ﰡ
نزولها: مكية عدد آياتها: ستون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف ومائتان وسبعة وسبعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ذكرت سورة «ق» موقف المشركين ومقولاتهم المتكررة للبعث، كما ذكرت مع هذه المقولات من آيات الله ومن دلائل قدرته، ما يكشف عن ضلال هذه المقولات، وانحراف هذا الموقف.. ثم ختمت السورة بتخلية النبىّ بين المشركين المعاندين، وبين ما ركبوا من ضلال..
ثم تجىء سورة «الذاريات»، لتلقى هؤلاء المشركين المعاندين، بحديث مجدّد عن البعث، والحساب والجزاء، ولكن لا تلقاهم لقاء مواجها لهم وحدهم، بل ضمن حديث عام مطلق، موجّه إلى الناس جميعا.. فإن شاءوا استمعوا إليه، وكان لهم أن ينتفعوا به، وإن شاءوا مضوا على ما هم عليه من إعراض ونفور! وذلك ما سنراه فى مطلع هذه السورة الكريمة.
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات (١٤- ١) [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ١٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
قوله تعالى:
«وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً».
هذه أربعة أشياء أقسم بها الله سبحانه وتعالى بها، فى نسق واحد.. الذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسّمات..
وقد اختلف فى هذه الأشياء المقسم بها.. أهي شىء واحد تعددت صفاته وآثاره؟ أم هى أشياء متعددة، لكل شىء منها صفته وأثره؟
والرأى الراجح فى هذه الآراء، هو أنها أربعة أشياء.. لكل شىء ذاتيته ووظيفته..
فالذاريات: الرياح، التي تذرو التراب، والدخان، كما تذرو بخار الماء، وتدفعه أمامها، وتعلو به إلى طبقات الجوّ العليا، حتى يتجمع، وبصير سحابا..
والحاملات: هى السحب، المحملة بالماء..
والمقسّمات: هى الملائكة التي تتقاسم العمل بأمر الله، فى تدبير شئون الناس..
وهذا الرأى يعضّده حديث ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يسند حمل هذا الحديث إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وقد سأله ابن الكوّاء عن حقيقة هذه المسميات، فأجابه عمر- رضى الله- على نحو هذه الإجابة، وفى كلّ واحدة منها يقول عمر:
«ولولا أنى سمعت رسول الله يقولها ما قلتها»..
وعلى هذا تكون هذه الآيات قد تضمنت أربعة أقسام، مرتبة بهذا الترتيب المتعاقب..
أما الكلمات: ذروا، ووقرا، ويسرا، وأمرا، فالرأى الذي نراه- والله أعلم- أنها أحوال متلبسة بهذه الأشياء التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وأن الله سبحانه وتعالى أقسم بها فى تلك الحال المتلبسة بها.. فهذه الحال هى التي تجعل لهذه الأشياء شأنا وقدرا، ولو أنها تجردت من هذه الحال، أو لبست حالا أخرى، لما كان لها هذا الشرف العظيم، بأن أقسم الله بها، فإن فى قسم الله سبحانه وتعالى بالشيء تكريما له، ورفعا لقدره، وتنويها لمقامه بين الأشياء..
فالذاريات ذروا: هى الرياح فى حال هبوبها، وقدرتها على حمل بخار الماه والصعود به إلى طبقات الجوّ العليا، ولو أنها كانت أنساما رقيقة مريضة، لما أثارت الأمواج، ولما تحرك من صدر البحار بخار، ولو كان هناك بخار لما استطاعت حمله، والارتفاع به إلى حيث يصير سحابا..
أما هذه الرياح، فهى حاملة ما تذروه، ولهذا سميت ذاريات.
والحاملات وقرا: هى السحب الموقرة، أي الحملة بالماء، المثقلة به، وتوشك أن تلده، كما تلد الحوامل المثقلات حملهن..
والجاريات يسرا: هى السفن، فى حال من اليسر، مواتية لسيرها فى ريح رخاء، لا عاصفة، ولا هامدة..
والمقسّمات أمرا، هى الملائكة فى حال حملها لما تؤمر به.
وننظر فى هذه الأقسام على هذا الوجه، فنجدها هكذا: فالرياح ذارية، والسحب موقرة، والسفن ميسّرّا لها الجري، فالملائكة مأمورة بما تقسّمه فى الناس من أرزاق وأرزاء..
فالرياح، والسحب، والسفن، والملائكة، هى فى أحوال لها فيها وجود عامل مؤثر فى حياة الناس.. وفى قسم الله سبحانه وتعالى بها وهى متلبسة بأحوالها تلك- دعوة إلى الناس أن يلتفتوا إليها، وأن يروا آثار رحمة الله بهم فيها..
فلو شاء الله لسكنت الريح، فلم تتخلق السحب، ولم تجر السفن، ولما كان للملائكة عمل على هذه الأرض، إذ لا حياة فيها مع فقدان الماء، الذي يقول سبحانه وتعالى فيه: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ».. وهذا- والله أعلم- هو السرّ فى هذا الترتيب المتعاقب بين هذه الأشياء.. فكان أولها الرياح، التي تتخلق منها السحب، التي هى المصدر الوحيد للماء العذب الذي تفيض به الأنهار وتتفجر منه العيون، ثم هى التي تجرى بها السّفن محملة بالناس والمتاع.. ثم هى التي جعلت الملائكة عملا فى حياة الناس، بعد أن كان للناس حياة فى الأرض، بالماء الذي انزل من السحب، والذي تخلّق بفعل الرياح..
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ».
هو المقسم عليه بهذه الأقسام الأربعة، وهو ما يسمّى بجواب القسم..
والآيتان إخبار من الله سبحانه وتعالى بأن ما يوعد به الناس من البعث من قبورهم بعد الموت، هو وعد صادق، لا شك فيه، وأن «الدِّينَ» وهو الدينونة والجزاء، واقع لا محالة..
وفى الإخبار عن الموعود به بأنه صادق، دون القول بأنه «صدق» إذ الصدق وصف للخبر، والصادق، وصف المخبر به- فى هذا إشارة إلى أن هذا الوعد ذاتىّ، وأنه هو ذاته الصادق الذي ينطق بالصدق..
وليست أخبار الله سبحانه وتعالى- وهى الحق المطلق- بالتي تحتاج إلى توكيد تحققها بقسم أو غيره، ولكنّ أهل الضلال والعناد، يشكوّن فى نسبة هذه الأخبار إلى الله، كما أنهم لا يرتفعون بقدر الله وجلاله كثيرا عن المستوي البشرى.. ففى تأكيد الخبر لهم بالقسم، دلالة على تكذيبهم لرسول الله، ثم سوء ظنهم بالله..
قوله تعالى:
«وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ».
الحبك: جمع حبيكة، والحبيكة: ما يكون فى طرف الرداء من طرز ونقوش..
والسماء ذات الحبك: أي السماء المطرزة المزينة بالكواكب والنجوم.
وقوله تعالى: «يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» أي يصرف عن وجه الحق فى أمر البعث والجزاء، «مَنْ أُفِكَ» أي من صرف عن الحقّ بطبعه، وما غلب عليه من شقوة، فهو وإن كان قد أعرض عن الإيمان بالله، والتصديق بالبعث والجزاء- فإن ذلك حكم سابق فيه، وقضاء قضى عليه به، لأن الله سبحانه قد علم ما يكون من قبل أن يكون.. وقد علم سبحانه أنه ذو طبيعة لا تقبل الحق، ولا تستجيب لداعيه، فصرفه الله عن الحق، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (١٢٧: التوبة) وقوله تعالى:
«قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ»..
الخراصون: جمع خرّاص، وهو الذي يخرص الأشياء وبقدرها بحدسه وظنّه، دون أن يستند فى ذلك إلى علم محقق، كما يفعل الذي يخرص ما على النخل من تمر، وما يعطى الزرع من حبّ..
فالخراصون، هم الكذابون، الذي يقولون بغير علم..
وقوله تعالى: «قُتِلَ» - هو دعاء عليهم، ورمى لهم باللعنة والطرد من رحمة الله..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» صفة، أو بدل من
والساهون: الغافلون..
فاللعنة واقعة هنا على الذين يلقون بالسوء من القول، ويرجمون الناس بالتهم جزافا، من غير تعقل أو تدبّر، شأنهم فى هذاه شأن من غلب السكر على عقلة، فجعل يهذى من غير وعى. فهؤلاء الخراصون هم فى سكرة من الجهل والغباء، إلى ما فيهم من عناد واستكبار..
قوله تعالى:
«يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ».
أي أن من ضلال هؤلاء الخراصين، ومن مقولاتهم الضالة الكاذبة، هذا السؤال الذي يسألونه عن يوم القيامة، سؤال المنكر له، المستبعد لوقوعه، المكذب به.. فيقولون: متى يوم الدين؟ كما ذكر ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى عن إنكار المنكرين للبعث: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٢٥: الملك).. وقد عبر بالاستفهام عن الزمان بأداة المكان «أبان» للإشارة إلى أنهم ينكرون وقوع هذا الأمر، زمانا ومكانا، فلا يقع فى مكان، أو فى زمان.. وهذه مبالغة منهم فى الإنكار والجحود.. وكأنهم يقولون أين هذا اليوم؟ إنه لا وجود له!..
وقوله تعالى:
«يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ»..
فكان الجواب: سيعرفونه «يوم هم على النار يفتنون» أي يحرقون فيها ويقلّبون على جمرها..
وأصل الفتن، عرض الذهب وغيره على النار، ليظهر ما فيه من خبث..
وقد عدل عن الخطاب إلى الغيبة، إبعادا للمشركين عن مقام الحضور، وطردا لهم من مقام أهلية الاستماع إليهم، والرّد عليهم..
قوله تعالى:
«ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ.. هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ»..
هو مواجهة لهم بالعذاب، ولقاء لهم بما يسوءهم.. أي يقال فى هذا اليوم:
«ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» أي عذابكم الذي أعدّ لكم، وهو العذاب الذي يجزى به الذين فتنهم الشيطان، وأغواهم فكفروا بالله، وضلوا عن سواء السبيل..
فالفتنة هنا تجمع بين معنيين، بين الفتنة، أي الضلال الذي كانوا فيه، وبين الفتنة، التي هى النار التي تذيب المعادن، وتصهرها.. فهم فتنة فى أنفسهم، ثم تلقاهم يوم القيامة فتنة، هى العذاب الذي يصهر به ما فى بطونهم والجلود..
الآيات: (١٥- ٣٢) [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ»..
هو بيان للجزاء الذي يجزى به الفريق الآخر، الذي يقابل فريق الخرّاصين المكذبين.. فقد جاء قوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» مبينا موقف الناس من الإيمان بالبعث والجزاء، وأنهم فريقان مختلفان، مؤمنون وكافرون، مصدقون ومكذبون..
وقد جاء التعقيب على هذا، بما يلقى الكافرون المكذبون، من عذاب ونكال، فأخذوا دون إمهال إلى جهنم..
ثم جاء بعد ذلك المؤمنون، المصدّقون بالبعث والجزاء، ففتّحت لهم أبواب الجنة، وسيق إليهم فيها ما تشتهى أنفسهم من نعيمها..
وقوله تعالى:
«آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ»..
أي يتقبلون من ربهم ما يساق إليهم من ألطاف، وما يقدم إليهم من ألوان النعيم، مما لم يكن يخطر لهم على بال، أو يقع لهم فى أحلام..
وفى مدّ الله سبحانه وتعالى لهم يده الكريمة بهذا الإحسان، وفى تناولهم هذا
وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» هو بيان للأسباب والوسائل، التي توسل بها هؤلاء المكرمون من عباد الله، إلى هذا النعيم العظيم الذي هم فيه، وذلك أنهم كانوا قبل ذلك اليوم، أي يوم القيامة، وهو الدنيا- كانوا محسنين، فلقيهم الله بإحسان مضاعف، كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (٦٠: الرحمن).
قوله تعالى:
«كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ»..
هو بيان مفسّر لإحسان هؤلاء المحسنين.. فقد كان من إحسانهم أنهم يذكرون ربهم، لا يكادون يغفلون عن ذكره، ولا يعطون أنفسهم حظها من النوم.. فإذا نام الغافلون، قطعوا هم ليلهم ترتيلا، وتسبيحا، وصلاة، وذكرا.. والهجوع، هو النوم القليل، وهو ما يسمى بالغرار، كما يقول:
ما أذوق الليل إلا غرارا | مثل حسو الطير ماء السّمال «١» |
.
«وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» الأسحار، جمع سحر، وهو آخر الليل..
استغفارهم فى آخر الليل، الذي قطعوه تسبيحا وذكرا، وترتيلا وصلاة- إشارة إلى أنهم يرون أن ما قاموا به من تسبيح وذكر، وصلاة، وترتيل- لم يستوف ما لله من حق عليهم، فى عبادته وتسبيحه، فهم لهذا يستغفرون ربهم، ليتجاوز عن تقصيرهم فى حقه..
قوله تعالى:
«وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» أي ومن أعمال هؤلاء المؤمنين المصدقين بالله ورسوله، واليوم الآخر- أنهم يشاركون الناس فيما فى أيديهم من مال، ويرون أن فى هذا المال الذي أعطاهم الله، حقّا لكل محتاج، من سائل، يطلب، أو محروم يتعفف عن السؤال..
قوله تعالى:
«وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تنعى على هؤلاء الضالين المكذبين، كفرهم وضلالهم الذي فوّت عليهم هذا النعيم الذي أعده الله للمؤمنين، وأنهم إذا كانوا قد استكبروا على أن ينقادوا لرسول الله، وأن يستجيبوا لما يدعوهم إليه من هدى- أفلا كانت لهم عيون تنظر فى هذا الوجود، وتطالع ما فيه من آيات تشهد بما لله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان، وعلم وحكمة؟
وفى قوله تعالى «لِلْمُوقِنِينَ» - إشارة إلى أنه لا ينتفع بتلك الآيات الكونية، ولا يقع على مواقع الهدى منها، إلا أهل اليقين، الذين يطلبون العلم والمعرفة، بالبحث الجادّ، والنظر المتفحص، فإذا وقع لهم من ذلك علم، كان علمهم عن برهان وحجة، فيقع منهم ذلك العلم موقع التثبت واليقين.. فهم- والحال كذلك- لا يتّبعون الأهواء، ولا يتابعون أهل الضلال..
قوله تعالى:
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» أي إذا كنتم أيها المكذبون الضالون، قد كلّت أبصاركم عن أن تنظر فى صفحة هذا الوجود، وأن تمتد إلى أبعد من مواطىء أقدامكم، فإن ذلك لا يحول بينكم وبين الوصول إلى الدليل على قدرة الله وسلطانه القائم على الوجود، وإنه ليكفى أن تنظروا فى ذات أنفسكم، فإن فى أنفسكم عالما رحيبا، وكونا فسيحا.. وإنه ليكفى أن يقيم أحدكم بصره على مسيرته فى الحياة، من وجوده نطفة إلى أن صار رجلا.. إنكم ستجدون فى هذا سجلّا حافلا بالآيات الدالة على قدرة الخالق، وعلى حكمته، وعلى بديع صنعه، وحكمة تدبيره..
والاستفهام هنا توبيخ وتعنيف، لهؤلاء الذي عموا عن مشاهد القدرة الإلهية، وآثارها الناطقة فى كل ما خلق الخالق جلّ وعلا..
«وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» أي، وانظروا فى السماء، فهى أوضح صورة، وأجلى بيانا مما فى الأرض أو فى أنفسكم.. إن فيها أسباب رزقكم، وملاك حياتكم، بما ينزل منها ماء، وما يجرى فيها من شمس، وقمر، وكواكب، ونجوم.. بل إن فيها عرش الله، وفيها ملائكته، وفيها مقدّرات الأمور.. فكل ما يجرى على الناس وغيرهم من شئون، هو منزّل من علوّ. كما يقول سبحانه، «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» (١٣: غافر) وكما يقول جل شأنه: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (٢: النحل).. والتنزيل لا يكون إلا من جهة عالية.. فالسماء هنا، إشارة إلى جلال الله، وعظمته، وعلوّ مقامه، وقيومته على هذا الوجود..
قوله تعالى:
«فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» بعد أن أقسم الله سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته، توّج هذه الأقسام جميعها بالقسم بذاته العلية جلّ شأنه، واصفا ذاته الكريمة، بأنه رب السموات والأرض ومدبّر أمرهما.. والمقسم عليه هنا، كلّ ما وقعت عليه الأقسام السابقة، من صدق ما يوعد الناس به من بعث ودينونة، وحساب وجزاء، وما جاء من أخبار عن نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، ثم ما أخبر به جل شأنه، من أنه المالك للأرزاق، والمقدّر لها، كما أنه مالك يوم الدين، وما يلقى الناس فى هذا اليوم..
وقوله تعالى «مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا لصفة محذوفة أيضا لخبر إن، والمقام دالّ على هذين المحذوفين والتقدير:
فو رب السماء والأرض إن ذلك كله لحق واقع وقوعا مماثلا لوجودكم الذي أنتم عليه، والذي لا يمكن أن تنكروه.. وهل ينكر الإنسان وجوده، وهو حى ناطق؟
واختيار النطق صفة دالة على وجود الإنسان، لأن المنطق هو الصفة المميزة للإنسان عن عالم الحيوان، ولأن النطق كذلك يدلّ على أن وراءه إنسانا ذا حس وإدراك، وأنه إذا غابت عنه المحسات والمدركات، فلن يغيب عنه الإحساس بوجوده، وإدراك أنه موجود..
أخرج ابن جرير، وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال: بلغني أن رسول الله ﷺ قال: «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدّقوا» وروى عن الأصمعى أنه قال: أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابى على قعود، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بنى أصمع، قال: من أين أقبلت، قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علىّ، فتلوت «والذاريات» فلما بلغت «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» قال: حسبك.. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسر هما، وولىّ..
يقول الأصمعى: فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفتّ، فإذا بالأعرابى قد نحل واصفرّ، فسلّم علىّ، واستقرأنى السورة، فلما بلغت الآية: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ»
فقرأت: «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدّقوه يقوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه!!»
الآيات (٣٠- ٢٤) [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لعناد المشركين وضلالهم البعيد، المغرق فى السفه والضلال، حتى مع هذه الأقسام التي أقسم الله بها سبحانه وتعالى، فى سوق الأخبار إليهم.. فكانت الآية وما بعدها من آيات، نذيرا من النذر التي تحمل إلى هؤلاء المشركين المعاندين تهديدا بأن يلقوا مصيرا كمصير المعاندين الضالين، وهم قوم لوط..
وفى مجىء هذا الحديث منقطعا عما قبله، غير معطوف عليه- عزل تام له عن الحديث السابق، حتى لا يدخل عليه شىء منه، وحتى لا يطلّ عليه وجه من تلك الوجوه المنكرة، التي كان يراها النبي الكريم من قومه..
والضيف، بمعنى الضيوف، فهو يطلق على الفرد والجمع.. ومثل هذا قوله تعالى على لسان لوط مخاطبا قومه: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ» (٦٨: الحجر) فهو يشير إليه إشارة الجمع «هؤلاء» كما وصفوا هنا بصفة الجمع «المكرمين» قوله تعالى:
«إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً.. قالَ سَلامٌ.. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ».
«إذ» ظرف مقيّد لهذا الحديث، أو الخبر، الذي كان من الملائكة مع إبراهيم.. فالمراد بالخبر الذي يورده الله سبحانه وتعالى على النبي فيما كان بين الملائكة وبين إبراهيم- هو هذا الخبر الذي كان فى هذا الوقت الذي دخلوا عليه فيه..
وقوله تعالى: «قالَ سَلامٌ» - هو رد إبراهيم على ضيفه، وهو رد مقتضب موجز، فى مقابل تحيتهم الموجزة الخاطفة.. وهو بدل على ما وقع فى نفس إبراهيم من توجس وريبة منهم..
وقوله تعالى: «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ».. هى كلمة قالها إبراهيم بينه وبين نفسه، ترجمة لتوجّسه وخوفه منهم.. فإنه ما كان لنبى الله، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالحلم، أن يجبه ضيفه بهذا القول، ويرمى به فى وجوههم، ثم يلقاهم بهذا الإكرام والحفاوة، بما يقدم لهم من طعام طيب كريم..
قوله تعالى:
«فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ»..
راغ لأهله: أي مال إلى أهله، وانسرب إليهم فى خفة من غير أن يكاشف ضيفه بما يريد من إكرامهم وإعداد الطعام لهم.. فذلك من شأنه أن يحرج الضيف، ويحمله على أن يطلب إلى مضيفه ألّا يفعل..
قوله تعالى:
«فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» ؟ - هنا إيجاز حذف دلّ عليه المقام..
قوله تعالى:
«فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ»..
وهنا كلام محذوف أيضا.. «قال ألا تأكلون».. فلم يأكلوا، ولم يستجيبوا لهذه الدعوة المجددة إليهم «فأوجس منهم خيفة» أي فازداد إحساسه بالخوف منهم، وقوى عنده الشعور الذي وقع فى نفسه من أول دخولهم عليه، ولقائهم له..
«قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم» - أي أنهم حين رأوا ما انطبع على وجه إبراهيم من أمارات التوجس والخوف، سكنوا من روعه، وقالوا له: لا تخف، ثم ألقوا إليه بهذه البشرى المسعدة، وهى أن يولد له الولد الذي كان ينتظره منذ شبابه الأول، وها هو ذا وقد بلغ من الكبر عتيّا، وأخلى يديه من هذا الأمل الذي كان يراوده، وخاصة أن امرأته كانت عقيما، ثم اجتمع مع هذا العقم تجاوزها العمر الذي تلد فيه النساء- ها هو ذا يتلقّى هذه البشرى المسعدة.
والغلام الذي بشر به هو إسحق، من زوجه سارة.. «والعليم»، مبالغة من العلم، والعلم كان صفة بارزة من صفات إسحق، كما كان الحلم الصفة البارزة فى إسماعيل، كما يقول سبحانه: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (١٠١: الصافات).
«فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ».
الصّرّة: الصيحة، من دهش، أو فزع..
وصكّ الوجه: لطمه تلقائيّا، عند ورود أمر عجيب، غير متوقع..
والمعنى، أن امرأة إبراهيم، حين سمعت بهذا الخبر من ضيقه، وبأنهم يحملون إليه البشرى بولد- أخذتها حال من الدّهش والعجب، فأقبلت إليهم، فى ولولة وصياح وانزعاج، وقد ضربت بيديها على وجهها، ثم قالت:
«عجوز عقيم» !! فكيف يكون هذا؟ وكيف تلد العجوز؟ ثم كيف تلد من اجتمع مع شيخوختها العقم؟ إنه هذا لشىء عجيب!!.
قوله تعالى:
«قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ»..
أي أن هذا الذي نقوله ليس من عندنا، وإنما هو ما قاله الحق جلّ وعلا..
وهو «الحكيم» الذي يدبر الأمور بحكمته، فيقع الأمر حيث أراد، ومتى أراد.. كما أراد.
وهو «العليم»، الذي يضبط الأمور بعلمه، وبزنها ويقدّرها بحكمته..
وهذا الموقف الذي كان بين إبراهيم، وضيفه، وامرأته، لم تذكر الآيات الكريمة هنا منه، إلّا الأحداث البارزة فيه، وقد ذكر هذا
والشيء هو الشيء، فى أية صورة من تلك الصور..
الموضوع الصفحة قل لا أسألكم عليه أجرا.. ما تأويله؟ ٤٤ الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا ٦٧ مفهوم جديد للحروف فى أوائل السور ٨٩ بيعة العقبة.. وليلة الجن. ٢٩٠
الحرب والسلام.. فى الإسلام. ٣١١
النبىّ.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟ ٣٤١ الجهاد.. والحرب النفسية. ٣٧٨
ثم الجزءان: الخامس والعشرون والسادس والعشرون، ويليهما الجزءان: السابع والعشرون والثامن والعشرون.. إن شاء الله، والله الموفق والمعين؟
[الجزء الرابع عشر]
تتمة سورة الذاريات(الآيات: (٣١- ٣٧) [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣١ الى ٣٧]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
التفسير:
قوله تعالى:
«قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ»...
الخطب: الشأن العظيم، والأمر الخطير ذو البال..
ولقد ذهب عن إبراهيم الرّوع من ضيفه هؤلاء، بعد أن عرف أنهم من ملائكة الرحمن، وسكنت امرأته بعد هذا الهياج الذي استولى عليها من أن يكون لإبراهيم ولد منها بعد هذه الشيخوخة والعقم!..
وهنا يتجه إبراهيم إلى ضيفه من الملائكة يسألهم عما جاء بهم إليه..
إنهم لم يجيئوا على تلك الصورة الغريبة، التي أوقعت الرّعب فى قلبه ليبشروه بغلام.. فإن الذي يحمل البشرى إنما يقدّم بين يديه دلائل هذه البشرى وأماراتها، بل إن ريح البشرى نفسها لتسبق الحامل لها،
وفى نداء إبراهيم لهم باسم المرسلين، لا باسم الملائكة، إشارة إلى أنهم ليسوا مجرد ملائكة عابرين به، بل إنهم محمّلون برسالة من رب العالمين..
فهو يسألهم عن محتوى ما أرسلوا به إليه..
قوله تعالى:
«قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ»..
أي أننا لم نرسل إليك بما توقّعته من شرّ، وإنما أرسلنا إلى قوم مجرمين..
والقوم المجرمون، هم قوم لوط، كما يفهم ذلك من مواضع أخرى فى القرآن الكريم.
«لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ»..
هو بيان السبب الذي من أجله أرسل هؤلاء الرسل إلى القوم المجرمين، قوم لوط.. إنهم أرسلوا إليهم ليرسلوا عليهم حجارة من طين، وكأنّ هذه الحجارة هى الرسل التي تنزل عليهم من السماء بالدمار والهلاك، فى حين أن هناك رسلا أخرى تنزل على المكرمين من عباد الله بالرحمة والإحسان..
وفى وصف الحجارة بأنها من طين- إشارة إلى أن هذا الطين اللّين الرخو، يفعل بقدرة الله فعل الحجارة الصلدة، فيهلك، ويدمّر، وكأنه الصواعق المنقضّة من السماء..
«فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»..
لم تذكر الآيات هنا ما كان من إبراهيم من مراجعة الملائكة فى هذا الأمر الذي جاءوا به، ومن تخوفه على لوط أن يناله سوء مما يحل بهؤلاء القوم الذين سترسل السماء عليهم هذه الحجارة المهلكة، ولوط بينهم- لم تذكر الآيات هذا، لأنه قد ذكر فى مواضع أخرى، كما فى قوله تعالى على لسان إبراهيم: «قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً» وقد أجابه الملائكة بقولهم: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها.. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» (٣٣: العنكبوت).
وهذا القول هو من الله سبحانه وتعالى، وهو إخبار بما انتهى إليه أمر هؤلاء القوم المسرفين، وما كان من نجاة لوط ومن آمن معه..
والضمير «فيها» للقرية، قرية لوط وقومه.. ولم تذكر هنا، لأنها معروفة بما ذكر عنها فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، ثم لأنها معروفة ضمنا فى هذا الحديث، إذ من المعروف أن القوم يسكنون فى قرية أو قرى!..
«فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»..
أي لم يكن فى هذه القرية إلا بيت واحد استحق السلامة والنجاة من هذا البلاء الذي أتى على القرية وأهلها.. وهو بيت لوط ومن آمن من أهله.
«وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ»..
أي أن هذه القرية قد ذهبت بمن فيها، وبقي من هذه القرية آثار واضحة
وفى هذا وذاك آية، الذين يؤمنون بالله، ويخافون العذاب الأليم يوم القيامة، فيرون فى تلك الآية سلطان الله وقدرته، وأخذه الأليم الشديد لمن يخرجون عن صراطه المستقيم..
الآيات: (٣٨- ٤٦) [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».
والسلطان المبين الذي أرسل به موسى إلى فرعون، هو ما كان معه من آيات معجزة متحدية، كالعصا، واليد..
وقوله تعالى: «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» أي أعرض عن النظر فى هذه الآيات، معتزا بركنه، أي قوته وسلطانه.. والركن: ما يركن إليه الإنسان فى الملمات، ويحمى ظهره به، كما يقول تعالى على لسان لوط، مخاطبا قومه: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» (٨٠: هود).. والجارّ والمجرور حال من الفاعل المستتر وهو «فرعون»..
وقوله تعالى: «وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» - حال أخرى من فرعون ساعة توليه وإعراضه عن دعوة الحق، التي يدعوه إليها موسى، أي تولى معتزّا بركنه وقوته، قائلا هذا القول الآثم فى موسى: «ساحر أو مجنون».. وساحر خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي موسى.. ولم يذكر موسى ظاهرا أو مضمرا، حماية له من أن يقال هذا القول المنكر فيه..
وقوله: «ساحر أو مجنون» - إشارة إلى أن هذا القول لم يكن من فرعون عن علم، وإنما هو رمية من رميات طائشة، يرمى بها من غير حساب أو تقدير..
فهو متردد فى الحكم الذي يحكم به على موسى.. ولكن لا بد من أن يصدر حكما، وبقول قولا..
وهذا شأن أهل الضلال، حين يقهرهم الحق، وتسقط من بين أيديهم الحجة على دفعه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى هذه السورة عن المشركين الذين قالوا مثل هذا القول فى رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه: «كَذلِكَ
(الآيتان: ٥٢- ٥٣)..
َأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ»
..
المراد بالأخذ هنا، الأخذ الذي يرد بصاحبه موارد الهلاك، وأخذ الله سبحانه لا يكون إلا حيث تقع نقمه، وينزل بلاؤه.. مثل قوله تعالى لفرعون: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (٢٥: النازعات)..
وقوله تعالى: َنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ»
أي ألقيناهم فى اليم، أي البحر، ونبذ الشيء، طرحه وإلقاؤه دون مبالاة..
وقوله تعالى: َ هُوَ مُلِيمٌ»
جملة حالية، تصف الحال التي كان عليها فرعون، حين نبذ هو وجنوده فى اليم..
والمليم. المستحق للّوم، وفعله: ألام: أي أوقع نفسه فيما يلام عليه..
وفى عود الضمير على فرعون وحده فى قوله تعالى: َ هُوَ مُلِيمٌ»
- إشارة إلى أنه هو وحده الذي يحمل وزره ووزر قومه، إذ كان هو داعيتهم إلى هذا الضلال.. أما قومه فإن كلا منهم يحمل وزر نفسه، لمتابعته الداعية الذي دعاه إلى هذا الضلال..
«وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ»..
معطوف على قوله تعالى: «وَفِي مُوسى» - فهو عطف حدث على حدث..
والريح العقيم، هى الريح التي فسدت طبيعتها، فلا تلد خيرا أبدا، بل تلد الهلاك والدمار لمن تشتمل عليه، وتلفّه فى كيانها، والأصل فى الريح أنها
وقوله تعالى: «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» - هو بيان لما تترك هذه الريح العقيم من آثار ومخلّفات وراءها.. إنها لا تترك شيئا تمرّ عليه إلّا دمّرته، وحطمته، وأتت على كل صالحة فيه، فيتحول إلى كيان بال متفتت.
والرميم: العظام البالية، والرّمة: الحبل البالي، والرّمّ: إصلاح الشيء البالي..
قوله تعالى:
«وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ»..
هو معطوف كذلك على قوله تعالى: «وَفِي عادٍ» - عطف حدث على حدث، وقصّة على قصة..
أي وفى ثمود آية.. بما أخذهم الله به من نكال وعذاب..
فلقد كان القوم فى نعمة ظاهرة، وقوة متمكنة، إذ بوّأهم الله الأرض، وملّكهم القدرة على إثارتها وعمرانها، فاتخذوا القصور فى سهولها، ونحتوا البيوت فى جبالها، كما يقول سبحانه على لسان نبيهم «صالح» إذ يقول لهم: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً» (٧٤: الأعراف)..
وفى قوله تعالى: «إذ قيل لهم تمتعوا» - إشارة إلى هذه النّعم التي كان القوم فيها، وأنها تتيح لهم التمتع بحياة طيبة فيها، لو أنهم رعوها حق
ولم يقل لهم أحد تمتعوا، ولكنه لسان الحال إذ ما سيقت إليهم هذه النعم إلا ليعيشوا فيها، وليتمتعوا بها إلى أن تحين آجالهم..
وقوله تعالى: «حَتَّى حِينٍ» بيان للغاية التي يكون تمتع القوم فيها بهذه النعم، وأنها لا تنقطع عنهم حتى يحين أجلهم المقدور لهم عند الله..
وقوله تعالى: «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ» العتوّ: التمرد والاستعلاء..
وقوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - هو تعقيب على عتوّهم، وخروجهم عن أمر الله.. وأن هذا العذاب الذي أخذوا به، إنما هو لعتوّهم، وتمردهم على الله، وكفرهم به..
وقوله تعالى: «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» - أي حين نزل بهم العذاب، بهظهم، وكظم أنفاسهم. ، ولم يجدوا معه قدرة على أن يقوموا لدفعه، والهروب من وجهه..
وقوله تعالى: «وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» - أي وما كانوا منتصرين على هذا العذاب لو أنهم قاموا له، وتلقّوه بكل ما معهم من حول وحيلة..
قوله تعالى:
«وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ»..
هو معطوف على المفعول به فى قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ»..
أي وكذلك أخذ العذاب قوم نوح من قبل هؤلاء الذين أخذهم الله سبحانه بعذابه.. «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» أي خارجين عن أمر ربهم، متجاوزين حدوده..
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ».
الأيد: القوة، والتمكن..
والآية معطوفة على الآية السابقة: «وَقَوْمَ نُوحٍ..» أي وقوم نوح أخذناهم بالعذاب، والسّماء بنيناها بأيد..
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» - إشارة إلى امتداد السماء واتساعها، كما يبدو ذلك لأى ناظر ينظر إليها، حيث لا يبلغ الإنسان لها حدّا، فحيث كان من عالم الأرض، فإن السماء تظلّه على امتداد الآفاق، حوله..
فإذا نظر بعين العلم، أراه العلم أن هذا الوجود فى نماء مستمرّ، وأنه أشبه بالكائن الحىّ فى دور نموّه واكتماله.. وفى حين أن الكائن الحىّ يبلغ حدّا يقف عنده، إلا أن الوجود فى نمو دائم لا يتوقف، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» (١: فاطر)..
قوله تعالى:
«وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ»..
معطوف على قوله تعالى: «وَالسَّماءَ بَنَيْناها»..
وقوله تعالى: «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» - هو ثناء من الله سبحانه وتعالى من ذاته على ذاته، كما فى قوله تعالى: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (١٤: المؤمنون) وقوله سبحانه: «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (١: الملك) وقوله جل شأنه: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (١: الفرقان)..
والمخصوص بالمدح، دلّ عليه المقام، أي فنعم الماهدون نحن، أي الله سبحانه وتعالى..
قوله تعالى:
«وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»..
هو معطوف على ما قبله، أي وفرشنا الأرض، وخلقنا من كل شىء زوجين..
و «من» هنا للاستغراق.. أي وكلّ شىء خلقناه متزاوجا.. أي أن الشيء الواحد ليس فى حقيقته شيئا واحدا، وإنما هو شيئان اجتمع بعضهما إلى بعض، فكان منهما هذا الشيء.. وهذا دليل على أن الخالق وحده، هو الواحد الذي لا شريك له..
فالخليّة التي هى أصل بناء الكائن الحىّ، تنقسم على نفسها، فى عملية أشبه بعملية التوالد، وبهذا الانقسام ينمو الكائن الحىّ.. فالحلية تنقسم إلى خليتين، وكل خلية منهما تنقسم إلى خليتين.. وهكذا، إلى ما لا يحصى من الخلايا التي يضمها كيان الكائن الحىّ من مولده إلى تمام نموه.. فإذا تم نمو الكائن الحىّ لم تتوقف عملية التوالد، وإنما يقابلها من جهة أخرى عملية الهدم، فى نسب تأخذ فى ازدياد ما يهدم على ما يبنى، كلما تقدم الكائن الحىّ نحو طريق الفناء.. فإذا توقفت عملية البناء، مات الكائن الحىّ..
هذا فى الخلية.. وكذلك الشأن فى النواة، إنها تتكون من فلقين يضمان
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» (٩٥: الأنعام)..
والإنسان خلية كبيرة مكونة من أعداد لا تعدّ بحسابنا- من الخلايا، وكما يتم نموه الشخصىّ بالتوالد الذاتي بين خلاياه، يتم نموه الجنسي بالتزاوج بين الذكر والأنثى، وذلك بين خلية من الذكر وخلية من الأنثى عند التقاء الرجل بالمرأة.. وهكذا الحيوان، والنبات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» فإذا تجاوزنا عالم الأشياء التي تتوالد بالزواج، وجدنا هذه المزاوجة قائمة فى عالم المعاني، مثل الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء.
وهكذا المزاوجة فى كل شىء، حيث لا يوجد شىء إلا وله ما يقابله.. وذلك مما يشهد لله سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرد، فهو الواحد الأحد، الفرد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد..
قوله تعالى:
«فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ»..
الفرار إلى الله: الالتجاء إليه، والاحتماء به، والاستظلال بظله..
وفى الدعوة بالفرار إلى الله، إشارة إلى أن هناك خطرا يتهدد الإنسان، إذا هو خرج عن أمر ربه، وحاد عن الصراط المستقيم.. إنه حينئذ يقع تحت
وقوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» هو بيان من الرسول- صلوات الله وسلامه عليه، يدعو الناس إلى الله، وأن يعجلوا بالفرار إليه، وتلك الدعوة ليست من عنده، وإنما هو رسول الله بها إليهم.. إنه نذير مبين من الله إليهم، يبيّن لهم بما معه من كلمات ربه، طريق الهدى، وينذرهم من عذاب الله إذا هم خرجوا عن هذا الطريق، وركبوا طريق الضلال..
قوله تعالى:
«وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ»..
ومن مقتضى الفرار إلى الله، الإيمان به، والإقرار بوحدانيته، واطراح كل معبود سواه..
وجاء النهى هنا عن الشرك بالله، وعن اتخاذ إله آخر معه، تأكيدا لما تضمنه الأمر بالإيمان بالله الذي هو حبل النجاة، فإذا أمسك به الإنسان كان فى الناجين، على أي وجه كان عمله بعد ذلك..
وفى قوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - تأكيد لهذه الدعوة التي يدعو الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- الناس إليها، وهى الإيمان بالله وحده..
وفى إعادة فاصلة الآية: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - إعجاز من إعجاز القرآن، حيث يجعل من الآيتين- الآمرة والناهية آية واحدة، الأمر الذي يدعو إلى الجمع بينهما، والأخذ بهما جميعا، وأن الأخذ بواحدة منهما لا يغنى عن الأخذ بالأخرى.. وكأن نظم الآيتين هكذا..
«فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ»
ففى النظم القرآنى، يقوم على الأمر نذير مبين، وعلى رأس النهى يقوم هذا النذير المبين أيضا.. إن هذه دعوته، وتلك دعوته وهو بهذا يأمر، وبذلك ينهى..
فإذا أخذ المأمور بما أمر به، وانتهى المنهىّ بما نهى عنه- كانت نجاته، وكانت سلامته، وكان فوزه.. أما إذا أخذ بواحدة دون الأخرى، فهيهات أن يسلم ويبلغ مأمنه..
فقد يفر المرء إلى الله، ومعه إله أو آلهة أخرى يحملها فى كيانه، ويحتفظ لها بمكانها من قلبه..
وقد لا يجعل الإنسان مع الله إلها آخر، ولكن قد يكون ذلك كمجرد فكرة حبيسة فى عقله، أو نظرية فلسفية تقيم بناء منطقه الفلسفي.. ثم لا يكون لهذه الفكرة أو تلك النظرية منطلق نزوعىّ أو سلوكى، يرد به موارد الهدى، ويسلك به مسالك الخير..
والفرار إلى الله يجعل من الإيمان به حركة دائبة إلى العمل الطيب القائم فى ظلّ هذا الإيمان..
واستصحاب الإيمان بالله، إيمانا خالصا من الشرك فى حال الفرار إليه، يجعل هذا الفرار محمود العاقبة، بالغا بصاحبه مأمنه..
قوله تعالى:
«كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ»..
هو بيان لحال هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر، إنهم
ساحر أو مجنون..
وإن حالهم تلك شبيهة بحال أهل الضلال والشرك من قبلهم، الذين لم يأتهم رسول من رسل الله يدعوهم إلى الإيمان بالله، إلّا تلقوه بهذه المقولة الآثمة: «ساحر أو مجنون».. وقد قالها من قبل فرعون، إذ جاءه موسى بآيات من الله وسلطان مبين: «فتولى بركنه وقال: ساحر أو مجنون»..
وفى هذا عزاء للنبى، ووعيد المشركين بأن يلقوا المصير الذي لقيه المكذبون برسل الله من قبلهم.
قوله تعالى:
«أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ»..
هو استفهام إنكارى يكشف عن هذه الطبيعة المنكرة المندسّة فى أهل الضلال.. ولكأنّ هذا الضلال داء خبيث معد، يرثه الأبناء عن الآباء، جيلا بعد جيل.. أو لكأنه عند أهله عمل مبرور، يتواصون به فيما بينهم، ويتركونه ميراثا لأبنائهم من بعدهم..
وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» - إضراب على هذا الاستفهام، فإنه لم تكن هناك دعوة قائمة بالتواصى بين هؤلاء الضالين، السابقين منهم واللاحقين، ولكنها النفوس النكدة، والطباع اللئيمة، تفرز من ذاتها هذا الضلال الذي يغرقها، ويغرق من يأخذ طريقه معها..
«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ»..
هو أمر للنبىّ الكريم بأن يعرض عن هؤلاء الأشقياء، وبدعهم للمصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، مع ضلالهم وكفرهم.. وإنه ليس على النبي لوم فيما سيلقاهم من بلاء ونكال، بعد أن بلّغهم رسالة ربهم هذا البلاغ المبين الذي احتمل فى سبيله ما احتمل من سفه السفهاء، وجهل الجاهلين..
قوله تعالى:
«وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ».
هو معطوف على قوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» أي فتولّ عن هؤلاء المعاندين الضالين، ولا ترهق نفسك بالجري وراءهم، ولكن ذلك لا يمنعك من أن تقوم على دعوتك، وأن تؤذّن بها فى الناس.. فذلك هو شأنك، ودأبك، وهو أسلوب رسالتك التي تدعو إليها.. «إِنَّها تَذْكِرَةٌ.. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» (٥٥: المدثر).. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (٢١، ٢٢ الغاشية).. «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» (٢٧، ٢٨ التكوير) فعرض الدعوة على الناس، وكشف معالم الهدى لهم، بما يتلى عليهم من آيات الله.. وإن لم يلتفت إليه كثير منهم، ولم يأخذوا طريقهم إليه أمر مطلوب من النبي، فإن كثيرا من الناس ينتفعون به، ويقيمون وجوههم عليه، كما أن المؤمنين الذين آمنوا بالله، واستجابوا لدعوة الحق، يزيدهم هذا التذكير إيمانا، ويقع من قلوبهم موقع النفع، فيقوّى يقينهم، ويثبت أقدامهم على طريق الحق..
«وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».
هو دعوة للناس إلى أن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه، وأن يقوموا على الأمر الذي خلقهم الله سبحانه وتعالى له، وهو عبادته.. فما خلق الإنسان إلا ليكون عبد الله، عابدا له، مظهرا بعبوديته وعبادته جلال المعبود، وعظمته، وسلطانه..
وليس الجنّ والإنس وحدهما، هما اللذان خلقا لعبادة الله، بل إن كل مخلوق، وكل موجود، خلق لهذه الغاية، حيث تتجلّى فى المخلوقات جميعها ألوهة الإله، وقدرته، وعظمته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (٩٣: مريم) ويقول جل شأنه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (١٥: الرعد).. ويقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (٤٤: الإسراء)..
فالكافر الذي لا يؤمن بالله، ولا يسبح بحمده، هو مؤمن بالله كرها ومسبّح بحمده قسرا.. فكل ذرة فيه، وكل جارحة من جوارحه، تسبح بحمد الله، وتؤدى وظيفتها على الوجه الذي أقامها الله سبحانه وتعالى فيه.. فالخلايا التي يبنى منها الكيان الجسدى للإنسان تسبّح بحمد ربها فى عملها الذي تؤديه بناء أو هدما فى الكيان الإنسانى، والقلب بخفقاته، والدم بجريانه فى العروق، والعروق بحملها للدم، وتغذيتها الجسم به، والعين فى نقلها المرئيات، والأذن بتلقيها للمسموعات.. وهكذا كل ما فى الإنسان- ظاهرا أو باطنا- يسبح بحمد الله.. وكذلك الشأن فى كل موجودات
وفى اختصاص الجن والإنس من بين المخلوقات، بالذكر، إشارة إلى أنهما هما المخلوقان اللذان لهما إرادة عاملة، وهما بهذه الإرادة يعملان، فيؤمنان أو يكفران، ويطيعان أو يعصيان، ومن هنا وقع عليها التكليف، وحقّ عليهما الحساب والجزاء، بمقتضى ما يعملان من خير أو شر..
وقد تكون هناك مخلوقات أخرى لها إرادة، وعليها تكليف وحساب وجزاء، ولكن الذي يقع فى محيط الإدراك الإنسانى، هو ما يعلمه الإنسان من نفسه، وما بلغه من رسالات الرسل، كما كان علمه بالجنّ، وأنهم مكلفون، ومنهم المؤمنون، ومنهم القاسطون.. كما أخبر بذلك رسل الله..
قوله تعالى:
«ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ»..
أي أن الله سبحانه وتعالى غنىّ عن عبادة عباده، وعن إيمان المؤمنين به.. فما يريده سبحانه وتعالى من عبادة العابدين ومن إيمان المؤمنين، هو لذات أنفسهم! وللخير الذي يحصّلونه من العبادة والإيمان، وللجزاء الحسن الذي ينالونه بطاعتهم لله، وولائهم له.. فليست هذه العبادة، وهذا الولاء مما ينتفع الله سبحانه وتعالى بشىء منه. إن الله غنى عن العالمين:
«إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (٧: الزمر).
«إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ»..
فالله هو الرزاق الذي يفيض رزقه على عباده، ويمنحهم من فضله ما يمسك عليهم وجودهم، ويقيم حياتهم، وهو سبحانه، ذو القوة القادرة المقتدرة، بيده مقاليد السموات والأرض.. وإذ كان هذا شأنه سبحانه، فإن أعمال خلقه من خير أو شرّ لا تجلب له خيرا أو ضرّا.. إنه سبحانه فوق المؤثرات، خيرها وشرّها، لأن التأثر عارض يعرض للمخلوقات التي تقبل بطبيعتها الزيادة والنقص.. والله سبحانه، الكامل الكمال المطلق، الذي لا يقبل زيادة أو نقصا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
قوله تعالى:
«فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ»..
هو وعيد للذين لم يستجيبوا لله، ولم يؤمنوا به، فأوقعوا بأنفسهم ظلما فادحا، يتجرعون منه كؤوس البلاء والعذاب..
والذّنوب: الدلو، أو السّجل، يملا ماء، والمراد به هنا ذنوب مملوء عذابا لهؤلاء الظالمين، مثل ما يملأ لأصحابهم الذين سبقوهم من أهل الضلال، وذلك على عادة العرب فى الاستقاء من الآبار، حيث يتساجلون، فيملأ هذا دلوا، والآخر دلوا..
وقوله تعالى: «فَلا يَسْتَعْجِلُونِ» تهديد ووعيد لهم، بأن هذا الذي يستعجلونه من العذاب، استخفافا به وتكذيبا له، هو واقع بهم، ويؤمئذ لا يجدون وليّا ولا نصيرا..
«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ»..
أي هلاك وبلاء واقع بهؤلاء الظالمين الذين كفروا، وذلك فى اليوم الموعود، الذي أنذروا به، وإنهم لملاقوه، وملاقو العذاب الأليم فيه..
وقوله تعالى: «مِنْ يَوْمِهِمُ» متعلق بقوله تعالى: «فَوَيْلٌ» - أي أن هذا الويل، سيرد عليهم من يومهم الموعود هذا، فهو يوم كله ويل، لا يجيئهم منهم إلا ما يسوؤهم ويلبسهم ثيابا من نار جهنم..
نزولها: مكية..
عدد آياتها: تسع وأربعون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة..
عدد حروفها: ألف وخمسمائة حرف..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الذاريات التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى: «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ».. وفى هذا تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، بالعذاب الذي أنذروا به، والذي ينتظرهم يوم القيامة..
وقد بدئت سورة «الطور» هذه، بهذه الأقسام، التي أقسم سبحانه وتعالى بها، وأوقعها على وقوع العذاب بأهل الكفر والضلال يوم القيامة، وأنه واقع لا شك فيه.. «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ»..
فالسورتان تتلاقيان ختاما وبدءا، حتى لكأنهما سورة واحدة..
وإن الذي ينظمهما فى التلاوة، دون أن يفصل بينهما بالبسملة، ليجد هذا الترابط الوثيق بينهما، فلا يشعر بأن سورة قد انتهت وأخرى قد بدأت..
وهذا- فى رأينا- دلالة قاطعة على أن ترتيب السور فى المصحف الكريم، هو توفيقىّ من عند الله، وبعمل الرسول، تماما كترتيب الآيات فى سورها،