تفسير سورة ق

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة ق من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

[سورة ق]

فاتحة سورة ق
لا يخفى على من تنور قلبه بأنوار الوحدة الذاتية المتشعشعة من مشكاة النبوة والولاية المترتبتين على نشأة الإنسان المصور بصورة الرحمن إذ أكمل المظاهر وأوليها لقبول التجليات الإلهية وأحراها لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه وأليقها للتخلق بأخلاق الحق هو الإنسان الكامل القابل لانعكاس اشعة شمس الذات الاحدية المستهلك دونها عموم الكثرات والإضافات فظهر ان لا مظهر اجمع من الإنسان وأكمل منه واشرف هذا النوع وأكمله وأتمه علما وعينا كشفا وشهودا هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه فمن تعجب عن رسالته وخلافته صلّى الله عليه وسلّم عتوا وأنكر إرشاده وهدايته لبنى نوعه عنادا وإنزال الله الوحى اليه مكابرة فقد ضل وغوى ولم يهتد الى ما هو الرشد والهدى لذلك انزل سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ما انزل وخاطبه بما خاطب واقسم بما اقسم تأكيدا ومبالغة لإثبات هدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلّم وكمال لياقته لخلافة الحق ونيابته فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المرسل للرسل المنزل للكتب لتبيين طريق توحيده الرَّحْمنِ بعموم عباده يدعوهم الى دار السلام الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى أعلى المقامات بأنواع الانعام والإكرام
[الآيات]
ق ايها الإنسان الكامل القابل لخلعة الخلافة والنيابة الإلهية القيم القائم لتبليغ الوحى والإلهام المنزل عليه من عنده سبحانه على عموم الأنام القائد لهم الى توحيد الملك العلام القدوس السلام ذي القدرة والقوة الكاملة الشاملة على عموم الانعام والانتقام وَحق الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ العظيم المنزل من المجيد العظيم انك يا أكمل الرسل لمرسل الى كافة الخلق من الحق على الحق لتبيين طريق الحق وتوحيده. ولما لم يجد المنكرون الجاحدون لعلو شأنك فيك يا أكمل الرسل شيأ وشينا يبعثهم ويدعوهم الى إنكارك وتكذيبك صريحا اضطروا الى العناد والمكابرة
بَلْ عَجِبُوا على سبيل الاستبعاد والاستنكار أولئك الحمقى الجاهلون الجاحدون أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ اى بان بعث إليهم رسول من جنسهم وبنى نوعهم ينذرهم عن اهوال يوم القيامة وافزاعها مع انهم منكرون للحشر وإرسال البشر جميعا فَقالَ الْكافِرُونَ المستكبرون بعد ما سمعوا منك الدعوة والإنذار من شدة انكارهم واستبعادهم هذا اى إرسال البشر الى البشر والإنذار من الحشر المحال كل منهما شَيْءٌ عَجِيبٌ وامر بديع ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ثم فصلوا ما اجملوا على سبيل التعجب والإنكار فقالوا فيما بينهم مستفهمين مستبعدين
أَإِذا مِتْنا اى أنرجع ونعود احياء كما كنا إذا متنا وَكُنَّا تُراباً وهباء منبثا ذلِكَ العود والرجوع رَجْعٌ بَعِيدٌ عن الوقوع وقبول العقول. ثم قال سبحانه ردا عليهم وردعا لهم كيف تستبعدون وتنكرون عنا قدرتنا على بعث الموتى واعادتهم احياء كما كانوا مع انا
قَدْ عَلِمْنا على وجه التفصيل والتحقيق ما تَنْقُصُ تأكل الْأَرْضُ مِنْهُمْ اى من اجزائهم وعظامهم واوصالهم وكيف لا نعلم وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حاصر لتفصيل عموم الأشياء حافظ لها ألا وهو حضرة علمنا الحضوري ولوح قضائنا المحفوظ المصون عن عدم الضبط والشذوذ
بَلْ هم من غاية عمههم وسكرتهم ونهاية غيهم وغفلتهم كَذَّبُوا بِالْحَقِّ المطابق للواقع المؤيد بالبرهان الساطع والدليل القاطع وهو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لَمَّا جاءَهُمْ وحين بعث إليهم من الحق بالحق على الحق لتبيينه وتمييزه عن الباطل لذلك أنكروا
البعث الذي جاء صلّى الله عليه وسلّم لتبيينه وللانذار بما فيه من انواع العقبات والعقوبات وبالجملة فَهُمْ بمقتضى أحلامهم السخيفة مغمورون فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب مخلوط حيث يلتبس عليهم حقيته صلّى الله عليه وسلّم وحقية عموم ما جاء به لذلك يترددون في شأنه ويقولون تارة انه شاعر وتارة انه ساحر وتارة كاهن وتارة مجنون مخبط يتكلم بكلام المجانين الى غير ذلك من المفتريات الباطلة
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ولم يتفكروا ولم يتفطنوا حين أنكروا البعث والحشر إِلَى السَّماءِ المطبقة المعلقة فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ورفعناها بلا اعمدة وأساطين وَكيف زَيَّنَّاها بالكواكب المتفاوتة في الإضاءة والتنوير وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ نتو وفتوق بل قد خلقناها ملساء متوازية السطوح متلاصقة الطباق
وَلم ينظروا ايضا الى الْأَرْضَ ولم يتدبروا فيها كيف مَدَدْناها ومهدناها بكمال قدرتنا وحكمتنا وَأَلْقَيْنا فِيها وعليها رَواسِيَ جبالا ثوابت شامخات وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من انواع النباتات بَهِيجٍ حسن كريم تبهج عيون الناظرين وتسر قلوبهم وبالجملة ما خلقنا عموم ما خلقنا من العجائب والغرائب الا لتكون
تَبْصِرَةً وَذِكْرى اى عظة وعبرة دالة على كمال قدرتنا ومتانة حكمنا وحكمتنا لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجاع إلينا متوجه نحونا بكمال التبتل والتفويض ليتذكر بها ويتفطن منها على كمال اقتدارنا واختيارنا في خلق عموم مرادتنا ومقدوراتنا ومن جملتها حشر الأموات وبعثهم من قبورهم احياء
وَكيف يسع لأولئك الحمقى الهالكين في تيه العناد والجحود انكار قدرتنا على البعث والإعادة مع انا قد نَزَّلْنا مِنَ جانب السَّماءِ ماءً مُبارَكاً كثير الخير والبركة فَأَنْبَتْنا بِهِ بعد انزاله وتنزيله على الأرض اليابسة الميتة جَنَّاتٍ اى حدائق ذات بهجة وبهاء ونزاهة وصفاء وَلا سيما حَبَّ الْحَصِيدِ من البر والشعير وسائر الحبوب المحصورة للتقوت والتعيش
وَقد أنبتنا به خصوصا النَّخْلَ وجعلناها باسِقاتٍ طوالا متحملات لَها طَلْعٌ ثمر ذو عنقود نَضِيدٌ منضود منضد بعضه فوق بعض من غاية كثرته وكثافته وانما انبتناها لتكون
رِزْقاً لِلْعِبادِ يرزقون بها ويواظبون على شكر منعمها ومبدعها وَبالجملة قد أَحْيَيْنا بِهِ اى بالماء المنزل من جانب السماء بَلْدَةً مَيْتاً يابسة جدبة لا كلأ فيها ولا ماء كَذلِكَ الْخُرُوجُ اى خروجهم من قبورهم احياء بقدرتنا مثل ذلك فمن اين ينكرون وأنى يستبعدون أولئك الحمقى الجاهلون الجاحدون بقدرة العليم الحكيم وليس هذا التكذيب والإنكار ببدع من هؤلاء المكذبين المنكرين يا أكمل الرسل بل قد
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ مثل تكذيبهم وانكارهم قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا صلّى الله عليه وسلّم حين بعث إليهم وانذرهم ونهاهم عماهم عليه من الكفر والجحود والخروج عن مقتضى الحدود وَكذلك كذبت أَصْحابُ الرَّسِّ وهو بئر كانوا يسكنون حوله أخاك حنظلة بن صفوان عليه السلام وَكذا قد كذبت ثَمُودُ أخاك صالحا عليه السلام فعقروا الناقة المقترحة
وَعادٌ أخاك هودا عليه السلام وَقد كذب فِرْعَوْنُ وملاؤه أخاك موسى الكليم وَإِخْوانُ لُوطٍ أخاك لوطا عليه السلام سماهم إخوانه لأنهم اصهاره
وَكذبت ايضا أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أخاك شعيبا عليه السلام وَكذبت قَوْمُ تُبَّعٍ وهو تبع الحميرى واسمه اسعد ابو كريب علماءهم وأئمتهم المصلحين لمفاسدهم وبالجملة كُلٌّ منهم قد كَذَّبَ الرُّسُلَ المبعوثين إليهم لهدايتهم وإرشادهم فَحَقَّ اى قد حل ولحق عليهم وَعِيدِ الموعود لهم بتكذيبهم وإصرارهم
فهلكوا واستوصلوا فكذا هؤلاء المكذبون المسرفون سيهلكون ويستأصلون عن قريب فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم ولا تستعجل لهم فسيرون ما يوعدون. ثم قال سبحانه على سبيل الإنكار والاستبعاد على المنكرين المستبعدين بالحشر والبعث
أَفَعَيِينا اى أينكرون قدرتنا على الإعادة ويظنون انا قد صرنا عاجزين بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ اى الإبداء الابداعى عن الخلق الثاني الأعادي ويزعمون ان قدرتنا تضعف وتفتر عند الخلق الاول بل تنتهي دونه ولم يعلموا ان قدرتنا بل عموم اوصافنا وأسمائنا لا تتصف بالانتهاء والفتور ولا بالانقضاء والقصور حتى يفهموا ويتفطنوا ان تعلق قدرتنا لكل مقدور من المقدورات في كل آن من الآنات على شأن الشئون الكمالية بحيث لم يمض مثله ولا يأتى شبهه بَلْ لهم ان يتفطنوا بمقتضى الفطرة الاصلية ان هُمْ في أنفسهم وفي حدود ذواتهم دائما مستمرا فِي لَبْسٍ وخلعة مِنْ توارد خَلْقٍ جَدِيدٍ منا وإيجاد متجدد من لدنا في كل زمان وآن حسب قدرتنا واختيارنا
وَبالجملة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا وجوده واستعداده في حضرة علمنا وأثبتناه في لوح قضائنا وأظهرناه من كتم العدم وَنحن نَعْلَمُ منه حينئذ ما تُوَسْوِسُ وتحدث بِهِ نَفْسُهُ وتخطر بباله الآن من أمثال هذه الأوهام والخيالات الباطلة المترتبة على حصة ناسوته المقيدة بسلاسل الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول الممتزج بالوهم الجهول وَكيف لا نعلم منه هواجس نفسه إذ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ اى وريده وهو مثل في القرب المفرط كما قال الموت ادنى لي من الوريد واضافة الحبل اليه للبيان وبالجملة نحن اقرب اليه من الوريدين وهما العرقان المنبثان من مقدم الرأس المتنازلان من طرفي العنق المتلاصقان عند القفا المنتهيان الى آخر البدن وهما قوام البدن وعليهما مداره إذ هما أقوى دعائم هيكل الإنسان وبالجملة نحن بحسب روحنا المنفوخ فيه من عالم اللاهوت اقرب اليه من ناسوته لا على توهم المسافة وعلى سبيل التركب والاتحاد والحلول والامتزاج بل على وجه الظلية والانعكاس ومع غاية قرب الحق اليه وكمال احاطته إياه وكل عليه الحفظة من الملائكة ليراقبوا أحواله ويحافظوا عليه إلزاما للحجة عليه لدى الحاجة يوم القيامة اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ الموكلان عليه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ اى قاعد كل من الموكلين عن يمينه وشماله مترقبين على عموم أحواله واعماله وأقواله بحيث
ما يَلْفِظُ ولا يتلفظ مِنْ قَوْلٍ يتفوه به ويرميه من فيه إِلَّا لَدَيْهِ وعنده رَقِيبٌ حفيظ عليه عَتِيدٌ مهيأ معد حاضر عنده غير مغيب عنه يرقبه ويحفظه على وجه لا يفوت عنه شيء من ملتقطاته مطلقا خيرا كان او شرا
وَهما يحفظانه ويرقبان عليه الى حين جاءَتْ وحضرت سَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته وغمرته بِالْحَقِّ والحقيقة وحضرت علاماته وانكشفت عليه أهواله واماراته قيل له حينئذ من قبل الحق ذلِكَ اى الموت الذي ينزل عليك الآن ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ هو الموت الذي قد كنت أنت تميل وتفر عنه فيما مضى
وَبعد ما ذاق الإنسان مرارة العذاب وقت سكرات الموت فتكون تذكرة أنموذجا عنده من العذاب الموعود في يوم القيامة نُفِخَ فِي الصُّورِ للبعث والحشر فإذا هو قائم هائم حائر ينظر حيران سكران قيل له من قبل الحق على سبيل التهويل ألست تنظر وتتحير يا حائر الهائم ذلِكَ اليوم الذي أنت فيه الآن يَوْمُ الْوَعِيدِ الموعود لك في دار الدنيا وأنت حينئذ لم تؤمن به ولم تخف من أهواله حتى وقعت فيه وذقت من عذابه وقت موتك وخروجك من الدنيا
وَبعد ما بعث الأموات من أجداثهم
وحشروا للجزاء جاءَتْ وحضرت كُلُّ نَفْسٍ من النفوس الطيبة والخبيثة مَعَها سائِقٌ موكل يسوقها الى المحشر للعرض والجزاء وَشَهِيدٌ من حفظة أعمالها وأحوالها يشهد لها او عليها وبعد ما حضر الكل بين يدي الله قيل لكل منهم من قبل الحق على وجه الخطاب والعقاب
لَقَدْ كُنْتَ ايها المغرور فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم وانكار عظيم من وقوعه كذلك كذبت بالرسل وكنت استهزأت من الهداة الثقاة واستكبرت عليهم فَكَشَفْنا اليوم عَنْكَ غِطاءَكَ الذي هو سبب غفلتك وإنكارك وعلة تعاميك واستكبارك من الآيات والنذر ألا وهو تفكرك المحسوسات العادية وإنكارك على الأمور الغيبية الخارجة عن حيازة حواسك وقواك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يعنى قد صار بصرك بعد انكشافك بهذا اليوم حادا حديدا نافذا الا انه لا ينفعك الآن حدة بصرك وانكشافك بعد ما انقرضت نشأة الاختبار والاعتبار
وَقالَ له حينئذ قَرِينُهُ من الحفظة المراقب عليه في النشأة الاولى هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ اى هذا الذي سمعت الآن من الخطاب والعتاب هو الذي حفظته لك عندي وكتبته في صحيفة عملك قبل وقوعك فيه في النشأة الاولى وبعد ما جرى بين كل من العصاة وبين قرينهم ما جرى قد امر من قبل الحق للسائق والشهيد امرا وجوبيا حتما
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ واطرحا فيها كُلَّ كَفَّارٍ مبالغ في الكفر والإنكار عَنِيدٍ متبالغ متناه في العناد والاستكبار
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع عن الانفاق المأمور به مُعْتَدٍ متجاوز عن الحق مائل نحو الباطل مُرِيبٍ موقع لعباد الله في الشك والشبهة في دينه القويم وصراطه المستقيم الذي أنزله سبحانه الى رسوله المتصف بالخلق العظيم وهذا المسرف المفرط هو
الَّذِي جَعَلَ اى أخذ واثبت مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد المنزه عن الشرك مطلقا إِلهاً آخَرَ واعتقده موجدا مثله شريكا معه في عموم أفعاله وآثاره وبالجملة فَأَلْقِياهُ ايها الموكلان هذا الطاغي الباغي المتناهي في التعدي والعدوان فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بدل ما تجاوز عن التوحيد الإلهي وأصر على التشريك والتعديد في حقه سبحانه. وبعد ما أراد الموكلان ان يبطشاه ويجراه نحو النار أخذ يصرخ وينسب شركه وضلاله الى الشيطان المضل المغوى وهو حاضر عنده سامع قوله وبعد ما سمع الشيطان منه ما سمع
قالَ له قَرِينُهُ اى الشيطان متضرعا الى الله مناجيا معه رَبَّنا يا من ربانا لاختبار اخلاص عبادك في أعمالهم ما أَطْغَيْتُهُ وما أضللته انا وَلكِنْ كانَ في نفسه فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الهداية والرشد حسب اهويته وأمانيه الفاسدة وآماله الطويلة الكاسدة وبعد ما اختصم الكافر وقرينه عند الله
قالَ الله سبحانه لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ولا تنازعوا عندي إذ لا نفع لكم الآن في الخصومة والنزاع وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ في كتبي وعلى ألسنة رسلي بِالْوَعِيدِ الهائل والعذاب الشديد على اهل الشرك والطغيان والكفر والكفران فالحكم على ما جرى بلا تبديل وتغيير إذ
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ والحكم لَدَيَّ بل ما هو المقدر في علمي كائن على ما ثبت وكان بمقتضى العدالة والقسط الحقيقي وَبالجملة ما أَنَا في حال من الأحوال وشأن من الشئون بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى ليس من شأنى الظلم والتعدي على عبيدي بل هم يظلمون أنفسهم فيستحقون العقوبة على قدر عصيانهم. اذكر يا أكمل الرسل للعصاة والكفرة المشركين المصرين على العناد والإنكار
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ المعدة لجزائهم سؤال تخييل وتصوير حين طرحت عليها أفواج الكفرة والعصاة هَلِ امْتَلَأْتِ يا جهنم وَتَقُولُ
جهنم من شدة تلهبه وتسعره بإنطاق الله إياها هَلْ مِنْ مَزِيدٍ على المطروح حتى يطرح. ثم يطرح ما بقي من أهلها الى ان امتلأت انجازا لما وعد لها الحق بقوله لا ملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
وَاذكر ايضا يا أكمل الرسل للمؤمنين المطيعين يوم أُزْلِفَتِ وقربت الْجَنَّةُ الموعودة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ بل بحيث يرون منازلهم فيها من غاية قربها قبل دخولهم ويتمنون الوصول فيقال لهم حينئذ
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ رجاع نحو الحق في عموم ملماته تواب الى الله من عموم زلاته ومطلق فرطاته في نشأة الاختبار حَفِيظٍ لتوبته على وجه الندم والإخلاص بلا توهم عود ورجوع إليها أصلا وبالجملة
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ واجتنب عن عموم محارمه ومنهياته خائفا من سخطه راجيا من سعة رحمته حال كونه في نشأة الاعتبار والاختبار قبل انكشاف السرائر والأستار وحلول النشأة الاخرى ورضى بالتكالف الإلهية ووطن نفسه لامتثال عموم الأوامر والنواهي وبمطلق الاحكام الجارية على ألسنة الرسل والكتب وَمع ذلك قد جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ الى الله مقبل نحوه طوعا ورغبة مخلص في طاعة الله واطاعة رسوله قيل لهم حينئذ من قبل الحق على وجه التبشير
ادْخُلُوها اى الجنة المعدة لأرباب التقوى بِسَلامٍ حال كونكم سالمين آمنين من العذاب لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ذلِكَ اليوم الذي أنتم فيه الآن يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنة الموعودة لأرباب العناية والشهود. جعلنا الله من زمرتهم بمنه وجوده وبالجملة
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من اللذات الحسية والعقلية المحاطة بمداركهم وآلاتهم بل وَلَدَيْنا مَزِيدٌ على ما يسألون وما يأملون بحسب استعداداتهم مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم قال سبحانه تهديدا على من اعرض عن دينه ونبيه
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ اى قبل قومكم يا أكمل الرسل مِنْ قَرْنٍ اى اهله يعنى أقواما كثيرة وامما شتى قد أهلكنا قبلهم مع انه هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة وقدرة واكثر أموالا واولادا كعاد وثمود وفرعون وغيرهم فَنَقَّبُوا اى انصرفوا وانقلبوا وساروا فِي الْبِلادِ متمنين هَلْ يجدون مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من بطش الله وحلول عذابه عليهم فلم يجدوا بعد ما استحقوا الأخذ والتعذيب والإهلاك وبالآخرة هلكوا واستؤصلوا حتما فكذا هؤلاء المسرفون المعاندون سيهلكون كما هلكوا وبالجملة
إِنَّ فِي ذلِكَ القرآن العظيم الذي نزل عليك يا أكمل الرسل لَذِكْرى اى عظة وتذكيرا وعبرة وتنبيهما لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ يتفطن من تقلبات الأحوال وتطوراتها الى شئون الحق وتجلياته الجمالية والجلالية حسب اقتضاء الذات بالإرادة والاختيار وكمالات الأسماء والصفات الذاتية أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ اى يكون من ارباب الارادة الصادقة الخالصة عن شوائب السمعة ورعونات الرياء بحيث القى سمعه الى استماع كلمة الحق من اهله وَهُوَ حينئذ شَهِيدٌ حاضر القلب فارغ الهم حديد الفطنة صحيح الارادة خالص العزيمة مترقب لان ينكشف له ما انكشف لأرباب القلوب فيكون منهم. ثم لما قالت اليهود ان الله خلق العالم في ستة ايام من الأسبوع وبعد ما عيى من الخلق والإيجاد استلقى على العرش في يوم السبت للاستراحة رد الله عليهم فقال
وَلَقَدْ خَلَقْنَا وأظهرنا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الكوائن الممتزجة منهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ على عدد الأقطار والجهات وَمع ذلك ما مَسَّنا وما عرض علينا وما لحق بنا مِنْ لُغُوبٍ وصب وتعب وعياء وفتور كما زعم هؤلاء المسرفون المفرطون إذ ذاتنا المتعالية متنزهة عن طريان أمثال هذه
النقائص الامكانية
فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ وينسبون الى الله الصمد المقدس عن أمثال هذه المفتريات الباطلة الناشئة من جهلهم المفرط بالله وبمقتضى ألوهيته وربوبيته وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حسب توحيدك وتمجيدك إياه ونزه ذاته عن عموم ما يقول الظالمون الجاهلون الجاحدون بعلو شأنه وسمو برهانه وتوجه نحوه سبحانه في عموم أوقاتك وحالاتك سيما قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعنى كلا طرفي النهار إذ هما أوان الفراغ عن مطلق الاشغال
وَمِنَ آناء اللَّيْلِ اى في خلال تهجداتك فَسَبِّحْهُ وَبالجملة سبحه أَدْبارَ السُّجُودِ اى عقيب كل صلاة ذات ركوع وسجود. ثم قال سبحانه آمرا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم
وَاسْتَمِعْ يا أكمل الرسل لما أخبرك الحق من اهوال يوم القيامة وافزاعها سيما النداء الهائل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ من قبل الحق لقيام الساعة والبعث مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بكل احد بحيث يسمع نداءه بلا كلفة وشبهة فيقول أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة ان الله يأمركن ان تجتمعن للحساب والجزاء وهم
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ اى النفخة الثانية ملتبسة بِالْحَقِّ تحققوا وعلموا يقينا ان ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور ويوم البعث والنشور وبالجملة يقول الله سبحانه مخاطبا لعباده
إِنَّا بمقتضى كمال قدرتنا وحكمتنا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في النشأة الاولى بالإرادة والاختيار وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ اى مصير الكل ومرجعه إلينا في النشأة الأخرى. اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر الحشر والمعاد
يَوْمَ تَشَقَّقُ وتتخرق الْأَرْضُ عَنْهُمْ ويخرجون منها سِراعاً مسرعين ذلِكَ اى إخراجهم وخروجهم كذلك حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ سهل لا تستبعدوا ولا تستعسروا عن قدرتنا الكاملة أمثال هذا إذ
نَحْنُ أَعْلَمُ واحفظ بِما يَقُولُونَ اى بعموم ما يقول المنكرون المشركون في سرائرهم ونجواهم وَما أَنْتَ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ تردعهم وتزجرهم عماهم عليه من الإنكار والإصرار بل ما أنت الا مذكر نذير فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ اى بوعيداته وانذاراته مَنْ يَخافُ وَعِيدِ إذ لا ينفع تذكيرك الا للخائف المتذكر منهم ومن لم يخف ليس لك عليهم سلطان ليزعجهم الى الايمان ويلجئهم الى قبول الإسلام إذ ما عليك الا البلاغ والتذكير والتوفيق من الله العليم الخبير
خاتمة سورة ق
عليك ايها المحمدي المترقب لتوفيق الحق في عموم احوالك وفقك الله على سلوك طريق توحيده ان تفرغ همك عما سوى الحق وتصفى سرك عن مطلق الشواغل المنافية لصرافة الوحدة الذاتية وكن في نفسك وجلا خائفا من غضب ربك راجيا من عفوه وغفرانه في عموم أعمالك التي جئت بها تقربا اليه سبحانه مفوضا أمورك كلها الى مشيته وبالجملة عليك ان تتذكر بوعيدات القرآن ومواعيده المستلزمة لصلاح الدارين وفلاح النشأتين وإياك إياك الاعراض عن الحق واهله والانحراف عن معالم الدين القويم المنزل من عنده سبحانه لتبيين مسالك توحيده. جعلنا الله وإياكم من زمرة الراسخين المتمكنين في معالم الدين القويم بمنه وجوده
[سورة الذاريات]
فاتحة سورة الذاريات
لا يخفى على الموحدين المنكشفين بظهور الحق في مطلق المظاهر بوحدته الذاتية المتصفة بجميع الأوصاف
Icon