تفسير سورة الدّخان

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الدخان مكية وآياتها تسع وخمسون، نزلت بعد سورة الزخرف. وهي كباقي السور المكية تُعنى بالتوحيد والبعث والرسالة، لتركيز العقيدة، وتثبيت دعائم الإيمان بالله الواحد الأحد. ويكاد سياق السورة يكون كله وحدة متماسكة في الحديث عن مشهد يوم القيامة، ومصارع الغابرين، والمشهد الكونيّ، ثم تقريع المشركين، وإنذارهم بحلول الجدْب والقحط بهم. وهو يذكّرهم بقصص فرعون وقوم موسى عليه السلام وكيف أنجى الله المؤمنين، وأهلكَ الكافرين.
وتبدأ السورة بالحديث عن القرآن الكريم وتنزيله في ليلة مباركة، فيها يُفرق كل أمر حكيم، والقرآن رأس الحكمة، والفيصل بين الحق والباطل. وهو رحمة من الله لعباده، وفيه إنذار لهم وتحذير. وبعد ذلك يأتي تعريف للناس بربهم، رب السموات والأرض وما بينهما وإثبات الوحدانية له وأنه هو المحيي والمميتُ ربّ الأولين والآخرين.
وقد سميت ﴿ سورة الدخان ﴾ لقوله تعالى :﴿ فارتقبْ يوم تأتي السماء بدخان مبين، يَغشى الناسَ، هذا عذاب أليم ﴾ وذلك من علامات الساعة، كما ورد في صحيح مسلم : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها والدخان... الخ ".
وتتحدث السورة عن الله، الخالق المدبّر، الحكيم المشرف على هذا الكون بالحفظ والرعاية، ثم عن مصارع المكذّبين من الأمم السابقة، تحذيرا لكفار قريش من أن يَنالهم مثلُها. وتأتي السورة من قصة فرعون وما حلّ به من الهلاك والدمار، ثم تؤكد بآياتها المشرقة أن يوم القيامة هو موعدُ فرق الكفر والضلال جميعا، وتصف ما ينال المهتدين المؤمنين من نعيم في جنات وعيون، يَدْعون فيها بكل فاكهة آمنين، كل ذلك فضل من الله العظيم الرحيم، ﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾.
ثم تختم السورة كما بدئت بالحديث عن القرآن الكريم :﴿ فإنما يسّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ﴾ وبالتهديد الشديد للمكذبين المترفين. ﴿ فارتقبْ إنهم مرتقبون ﴾ وهكذا يتناسق البدء والختام.

حم : تقرأ هكذا حاميم : من الحروف الصوتية، وقد تكلّمنا عن هذا الأسلوب والغرض منه.
أقْسَمَ الله تعالى بالقرآن الكاشف عن الدِّين الحقِ، المبينِ لما فيه صلاحُ البشرية في دنياهم وأُخراهم.
ليلة مباركة : هي ليلة القدر.
منذِرين : مُعْلِمين ومخوفين.
وأنه أنزلَ القرآنَ في ليلة مبارَكة هي ليلة القدر، لإنذار العباد وتخويفهم بإرسال الرسُل وإنزال الكتب.
يفرق : يفصل ويبين.
حكيم : محكَم لا يمكن الطعن فيه.
وفي هذه الليلة المباركة يفصِل الله كل أمر محكَم،
والقرآنُ رأس الحكمة والفيصلُ بين الحقّ والباطل.
يبيّن لهم ما يضرّهم وما ينفعهم.
﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم ﴾ إن الله لا تخفى عليه خافية من أمرهم،
إن كنتم موقنين : إن كنتم مؤمنين ومصدقين حقا.
قراءات :
قرأ الكوفيون : ربِّ السموات. بالجر. والباقون : ربُّ السموات بالرفع.
وهو ربُّهم وربّ آبائهم الأولين، المالكُ لهم والمتصرّف فيهم حسب ما يريد.
فهو الذي بيدِه إحياؤهم وإماتتهم.
إنهم ليسوا بموقِنِين بعد أن بينّا لهم الرشدَ من الغيّ وأصرّوا على كفرهم وشكّهم وعنادهم لاهين لاعبين.
فارتقب : فانتظر.
الدخان : الدخان المعروف الناشئ عن النار.
انتظِر أيها الرسولُ يومَ القيامة حين تأتي السماءُ بدخانٍ واضحٍ
يغشى الناسَ : يحيط بهم.
يعمُّ الناسَ ويغطّيهم.
اكشفْ عنا : ارفع عنا.
فيقولون : ربنا اكشِف عنا العذابَ قد آمنا بدِينك.
أنّى لهم الذكرى : كيف يتذكرون ويتعظون.
إن إيمانَهم لن ينفعَهم في ذلك اليوم، وقد جاءهم رسولُ الله بالرسالة الواضحة الصادقة.
وقالوا معلَّم : يعلمه بعض الناس.
فكفروا به، وقالوا إنه مجنونٌ يعلّمه بعضُ الناس القرآنَ الذي يتلوه علينا
وهنا يردّ الله تعالى عليهم : إنا سنرفعُ عنكم العذاب، وإنكم تعيشون الآن فرصةً قبل يوم القيامة فآمِنوا، إنكم ستعودون إلى كُفركم وما كنتم عليه بعد سماعكم الآيات.
البطش : الأخذ الشديد.
فاذكر أيها الرسولُ، يومَ تأخذهم الأخْذَةُ الكُبرى بعنف وقوة، ﴿ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴾ منهم في ذلك اليوم الرهيب.
فتنا : بلونا، وامتحنا.
ولقد امتحنا قبل كفارِ مكة قومَ فرعونَ بالنعمةِ والسلطان وأسباب الرخاء ﴿ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ مأمونٌ على ما أبلغكم غير متَّهم فيه، فلا تتكبروا على الله بتكذيب رسوله، لأني آتيكم بحجّة واضحة على حقيقة ما أدعوكم إليه.
أدوا إليَّ عباد الله : أعطوني عباد الله وأطلقوهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:فتنا : بلونا، وامتحنا.
ولقد امتحنا قبل كفارِ مكة قومَ فرعونَ بالنعمةِ والسلطان وأسباب الرخاء ﴿ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ مأمونٌ على ما أبلغكم غير متَّهم فيه، فلا تتكبروا على الله بتكذيب رسوله، لأني آتيكم بحجّة واضحة على حقيقة ما أدعوكم إليه.

لا تعلوا على الله : لا تستكبروا.
بسلطان مبين : بحجة واضحة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:فتنا : بلونا، وامتحنا.
ولقد امتحنا قبل كفارِ مكة قومَ فرعونَ بالنعمةِ والسلطان وأسباب الرخاء ﴿ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ مأمونٌ على ما أبلغكم غير متَّهم فيه، فلا تتكبروا على الله بتكذيب رسوله، لأني آتيكم بحجّة واضحة على حقيقة ما أدعوكم إليه.

عُذت بربي وربكم : التجأت إليه وتوكّلتُ عليه.
إني ألتجئ إلى الله ربي وربكم أن لا تصِلوا إليَّ بسوءٍ من قول أو عمل.
وإن لم تصدّقوني فيما جئتكم به من عند الله ﴿ فاعتزلون ﴾ وخلُّوا سبيلي
ولا ترجموني، ودعوا الأمرَ بيني وبينكم مسالمةً إلى أن يقضيَ الله بيننا.
فلما طال مقامُ موسى بين أظهُرِ قومِ فرعون ولم يؤمنوا به، ولم يزدهم ذلك إلا كفراً وعناداً دعا ربه شاكياً قومه حين يئسَ من إيمانهم، بأن هؤلاء القوم مجرمون، لا أمل فيهم.
اسرِ بعبادي : سر بهم ليلاً.
متبعون : يتبعكم فرعون وجنوده.
وحينئذ أمره اللهُ أن يُخرج بني إسرائيل ليلاً وأن يحذَروا، لأن فرعونَ وقومه سيتبعونهم.
رهْواً : ساكنا هادئا.
وطلب إليه : إنك إذا قطعت البحر يا موسى فاتركه ساكناً على حاله حتى يدخلَه فرعونُ وقومه فيغرقوا فيه. ﴿ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴾.
ثم بين الله تعالى بعد غرقِ آل فرعون كم تركوا بعد إغراقهم ومَهلَكِهم من بساتينَ وقصور. وحدائقَ غناء وزروع ناضرة، وعيشة ناعمة.
مقام كريم : منازل حسنة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:ثم بين الله تعالى بعد غرقِ آل فرعون كم تركوا بعد إغراقهم ومَهلَكِهم من بساتينَ وقصور. وحدائقَ غناء وزروع ناضرة، وعيشة ناعمة.
نعمة :( بفتح النون ) الرفاهة وطيب العيش، والنعمة :( بكسر النون ) ما أنعم الله به من رزق ومال وغيره.
فاكهين : ناعمين في عيش رغيد.
﴿ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ ﴾ ناعمين مترفين.
هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذّبوا رُسلَنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا. ثم إننا أورثنا تلك البلادَ وما فيها من خير عميم قوماً آخرين، لا يمتّون إليهم بقرابة ولا دين.
فما بكتْ عليهم السماء : لم تكترث لهلاكهم.
مُنظِرين : مهملين ومؤخرين.
فما حزنتْ عليهم السماءُ ولا الأرض عندما أخذهم العذابُ ولا أُمهلوا لتوبةٍ
أو تداركِ تقصير.
العذاب المهين : الشديد الإهانة والإذلال.
ثم بين الله كيف نَجَّا موسى ومن معه وذَكَر إحسانَه إليهم بأنه خلّصهم من العذاب المهين.
عاليا : جبّارا متكبرا.
من المسرفين : في الشر والفساد.
بإهلاك عدوّهم فرعون، الذي كان متكبراً مسرفاً في الشر والفساد.
على عِلم : عالمين باستحقاقهم ذلك.
على العالمين : في زمانهم.
وبيّن أنَّه اصطفاهم على عالَمِ زمانهم.
الآيات : المعجزات.
بلاءٌ مبين : اختبار ظاهر.
وأعطاهم من المعجزات ما فيه اختبارٌ ظاهر لهم وبلاء. كما قال تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].
يعود الحديث عن المنكِرين للبعث،
بمنشَرين : بمبعوثين، نشر اللهُ الموتى وأنشرهم : أحياهم.
وقولهم لا حياةَ بعد هذه الحياة. فإن هؤلاء المكذِّبين بالبعث ليقولون : إننا
لا نموت إلا مرةً واحدة، ولسنا بمبعوثين.
فإن كنتم صادقين فاسألوا ربَّكم أن يعجِّل لنا إحياءَ من ماتَ من آبائنا حتى يكونَ ذلك دليلاً على صِدق دعواكم.
تُبّع : لقبٌ لملوك اليمن القدماء مثل فرعون لدى قدماء المصريين.
ثم بين الله لهم على طريق السؤال : هل كفّار مكةَ خيرٌ في القوة والمنعة والسلطان أم قوم تُبَّع ومن سبقَهم من الجبابرة ! إن قومك يا محمد، ليسوا بقوّتهم وَمنْعَتِهم وسلطانهم، وقد أهلكناهم في الدنيا بكُفرهم وإجرامهم، فليَعْتبر قومك من مصير غيرهم.
لاعبين : عابثين.
لِيوقنوا أنه تعالى لم يخلق هذه السمواتِ والأرضَ عبثا دون حكمة، كما قال تعالى :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ].
نحن ما خلقنا هذا الكونَ العجيب وما فيه إلا بحكمة بالغة، على نظامٍ ثابت يدلّ على وجود الله ووحدانيته وقدرته ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ هذه الدلالةَ لغفلتهم.
يوم الفصل : هو يوم القيامة، سُمي بذلك لأنه يفصَل فيه بين الناس.
ميقاتهم : موعدهم.
إن يوم القيامة موعدُهم جميعاً وفيه يُفصَل بين الحقّ والباطل.
لا يغني مولى : لا ينفع أحد أحدا.
المولى كلمة لها عدة معانٍ : الرب، والمالك، والمحب، والصاحب، والحليف، والنزيل، والجار، والشريك، والصهر، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق، والمعتَق بفتح التاء، العبد، والتابع.
يومئذٍ لا يستطيع أحدٌ أن يساعد أحداً ولا ينفع مالٌ ولا بنون ولا أنساب ولا صديق حميم. ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾
إلا بصالح الأعمال. ﴿ إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم ﴾
الزقّوم : طعام أهل النار. وشجرة الزقوم ﴿ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين ﴾ [ الصافات : ٦٤-٦٥ ]، وهي الشجرة الملعونة.
الحديث الآن عن أهلِ النار وطعامهم وما يلاقُونه من عذابٍ أليم..
إن شجرة الزقُوم المعروفة بقُبح منظرِها وخُبثِ طَعْمِها وريحها.
الأثيم : المجرم المذنب.
هي طعامُ الفاجر الكافر الأثيم.
المُهل : خثارة الزيت.
ومذاقُها كسائل المعدِن المصهور، يغلي في البطون
قراءات :
قرأ ابن كثير وحفص ورويس وابن عامر : يغلي بالياء. والباقون : تغلي بالتاء.
الحميم : الماء الحار.
كالماءِ الشديد الحرارة.
فاعتلوه : فجرّوه بعنف.
عَتَلَه يعتله بكسر التاء وضمها عَتْلاً : جره جراً عنيفا.
سواء الجحيم : وسطها.
ثم يقال لزبانية جهنم : خذوا هذا الفاجرَ الأثيم فجرّوه بعنفٍ إلى وسط الجحيم.
ثم صبُّوا فوق رأسه الماءَ الحار.
ثم يقال له استهزاءً وتهكماً : ذُق العذابَ، أيها العزيز الكريم المعتزّ بنَسَبك وقومك.
إن هذا العذاب الذي تلاقونه الآن هو ما كنتم تكذّبون به في الدنيا.
في مقام أمين : في منزل آمن.
وبعد أن بين الله أحوال المجرمين وما يلاقونه من أهوال وعذاب وتقريع، بيّن هنا أحوال المتقين وما يلاقونه في جنّات النعيم من ضُروب التكريم.
في منازل حسنة آمنة، في جنات النعيم.
سندس : نوع من الحرير الرقيق.
استبرق : حرير فيه لمعان وبريق وهو أغلظ من السندس.
ملابسهم فيها من أنواع الحرير الفاخر، متقابلين على السُرر، يستأنس بعضهم ببعض.
بحورٍ عين : نساء جميلات واسعات العيون.
تحفُّ بهم زوجاتهم من الحُور العين.
يدعون : يطلبون.
ويطلبون ما يشتهون من أنواع الفاكهة.
وقاهم : جنّبهم وأبعدهم عن العذاب.
ثم بين أن حياتهم في هذا النعيم دائمة، وقد نجّاهم الله من العذاب الأليم
وأيّ فضل وفوز أعظمُ من النجاة من عذاب أليم !
ثم بين الله تعالى أنه أنزل هذا القرآن الكريم باللغة العربية ويسّره بها لعلّ العربَ ينتفعون به وبتعاليمه، وينشرونه في العالم. وبهذا يجيء ختام السورة كما بدئتْ، بذِكر القرآن.
فارتقب : فانتظر.
ثم يقول الله تعالى مسلّياً رسولَه الكريم وواعداً إياه بالنصر، ومتوعداً المكذّبين بالهلاك :
﴿ فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ﴾
انتظِر أيها الرسول، إنهم منتظِرون، وسيعلمون لمن يكونُ النصر. وقد نصر الله تعالى رسوله وأصحابه ونشروا دينه العظيم.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي وأبو عمرو : فاعتِلوه بكسر التاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب : فاعتُلوه بضم التاء، وهما لغتان. وقرأ ابن عامر ونافع : في مُقام بضم الميم. والباقون : في مَقام بفتح الميم.
Icon