنا اكشف عنّا العذاب إنا مؤمنون. فإذا حملناه على القحط الذي وقع في مكة استقام فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مَشَى إليه أبو سفيان فناشده الله والرَّحم وواعده إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البليّة أن يؤمنوا به، فلما أزاله الله عنهم رَجَعُوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: ﴿كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ﴾.

فصل


ظاهر الحال أنه دخان يغشى الناس أَيْ يشملهم وهو في محل جر صفة ثانية أي بدُخَان مبينٍ غَاشٍ وقوله: ﴿اذا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في محل نصل بالقول، وذلك القول حال أي قائلين ذلك. ويجوز أن لا يكون معمولاً لقول ألبتة، بل هو مجرد إخبار. قال الجُرْجَانِي صاحب النظم: هذا إشارة إليه، وإخبار عن دُنُوِّه واقترابه كما يقال: هذا العدنو فاستقبله، الغرض منه التنبيه على القرب.
قوله: ﴿ربنا اكشف عنا العذاب﴾ إن أضمرنا القول هناك (فالتقدير: يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنّا العذاب، وإن لم يضمر القول هناك) أضمرناه ههنا، و «العذاب»
على القول الثاني الدخان المهلك «إنَّا مؤمنون» أي بمحمد وبالقرآن والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
قوله: ﴿أنى لَهُمُ الذكرى﴾ يجوز أن يكون «إني: خبراً لذكرى، و» لهم «تبيين،
316
ويجوز أن يكون» أنى «منصوباً على الظرف بالاستقرار في لَهُم، فإن» لهم «وقع خبراً لذكرى.
قوله:»
وَقَدْ جَاءَهُمْ «حال من» لَهُمْ «والمعنى كيف يتعظون أي من أين لهم التذكرة والاتِّعاظُ وقد جاءهم ماهو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة، وهو» رسول مبين «ظاهر الصدق يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما ظهر عليه من المعجزات، ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ﴾ أعرضوا عنه، ولم يتلفتوات إليه ﴿وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾ وذلك أن كفار مكة منهم من كان يقول: إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس، ولقولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣] وقوله: ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤] ومنهم من كان يقول: إنه مجنون، والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغُشْي. وقرأ زيد بن علي معلم بكسر اللام قوله:» إنا كاشفوا العذاب قليلاً «أي عذاب الجوع:» قليلاً «نعت لزمان، أو المصدر محذوف أي كشفوا قليلاً، أو زماناً قليلاً، يعني يسيراً» إنكم عائدون «أي كما نكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك.
قوله: «يَوْمَ نَبْطِشُ»
قيل: هو بدل من «يوم تأتي». وقيل: منصوب بإضمار اذكر. وقيل: ب «منتقمون». وقيل: بما دل عليه: «مُنْتَقِمُونَ» وهو ينتقم. ورُدَّ هذَان بأن ما بعد «لا» لا يعمل فيما قبلها، ولأنه لا يفسر إلا ما يصحّ أن يعمل. وقرأ العامة بفتح نون «نَبْطِشُ» وكسر الطاء أي نبطش بهم. وقرأ الحَسَنُ ابو جَعْفَر بضم الطاء وهي لغة في مضارع «بَطَشَ». والحسن أيضاً، وأبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء. وهو منقول من «أبطش» أي نُبِطْشُ بِهِمُ المَلاَئكِة والبطشة على هذا يجوز أن تكون منصوبة بنبطِشُ على حذف الزائد: نحو: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧] وأن تنتصب
317
بفعل مقدر أي نبطِشُ بهم الملائكة، فَيَبْطِشُونَ البَطْشَة. والبطش الأخذ بالشدة وأكثر ما يكون يوقع الضرب المتتابع ثم صار بحيث يشتمل في اتصال الآلام المُتَتَابِعَةِ.
(فصل
في المراد بهذا اليوم قولا ن:
الأول: أنه يوم بدر، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبي العالية (وذلك) أن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم يوم بدر.
الثاني: أنهن يوم القيامة. قال ابن الخطيب: وهذا القول أصح؛ لأن يوم بدر، لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة، لقوله تعالى: ﴿اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر: ١٧].
318
ظاهر الحال أنه دخان يغشى الناس أَيْ يشملهم وهو في محل جر صفة ثانية أي بدُخَان مبينٍ١ غَاشٍ وقوله :﴿ هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في محل نصل بالقول، وذلك القول حال أي قائلين ذلك٢. ويجوز أن لا يكون معمولاً لقول ألبتة، بل هو مجرد إخبار٣. قال الجُرْجَانِي٤ صاحب النظم : هذا إشارة إليه، وإخبار عن دُنُوِّه واقترابه كما يقال : هذا العدنو فاستقبله، الغرض منه التنبيه على القرب٥.
١ وتلك على الصفة الأولى..
٢ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٥٠٢..
٣ هذا رأي السمين في الدر المصون ٤/٨١٢..
٤ أبو علي الجرجاني وقد تقدم التعريف به..
٥ ذكره عن الرازي ٢٧/٢٤٣..
قوله :﴿ ربنا اكشف عنا العذاب ﴾ إن أضمرنا القول هناك ( فالتقدير١ : يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنّا العذاب، وإن لم يضمر القول هناك ) أضمرناه ههنا، و«العذاب » على القول الثاني الدخان المهلك٢ «إنَّا مؤمنون » أي بمحمد وبالقرآن والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
١ ما بين القوسين سقط من ب وموجود في أ والرازي..
٢ وعلى القول الأول هو القحط الشديد. وانظر الرازي المرجع السابق..
قوله :﴿ أنى لَهُمُ الذكرى ﴾ يجوز أن يكون «إني » : خبراً لذكرى، و «لهم » تبيين، ويجوز أن يكون «أنى » منصوباً على الظرف بالاستقرار في لَهُم، فإن » لهم «وقع خبراً لذكرى١.
قوله :»قَدْ جَاءَهُمْ » حال من «لَهُمْ » والمعنى كيف يتعظون أي من أين لهم التذكرة والاتِّعاظُ وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة، وهو «رسول مبين » ظاهر الصدق يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما ظهر عليه من المعجزات،
١ التبيان ١١٤٥..
﴿ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ ﴾ أعرضوا عنه، ولم يتلفتوا إليه ﴿ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴾ وذلك أن كفار مكة منهم من كان يقول : إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس، ولقولهم :﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] وقوله :﴿ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾ [ الفرقان : ٤ ] ومنهم من كان يقول : إنه مجنون، والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغُشْي١.
١ انظر الرازي ٢٧/٢٤٣ و٢٤٤..
وقرأ زيد بن علي معلم بكسر اللام١ قوله :﴿ إنا كاشفوا العذاب قليلاً ﴾ أي عذاب الجوع :«قليلاً » نعت لزمان، أو المصدر محذوف٢ أي كشفوا قليلاً، أو زماناً قليلاً، يعني يسيراً «إنكم عائدون » أي كما نكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك٣.
١ ذكر ذلك السمين في الدر المصون ٤/٨٠٢ بينما نسبها أبو حيان في البحر المحيط إلى زر بن حبيش انظر البحر ٨/٣٤..
٢ كان من الأولى أن يعير: نعت لزمان أو لمصدر محذوفين أي زمانا قليلا أو كشفا قليلا..
٣ قاله الرازي في مرجعه السابق..
قوله :﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ ﴾ قيل : هو بدل من ﴿ يوم تأتي ﴾. وقيل : منصوب بإضمار اذكر. وقيل : ب «منتقمون ». وقيل : بما دل عليه :«مُنْتَقِمُونَ » وهو ينتقم١. ورُدَّ هذَان بأن ما بعد «لا » لا يعمل فيما قبلها، ولأنه لا يفسر إلا ما يصحّ أن يعمل٢. وقرأ العامة بفتح نون «نَبْطِشُ » وكسر الطاء أي نبطش بهم. وقرأ الحَسَنُ وأبو جَعْفَر بضم الطاء وهي لغة في مضارع «بَطَشَ »٣. والحسن أيضاً، وأبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء٤. وهو منقول من «أبطش » أي نُبِطْشُ بِهِمُ المَلاَئكِة والبطشة على هذا يجوز أن تكون منصوبة بنبطِشُ على حذف الزائد : نحو :﴿ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾٥ [ نوح : ١٧ ] وأن تنتصب بفعل مقدر أي نبطِشُ بهم الملائكة، فَيَبْطِشُونَ البَطْشَة٦. والبطش الأخذ بالشدة وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتتابع ثم صار بحيث يشتمل في اتصال الآلام المُتَتَابِعَةِ٧.
( فصل
في المراد بهذا اليوم قولا ن :
الأول : أنه يوم بدر، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبي العالية ( وذلك )٨ أن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى التكذيب، فانتقم الله منهم يوم بدر.
الثاني : أنه يوم القيامة. قال ابن الخطيب : وهذا القول أصح ؛ لأن يوم بدر، لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة، لقوله تعالى :﴿ اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ ٩ [ غافر : ١٧ ].
١ انظر التبيان ١١٤٦ والبيان ٢/٣٥٨..
٢ قاله الزمخشري قال: "ولا يصح أن ينتصب بمنتقمون لأن أن تحجب عن ذلك" الكشاف ٢/٥٠٢..
٣ مختصر ابن خالويه ١٣٧ وروي عنه أيضا: يبطش بالياء مبنيا للمجهول..
٤ الكشاف ٣/٥٠٢ وقد ذكر أيضا الكشاف القراءة السابقة وانظر تلك القراءة أيضا في المحتسب ٢/٢٦٠..
٥ فنباتا منصوب بأنبتكم وكان القياس: إنباتا لأنه مصدر فعل رباعي ولما كان نبت وأنبت واحدا جاز، هذا قول وذهب آخرون إلى أن هذا مصدر منصوب بفعل محذوف وهو مذهب سيبويه، والأول مذهب المبرد والسيرافي انظر شرح المفصل لابن يعيش ١/١١٢..
٦ مفهوم كلام أبي الفتح في المحتسب ٢/٢٦٠ والدر ٤/٨١٢..
٧ اللسان بطش..
٨ زيادة للسياق..
٩ وهذا الفصل كله سقط من نسخة ب وانظره في الرازي ٢٧/٢٤٤ والقرطبي ١٦/١٣٤..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ... ﴾ لما بين أن كفار مكة يُصِرُّونَ على كفرهم بين أن كثيراً من المتقدمين أيضاً كانوا كذلك، وبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون.
قوله: «وَلَقَدْ فَتَنَّا» بالتشديد على المبالغة، أو التكثير لكثرة متعلّقه. «وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ» يحتمل الاستئناف والحال.
318

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : ابتلينام. وقال الزجاج: بلونا والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم ﴿وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ أي موسى بن عمران.
قال الكلبي: كريم على ربه بمعنى أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام.
قوله تعالى: ﴿أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله﴾ يجوز أن تكون المفسرة، لتقدم ما هو بمعنى القول، وأن تكون المخففة، ومعناه: وجاءهم بأَنَّ الشأنَ والحَدِيثَ: أَدّوا إِلي عِبَادَ اللهِ، وأن تكون الناصبة للمضارع وهي توصل بالأمر وفي جعلها مخففة إشكال تقدم، وهو أن الخبر في هذا الباب لا يقع طلباً وعلى جعلها مصدرية تكون على حذف حرف الجر، أي جَاءَهُمْ بأَنْ أدَّوا و «عِباد الله» يحتمل أن يكون مفعولاً به وبذلك أنه طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل، بدليل قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: ١٠٥] وأن يكون منادّى، والمفعول محذوف أي أعطوني الطاعة يا عباد الله. وعلل بأنه رسول أمين قد ائتمنه اله على وحيه ورسالته.
قوله: «وأَن لا تعلوا» عطلف على «أَنِ» الأولى، والمعنى لا تتكبّروا على الله بإهانة وحيه ورسولِهِ ﴿إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ بحجة بينة يعرف بصحتها كُلُّ عاقل.
والعامة على كسر الهمزة من قوله «إنِّي آتِيكُمْ» على الاستئناف. وقرىء بالفتح على تقدير اللام أي وأَنْ لاَ تَعْلُوا لأنِّي آتيكم.
قوله: ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ﴾ وقوله: «إنِّي عُذْتُ» مستأنف. وأدْغم الذال في التاء أبو عمرٍو والأَخَوَانِ. وقد مضى توجيهه في «طه» عند قوله: فَنَبَذْتُهَا «.

فصل


قيل: إنه لما قال: ﴿وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله﴾ توعدوه بالقتل، فقال: وإني
319
عذت بربي وربكم أن ترجمون أي تقتلوني، وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن ترجموني بالقول وهم الشتم وتقولوا: هو ساحر. وقال قتادة:» تَرْجُمُونِي بالحِجَارة «.
وإن لم تؤمنوا لي أي تصدقوني ولم تؤمنوا بالله، لأجل ما آتيتكم به من الحجة، فاللام في»
لِي «لام الأجل» فَاعْتَزِلُون «أي اتركوني، لا مَعِي، ولا عَلَيَّ. وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : فاعْتَزِلُوا أذايَ باليد واللسان.
قوه:»
فَدَعَا رَبَّهُ «الفاء في» فدعا «تدل على أنه متصل بمحذوف قبله، وتأويله أنَّهُمْ كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ.
فإن قيل: الكفر أعظم حالاً من الجرم فما السبب في أن جعل الكفار مجرمنين حال ما أراد المبالغة في ذمهم؟.
فالجواب: أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه (وقد يكون فاسقاً في دينه) والفاسق في دينه أَخسذُ الناس.
قوله: «أَنَّ هَؤلاَءِ»
العامة على الفتح، بإضمار حرف الجر، أي دَعَاهُ بأنَّ هؤلاء.
وابن أبي أسحاق وعيسى، والحسن، بالكسر، على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء «دعى» مجرى القول عند الكوفيين.
قوله: «فَأَسْرِ بِعبَادِي» قد تقدم قراءتا الوَصْلِ والقَطْع. وقال الزمخشري فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء. أي فقال: أَسْرِ بِعبَادِي، أو جواب شرط مقدر كأنه قال: إن الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبَادِي. قال أبو حيان: كثيراً ما يدعي حذف الشرط، ولا يجوز إلا الدليل واضح كأن يتقدمه الأمر وما أشْبَهَهُ.

فصل


يقال: سَرَى، وأَسْرَى لغتان، لما قال موسى: إنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أجاب الله
320
تعالى دعاءه وأمره أن يسري فقال: «فَأسْرِ بِعِبَادِي» أي بني إسرائيل ﴿لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ أي يتبعكم فرعون وقومه وذلك بسبب هلاكهم.
قوله: ﴿واترك البحر رَهْواً﴾ يجوز أن يكون «رهواً» مفعولاً ثانياً، على أن ترك بمعنى صَيَّر وأن يكون حالاً على أنها ليست بمعناها. والرهو: قيل: السكون، فالمعنى اتْرُكْهُ سَاكناً، يقال رَهَا، يَرْهُو، رَهْواً، ومنه: جَاءَت الخَيْلُ رَهْواً. قال النابغة:
٤٤٢٤ - وَالخَيْلُ تَمْرَحُ رَهْواً فِي أَعِنَّتِهَا كَالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُؤْبُوبِ ذي البَرَدِ
وَرَهَا يَرْهُو في سَيْرهِ أي رَفَقَ، قال القطامِيُّ:
٤٤٢٥ - يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَازِلَةٌ وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ
وعن أبي عبيدة: رهواً أي اتركه منفتحاً فُرَجاً على ما تركته.
روي أنه لما انفلق البحر لموسى، وطلع منه خاف أن يتبعه فرعون فأراد أن يضربه ليعود حتى لا يلحقوه، فأمر أن يتركه فرجاً. وأصله من قولهم: رَهَا الرَّجُلُ يَرْهُو رَهْواً فتح ما بين رجليه (قال مقاتل: اترك البحر رهواً أي راهياً يعني ساكناً. فأصل الرهو السكون، فسمي بالمصدر أي ذا رهو. وقال كعب: اترك طريقاً يابساً). والرَّهْوُ والرَّهوَةُ المكان المرتفع أو المنخفض يجتمع فيه الماء فهو من الأضداد. والرهوة المرأة الواسعة الهن. والرهو طائر يقال له الكُرْكِيَّ.
321
وقد تقدم الكلام في الشعراء على نظير: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ﴾.
قوله: «وَمَقَامٍ» العامة على فتح الميم، وهو اسم كان القيام. وابن هُرمُز، وقتادةُ، وابنُ السمقيع ونافع في رواية خارجة: بضمها اسم مكان الإقامة.
والنَّعْمَة بالفتح نَضَارة العَيْشِ ولَذَاذَتُهُ. (قال الزمخشري: النعمة بالفتح من التَّنعُّم، والنِّعمة بالكسر الإنعام. وقيل: النَّعمة بالفتح هي المال والزينة كهذه الآية، ومثله: ﴿وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة﴾ [المزمل: ١١]. وقله ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي﴾
[فصلت: ٥٠] أي مالاً بعد فَقْرٍ «. والجمهور على جرها. ونصبها أبو رجاء عطفاً على» كَمْ «أي تركوا كثيراً من كذا، وتركوا نَعْمَةً.
قوله:»
فَاكِهِينَ «العامة على الألف أي طيّيبي الأنفُسِ، أو أصحاب فاكهة كَلاَبنٍ وتَامِرٍ وقيل: فاكهين: لاهِينَ. وقرأ الحسن وأبو رجاء: فَكِهينَ، أي مستخفين مستهزئين بنعمة الله.
قال الجوهري: يقال: فَكِهَ الرَّجُلُ بالكسر فَهُوَ فَكِهٌ، خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي الأمر كذلك. وإليه نحا الزجاج، ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ، فقدرها الحَوْفِيُّ أهْلَكْنَا إهلاكاً، وانتقمنا انتقاماً كذلك.
وقال الكلبي: كذلك أفعَل بمن عصا. وقيل: تقديره: يَفْعَلُ فِعْلاً كَذَلِكَ.
322
وقال أبو البقاء: تَرْكاً كذلك، فجعله نعتاً للتَّرْك المحذوف، وعلى هذه الأوجه كلها يوقف على» كذلك «، ويبتدأ:» وَأَوْرَثْنَاهَا « (قَوْماً آخَرِينَ). (وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الأخراج أخرجناهم منها، وأورثنا قَوْماً آخرين)، ليسوا منها يعني بني إسرائيل، فعلى هذا يكون:» وَأَوْرَثْنَاهَا «معطوفاً على تلك الجملة الناصبة للكاف فلا يجوز الوقف على» كَذَلِكَ «حِينئِذٍ.
قوله: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء﴾ يجوز أن يكون استعارة، كقول الفرزدق:
٤٤٢٦ - وَالشَّمْسُ طَالِعةٌ لَيْسَتْ بكَاسِفَةٍ تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالقَمَرَا
وقال جرير:
٤٤٢٧ - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ سُور المَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الخُشَّعُ
وقال النابغة:
٤٤٢٨ - بَكَى حَارِثُ الجَوْلاَنِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ وَحَوْرَان مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُِ

فصل


روى أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:»
مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ، بابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقَُه، وبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ عَمَلُهُ. فَإذَا مَاتَ وَفَقَدَاهُ بَكَيَا عَلَيْهِ «، وتَلاَ هذه الآية، وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليه، ولم يكن يصعد لهم إلى السماء كلامٌ طيب، ولا عمل صالح فتبكي عليهم. وقيل: التقدير: فما بكت عليهم أهْلُ السماء والأرض، فحذف المضاف والمعنى: فما بكت عليه الملائكة، ولا المؤمنون بل كانوا لهلاكهم مسرورين.
323
وقيل: إن العادة جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأنِ إنه أظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله، وبكت السماء والريح والأرض. يريدُونَ المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكتاب. وقال الزمخشري: ذكر هذا على سبيل السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، ولم يكونوا بهذا الحَدِّ، بل كانوا دون ذلك، فذكر هذا تهكماً بهم.
وقال عطاء: بكاء السماء حُمْرَةُ أطرافِهَا. وقال السدي:: لما قتل الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بكت عليه السماء وبكاؤها حُمْرَتُها ﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾ أي لما جاء وقت هلاكِهِهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبةِ وتدارك تقصيرٍ.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين﴾ وهو قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل. واعلم أن رفع الضرر مقدم على إيصال النفع، فبدأ تعالى ببيان رفع الضرر عنهم فقال: ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين﴾.
قوله: «من فرعون» فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من «العذاب»، إمَّا على حذف مضاف، أي من عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وإما على المبالغة جعل نفس العذاب، فأبدله منه.
والثاني: أنه حال من العذاب تقديره: صادراً مِنْ فِرْعَوْنَ. وقرأ عبد الله: مِنْ عَذَاب المُهِينِ، وهي من إضافة الموصوف لصفته، إذ الأصل: العذاب المهين كالقراءة المشهورة. وقرأ ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) مَنْ فِرْعَوْنُ؟ بفتح الميم «من» ورفع فرعون على الابتداء والخَبَر، وهو استفهام تحقير، كقولك: مَنْ أَنْتَ وَزَيْداً؟ ثم بين حالة بالجملة بعد قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين﴾. والتقدير: هل تعرفون من هو في عُتُوه وشَيْطَنَته؟ ثم عرف حاله بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين﴾ أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، ويجوز أن يكون المراد إنه كان عالياً كقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض﴾ [القصص: ٤] وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه كان على حقارته وخسته
324
ادَّعى الإلهية. ولما بين الله تعالى (أنه) كيف دفع عن بني إسرائيل الضرر، بين أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال: ﴿وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين﴾ والمراد اخترنا مؤمني بني إسرائيل على عالَمِي زمانهم.
قوله: «على علم» متعلقة بمحذوف، لأ، ها حال من الفاعل في «اخترناهم» و «على العالمين»، متعلقة باخترناهم. وفي عبارة أبي حيان: أنه لما اختلف مدلولهما جاز تعلقهما باخترنا، وأنشد على ذلك (الشاعر) (رحمقُ اللهِ عَلَيْهِ) :
٤٤٣٩ - وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ عَلَيَّ وآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلِ
ثم قال: ف «على علم» حال إما من الفاعل، أو من المفعول، و «على ظهر» حال من الفاعل في «تعذرت» والعامل في الحال هو العامل في صاحبها. (وفيه نظر، لأن قوله أولاً: ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ينافي جعل الأولى حالاً، لأنها لم تتعلق به، وقوله: والعامل في الحال هو العامل في صاحبها) لا ينفع في ذلك.

فصل


قيل: هذه الآية تدل على كونهم أفضل من كل العَالَمِينَ. وأجيب: بأن المراد على عَالَمِي زَمَانِهِمْ وقيل: هذا عام دخله التخصيص. كقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات﴾ مثل فَلْق البحر، وتَظْلِيلِ الغمام وإنزال المَنِّ والسَّلوَى، والنِّعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة، وقرأ: ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] ؛ لأنه تعالى كما بلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة، ليتميز به الصديق على الزِّنديق. وههنا آخر الكلام على قصة موسى عليه الصلا ة والسلام.
325
قوله تعالى :﴿ أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله ﴾ يجوز أن تكون المفسرة، لتقدم ما هو بمعنى القول، وأن تكون المخففة١، ومعناه٢ : وجاءهم بأَنَّ الشأنَ والحَدِيثَ : أَدّوا إِلي عِبَادَ اللهِ، وأن تكون الناصبة للمضارع وهي توصل بالأمر وفي جعلها مخففة إشكال تقدم، وهو أن الخبر في هذا الباب لا يقع طلباً وعلى جعلها مصدرية تكون على حذف حرف الجر، أي جَاءَهُمْ بأَنْ أدَّوا و«عِباد الله » يحتمل أن يكون مفعولاً به وبذلك أنه طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل، بدليل قوله :﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الأعراف : ١٠٥ ] وأن يكون منادّى، والمفعول محذوف أي أعطوني الطاعة يا عباد الله٣. وعلل بأنه رسول أمين قد ائتمنه اله على وحيه ورسالته.
١ انظر البيان ٢/٣٥٨ والكشاف ٣/٥٠٢ و٥٠٣..
٢ في ب معناها بالتأنيث..
٣ انظر في هذه التوجيهات الإعرابية الدر المصون ٤/٨١٣..
قوله :«وأَن لا تعلوا » عطف على «أَنِ » الأولى١، والمعنى لا تتكبّروا على الله بإهانة وحيه ورسولِهِ ﴿ إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ بحجة بينة يعرف بصحتها كُلُّ عاقل.
والعامة على كسر الهمزة من قوله «إنِّي آتِيكُمْ » على الاستئناف. وقرئ٢ بالفتح٣ على تقدير اللام أي وأَنْ لاَ تَعْلُوا لأنِّي آتيكم.
١ السابق..
٢ في ب وقرأ مبنيا للمعلوم..
٣ بدون نسبة في البحر المحيط ٨/٣٥ وكذلك المرجع السابق..
قوله :﴿ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ﴾ وقوله :«إنِّي عُذْتُ » مستأنف. وأدْغم الذال في التاء أبو عمرٍو والأَخَوَانِ١. وقد مضى توجيهه في «طه » عند قوله :«فَنَبَذْتُهَا »٢.

فصل٣


قيل : إنه لما قال :﴿ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله ﴾ توعدوه بالقتل، فقال : وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون أي تقتلوني، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أن ترجموني بالقول وهم الشتم وتقولوا : هو ساحر. وقال قتادة :«تَرْجُمُونِي بالحِجَارة ».
١ الإتحاف ٣٨٨..
٢ من الآية ٩٧ منها. وانظر المرجع السابق..
٣ هذا الفصل بأكمله هو الآخر سقط من نسخة ب..
وإن لم تؤمنوا لي أي تصدقوني ولم تؤمنوا بالله، لأجل ما آتيتكم به من الحجة، فاللام في «لِي » لام الأجل «فَاعْتَزِلُون » أي اتركوني، لا مَعِي، ولا عَلَيَّ. وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : فاعْتَزِلُوا أذايَ باليد واللسان١.
١ انظر في هذا الرازي ٢٧/٢٤٥ والقرطبي ١٦/١٣٥..
قوله :«فَدَعَا رَبَّهُ » الفاء في «فدعا » تدل على أنه متصل بمحذوف قبله، وتأويله أنَّهُمْ كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ.
فإن قيل : الكفر أعظم حالاً من الجرم فما السبب في أن جعل الكفار مجرمين حال ما أراد المبالغة في ذمهم ؟.
فالجواب : أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه ( وقد يكون١ فاسقاً في دينه ) والفاسق في دينه أَخس الناس٢.
قوله :«أَنَّ هَؤلاَءِ » العامة على الفتح، بإضمار حرف الجر، أي دَعَاهُ بأنَّ هؤلاء.
وابن أبي أسحاق وعيسى، والحسن، بالكسر٣، على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء «دعى » مجرى القول عند الكوفيين٤.
١ ما بين القوسين من أ الأصل فهو تكملة من ب والرازي على حد..
٢ انظر تفسير الرازي ٢٧/٢٤٦..
٣ مختصر ابن خالويه ١٣٧ وهي شاذة غير متواترة..
٤ ذكر ذلك الفراء في معاني القرآن ٣/٤٠ والزمخشري في الكشاف ٣/٥٠٣..
قوله :«فَأَسْرِ بِعبَادِي » قد تقدم قراءتا الوَصْلِ والقَطْع١. وقال الزمخشري فيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء. أي فقال : أَسْرِ بِعبَادِي، أو جواب شرط مقدر كأنه قال : إن الأمر كما تقول فَأَسْرِ بِعِبَادِي٢. قال أبو حيان : وكثيراً ما يدعي حذف الشرط، ولا يجوز إلا الدليل واضح كأن يتقدمه الأمر وما أشْبَهَهُ٣.

فصل


يقال : سَرَى، وأَسْرَى لغتان٤، لما قال موسى : إنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أجاب الله تعالى دعاءه وأمره أن يسري فقال :«فَأسْرِ بِعِبَادِي » أي بني إسرائيل ﴿ لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴾ أي يتبعكم فرعون وقومه وذلك بسبب هلاكهم.
١ قراءة الوصل تنسب لنافع وابن كثير وأبي جعفر والقطع قراءة الباقين وعلى القراءتين يختلف ماضيا الفعلين ثلاثيا ورباعيا أيضا فالماضي سرى وأسرى..
٢ الكشاف ٣/٥٠٣..
٣ البحر المحيط ٨/٣٥ قال: في الكلام حذف أي فانتقم منهم فقال الله تعالى: ﴿أسر بعبادي﴾..
٤ بالهمزة لغة أهل الحجاز وجاء القرآن بهما جميعا والاسم من "سرى" السرية والسرى، قال القرآن: ﴿والليل إذا يسر﴾ فجاء القرآن باللغتين حيث قال: ﴿سبحان الذي أسرى﴾ وانظر تفصيل هذا في لسان العرب (سرى) ٢٠٠٣..
قوله :﴿ واترك البحر رَهْواً ﴾ يجوز أن يكون «رهواً » مفعولاً ثانياً، على أن ترك بمعنى صَيَّر١ وأن يكون حالاً على أنها ليست بمعناها٢. والرهو : قيل : السكون٣، فالمعنى اتْرُكْهُ سَاكناً، يقال رَهَا، يَرْهُو، رَهْواً، ومنه : جَاءَت الخَيْلُ رَهْواً. قال النابغة :
٤٤٢٤ وَالخَيْلُ تَمْرَحُ رَهْواً فِي أَعِنَّتِهَا كَالطَّيْرِ يَنْجُو مِنَ الشُؤْبُوبِ ذي البَرَدِ٤
وَرَهَا يَرْهُو في سَيْرهِ أي رَفَقَ، قال القطامِيُّ :
٤٤٢٥ يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَاذِلَةٌ وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ٥
وعن أبي عبيدة : رهواً أي اتركه منفتحاً فُرَجاً على ما تركته٦.
روي أنه لما انفلق البحر لموسى، وطلع منه خاف أن يتبعه فرعون فأراد أن يضربه ليعود حتى لا يلحقوه، فأمر أن يتركه فرجاً. وأصله من قولهم : رَهَا الرَّجُلُ يَرْهُو رَهْواً فتح ما بين رجليه ( قال مقاتل٧ : اترك البحر رهواً أي راهياً يعني ساكناً. فأصل الرهو السكون، فسمي بالمصدر أي ذا رهو. وقال كعب : اترك طريقاً يابساً ). والرَّهْوُ والرَّهوَةُ المكان المرتفع أو المنخفض يجتمع فيه الماء فهو من الأضداد. والرهوة المرأة الواسعة الهن. والرهو طائر يقال له الكُرْكِيَّ٨.
١ التبيان ١١٤٦..
٢ السابق والبيان ٢/٣٥٩ وانظر فيهما معا الدر ٤/٨١٤..
٣ وقد أثر عن قتادة ومجاهد في رواية عنه انظر الغريب ٤٠٢، والمجاز ٢/٢٠٨..
٤ من البسيط له كما في الديوان وروايته: والخيل تمزع غربا في أعنتها أي تسرع في حدة ونشاط، ورواية تمرح كما في البحر المحيط وعلى رواية الديوان لا شاهد؛ حيث أن شاهد البيت رهوا على أن الرهو هو السكون والشؤبوب شدة المطر. والمعنى على هذا لا يستقيم إن كانت رهو معناها السير الهادئ. وانظر البيت في الديوان ٢٣ والقرطبي ١٦/١٣٧ والبحر المحيط ٨/٣١ والمفضليات ٢٩٩ وفتح القدير ٤/٥٧٤ والدر المصون ٤/٨١٤..
٥ من البسيط أيضا له كما في البحر والقرطبي والدر المصون وهو غير منسوب في اللسان رها ١٧٥٩، ونسب في الكشاف إلى الأعشى وهو المخالف حينئذ. والشاهد في "رهوا" فإنه بمعنى الساكن الهادئ الهين وانظر الديوان ٤ والقرطبي ١٦/١٣٧ والكشاف ٣/٥٠٣ وشرح شواهد الكشاف ٤/٥٠٢ بنسبته للقطامي ومجمع البيان ٩/٩٦ وديوان المفضليات ٥٥٢، ٦٣٢..
٦ كذا قال السمين عنه والذي في المجاز: "ساكنا يقال: اره على نفسك أي ارفق بها" المجاز ٢/٢٠٨..
٧ ما بين القوسين كله سقط من ب وانظر القرطبي ١٦/١٣٧..
٨ حكى كل هذه الأقوال ابن منظور في اللسان "رها" ١٧٥٨ و٥٩ و٦٠ و٦١ وفيه الاستزادة من معان أخرى أيضا. وانظر أيضا الحيوان للجاحظ ٥/١٤٩ و٤١٩..
وقد تقدم الكلام في الشعراء على نظير :﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ ﴾١.
١ عند قوله: ﴿في جنات وعيون. وزروع ونخيل طلعها هضيم﴾ من الآيات ١٤٧، ١٤٨ منها حين أفرد وخص الزرع مع أنها من الجنات تنبيها على الأفضلية للزروع وأن يراد بالجنات غير الزروع، بالمعنى من هناك، ٧/٢٥٣ ب..
قوله :«وَمَقَامٍ » العامة على فتح الميم، وهو اسم كان القيام. وابن هُرمُز، وقتادةُ، وابنُ السميقع ونافع في رواية خارجة١ : بضمها٢ اسم مكان الإقامة.
١ هو خارجة من مصعب أبو الحجاج الضبيعي أخذ عن نافع وأبي عمرو، وله شذوذ وعنه العباس بن الفضل وغيره مات سنة ١٦٨ هـ انظر غاية النهاية ١/٢٦٨..
٢ البحر ٨/٣٦ وحجة ابن خالويه ٢٣٩ و٣٢٢..
والنَّعْمَة بالفتح نَضَارة العَيْشِ ولَذَاذَتُهُ. ( قال الزمخشري١ : النعمة بالفتح من التَّنعُّم، والنِّعمة بالكسر الإنعام٢. وقيل : النَّعمة بالفتح هي المال والزينة كهذه الآية، ومثله :﴿ وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة ﴾ [ المزمل : ١١ ]. وقوله ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ﴾ [ فصلت : ٥٠ ] أي مالاً بعد فَقْرٍ ). والجمهور على جرها. ونصبها٣ أبو رجاء عطفاً على «كَمْ » أي تركوا كثيراً من كذا، وتركوا نَعْمَةً.
قوله :«فَاكِهِينَ » العامة على الألف أي طيّبي الأنفُسِ، أو أصحاب فاكهة كَلاَبنٍ وتَامِرٍ وقيل : فاكهين : لاهِينَ. وقرأ الحسن وأبو رجاء : فَكِهينَ٤، أي مستخفين مستهزئين بنعمة الله.
قال الجوهري : يقال : فَكِهَ الرَّجُلُ بالكسر فَهُوَ فَكِهٌ، إذا كان مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر٥.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ الكشاف ٣/٥٠٣..
٣ البحر المحيط ٨/٣٦ وهي شاذة..
٤ الكشاف ٣/٥٠٣ والإتحاف ٣٧٧..
٥ الصحاح ٦/٢٢٤٣ فكه..
قوله :" كذلك " يجوز أن تكون الكاف مرفوعة المحل، خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي الأمر كذلك. وإليه نحا الزجاج١، ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ، فقدرها الحَوْفِيُّ أهْلَكْنَا إهلاكاً، وانتقمنا انتقاماً كذلك٢.
وقال الكلبي : كذلك أفعَل بمن عصا٣. وقيل : تقديره : يَفْعَلُ٤ فِعْلاً كَذَلِكَ٥.
وقال أبو البقاء : تَرْكاً كذلك٦، فجعله نعتاً للتَّرْك المحذوف، وعلى هذه الأوجه كلها يوقف على «كذلك »، ويبتدأ :«وَأَوْرَثْنَاهَا » ( قَوْماً آخَرِينَ )٧. ( وقال الزمخشري٨ : الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها٩، وأورثنا قَوْماً آخرين )، ليسوا منها يعني بني إسرائيل، فعلى هذا يكون :«وَأَوْرَثْنَاهَا » معطوفاً على تلك الجملة الناصبة للكاف فلا١٠ يجوز الوقف على «كَذَلِكَ » حِينئِذٍ.
١ انظر معاني القرآن وإعرابه له ٤/٤٢٦..
٢ البحر المحيط ٨/٣٦..
٣ السابق وانظر القرطبي ١٦/١٣٩ وهي على هذا مبتدأ والخبر محذوف..
٤ في ب نفعل تحريف..
٥ نقله أبو بركات ابن الأنباري في البيان ٢/٣٥٩. وانظر كل هذه الأوجه في الدر المصون للسمين الحلبي ٤/٨١٥..
٦ التبيان ١١٤٦..
٧ زيادة من ب..
٨ ما بين القوسين ساقط من ب..
٩ الكشاف ٣/٥٠٣..
١٠ الدر المصون ٤/٨١٥..
قوله :﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء ﴾ يجوز أن يكون استعارة، كقول الفرزدق :
٤٤٢٦ وَالشَّمْسُ طَالِعةٌ لَيْسَتْ بكَاسِفَةٍ تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالقَمَرَا١
وقال جرير :
٤٤٢٧ لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ سُور المَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الخُشَّعُ٢
وقال النابغة :
٤٤٢٨ بَكَى حَارِثُ الجَوْلاَنِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ وَحَوْرَان مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُِ٣

فصل


روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :» مَا مِنْ عَبْدٍ إلاَّ وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَانِ، بابٌ يَخْرُجُ مِنْهُ رِزْقَُه، وبَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ عَمَلُهُ. فَإذَا مَاتَ وَفَقَدَاهُ بَكَيَا عَلَيْهِ، وتَلاَ هذه الآية، وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليه، ولم يكن يصعد لهم إلى السماء كلامٌ طيب، ولا عمل صالح فتبكي عليهم. وقيل : التقدير : فما بكت عليهم أهْلُ السماء والأرض، فحذف المضاف والمعنى : فما بكت عليه الملائكة، ولا المؤمنون بل كانوا لهلاكهم مسرورين.
وقيل : إن العادة جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأنِ إنه أظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله، وبكت السماء والريح والأرض. يريدُونَ المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكتاب٤. وقال الزمخشري : ذكر هذا على سبيل السخرية بهم٥ يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، ولم يكونوا بهذا الحَدِّ، بل كانوا دون ذلك، فذكر هذا تهكماً بهم٦.
وقال عطاء : بكاء السماء حُمْرَةُ أطرافِهَا. وقال السدي :: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء وبكاؤها حُمْرَتُها ﴿ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ ﴾ أي لما جاء وقت هلاكِِهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبةِ وتدارك تقصيرٍ.
١ من البسيط لجرير وليس للفرزدق في رثاء خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز. والشاهد: تبكي عليك نجوم إسناد الفعل إلى الشمس لأن النجوم والقمر باكين الشمس على المرثي فبكتهن فهنا مغالية انظر أمالي المرتضى ١/٥٢ و٥٣ والبحر ٨/٤٦ والمذكر والمؤنث ٢١٩ والكامل ٢/١٤١ وديوان "جرير" ٣٧٢..
٢ من الكامل لجرير في هجاء الفرزدق. والشاهد: إسناد التواضع إلى السور والجبال إسنادا مجازيا، وقد تقدم..
٣ من الطويل للنابغة كما في الديوان ١٢١ وشاهده كسابقيه من إسناد الفعل إلى الجماد إسنادا مجازيا على سبيل الاستعارة. وحارث وحوران من مرتفعات الجولان وفي الديوان "موحش" بدل خاشع وانظر اللسا (جول) ٧٣١..
٤ كذا كتبها ناسخ المخطوط وفي الرازي: الكذب ٢٧/٢٤٦ و٢٤٧..
٥ الكشاف ٣/٥٠٤..
٦ الرازي السابق..
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين ﴾ وهو قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل. واعلم أن رفع الضرر مقدم على إيصال النفع، فبدأ تعالى ببيان رفع الضرر عنهم فقال :﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين ﴾.
قوله :«من فرعون » فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من «العذاب »، إمَّا على حذف مضاف، أي من عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وإما على المبالغة جعل نفس العذاب، فأبدله منه.
والثاني : أنه حال من العذاب تقديره : صادراً مِنْ فِرْعَوْنَ١. وقرأ عبد الله : مِنْ عَذَاب المُهِينِ٢، وهي من إضافة الموصوف لصفته، إذ الأصل : العذاب المهين كالقراءة المشهورة. وقرأ ابن عباس ( رضي الله عنهما )٣ مَنْ فِرْعَوْنُ ؟ بفتح الميم «من »٤ ورفع فرعون على الابتداء والخَبَر، وهو استفهام تحقير، كقولك : مَنْ أَنْتَ وَزَيْداً٥ ؟ ثم بين حالة بالجملة بعد قوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين ﴾. والتقدير : هل تعرفون من هو في عُتُوه وشَيْطَنَته ؟ ثم عرف حاله بقوله :﴿ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين ﴾ أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، ويجوز أن يكون المراد إنه كان عالياً كقوله :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض ﴾ [ القصص : ٤ ] وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه كان على حقارته وخسته ادَّعى الإلهية.
١ الدر المصون ٤/٨١٦..
٢ في أ مهين والتصحيح من ب وانظر في هذه القراءة الكشاف ٣/٤٠٥ ومختصر ابن خالويه ١٣٨ وهي شاذة..
٣ زيادة من أ..
٤ من شواذ القراءات انظر الكشاف ٣/٥٠٤ والبحر المحيط ٨/٣٧..
٥ كذا في النسختين: وزيدا بالنصب والأصح: زيد رفعا..
ولما بين الله تعالى ( أنه )١ كيف دفع عن بني إسرائيل الضرر، بين أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال :﴿ وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين ﴾ والمراد اخترنا مؤمني بني إسرائيل على عالَمِي زمانهم٢.
قوله :«على علم » متعلقة بمحذوف، لأنها حال من الفاعل في «اخترناهم » و«على العالمين »، متعلقة باخترناهم٣. وفي عبارة أبي حيان : أنه لما اختلف مدلولهما جاز تعلقهما باخترنا، وأنشد على ذلك ( الشاعر )٤ ( رحمةُ اللهِ عَلَيْهِ )٥ :
٤٤٣٩ وَيَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ عَلَيَّ وآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تُحَلَّلِ٦
ثم قال : ف «على علم » حال إما من الفاعل، أو من المفعول، و«على ظهر » حال من الفاعل في «تعذرت » والعامل في الحال هو العامل في صاحبها. ( وفيه نظر٧، لأن قوله أولاً : ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ينافي جعل الأولى حالاً، لأنها لم تتعلق به٨، وقوله : والعامل في الحال هو العامل في صاحبها ) لا ينفع في ذلك٩.

فصل


قيل : هذه الآية تدل على كونهم أفضل من كل العَالَمِينَ. وأجيب : بأن المراد على عَالَمِي زَمَانِهِمْ وقيل : هذا عام دخله التخصيص. كقوله :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾١٠ [ آل عمران : ١١٠ ].
١ سقط من ب..
٢ انظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧/٢٤٧ و٢٤٨..
٣ الدر المصون ٤/٨١٧..
٤ سقط من ب وكان الأولى: أبو حيان بدل الشاعر..
٥ زيادة من أ..
٦ من الطويل وينسب لامرئ القيس والكثيب الرمل الكثير والتعذر والتشدد، وآلت حلفت والشاهد جعل "على ظهر" حالا من فاعل تعذرت كما تعلق قوله "على" بنفس الفعل وإن اختلف معنى الحرفين. وانظر السبع الطوال ٤٢ والبحر ٨/٣٨ والهمع ١/٨٧، وشرح المعلقات السبع للزورني ١٣..
٧ سقط من ب ما بين الأقواس..
٨ فقد تعلقت بمحذوف أي "اخترناهم عالمين بمكان الخيرة" انظر الكشاف ٣/٥٠٤..
٩ وإذا لم تكن حالا منه لأنها لم تتعلق به فكيف يكون عاملا فيها؟.
١٠ وقد ذكر الوجهين الرازي فهما رأيه انظر تفسيره ٢٧/٢٤٨..
قوله :﴿ وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات ﴾ مثل فَلْق البحر، وتَظْلِيلِ الغمام وإنزال المَنِّ والسَّلوَى، والنِّعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد : ابتلاهم بالرخاء والشدة، وقرأ :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾١ [ الأنبياء : ٣٥ ] ؛ لأنه تعالى كما يبلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة، ليتميز به الصديق على الزِّنديق. وههنا آخر الكلام على قصة موسى عليه الصلاة والسلام.
١ انظر القرطبي ١٦/١٤٣..
قوله: ﴿إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ﴾ يعني مشركي مكة، ليقولون: ﴿هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ بمبعوثين بع موتنا. واعلم أنه رَجَعَ إلى ذكر كفار مكة؛ لأن الكلام كا فيهم حيث قال: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ [الدخان: ٩] أي بل هم في شك من البعث والقيامة. ثم بين كيفية إصرارهم على كفرهم ثم بين أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر مثلهم، وبين كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل ثم رجع إلى كفار مكة وإنكارهم للبعث فقال: ﴿هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى﴾.
فإن قيل: القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية، فكان من حقهم أن يقولوا: إن هذي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين.
فالجواب: قال الزمخشري: إنه قيل لهم: إنكم تموتون موتةً يَعْقُبُهَا حياةٌ كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد يعقبها حياة، كقوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] فقالوا: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى﴾ يريدون: مال الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى خاصة، ولا فرق إذن بين هذا الكلام وبين قوله: «إن هِيَ إلاَّ حَيَاتُنا الأُولى». قال ابن الخطيب: ويمكن وجه آخر وهو أن قوله: ﴿إن هي إلا موتننا الأولى﴾، يعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى وهذا الكلام يدل على أنه لا يأتيهم الحاية الثانية ألبتةَ، ثم صرحوا بهذا المرموز فقالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾. ولا حاجة إلى التكليف الذي ذكره الزمخشري. ثم إنَّ الكفار احتجوا على نفي الحشر، والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشر ممكناً معقولاً فعجَّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا إن كنتم صادقين في دعوى النبوة والبعث في القيامة.
قيل: طلبوا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يَدْعُوا الله حتى ينشر قصَيَّ بْن كِلاَب، ليشاوروه في صحة نبوة محمد وفي صحة البعث. ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك قال: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ وهذا استفهام على سبيل الإنكار قال أبو عبيدة: (ملوك اليمن) كل واحد منهم يسمى تُبَّعاً؛ لأن أهل المدينة
326
كانوا يتبعونه، وموضع ( «تبع» ) في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظِمُ من ملوك العرب قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كان تُبَّعٌ رَجُلاً صالحاً. وقال كَعْبٌ: ذَمَّ الله ولَمْ يَذُمَّه وقال الكلبي: هو أو كرب (أبو) أسعد. وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ تَسُبُّوا تبَّعاً فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ» وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أَدْرِي أَكَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا أَمْ غَيْرَ نَبِيٍّ»
واقل قتادة: هو تبَّعٌ الْحِمْيَريّ، وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند، وكان من ملوك اليمن يسمى تُبَّعاً لكثرة أتباعه، كل واحد منهم يسمى تبعاً، لأن يتبع صاحبه، وكان هذا يعبد النار، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام، وهم حِمْيَر. فكذبوه. (قال ابن إسحاق: وكان اسمه بيان أسعد أبو كرب وقصَّتُهُ مسرودة؛ لأ، هـ كان يعبد الأوثان، وأنه أسلم على يد حَبْرَيْنِ عالميْن، وأنه أتى البيت الحرام فطاف به، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيا ينحر بها للناس ويُطْعِمُ أهلها ويسقيهم العسل، وأُري في المنام أن يكْسُوَ البيت، فكساه الخَصَفَ، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافري، ثم أري يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملا والوصائل. وكان تبع أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من خزاعة فأمرهم بتطهيره، وأن يقربوه دَماً ولا مِيتةَ، ولامِيلاَثاً، وهي المحايِضُ وجعل له باباً ومفتاحاً، وقصته مع الحَبْرَينِ مشْهُورة وأيضاً وأنه رَجَعَ إلى اليمن وتبع الحبرين على دينهما ولذك كان أصل دين الهيودية باليَمَنِ).
فإن قيل: ما معنى قوله: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ مع أنه لا خير في الفريقين؟
فالجواب: أن معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ﴾ [القمر: ٤٣] بعد ذكر آلِ فِرْعَوْنَ.
قوله: ﴿والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على قوم «تُبَّع».
327
الثاني: أن يكون مبتدأ، وخبره ما بعده من: «أَهْلَكْنَاهُمْ» وأما على الأول: «فأَهْلَكْنَاهُمْ» إما مستأنفٌ وإما حال من الضمير المستكنِّ في الصلة.
الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مقدر يفسره «أَهْلَكْنَاهُمْ» ولا محلّ ل «أهلكناهم» حينئذ.
قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ لما أنكر على كفار مكة قولهم ووبخهم بأنه أضعف ممن كان قبلهم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالعبث والقيامة، فقال: ﴿وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين﴾ أي لو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعباً وعبثاً وقد تقدم تقدير هذا الدليل في أول سورة يونس، وفي آخر سورة المؤمنين عند قوله: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] وفي «ص» عند قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص: ٢٧] وتقدم أيضاً استدلال المعتزلة بنظير هذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والشرك ولايريدهما وتَقَدّمَ جَوَابُهُمَا.
قوله: «لاَعِبِينَ» حال. وقرأ عَمْرُو بْنُ عُبَيْد: وَمَا بَيْنَهُنَّ، لأن السموات والأرض جمعٌ. والعامة: «بينهما» باعتبار النوعين.
قوله «إلاَّ بالْحَقِّ» حال إما من الفاعل وهو الظاهر وإما من المفعول أي إلاَّ مُحِقِّينَ أو ملتبسين بالحق ثم قال: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يعني أهل مكة).
328
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:قوله :﴿ إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ ﴾ يعني مشركي مكة، ليقولون :﴿ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ بمبعوثين بع موتنا. واعلم أنه رَجَعَ إلى ذكر كفار مكة ؛ لأن الكلام كان فيهم حيث قال :﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الدخان : ٩ ] أي بل هم في شك من البعث والقيامة.
ثم بين كيفية إصرارهم على كفرهم ثم بين أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر مثلهم، وبين كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل ثم رجع إلى كفار مكة وإنكارهم للبعث فقال :﴿ إن هؤلاء ليقولون * إن هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى ﴾.
فإن قيل : القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية، فكان من حقهم أن يقولوا : إن هذي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين.
فالجواب : قال الزمخشري : إنه قيل لهم : إنكم تموتون موتةً يَعْقُبُهَا حياةٌ كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد يعقبها حياة، كقوله :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] فقالوا :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى ﴾ يريدون : مال الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى خاصة، ولا فرق إذن بين هذا الكلام وبين قوله :«إن هِيَ إلاَّ حَيَاتُنا الأُولى »١. قال ابن الخطيب : ويمكن وجه آخر وهو أن قوله :﴿ إن هي إلا موتننا الأولى ﴾، يعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى وهذا الكلام ( لا )٢ يدل على أنه لا يأتيهم الحياة الثانية ألبتةَ، ثم صرحوا بهذا المرموز فقالوا :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾. ولا حاجة إلى التكليف الذي ذكره الزمخشري٣.
١ الكشاف ٣/٥٠٤ و٥٠٥ بالمعنى وباللفظ من الرازي ٢٧/٢٤٩..
٢ زيادة عن الرازي..
٣ انظر الرازي ٢٧/٢٤٩..

ثم إنَّ الكفار احتجوا على نفي الحشر، والنشر بأن قالوا : إن كان البعث والنشر ممكناً معقولاً فعجَّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا إن كنتم صادقين في دعوى النبوة والبعث في القيامة.
قيل : طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَدْعُوا الله حتى ينشر قصَيَّ بْن كِلاَب، ليشاوروه في صحة نبوة محمد وفي صحة البعث.
ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك قال :﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ وهذا استفهام على سبيل الإنكار١ قال أبو عبيدة :( ملوك٢ اليمن ) كل واحد منهم يسمى تُبَّعاً ؛ لأن أهل المدينة كانوا يتعبونه، وموضع ( «تبع »٣ ) في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظِمُ من ملوك العرب٤ قالت عائشة رضي الله عنها كان تُبَّعٌ رَجُلاً صالحاً٥. وقال٦ كَعْبٌ : ذَمَّ الله ولَمْ يَذُمَّه وقال الكلبي : هو أو كرب ( أبو )٧ أسعد٨. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :«لاَ تَسُبُّوا تبَّعاً فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ »٩ وعنه صلى الله عليه وسلم :«مَا أَدْرِي أَكَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا أَمْ غَيْرَ نَبِيٍّ »
واقل قتادة : هو تبَّعٌ الْحِمْيَريّ، وكان سار بالجيوش حتى حير١٠ الحيرة وبنى سمرقند، وكان من ملوك اليمن يسمى تُبَّعاً لكثرة أتباعه، كل واحد منهم يسمى تبعاً، لأنه يتبع صاحبه، وكان هذا يعبد النار، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام، وهم حِمْيَر. فكذبوه١١. ( قال ابن١٢ إسحاق : وكان اسمه بيان أسعد أبو كرب وقصَّتُهُ مسرودة ؛ لأنه كان يعبد الأوثان، وأنه أسلم على يد حَبْرَيْنِ عالميْن، وأنه أتى البيت الحرام فطاف به، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيا ينحر بها للناس ويُطْعِمُ أهلها ويسقيهم العسل، وأُري في المنام أن يكْسُوَ البيت، فكساه الخَصَفَ١٣، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافري، ثم أري يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملا والوصائل. وكان تبع أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من خزاعة فأمرهم بتطهيره، وأن يقربوه دَماً ولا مِيتةَ، و لامِيلاَثاً، وهي المحايِضُ وجعل له باباً ومفتاحاً، وقصته مع الحَبْرَينِ مشْهُورة وأيضاً وأنه رَجَعَ إلى اليمن وتبع الحبرين على دينهما ولذلك كان أصل دين اليهودية باليَمَنِ ).
فإن قيل : ما معنى قوله :﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ﴾ مع أنه لا خير في الفريقين ؟
فالجواب : أن معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله تعالى :﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ ﴾ [ القمر : ٤٣ ] بعد ذكر آلِ فِرْعَوْنَ١٤.
قوله :﴿ والذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على قوم «تُبَّع ».
الثاني : أن يكون مبتدأ، وخبره ما بعده من :«أَهْلَكْنَاهُمْ » وأما على الأول :«فأَهْلَكْنَاهُمْ » إما مستأنفٌ وإما حال من الضمير المستكنِّ في الصلة.
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مقدر يفسره «أَهْلَكْنَاهُمْ » ولا محلّ ل «أهلكناهم » حينئذ١٥.
١ انظر الرازي المرجع السابق..
٢ سقط من ب ما بين القوسين..
٣ سقط كذلك من ب..
٤ انظر المجاز لأبي عبيدة ٢/٢٠٩..
٥ في عامة التفسير: أنه مؤمن وصالح لا صابئ كما في النسختين فهذا تحريف..
٦ في النسختين: وقالت الأصح: وقال كعب كما أثبت أعلى وكما نقلته التفاسير..
٧ أبو زيادة من النسختين وانظر فيما سبق الرازي السابق والقرطبي ١٦/١٤٤، ١٤٦ والكشاف ٣/٥٠٥..
٨ مسند الإمام أحمد ٥/٣٤٠..
٩ مسند الإمام أحمد ٥/٣٤٠..
١٠ كذا في الكشاف وغيره وفي القرطبي عبر..
١١ وانظر الرازي والكشاف والقرطبي المراجع السابقة..
١٢ ما بين القوسين كله سقط من ب..
١٣ الخصف بمحركات علوية ثياب غليظة جدا انظر اللسان في تلك القصة خصف ١١٧٤، ١١٧٥ والبغوي..
١٤ الرازي ٢٧/٢٤٩..
١٥ التبيان ١١٤٦ والدر المصون ٤/٨١٧..
قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ﴾ لما أنكر على كفار مكة قولهم ووبخهم بأنه أضعف ممن كان قبلهم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالعبث والقيامة، فقال :﴿ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ﴾ أي لو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعباً وعبثاً وقد تقدم تقدير هذا الدليل في أول سورة يونس، وفي آخر سورة المؤمنين عند قوله :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ] وفي «ص » عند قوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾ [ ص : ٢٧ ] وتقدم أيضاً استدلال المعتزلة بنظير هذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والشرك و لا يريدهما وتَقَدّمَ جَوَابُهُمَا.
قوله :«لاَعِبِينَ » حال. وقرأ عَمْرُو بْنُ عُبَيْد١ : وَمَا بَيْنَهُنَّ، لأن السموات والأرض جمعٌ. والعامة :«بينهما » باعتبار النوعين.
١ الأصح كما في الكشاف عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي القاص وردت الرواية عنه في حروف مات سنة ٧٤ من الهجرة انظر غاية النهاية ١/٤٩٦ و٤٩٧ وانظر القراءة في الكشاف ٣/٥٠٥ والدر المصون ٤/٨١٨..
قوله «إلاَّ بالْحَقِّ » حال إما من الفاعل وهو الظاهر وإما من المفعول أي إلاَّ مُحِقِّينَ أو ملتبسين بالحق ثم قال :﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ( يعني١ أهل مكة ).
١ زيادة من ب..
قوله: ﴿إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ﴾ العامة على رفع ميقاتهم خبراً ل «إنّ». وقرىء بنصبه على أنه أسم إنَّ، و «يَوْم الفَصل» خبره. وأجمعوا على تأكيد الضَّمير المجرور.
328
(فصل
لما ذكر الدليل على إثبات البَعْث والقيامة ذكر عَقِيبه يوم الفصل قال الحسن: سمي بذلك لأن الله تعالى يفصل فيه بين أهل الجنة، وأهل النار. وقيل: إن الله فيه بين وبين ما يريد. وقيل: يظهر ح ال كل أحد كما هو فلا يبقى إلاَّ الحقائقُ والبَيِّنات، ثم وصف ذلك اليوم فقال: «يَوْمَ لاَ يُغْني» يجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم الفَصْلِ» أو بياناً عند من لا يشترط المطابقة تعريفاً وتنكيراً. أو أن يكون منصوباً بإضمار أعني، وأن يكون صفة لميقاتهم ولكنه بني. قاله أبو البقاء. وهذا لا يتأتى عنه البصريين لإضافته إلى معرب، وقد تقدم آخر المائدة، وأن ينتصب بفعل يدل عليه «يوم الفصل» أيفصل بينهم يَوْمَ لا يُغْنِِي، ولا يجوز أن ينتصب ب «الفَصْل» نفسه لما يلزم من الفصل بينهما بأَجْنَبيِّ وهو «مِيقَاتُهُمْ» والفصل مصدر لا يجوز فيه ذلك.
وقال أبو البقاء: لأنه قد أخبر عنه، وفيه تَجَوز، فَإنَّ الإخبار عما أضيف إلى الفَصْل لا عن الفصل).
قوله: ﴿مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً﴾ لا ينفع قريبٌ قَرِيبَهُ، ولا يدفع عنه ﴿هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي ليس لهم ناصر يمنعهم من عذاب الله. واعلم أن القريب إما في الدين أو في النَّسب أو المعتق وكل هؤلاء يُسَمَّوْنَ بالمولى فلما تحصل النصرة لهم فبأن لا تحصل ممَّنْ سواهم أولى. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ [البقرة: ١٢٣] إلى قوله ﴿هُمْ يُنصَرُونَ﴾ قال الواحدي: المراد بقوله: مولى عن مولى الكفار، لأنه ذكر بعده المؤمن فقال: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يريد المؤمن فإنه يشفع له الأنبياءُ والملائكةُ.
329
قوله: «وَلاَ هُمْ» جمع الضمير عائداً به على «مَوْلى»، وإن كان مفرداً؛ لأنه قصد معناه، فجمع وهو نكرة في سياق النفي تَعُمُّ.
قوله: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله﴾ يجوز فيه أرْبَعَة أوْجُهٍ:
أحدهما: وهو قول الكسائي أنه منقطع.
الثاني: أنه متصل تقديره: لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ، إلا المؤمنين فإنهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعة فيَشْفَعُونَ في بعضهم كما تقدم عن ابن عباس.
الثالث: أن يكون مرفوعاً على البديلة من «مَوْلًى» الأول، ويكون «يُغْنِي» بمعنى ينفع قاله الحوْفيُّ.
الرابع: أنه مرفوع المحل أيضاً على البدل من واوِ «يَنْصَرُونَ» أي لا يمنع من العذاب إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ.
330
ثم وصف ذلك اليوم١ فقال :«يَوْمَ لاَ يُغْني » يجوز أن يكون بدلاً٢ من «يَوْم الفَصْلِ » أو بياناً عند من لا يشترط المطابقة تعريفاً٣ وتنكيراً. أو أن يكون منصوباً بإضمار أعني٤، وأن يكون صفة لميقاتهم ولكنه بني. قاله أبو البقاء٥. وهذا لا يتأتى عنه البصريين لإضافته إلى معرب، وقد تقدم آخر المائدة٦، وأن ينتصب بفعل يدل عليه «يوم الفصل » أي يفصل بينهم يَوْمَ لا يُغْنِِي٧، ولا يجوز أن ينتصب ب «الفَصْل » نفسه لما يلزم من الفصل بينهما بأَجْنَبيِّ وهو «مِيقَاتُهُمْ » والفصل مصدر لا يجوز فيه ذلك.
وقال أبو البقاء : لأنه قد أخبر عنه٨، وفيه تَجَوز، فَإنَّ الإخبار عما أضيف إلى الفَصْل لا عن الفصل٩ ).
قوله :﴿ مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً ﴾ لا ينفع قريبٌ قَرِيبَهُ، ولا يدفع عنه ﴿ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ أي ليس لهم ناصر يمنعهم من عذاب الله. واعلم أن القريب إما في الدين أو في النَّسب أو المعتق ؛ وكل هؤلاء يُسَمَّوْنَ بالمولى فلما تحصل النصرة لهم فبأن لا تحصل ممَّنْ سواهم أولى. ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ] إلى قوله ﴿ ولا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ قال الواحدي : المراد بقوله : مولى عن مولى الكفار. لأنه ذكر بعده المؤمن فقال :﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ يريد المؤمن فإنه يشفع له الأنبياءُ والملائكةُ٢.
قوله :«وَلاَ هُمْ » جمع الضمير عائداً به على «مَوْلى »، وإن كان مفرداً ؛ لأنه قصد معناه، فجمع وهو نكرة في سياق النفي تَعُمُّ٣.
١ الرازي ٢٧/٢٥٠..
٢ التبيان السابق والبيان ٢/٣٦٠..
٣ وأبرز إنسان لا يشترط الزمخشري وحكايته معروفة في قوله" ﴿مقام إبراهيم﴾ على قوله تعالى: ﴿آيات بينات﴾ من الآية ٩٧ من آل عمران. وانظر هذه الأوجه في الدر المصون ٤/٨١٧ ورأي الزمخشري في توضيح المقاصد ٣/١٨٥..
٤ الدر المصون المرجع السابق..
٥ التبيان ١١٤٦..
٦ من الآية ١١٩: ﴿هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾..
٧ التبيان المرجع السابق..
٨ السابق..
٩ وانظر هذا كله في الدر المصون ٤/٨١٧ و٨١٨..
قوله :﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله ﴾ يجوز فيه أرْبَعَة أوْجُهٍ :
أحدهما : وهو قول الكسائي أنه منقطع٤.
الثاني : أنه متصل تقديره : لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ، إلا المؤمنين فإنهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعة فيَشْفَعُونَ في بعضهم٥ كما تقدم عن ابن عباس.
الثالث : أن يكون مرفوعاً على البديلة من «مَوْلًى » الأول، ويكون «يُغْنِي » بمعنى ينفع قاله الحوْفيُّ٦.
الرابع : أنه مرفوع المحل أيضاً على البدل من واوِ «يُنْصَرُونَ » أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله٧.
٤ السابق فهو رأي القراء..
٥ انظر المرجع السابق فهو رأي القراء أيضا..
٦ البحر المحيط ٨/٣٩ وانظر مشكل لمكي ٢/٢٩١..
٧ المرجع الأخير السابق، وانظر هذه الأوجه في السمين ٤/٨١٨..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم﴾ لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار. قال الزمخشري في «شجرة» ثلاث لغات، كسر الشين، وضمها، وفتحها. وتقدم اشتقاق لفظ «الزَّقُّوم» في سورة الصَّافَّات، و «الأَثِيمُ» صفة مبالغة ويقال: الأَثُوم كالصَّبُورِ والشَّكُورِ. و «الأثيم» أي ذِي الإثْمِ.
قال المفسرون: هو أبو جهل. قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على حصول هذا الوعيد للأثيم، وهو الذي صدر عنه الإثم، فيكون حاصلاً للفسَّاقِ.
330
والجواب: أن اللفظ المفرد الذي دخل تحته حرف التعريف الأصلُ فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق، ولا يفيد العموم، والمذكور السابق هنا هو الكفار فنيصرف إليه.

فصل


مذهب أبي حنيفة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أن قراءة القرآن بالمعنى جائز واحتج علهي بأنه نقل عن ابن مسعود (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أنه يقرىء رجلاً هذه الآية فكان يقول: طَعَامُ اليَثيمِ فقال: طَعَامُ الفَاجِرِ. وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بُيِّنَ في الفِقْه.
قوله: «كَالْمُهْلِ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ كَالْمُهْلِ. ولا يجوز أن يكون حالاً من: «طَعَام الأثيم». قال أبو البقاء: لأنه لا عامل إذَنْ. وفيه نظر؛ لأنه يجوز أن يكون حَالاً والعامل في معنى التشبيه، كقولك: زَيْدٌ أَخُوكَ شُجَاعاً.
والمهل قيل: دُرْدِيّ الزيت. وقيل: عَكرُ القطران. وقيل: ما أُذِيبَ من ذهب أو فضةِ. وقيل: ما أذيب منهما ومن كل ما في معناهما من المُنْطَبعَاتِ كالحَديد والنُّحاس والرَّصَاص. والمَهَلُ بالفتح التُّؤَدَةُ والرِّفق، ومنه: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾ [الطارق: ١٧]. وقرأ الحسن: كَالْمَهْلِ بفتح الميم فقط وهي لغة في المُهْل بالضم. وتقدم تفسيره في الكهف.
قوله: «يَغْلِي» قرأ ابنُ كثير وحَفْصٌ بالياء من تحت الفاعل ضمير يعود على «طَعَام». وجَوَّز أبُو البقاء أن يعود على الزقوم. وقيل: على المهل نفسه. و «يَغْلِي»
331
حال من الضمير المستتر في الجار أي منهما المهل غالياً. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف، اي هُوَ يَغْلِي، أي الزقوم أو الطعام. والباقون تَغْلِي بالتاء من فوق، على أن الفاعل ضمير الشجرة، والجملة خبر ثانٍ أو حال على رأيٍ، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هِيَ تَغْلِي (واختار أبو عبيد الياء؛ لأن الاسم المذكور الذي هو المهل هو الذي يلي الفعل نعتاً، والتذكير به أولى). قوله: «كَغَلْي الْحَمِيم» نعت لمصدر محذوف ِأو حال من ضميره أي تَغْلِي عَلْياً مِثْلَ غَلْي الْحَمِيم أو تَغْليةً مُشْبِهاً غَلْيَ الحميم. قال ابن الخطيب: واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغَلْيُ على المُهْل؛ لأن المهل مشبَّه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم، وهو الماء إذا اشتدت حرارته.
قوله: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ» قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر بضم تاء اعتلوه والباقون بكسرها وهما لغتان في مضارع «عَتَلَهُ» أي ساقه بجَفَاءٍ، وغِلْظَة، كعَرَشَ، يَعْرِشُ، ويَعْرُشُ. والعُتُلُّ: الجَافِي الغَليِظُ قالت اللَّيْثُ: العَتْلُ أن تأخذ تَلْبِيب الرجل فتقتله، أي تَجُرُّه إليك، وتذهب به إلى حَبْسٍ أو محنةٍ. وأخذ فلان بزمام الناقة يَعْتِلُهَا، وذلك إذا قبض على أصل الزِّمَام عند الرأس، وقادها قوداً عنيفاً (وقال ان السِّكِّيت: عَتَلْتُهُ إلَى السِّجْنِ وأعْتَلْتُهُ إذا دفَعْتَهُ دَفْعاً عَنِيفاً).
قوله: ﴿إلى سَوَآءِ الجحيم﴾ أي إلى وَسَطِ الجَحِيم، ومعنى الآية: أنه يقال للزبانية: خذوه أي الأثيم فاعتلوه، أي سوقوه بعنف إلى وَسَط الجحيم، ﴿ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم﴾، كقوله تعالى: ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم﴾ [الحج: ١٩] إلا أنَّ هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول: صبو عليه عذاب ذلك الحميم ونظيره قوله: ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾ [الأعراف: ١٢٦].
332
قوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ﴾ قرأ الكسائيُّ بفتح همزة إنك، على معنى العلة، أي لأَنَّك. وقيل تقديره ذق عذاب الجحيم أنك أنت العزيز، والباقون بالكسر، على الاستنئاف المُفيد للعلة، فتتحدُ القراءتان معنى، وهذا الكلام على سبيل التهكم وهو أغيظ لِلْمُسْتَهْزَأ بِهِ.
ومثله قول جرير لشاعر يسمي نفسه زَهْرَةً اليَمَنِ:
٤٤٣٠ - أَلَمْ تَكُنْ فِي وُسُومٍ قَدْ وُسِمْتَ بِهَا مِنْ كُلِّ مَوْعِظَةٍ يَا زَهْرَةَ اليَمَنِ
وهذا الشاعر قد قال:
٤٤٣١ - أَبْلِغْ كُلَيْباً وَأَبْلِغْ عَنْكَ شَاعِرَهَا أَنِّي الأَعَزُّ وَأَنِّي زَهْرَةُ اليَمَنِ
ومعنى الآية أنك بالضدِّ منه. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا بَيْنَ جبليْها أَعَزُّ ولا أكرمُ مِنِّي، فَوَالله لا تَسْتَطيعُ أَنْتَ وَلاَ رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلاَ بِي شَيْئاً. وروي أن خزنة جهنم تقولُ للكافر هذا الكلام إشْفَاقاً بهم وتوبيخاً.
قوله: ﴿إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ أي تشكون فيه ولا تؤْمِنُون بِهِ.
333
و«الأَثِيمُ » صفة مبالغة ويقال : الأَثُوم كالصَّبُورِ والشَّكُورِ٣. و«الأثيم » أي ذِي الإثْمِ.
قال المفسرون : هو أبو جهل. قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على حصول هذا الوعيد للأثيم، وهو الذي صدر عنه الإثم، فيكون حاصلاً للفسَّاقِ.
والجواب : أن اللفظ المفرد الذي دخل تحته حرف التعريف الأصلُ فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق، ولا يفيد العموم، والمذكور السابق هنا هو الكفار فينصرف إليه.

فصل


مذهب أبي حنيفة ( رضي الله عنه )٤ أن قراءة القرآن بالمعنى جائز واحتج عليه بأنه نقل عن ابن مسعود ( رضي الله عنه )٥ أنه يقرئ رجلاً هذه الآية فكان يقول : طَعَامُ اليَثيمِ٦ فقال : طَعَامُ الفَاجِرِ. وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بُيِّنَ في الفِقْه٧.
قوله :«كَالْمُهْلِ » يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ كَالْمُهْلِ. ولا يجوز أن يكون حالاً من :«طَعَام الأثيم ». قال١ أبو البقاء : لأنه لا عامل إذَنْ. وفيه نظر ؛ لأنه يجوز أن يكون حَالاً والعامل في معنى التشبيه، كقولك : زَيْدٌ أَخُوكَ شُجَاعاً٢.
والمهل قيل : دُرْدِيّ الزيت. وقيل : عَكرُ القطران. وقيل : ما أُذِيبَ من ذهب أو فضةِ. وقيل : ما أذيب منهما ومن كل ما في معناهما من المُنْطَبعَاتِ كالحَديد والنُّحاس والرَّصَاص٣. والمَهَلُ بالفتح التُّؤَدَةُ والرِّفق، ومنه :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ]. وقرأ الحسن : كَالْمَهْلِ٤ بفتح الميم فقط وهي لغة في المُهْل بالضم٥. وتقدم تفسيره في الكهف٦.
قوله :«يَغْلِي » قرأ ابنُ كثير وحَفْصٌ بالياء٧ من تحت الفاعل ضمير يعود على «طَعَام ». وجَوَّز أبُو البقاء أن يعود على الزقوم. وقيل : على المهل نفسه٨.
و «يَغْلِي » حال من الضمير المستتر في الجار أي منهما المهل غالياً. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هُوَ يَغْلِي٩، أي الزقوم أو الطعام. والباقون١٠ تَغْلِي بالتاء من فوق، على أن الفاعل ضمير الشجرة١١، والجملة خبر ثانٍ أو حال على رأيٍ، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هِيَ تَغْلِي١٢ ( واختار١٣ أبو عبيد الياء ؛ لأن الاسم المذكور الذي هو المهل هو الذي يلي الفعل نعتاً، والتذكير به أولى ).
١ في ب قاله وانظر هذا الإعراب في الكشاف ٣/٥٠٦ والتبيان ١١٤٦..
٢ قاله السمين في الدر ٤/٨١٩..
٣ انظر هذه الأقوال في الرازي ٢٧/٢٥١ والكشاف ٣/٥٠٦ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٢٨..
٤ من الأربع فوق العشر المتواترة، انظر الإتحاف ٣٨٨ ومختصر ابن خالويه ١٣٧ وهي شاذة غير متواترة..
٥ كما قال بذلك صاحب اللسان قال: "والمهل والمهلة والمهل صديد الميت" انظر اللسان (مهل) ٤٢٨٩..
٦ من قوله: ﴿كالمهل يشوي الوجوه﴾ ٢٩ منها وانظر اللباب ٦/٢٣٧ ب..
٧ انظر البيان ٢/٣٦٠ ومعاني القرآن ٣/٤٣ والتبيان ١١٤٦، وحجة ابن خالويه ٣٢٥..
٨ انظر البيان ٢/٣٦٠ ومعاني القرآن ٣/٤٣ والتبيان ١١٤٦، وحجة ابن خالويه ٣٢٥.
.

٩ التبيان السابق..
١٠ عاصم وابن عامر وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي انظر السبعة ٥٩٢..
١١ البيان ٢/٣٦٠ ومعاني الفراء ٣/٤٣ والكشاف ٣/٥٠٦..
١٢ التبيان المرجع السابق..
١٣ ما بين القوسين سقط كله من ب وانظر الرازي ٢٧/٢٥٣..
قوله :«كَغَلْي الْحَمِيم » نعت لمصدر محذوف ِأو حال من ضميره أي تَغْلِي غلْياً مِثْلَ غَلْي الْحَمِيم أو تَغْليةً مُشْبِهاً غَلْيَ الحميم١. قال ابن الخطيب : واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغَلْيُ على المُهْل ؛ لأن المهل مشبَّه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم، وهو الماء إذا اشتدت حرارته٢.
١ انظر هذا الإعراب في الدر المصون ٤/٨١٩..
٢ الرازي ٢٧/٢٥١..
قوله :«خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ » قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر بضم تاء اعتلوه١ والباقون بكسرها وهما لغتان في مضارع «عَتَلَهُ » أي ساقه بجَفَاءٍ، وغِلْظَة، كعَرَشَ، يَعْرِشُ، ويَعْرُشُ. والعُتُلُّ : الجَافِي الغَليِظُ قالت اللَّيْثُ : العَتْلُ أن تأخذ تَلْبِيب الرجل فتقتله، أي تَجُرُّه إليك، وتذهب به إلى حَبْسٍ أو محنةٍ. وأخذ فلان بزمام الناقة يَعْتِلُهَا، وذلك إذا قبض على أصل الزِّمَام عند الرأس، وقادها قوداً عنيفاً ( وقال ابن٢ السِّكِّيت٣ : عَتَلْتُهُ إلَى السِّجْنِ وأعْتَلْتُهُ إذا دفَعْتَهُ دَفْعاً عَنِيفاً )٤.
قوله :﴿ إلى سَوَآءِ الجحيم ﴾ أي إلى وَسَطِ الجَحِيم، ومعنى الآية : أنه يقال للزبانية : خذوه أي الأثيم فاعتلوه، أي سوقوه بعنف إلى وَسَط الجحيم.
١ ويقصد عين الفعل وإلا كان تحريفا وانظر السبعة ٥٩٢ و٥٩٣ ومعاني القرآن ٣/٤٣..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ أبو يوسف بن السكيت يعقوب بن السكيت كان من أكابر أهل اللغة، أخذ عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي وعنه أبو سعيد السكري، وأبو عكرمة الضبي وغيرهما مات سنة ٢٤٣ وقيل سنة ٢٤٦ انظر نزهة الألباء ١٢٣..
٤ وانظر هذا كله في اللسان ٢٨٠١ وعبارته: عتلته إلى السجن وعتنته أعتله وأعتله وأعتنه وأعتنه..
﴿ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم ﴾، كقوله تعالى :﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم ﴾ [ الحج : ١٩ ] إلا أنَّ هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول : صبوا عليه عذاب ذلك الحميم ونظيره قوله :﴿ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ [ الأعراف : ١٢٦ ].
قوله :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ﴾ قرأ الكسائيُّ بفتح همزة إنك، على معنى العلة، أي لأَنَّك١. وقيل تقديره ذق عذاب الجحيم أنك أنت العزيز٢، والباقون بالكسر، على الاستئناف المُفيد للعلة، فتتحدُ القراءتان معنى، وهذا الكلام على سبيل التهكم وهو أغيظ لِلْمُسْتَهْزَأ بِهِ٣.
ومثله قول جرير لشاعر يسمي نفسه زَهْرَة اليَمَنِ :
٤٤٣٠ أَلَمْ تَكُنْ فِي وُسُومٍ قَدْ وُسِمْتَ بِهَا مِنْ كُلِّ مَوْعِظَةٍ يَا زَهْرَةَ اليَمَنِ٤
وهذا الشاعر قد قال :
٤٤٣١ أَبْلِغْ كُلَيْباً وَأَبْلِغْ عَنْكَ شَاعِرَهَا أَنِّي الأَعَزُّ وَأَنِّي زَهْرَةُ اليَمَنِ٥
ومعنى الآية أنك بالضدِّ منه. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا بَيْنَ جبليْها أَعَزُّ ولا أكرمُ مِنِّي، فَوَالله لا تَسْتَطيعُ أَنْتَ وَلاَ رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلاَ بِي شَيْئاً. وروي أن خزنة جهنم تقولُ للكافر هذا الكلام إشْفَاقاً بهم وتوبيخاً٦.
١ السبعة ٥٩٣ ورويت عن الحسن بن علي بن أبي طالب. انظر معاني الفراء ٣/٤٣ و٤٤..
٢ وهو قول أبي البقاء التبيان ١١٤٦..
٣ البحر المحيط ٨/٤٠، والدر المصون ٤/٨٢٠..
٤ من البسيط وهو له والوسوم جمع وسم وهو أثر الكي. والاستفهام للتقرير والمعنى أن جريرا يخبر بأن شعراء كثيرين قد وسمهم بهجائه وهذا على سبيل الاستعارة، والشاهد: يا زهرة اليمن حيث سماه زهرة اليمن على سبيل التهكم متابعة له وحكاية للفظه الآتي. وانظر ديوانه ٦٧٥ والخصائص ٢/٤٦١، والبحر المحيط ٨/٤٠ والدر المصون ٤/٨٢٠ والحجة للفارسي ٢/١٤٢ والمسائل العسكرية ٩٤..
٥ ونسبه أبو الفتح بن جني في الخصائص إلى بعض اليمانية انظر المرجع السابقة..
٦ الرازي ٢٧/٢٥٢..
قوله :﴿ إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ﴾ أي تشكون فيه ولا تؤْمِنُون بِهِ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ لما ذكر وعيد الكفار أردفه بِآيَاتِ الوعْد فقال: «إنْ المُتَّقِينَ» قال أهل السنة: كل من اتقى الشرك صدق عليه أنه متق، فوجب أن
333
يدخل الفساق هذا الوعد فقال: فِي مَقَام أَمِينٍ. وقرأ أهل المدينة والشام بضمِّ ميم «مُقَام» على المصدر، أي في إقامة وقرأ الباقون فتح الميم أي في مَجْلِس أمنين آمنوا فيه من الغير. قال الزمخشري (المقام) بفتح الميم هو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي جُعل مستعملاً في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة، والأمين من قولك: أَمِنَ الرَّجُلُ اَمَانَةً فَهُو أَمِينٌ وهو ضد الخائن. فوصف به المكان ستعارة؛ لأن المكان المخيف كأنه يَخُون صَاحِبَه.
قوله: «فِي جَنَّاتٍ» يجوز أن يكون بدلاً من قوله: «فِي مَقَام» بتكرير العامل، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً وقوله: «يَلْبَسُونَ» يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجارِّ، وأن يكون خبراً ل «إنّ» فيتعلَّق الجار به، وأن يكون مستأنفاً.
قوله: «مُتَقَابِلِينَ» حال من فاعل «يَلْبَسُونَ». وتقدم تفسير السُّنْدُسِ والإسْتَبْرَقِ والمُقَام.
قوله: «كذلك» في هذه الكاف وجهان:
أحدهما: النصب نعتاً لمصدر، أي نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي مثْلَ ذلك الفِعل.
والثاني: الرفع على خبر ابتداء مضمر أي الأَمرُ كَذلِكَ.
وقدر أبو البقاء قبله جملةً فقال: «تقديره: فَعَلْنَا ذَلِكَ، والأَمْرُ كَذلِكَ»، ولا حاجة إليه. والوقف على «كذلك» والابتداء بقوله: وَزَوَّجْنَاهُمْ.
قوله: «بِحُورٍ عِينٍ» العامة على تنوين «حُورٍ» موصوفاً «بِعِينٍ». وعكرمة لم يُنَوِّنْ، أضافهن لأ، هن يَنْقَسِمْن إلى «عِينٍ» وغير «عِينٍ». وتقدم تفسير الحُور العِينِ.
فإن قيل: المراد بجلوسهم متقابلين استئناس بعضهم ببعض، والجلوس على هذه الصّفة موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعل الآخر، وأيضاً فالقيليل الثواب إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه ينغص عليه!
فالجواب: أن أحوال الآخرة بخلاف أحوالِ الدنيا.
334

فصل


قال أبو عبيدة: معنى «وَزَوَّجْنَاهُمْ» أي جعلناهم أزواجاً، كما يزوج النَّعْلُ بالنَّعْلِ أي جَعَلْنَاهُمْ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. واختلفوا في هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا؟ فقال يونس: قوله تعالى: ﴿وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ﴾ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ وليس من عقد التزويج، والعرب لا تقول: تَزَوَّجْتُ بِهَا، وإنَّما تقول: تَزَوَّجْتُهَا. وقال الواحديُّ: (رَحِمَهُ اللَّهُ) : والتنزيلم نزل على ما قال يونس، وذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب: ٣٧] ولو كان المراد تَزَوَّجْتُ بِهَا لقال: زَوَّجْنَاكَ بِهَا.

فصل


قال الواحدي: وأصل الحور البَيَاض، والتَّحْوير التبييض، وقد تقدم في تفسير الحَوَارِيِّينَ. وعين حوراء إذا اشتدَّ بَيَاضُ بَيَاضِهَا، واشْتَدَّ سَوَادُ سَوَادِهَا، ولا تسمى المرأة حَوْرَاءَ حتى يكون حَوَرُ عَيْنَيْهَا بَيْضَاء في لَوْن الجَسَد. وأما العِينشُ فجمع عَيْنَاءَ، وهي التي تكون عظيمةً العَيْنَيْنِ من النِّسَاء وَاسِعَتَهُمَا.
قوله: «يَدْعُونَ فِيهَا» حال من مفعول «زَوَّجْنَاهُمْ» ومفعوله محذوف، أي يدعون الخَدَمَ بكُلّ فَاكِهَةٍ وقوله: «آمِنِينَ» يجوز أن تكون حَالاً ثانيةً، وأن تكون حالاً من فالع «يَدْعُونَ» فتكون حالاً مُتَدَاخِلَةً ومعنى «آمنين» أي من نِفَارِهَا ومِنْ «مَ» ضَرَّتِهَا.
وقال قتادة: آمنين من الموت، والأوْصَاب، والشَّيْطَان.
قوله: «لاَ يَذُوقُونَ» يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «آمِنِينَ» وأن يكون حالاً ثالثةً أو ثانيةً من مفعول «وزَوَّجْنَاهُمْ»، و «آمِنينَ» حال من فاعل «يَدْعُونَ» كما تقدم، أو صفة «لآمِنينَ» أو مستأنف. وقرأ عَمرُو بنُ عُبَيْد: لاَ يُذَاقُونَ مبنياً للمفعول.
335
قوله: «إلاَّ المَوْتَة الأُوْلَى» فيه أوجه:
أحدها: أنه استثناء منقطع، أي لكن المَوْتَةَ الأُولى، قَدْ ذَاقُوهَا.
الثاني: أنه متصل، وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يُرَى منزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطَاه منها أولما يتيقنه من نعيمها.
الثالث: أن «إلاَّ» بمعنى سوى. نقله الطبري وضَعَّفَهُ.
قال ابن عطية: وليس تضعيفه بصحيح، بل هو كونها بمعنى سوى مستقيم منتسق.
الرابع: أن «إلاّ» بمعنى «بَعْدَ»، واختاره الطبري. وأباهُ الجمهور، لأن إلاَّ بمعنى بَعْدَ لم يَثْبتُ.
وقال الزمخشري: فَإِن قلتَ: كيف استثنيت الموتةَ الأولى المَذُوقَةَ قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه منها؟
قُلْتُ: أريدَ أن يُقَالَ: لا يذقون فيها الموت البتة، فوضع قوله: ﴿إِلاَّ الموتة الأولى﴾ موضع «ذَلِكَ»، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذَوْقُهَا في المستقبل؛ فإنهم يذُوقُونَها في الجنَّة.
قالال شهاب الدين: وهذا عند علماء البيان يسمى نَفي الشيء بدليله ومثله قولن النَّابغة:
٤٤٣٢ - وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتائِبِ
يعني إن كان أحد يعند فُلُول السيوف من قراع الكتائب عيباً، فهذا عيبهم لكن
336
عَدّهُ من العيوب محال فانتفى عنه العيب بدليل تعليق الأمر على المُحَال.
وقال ابن عطية بعد ما حكاه عن الطبري: فتبين أنه فنى عنهم ذَوْقَ الموت، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا. يعني أنه كلامٌ محمول على مَعْنَاه.
وقال ابن الخطيب: إن من جرب شيئاً ووقف عليه وصح أن يقال: إنه ذَاَقَهُ، وإذا صح أن يسمى ذَلِكَ العلمُ بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق.
فقوله: ﴿يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ يعنى الذَّوْقَ الحاصِلَ بسبب تذكر الموتة الأولى.
فإن قيل: أليس أنَّ أهل النار لا يذوقون الموت فلم بَشَّرَ أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه؟
فالجواب: أن البشارةَ ما وقعت بدوام الحياة، (بل بدوام الحياة) مع سابقة حصول تلك الخيرات والساعات فافترقا.
قوله: «وَوَقَاهُمْ» الجمهور على التخفيف، وقرأ أَبو حَيْوَةَ وَوَقَّاهُمْ بالتشديد على المبالغة ولا تكون للتعدية فإنه متعدٍّ إلى اثنيْنِ.
قوله: «فَضْلاً» مفعول من أجله، وهو مراد مَكِّيٍّ بقوله: مصدر عَمِلَ فيه «يَدْعُونَ». وقيل: العامل فيه: «وَوَقَاهُمْ». وقيل: آمنين. فهذا إنما يظهر على كونه مفعولاً من أجله، على أن يجوز أن يكون مصدراً، لأن «يَدْعُونَ» وما بعده من باب التفضُّل، فهو مصدر ملاقٍ لعامله في المعنى. وجعله أبو البقاء منصوباً بمقدر أي تَفَضَّلْنَا بذلك فضلاً أي تَفَضُّلاً.

فصل


احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله (تعالى) فضلاً
337
وإحساناً وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص عن النار والفَوْزِ بالجَنَّة، فإنما يحصل بفضل الله تعالى، ثم قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ وهذا يدل على أن الفضل أعلى من درحات الثواب المستحق، لأنه وصفه بكمونه فَوْزاً عظيماً، وأيضاً فإن الملكَ العظيم إذا أعطى الأجير أجرته، ثم خلع على إنسان آخر، فإن تلك الخُلْعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة. ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ﴾ أي سَهَّلْنَا القرآن، كناية عن غير مذكور «بِلِسَانِكَ» أي بلغتك. والباء للمصاحبة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يَتَّعظُونَ. قال القاضي: وهذا يدل علىأنه أراد من الكل الإيمان ولم يرد من أحَدٍ الكفر. وأُجِيبَ: بأن الضمير في قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ عائد إلى أقوام مخصوصين فيحمل ذلك على المؤمنين.
قوله: «فَارْتَقِبْ» أي فانتظر ما يحِلُّ بهم ﴿إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ﴾ لما يحِلُّ بِكَ. فمفعولا الارتقاب محذوفان أي فارتقب النصر من ربك إنهم مرتقبون بك ما يتمنونه من الدوائر والغوائل ولن يضرك ذلك.
روى أبو هريرة: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ حَم الدخان في لَيْلِهِ أصبح يستغفر له سَبُعون أَلْف مَلَك» رواه البغوي في تفسيره.
وروى الثَّعْلَبِيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة جمعةٍ أصبح مغفوراً له» «. وقال أبو أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم (يقول) :» من قرأ حم الدخان ليلة الجُمُعَةِ أو يوم الجمعة بَنَى الله له بيتاً في الجنة «.
(اللهم أسْعِدْنا بعظيم فضلك، وأرحمنا برحمتك). (والله تعالى أعلمُ بالصواب وإليه المرجعُ والمَآب).
338
سورة الجاثية
339
قوله :«فِي جَنَّاتٍ » يجوز أن يكون بدلاً من قوله :«فِي مَقَام » بتكرير العامل، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً
وقوله :«يَلْبَسُونَ » يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجارِّ، وأن يكون خبراً ل «إنّ » فيتعلَّق الجار به، وأن يكون مستأنفاً.
قوله :«مُتَقَابِلِينَ » حال من فاعل «يَلْبَسُونَ »١. وتقدم تفسير السُّنْدُسِ والإسْتَبْرَقِ والمُقَام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فإن قيل : المراد بجلوسهم متقابلين استئناس بعضهم ببعض، والجلوس على هذه الصّفة موحش ؛ لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعل الآخر، وأيضاً فالقليل الثواب إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه ينغص٤ عليه !
فالجواب : أن أحوال الآخرة بخلاف أحوالِ الدنيا.


١ انظر هذه الإعرابات في التبيان ١١٤٦ و١١٤٧ والدر المصون ٤/٨٢٠ والبيان ٢/٣٦١..
قوله :«كذلك » في هذه الكاف وجهان :
أحدهما : النصب نعتاً لمصدر، أي نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي مثْلَ ذلك الفِعل.
والثاني : الرفع على خبر ابتداء مضمر أي الأَمرُ كَذلِكَ١.
وقدر أبو البقاء قبله جملةً فقال :«تقديره : فَعَلْنَا ذَلِكَ، والأَمْرُ كَذلِكَ »٢، ولا حاجة إليه. والوقف على «كذلك » والابتداء بقوله : وَزَوَّجْنَاهُمْ.
قوله :«بِحُورٍ عِينٍ » العامة على تنوين «حُورٍ » موصوفاً «بِعِينٍ ». وعكرمة لم يُنَوِّنْ٣، أضافهن لأنهن يَنْقَسِمْن إلى «عِينٍ » وغير «عِينٍ ». وتقدم تفسير الحُور العِينِ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فإن قيل : المراد بجلوسهم متقابلين استئناس بعضهم ببعض، والجلوس على هذه الصّفة موحش ؛ لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعل الآخر، وأيضاً فالقليل الثواب إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه ينغص٤ عليه !
فالجواب : أن أحوال الآخرة بخلاف أحوالِ الدنيا.


فصل


قال أبو عبيدة : معنى «وَزَوَّجْنَاهُمْ » أي جعلناهم أزواجاً، كما يزوج النَّعْلُ بالنَّعْلِ٥ أي جَعَلْنَاهُمْ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. واختلفوا في هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا ؟ فقال يونس٦ : قوله تعالى :﴿ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ وليس من عقد التزويج، والعرب لا تقول : تَزَوَّجْتُ بِهَا، وإنَّما تقول : تَزَوَّجْتُهَا. وقال الواحديُّ :( رحمه الله )٧ : والتنزيل نزل على ما قال يونس، وذلك قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] ولو كان المراد تَزَوَّجْتُ بِهَا لقال : زَوَّجْنَاكَ بِهَا٨.

فصل


قال الواحدي : وأصل الحور البَيَاض، والتَّحْوير التبييض، وقد تقدم في تفسير الحَوَارِيِّينَ٩. وعين حوراء إذا اشتدَّ بَيَاضُ بَيَاضِهَا، واشْتَدَّ سَوَادُ سَوَادِهَا، ولا تسمى المرأة حَوْرَاءَ حتى يكون حَوَرُ عَيْنَيْهَا بَيْضَاء في لَوْن الجَسَد١٠. وأما العِين فجمع عَيْنَاءَ، وهي التي تكون عظيمةً العَيْنَيْنِ من النِّسَاء وَاسِعَتَهُمَا١١.
١ الدر المصون ٤/٨٢٠ والكشاف ٣/٥٠٧..
٢ التبيان ١١٤٧..
٣ قراءة شاذة غير متواترة انظر المحتسب ٢/٢٦١، والكشاف ٣/٥٠٧، والدر المصون ٤/٨٢٠..
٥ في ب الفعل بالفعل وما ذكر أعلى موافق للمجاز ٢/٢٠٩..
٦ هو: يونس بن عبيد العبدي مولاهم أبو عبد الله البصري أحد الأئمة عن الحسن وابن سيرين وعطاء، وعنه شعبة وهيثم، ويزيد بن زريع مات سنة ١٤٠ هـ، انظر خلاصة الكمال ٤٤١..
٧ سقط من ب..
٨ انظر الرازي ٢٧/٢٥٣..
٩ من الآية ٥٢ من آل عمران: ﴿قال الحواريون نحن أنصار الله﴾..
١٠ اللسان حور ١٠٤٣ ونقله عن الأزهري..
١١ انظر اللسان "عين"..
قوله :«يَدْعُونَ فِيهَا » حال من مفعول «زَوَّجْنَاهُمْ » ومفعوله محذوف، أي يدعون الخَدَمَ بكُلّ فَاكِهَةٍ وقوله :«آمِنِينَ » يجوز أن تكون حَالاً ثانيةً، وأن تكون حالاً من فاعل «يَدْعُونَ » فتكون حالاً مُتَدَاخِلَةً١ ومعنى «آمنين » أي من نِفَارِهَا ومِنْ «مَ »٢ ضَرَّتِهَا.
وقال قتادة : آمنين من الموت، والأوْصَاب، والشَّيْطَان٣.
١ انظر هذه الإعرابات في الدر المصون ٤/٨٢١ والتبيان لأبي البقاء ١١٤٦ و١١٤٧ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٩٢..
٢ الميم زيادة من ب..
٣ انظر القرطبي ١٦/١٥٤..
قوله :«لاَ يَذُوقُونَ » يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «آمِنِينَ » وأن يكون حالاً ثالثةً أو ثانيةً من مفعول «وزَوَّجْنَاهُمْ »١، و«آمِنينَ » حال من فاعل «يَدْعُونَ » كما تقدم، أو صفة «لآمِنينَ » أو مستأنف٢. وقرأ عَمرُو بنُ عُبَيْد : لاَ يُذَاقُونَ مبنياً للمفعول٣.
قوله :«إلاَّ المَوْتَة الأُوْلَى » فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء٤ منقطع، أي لكن المَوْتَةَ الأُولى، قَدْ ذَاقُوهَا.
الثاني : أنه متصل، وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يُرَى منزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطَاه منها أو لما يتيقنه من نعيمها٥.
الثالث : أن «إلاَّ » بمعنى سوى. نقله الطبري٦ وضَعَّفَهُ.
قال ابن عطية : وليس تضعيفه بصحيح، بل هو كونها بمعنى سوى مستقيم متسق٧.
الرابع : أن «إلاّ » بمعنى «بَعْدَ »، واختاره الطبري٨. وأباهُ الجمهور، لأن إلاَّ بمعنى بَعْدَ لم يَثْبتُ.
وقال الزمخشري : فَإِن قلتَ : كيف استثنيت الموتةَ الأولى المَذُوقَةَ قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه منها ؟٩
قُلْتُ : أريدَ أن يُقَالَ : لا يذقون فيها الموت البتة، فوضع قوله :﴿ إِلاَّ الموتة الأولى ﴾ موضع «ذَلِكَ »، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذَوْقُهَا في المستقبل ؛ فإنهم يذُوقُونَها في الجنَّة١٠.
قال شهاب الدين : وهذا عند علماء البيان يسمى نَفي الشيء بدليله ومثله قول النَّابغة :
٤٤٣٢ وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتائِبِ١١
يعني إن كان أحد يعد١٢ ١٣ فُلُول السيوف من قراع الكتائب عيباً، فهذا عيبهم لكن عَدّهُ من العيوب محال فانتفى عنه العيب بدليل تعليق الأمر على المُحَال١٤.
وقال ابن عطية بعد ما حكاه عن الطبري : فتبين أنه نفى عنهم ذَوْقَ الموت، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا١٥. يعني أنه كلامٌ محمول على مَعْنَاه.
وقال ابن الخطيب : إن من جرب شيئاً ووقف عليه وصح أن يقال : إنه ذَاَقَهُ، وإذا صح أن يسمى ذَلِكَ العلمُ بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق.
فقوله :﴿ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾ يعني الذَّوْقَ الحاصِلَ بسبب تذكر الموتة الأولى١٦.
فإن قيل : أليس أنَّ أهل النار لا يذوقون الموت فلم بَشَّرَ أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه ؟
فالجواب : أن البشارةَ ما وقعت بدوام الحياة، ( بل١٧ بدوام الحياة ) مع سابقة حصول تلك الخيرات والساعات١٨ فافترقا.
قوله :«وَوَقَاهُمْ » الجمهور على التخفيف، وقرأ أَبو حَيْوَةَ وَوَقَّاهُمْ١٩ بالتشديد على المبالغة ولا تكون للتعدية فإنه متعدٍّ إلى اثنيْنِ.
١ التبيان ١١٤٧ و١١٤٦ والدر المصون ٤/٨٢١..
٢ السابق..
٣ في الكشاف والبحر المحيط عبيد بن عمير كما مضى تصحيحه قبل. انظر الكشاف ٣/٥٠٧ والبحر ٨/٤٠..
٤ واختاره مكي في المشكل ٢/٢٩٢ واختاره الفراء بمعنى "سوى" وانظر معاني الفراء ٣/٤٤ والبيان ٢/٣٦٢..
٥ التبيان ١١٤٩..
٦ في ب الطبراني والأصح أنه الطبري وانظر جامع البيان ٢٥/٨٢ و٨٣..
٧ كذا في النسختين منتسق، وفي الدر المصون الذي نقل المؤلف عنه "متسق" وكلاهما صحيحان انظر البحر المحيط ٨/٤٠، والدر المصون ٤/٨٢١..
٨ جامع البيان المرجع السابق..
٩ في ب فيها..
١٠ الكشاف ٣/٥٠٧..
١١ الكشاف ٣/٥٠٧ بالمعنى وباللفظ من الدر المصون ٤/٨٢١..
١٢ له من بحر الطويل وهو مشهور عند أهل البلاغة بتأكيد المدح بما يشبه الذم وقد شرحه أعلى مما لا يحتاج إلى شرح، انظر ديوانه ٤٤، والإيضاح للقزويني ٢٦٦، والدر المصون ٤/٨٢١، ومعاهد التنصيص ٢/٣١، والهمع ١/٢٣٢..
١٣ في ب يعدل وهو تحريف..
١٤ الدر المصون ٤/٨٢١..
١٥ البحر المحيط ٨/٤٠..
١٦ الرازي ٢٧/٢٥٤..
١٧ سقط من ب بسبب انتقال النظر..
١٨ في ب والرازي: السعادات وهو الأصح انظر تفسير الرازي ٢٧/٢٥٤..
١٩ من القراءات الشاذة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٧، وانظرها بدون عزو في الكشاف ٢/٥٠٧..
قوله :«فَضْلاً » مفعول من أجله، وهو مراد مَكِّيٍّ بقوله : مصدر عَمِلَ فيه «يَدْعُونَ »١. وقيل : العامل فيه٢ :«وَوَقَاهُمْ ». وقيل : آمنين٣. فهذا إنما يظهر٤ على كونه مفعولاً من أجله، على أن يجوز أن يكون مصدراً، لأن «يَدْعُونَ » وما بعده من باب التفضُّل، فهو مصدر ملاقٍ لعامله في المعنى. وجعله أبو البقاء منصوباً بمقدر أي تَفَضَّلْنَا بذلك فضلاً٥ أي تَفَضُّلاً٦.

فصل


احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله ( تعالى )٧ فضلاً وإحساناً وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص عن النار والفَوْزِ بالجَنَّة، فإنما يحصل بفضل الله تعالى، ثم قال :﴿ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾ وهذا يدل على أن الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق، لأنه وصفه بكونه فَوْزاً عظيماً، وأيضاً فإن الملكَ العظيم إذا أعطى الأجير أجرته، ثم خلع على إنسان آخر، فإن تلك الخُلْعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة.
١ مشكل إعراب القرآن ٢/٢٩٢..
٢ نقله صاحب المشكل في إعراب القرآن ٢/٢٩٢ أيضا السابق وقال الفراء في المعاني: "أي فعله تفضلا منه" ٣/٤٤..
٣ مشكل إعراب القرآن السابق وانظر في هذه الأوجه كلها السمين ٤/٨٢٢..
٤ في ب ظهر ماضيا..
٥ التبيان ١١٤٩..
٦ كذا في أ وفي ب وهو الموافق لما في التبيان: تفضيلا..
٧ زيادة من أ..
ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ ﴾ أي سَهَّلْنَا القرآن، كناية عن غير مذكور «بِلِسَانِكَ » أي بلغتك. والباء للمصاحبة ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ يَتَّعظُونَ. قال القاضي : وهذا يدل على أنه أراد من الكل الإيمان ولم يرد من أحَدٍ الكفر. وأُجِيبَ : بأن الضمير في قوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ عائد إلى أقوام مخصوصين فيحمل ذلك على المؤمنين.
قوله :«فَارْتَقِبْ » أي فانتظر ما يحِلُّ بهم ﴿ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ﴾ لما يحِلُّ بِكَ. فمفعولا الارتقاب محذوفان أي فارتقب النصر من ربك إنهم مرتقبون بك ما يتمنونه من الدوائر والغوائل ولن يضرك ذلك١.
١ وانظر فيما مضى تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٧/٢٥٥ و٢٥٤ وانظر الكشاف ٣/٥٠٧ و٥٠٨..
Icon