تفسير سورة القلم

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة القلم من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿يَسْطُرُونَ﴾ يكتبون، سَطَر العلمَ كتبه بالقلم ﴿مَمْنُونٍ﴾ مقطوع يقال: مننتُ الحبل إذا قطعته ﴿عُتُلٍّ﴾ العُتل: الغليظ الجافي، السريع إلى الشر، مأخوذ من العَتل وهو الجر ﴿خُذُوهُ فاعتلوه﴾ [الدخان: ٤٧] قال في الصحاح: عَتلت الرجل إذا جذبته جذباً عنيفاً ﴿زَنِيمٍ﴾ الزنيمُ: الملصق بالقوم وليس منهم، وهو الدعيُّ الذي لا يعرف أبوه قال الشاعر:
400
زنيمٌ ليس يُعرف من أبوه بغيُّ الأم ذو حَسبٍ لئيم
﴿صَارِمِينَ﴾ صرم الشيء قطعه، وصرم النخلة قطع ثمرها ﴿حَرْدٍ﴾ قصد وعزم ﴿زَعِيمٌ﴾ كفيل وضمين ﴿مَكْظُومٌ﴾ مملوءٌ غيظاً وغماً.
التفسِير: ﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ نون حرف من الحروف المقطعة، ذكر للتنبيه على إِعجاز القرآن.. أقسم تعالى بالقلم الذي يكتب الناس به العلوم والمعارف، فإِن القلم أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده والمعنى: أُقسم بالقلم وما يكتبه الكاتبون على صدق محمد وسلامته مما نسبه إِليه المجرمون من السفه والجنون، وفي القسم بالقلم والكتابة إِشادة بفضل الكتابة والقراءة، فالإِنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله بمعرفة الكتابة ليفصح عما في ضميره ﴿الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٤٥] وحسبك دليلاً على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيداً لشأن الكتابين، ورفعاً من قدر أهل العلم، ففي القلم البيان كما في اللسان، وبه قوام العلوم والمعارف قال ابن كثير: والظاهر من قوله تعالى ﴿والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ أنه جنس من القلم الذي يكتب به، وهو قسم منه تعالى لتنبيه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ أي لست يا محمد بفضل الله وإنعامه عليك بالنبوة بمجنون، كما يقول الجهلة المجرمون، فأنت بحمد الله عاقل لا كما قالوا ﴿ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] قال ابن عطية: هذا جواب القسم، وقوله ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ اعتراض كما تقول للإِنسان: أنت بحمد الله فاضل ﴿وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ أي وإنّ لك لثوابا على ما تحملت من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله غير مقطوع ولا منقوص ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ أي وإِنك يا محمد لعلى أدب رفيع جم وخلق فاضل كريم، فقد جمع الله فيك الفضائل والكمالات.. يا له من شرف عظيم، لم يدرك شأوه بشر، فرب العزة جل علا يصف محمداً بهذا الوصف الجليل ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وقد كان من خلقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العلم والحلم، وشد الحياء، وكثرة العبادة والسخاء، والصبر والشكر، والتواضع والزهد، والرحمة والشفقة، وحسن المعاشرة والأدب، إلى غير ذلك من الخلال
401
العلية، والأخلاق المرضية ولقد أحسن القائل:
إذا الله أثنى بالذي هو أهله عليك فما مقدار ما تمدح الورى؟
﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ أي فسوف ترى يا محمد، ويرى قومك ومخالفوك كافر مكة إذا نزل به العذاب ﴿بِأَييِّكُمُ المفتون﴾ أي أيكم الذي فتن بالجنون؟ هل أنت كما يفترون، أم هم بكفرهم وانصرافهم على الهدى؟ قال القرطبي: والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان، ومعظم السورة نزل في «الوليد بن المغيرة» و «أبي جهل» وقد كان المشركون يقولون: إن بمحمد شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم المجنون أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي هو سبحانه العالم بالشقي المنحرف عن دين الله وطريق الهدى ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي وهو العالم بالتقي المهتدي إِلى الدين الحق، وهو تعليل لما قبله وتأكيد للوعد والوعيد كأنه يقول: إنهم هم المجانين على الحقيقة لا أنت، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما ينجيهم ويسعدهم ﴿فَلاَ تُطِعِ المكذبين﴾ أي فلا تطع رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا برسالتك وبالقرآن، فيما يدعونك إليه قال الرازي: دعاه رؤساء أهل مكة إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطعيهم، وهذا من الله إلهاب وتهييج للتشدد في مخالفتهم ﴿وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ أي تمنوا لو تلين لهم يا محمد، وتترك بعض ما لا يرضونه مصانعة لهم، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك في التسهيل: المداهنة: هي الملاينة والمداراة فيما لاينبغي، روي أن الكفار قالوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت الآية ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ﴾ أي ولا تطع يا محمد كثير الحلق بالحق والباطل، الذي يكثر من الحلف مستهيناً بعظمة الله ﴿مَّهِينٍ﴾ أي فاجر حقير ﴿هَمَّازٍ﴾ أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب ﴿مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ﴾ أي يمشي بالنميمة بين الناس، وينقل حديثهم ليوقع بينهم وهو الفتان، وفي الحديث الصحيح «لا يدخل الجنة نمام» ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ﴾ أي بخيل ممسك عن الإِنفاق في سبيل الله ﴿مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ أي ظالم متجاوز في الظلم والعدوان، كثير الآثام والإِجرام، وجاءت الأوصاف ﴿حلاف، هماز، مشاء، مناع﴾ بصيغة المبالغة للدلالة على الكثرة ﴿عُتُلٍّ﴾ أي جاف غليظ، قاسي القلب عديم الفهم ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي بعد تلك الأوصاف الذميمة التي تقدمت ﴿زَنِيمٍ﴾ أي ابن زنا، وهو أشد معايبه واقبحُها، أنه لصيق دعي ليس له نسب صحيح قال المفسرون: نزلت في «الوليد بن المغيرة» فقد كان داعياً في قريش وليس منهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة أي تبناه ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب قال ابن عباس: لا نعلم أحداً وصفه الله بهذه العيوب غير هذا، فألحق به عاراً لا يفارقه أبداً، وإِنما ذُمَّ بذلك لأن النطفة إِذا خبثت خبث الولد، وروي أن الآية لما نزلت جاء الوليد إِلى أمه فقال لها: إن محمداً وصفني بتسع صفات، كلها ظاهرة فيَّ اعرفها غير التاسع منها يريد أنه ﴿زَنِيمٍ﴾ فإن لم تصدقيني ضربت عنقك بالسيف، فقال له: إن أباك كان عنيناً أي لا يستطيع معاشرة النساء فخفت على المال فمكنت راعياً من نفسي فأنت ابن ذلك الراعي، فلم يعرف أنه ابن زنا حتى
402
نزلت الآية ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي لأن كان ذا مال وبنين قال في القرآن ما قال، وزعم أنه أساطير الأولين؟ وكان ينبغي أن يقابل النعمة بالشكر لا بالجحود والتكذيب ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي إذا قرئت آيات القرآن على ذلك الفاجر قال مستهزئاً ساخراً: إنها خارفات وأباطيل المتقدمين اختلقلها محمد ونسبها إِلى الله، قال تعالى رداً عليه متوعداً له بالعذاب ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ أي سنجعل له علامة على أنفه بالخطم عليه يعرف بها إِلى موته، وكنى بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به، لأن الخرطوم للفيل والخنزير، فإِذا شبه أنف الإِنسان به كان ذلك غاية في الإِذلال والإِهانة كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، قال ابن عباس: سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، وقد خطم يوم بدر بالسيف قال الإِمام الفخر: لما كان الوجه أكرم موضع الجسد، والأنف أكرم موضع في الوجه لارتفاعه عليه، وذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنفَة، وقالوا في الذليل: رغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإِذلال والإِهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه!! ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحديقة وما ابتلاهم تعالى به من إتلاف الزروع والثمار وضربه مثلاً لكفار مكة فقال ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة﴾ أي إنا اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه، وكلفنا أهل مكة أن يشكروا ربه على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم قال المفسرون: كان لرجل مسلم بقرب صنعاء بستان فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار، وكان إذا جان وقت الحصاد دعا الفقراء فأعطاهم نصيباً وافراً منه وأكرمهم غاية الإِكرام فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة فقالوا: عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا، فتشاوروا فيما بينهم وعزموا على ألا يعطوا أحداً من الفقراء شيئاً، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفية عنهم، وحلفوا على ذلك، فأرسل الله تعالى ناراً على الحديقة ليلاً أحرقت الأشجار وأتلفت الثمار، فلما أصبحوا ذهبوا إِلى حديقتهم فلم يروا فيها شجراً ولا ثمراً، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم تبين لهم أن بستانهم وحديقتهم وعرفوا أن الله تعالى عاقبهم فيها بنيتهم السيئة، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان ﴿إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ أي حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح، قبل أن يخرج اليهم المساكين ﴿وَلاَ يَسْتَثْنُونَ﴾ أي ولم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا، كأنهم واثقون من الأمر ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ أي فطرقها طارق من عذاب الله، وهم في غفلة عما حدث لأنهم كانوا نياماً، قال الكلبي: أرسل الله عليها ناراً من السماء
403
فاحترقت وهم نائمون ﴿فَأَصْبَحَتْ كالصريم﴾ أي فأصبحت كالزرع المحصود إِذا أصبح هشيماً يابساً قال ابن عباس: أصبحت كالرماد الأسود، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ﴿فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ﴾ أي نادى ب عضهم بعضاً حين أصبحوا ليمضوا على الميعاد إِلى بستانهم ﴿أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ﴾ أي اذهبوا مبكرين إلى ثماركم وزروعكم وأعنابكم إن كنتم حاصدين للثمار تريدون قطعها ﴿فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾ أي فانطلوا نحو البستان وهم يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين قائلين ﴿أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ﴾ أي لا تدخلوا في هذا اليوم أحداً من الفقراء إلى البستان ولا تمكنوه من الدخول ﴿وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ أي ومضوا على قصد وقدرة في أنفسهم يظنون أنه تمكنوا من مرادهم قال ابن عباس: ﴿على حَرْدٍ﴾ على قدرة وقصد وقال السدي: على حنق وغضب وقال الحسن: على فاقة وحاجة، وقول ابن عباس أظهر ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ﴾ أي فلما رأوا حديقتهم سوداء محترقة، قد استحالت من النضارة والبهجة إلى السواد والظلمة، قالوا لقد ضللنا الطريق إليها وليست هذه حديقتنا قال أبو حيان: كان قولهم ذلك في أول وصولهم إليها، أنكروا أنها هي واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم وضح لهم أنها هي وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها فقالوا عند ذلك ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ أي لسنا مخطئين للطريق بل نحن محرومون، حرمنا ثمرها وخيرها بجنايتنا على أنفسنا ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ﴾ ؟ أي قال أعقلهم وأفضلهم رأياً: هلا تسبحون الله فتقولون «سبحان الله» أو «إن شاء الله» قال في البحر: نبههم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من التسبيح، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين، واقتفوا سنة أبيهم في ذلك، فلما غفلوا عن ذكر الله وعزموا على منع المساكين ابتلاهم الله وقال الرازي: إن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم، قال الأوسط لهم توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا حالة البستان ذكرهم بالكلام الأول، فاشتغلوا بالتوبة ولكن بعد خراب البصرة ﴿قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي فقالوا حينئذٍ: تنزه الله ربنا عن الظلم فيما فعل، بل نحن كنا الظالمين لأنفسنا في منعنا حق المساكين ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ﴾ أي يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك: بل أنت، ويقول آخر: أنت الذي خوفتنا الفقر ورغبتنا في جمع المال، فهذا هو التلاوم ﴿قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾ أي قالوا يا هلاكنا وتعاستنا إن لم يغفر لنا ربنا، فقد كنا عاصين وباغين في منعنا الفقراء، وعد التوكل على الله، فقال الرازي: والمراد أنهم استعظموا جرمهم ﴿عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ﴾ أي لعل الله يعطينا أفضل منها بسبب توبتنا واعترافنا بخطيئتنا ﴿إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ أي فنحن راجون لعفوه، طالبون لإِحسانه وفضله.
. ساق تعالى هذه
404
القصة ليعلمنا أن مصير البخيل ومانع الزكاة إِلى التلف، وأنه يضن ببعض ماله في سبيل الله فيهلك كل ماله مصحوباً بغضب الله، ولذلك عقب تعالى بعد ذكر هذه القصة بقوله ﴿كَذَلِكَ العذاب وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي مثل هذا العذاب الذي نزل بأهل الجننة ينزل بقريش، ولعذاب الآخرة أعظم وأشد من عذاب الدنيا لو كان عندهم فهم وعلم، قال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إِلى بدر، وحلفوا ألا يرجعوا إلى مكة حتى يقتلوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، ويشربوالخمور، وتضرب القينات المغنيات على رءوسهم، فأخلف الله ظنهم، فقلتوا وأُسروا وانهزموا كأهل هذه الجننة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا.. ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين المتقين بعد أن ذكر حال المجرمين من كفار مكة فقال ﴿إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم﴾ أي إن للمتقين في الآخةر حدائق وبساتين ليس فها إلا النعيم الخالص، الذي لا يشوبه كدر ولا منغص كما هو حال الدنيا ﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين﴾ ؟ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أفنساوي بين المطيع والعاصي، المحسن والمجرم؟ ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ؟ تعجب منهم حيث أنهم يسوُّون المطبع بالعاصي، والمؤمن بالكافر، فإن مثل هذه لا يصدر عن عاقل ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ ؟ أي هل عندكم كتاب منزل من السماء تقرءون وتدرسون فيه ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ هذه الجملة مفعول لتدرسون أي تدرسون في هذا الكتاب أن لكم ما تشتهون وتطلبون؟ وهذا توبيخ آخر للمشركين فيما كانوا يزعمونه من الباطل حيث قالوا: إن كان ثمة بعث وجزاء، فسنعطى خيراً من المؤمنين كما أعطينا في الدنيا قال الطبري: وهذا توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأماني الكاذبة ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي هل لكم عهود ومواثيق مؤكدة من جهتنا ثابتة إلى يوم القيامة؟ ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ هذا جوابه أي إن لكم الذي تريدونه وتحكمون به؟ قال ابن كثير: المعنى أمعكم عهود ومواثيق مؤكدة أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ أي سل يا محمد هؤلاء المكابرين أيهم كفيل وضامن بهذا الذي يزعمون؟ وفيه نوع من السخرية والتهكم بهم، حيث يحكمون بأمور خارجة عن العقول، يرفضها المنطق وتأباها العدالة ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ أي أم لهم شركاء وأرباب يكلفون لهم بذلك، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم قال في التسهيل: وهذا تعجيز للكفار والمراد إن كان لكم شركاء يقدرون على شيء، فأتوا بهم وأحضروهم حتى نرى حالهم.
. ولما أبطل مزاعمهم وسفه أحلامهم، شرع في بيان أهوال الآخةر وشدائدها فقال ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ أي اذكر يا محمد لقومك ذلك اليوم العصيب الذي يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة، قال ابن عباس: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة قال القرطبي: والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها موضع الشدة كقول الراجز:
405
قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدَّت الحرب بكم فجدوا
﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي ويدعى الكفار للسجود لرب العالمين فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح طبقاً واحداً، وفي الحديث «يسجد لله كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً» ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ أي ذليلة متواضعة أبصارهم لا يستطيعون رفعها ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أي تغشاهم وتلحقهم الذلة والهوان ﴿وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ أي والحال أنهم كانوا في الدينا يدعو إلى السجود وهم أصحاء الجسم معافون فيأبون قال الإِمام الفخر: لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا، ثم إنه تعالى يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه، حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمو الأطراف والمفاصل ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث﴾ أي اتركني يا محمد ومن يكذب بهذا القرآن لأكفيك شره وأنتقم لك منه!! وهذا منتهى الوعيد ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي سنأخذهم بطريق الاستدراج بالنعم، إلى الهلاك والدمار، من حيث لا يشعرون قال الحسن: كم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه قال الرازي: الاستدراج أن يستنزله إليه درجة درجة حتى يورطه فيه، فكلما أذنبوا ذنباً جدَّد الله لهم نعمة وأنساهم الاستغفار، فالاستدراج إنما حصل لهم من الإِنعام عليهم، لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أي أُمهلهم وأُطيل في اعمارهم ليزدادوا إثماً ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي إن انتقامي من الكفارين قوي شديد وفي الحديث
«إن الله ليملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ وإنما سمي إِحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد، فما وقع لهم من سعة الأرزاق، وطول الأعمار، وعافية الأبدان، إحسانٌ في الظاهر، وبلاء في الباطن، لأن المقصود معاقبتهم وتعذيبهم به ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾ أي أتسألهم يا محمد غرامة مالية على تبليغ الرسالة، فهم معرضون عن الإِيمان بسبب ذلك التكليف الثقيل ببذلهم المال؟ والغرض توبيخهم في عدم الإِيمان فإن الرسول لا يطلب منهم شيئاً من الأجر قال الخازن: المعنى أتطلب منهم أجراً فيثقل عليهم محمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم عن الإِيمان ﴿أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ أي أم ههل عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب، فهم ينقلون منه أنهم خير من أهل الإِيمان، فلذلك أصروا على الكفر والطغيان؟ وهو استفهام على سبيل الإِنكار والتوبيخ ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أي فاصبر يا محمد على أذاهم، وامض لما أُمرت به من تبليغ رسالة ربك ﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت﴾ أي ولا تكن في الضجر والعجلة، كيونس بن متى عليه السلام، لما غضب على قومه لأنهم لم يؤمنوا فتركهم وركب البحر ثم التقمه الحوت،
406
وكان من أمره ما كان ﴿إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ أي حين دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غماً وغيظاً بقوله ﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] ﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي لولا أن تداركته رحمة الله ﴿لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ أي لطرح في الفضاء الواسع الخالي من الأشجار والجبال، وهو ملام على ما ارتكب، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموماً ﴿فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين﴾ أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه ﴿وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك، من قولهم نظر إلي نظراً كاد يصرعني قال ابن كثير: وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عَزَّ وَجَلَّ، ويؤيده حديث «لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين» ﴿لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ أي حين سمعوك تقرأ القرآن، ويقولون من شدة بعضهم وحسدهم لك، إن محمداً مجنون، قال تعالى رداً عليهم ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإِنس والجن، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون؟! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن، كما بدأها ببيان عظمة الرسول، ليتناسق البدء مع الختام في أروع بيان وأجمل ختام.
البَلاَغَة: تمضنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي:
١ - الجناس الناقص بين لفظي ﴿مَجْنُونٍ﴾ و ﴿مَمْنُونٍ﴾ لا ختلاف الحرف الثاني.
٢ - الوعيد والتهديد ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ المفتون﴾ وحذف المفعول للتهويل.
٣ - صيغ المبالغة في ﴿حَلاَّفٍ، هَمَّازٍ، مَّشَّآءٍ، مَّنَّاعٍ﴾ وكذلك في ﴿أَثِيمٍ.. وزَنِيمٍ﴾.
٤ - الاستعارة القائمة ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم﴾ استعار الخرطوم للأنف لأن أصل الخرطوم للفيل، واستعارته لأنف الإِنسان تجعله في غاية الإِيداع لأن الغرض الاستهانة به والاستخفاف.
٥ - الطباق بين ﴿المسلمين والمجرمين﴾ وبين ﴿ضَلَّ.. والمهتدين﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٦ - جناس الاشتقاق ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾.
٧ - التقريع والتوبيخ ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ﴾ ؟ والجمل التي بعدها.
٨ - التشبيه المقلوب بجعل المشبه به مشبهاً والعكس ﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين﴾ ؟ لأن الأصل أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والمثوبة؟ فقلب التشبيه ليكون أبلغ وأروع.
٩ - الكناية الرائقة الفائقة ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ كناية عن شدة الهول، وتفاقم الخطب يوم القيامة.
407
١٠ - السجع المرصع المحبوك، كأنه الدر المنظوم إقرأ الآيات الكريمة ﴿ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ الخ وتدبر روعة القرآن!!
408
Icon