تفسير سورة الواقعة

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

الواقعة من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها كما قال تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة ﴾ [ الحاقة : ١٥ ] وقوله تعالى :﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ أي ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ولا دافع يدفعها، كما قال :﴿ استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ ﴾ [ الشورى : ٤٧ ]، وقال :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴾ [ المعارج : ١٢ ]، ومعنى ﴿ كَاذِبَةٌ ﴾ أي لا بد أن تكون، قال قتادة : ليس فيها ارتداد ولا رجعة، قال ابن جرير : والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية، وقوله تعالى :﴿ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ﴾ أي تخفض أقواماً إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزاء، وترفع آخرين إلى أعلى عليين إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء، وعن ابن عباس :﴿ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ﴾ تخفض أقواماً وترفع آخرين، وقال عثمان بن سراقة : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياء الله إلى الجنة، وقال محمد بن كعب : تخفض رجالاً كانا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين، وقال السدي : خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين، وقوله تعالى :﴿ إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً ﴾ أي حركت تحريكاً فاهتزتع واضطربت بطولها وعرضها، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد ﴿ إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً ﴾ أي زلزلت زلزالاً، وقال الربيع بن أنَس : ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه، كقوله تعالى :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا ﴾ [ الزلزلة : ١ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [ الحج : ١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً ﴾ أي فتتت فتاً، قاله ابن عباس ومجاهد، وقال ابن زيد : صارت الجبال كما قال الله تعالى :﴿ كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾ [ المزمل : ١٤ ]، وقوله تعالى :﴿ فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً ﴾ عن علي رضي الله عنه : هباء منبثاً كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء، وقال ابن عباس : الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً، وقال عكرمة : المنبث الذي قد ذرته الريح وبثته، وقال قتادة :﴿ مُّنبَثّاً ﴾ كيابس الشجر الذي تذروه الرياح، وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها ونسفها أي قلعها وصيرورتها كالعهن المنفوش.
وقوله تعالى :﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش، وهم الذي يؤتون كتبهم بأيمانهم، وهم جمهور أهل الجنة، وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار، وطائفة سابقون بين يديه عزّ وجلّ وهم أحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عدداً من أصحاب اليمين، لهذا قال تعالى :﴿ فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون ﴾، وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى :
2466
﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] الآية. وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه، قال ابن عباس ﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ قال : هي التي في سورة الملائكة ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] الآية. وقال يزيد الرقاشي : سألت ابن عباس عن قوله :﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ قال أصنافاً ثلاثة، وقال مجاهد :﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ يعني فرقاً ثلاثة، وقال ميمون بن مهران : أفواجاً ثلاثة، اثنان في الجنة وواحد في النار، قال مجاهد :﴿ والسابقون السابقون ﴾ هم الأنبياء عليهم السلام، وقال السدي : هم أهل عليين، وقال ابن سيرين ﴿ والسابقون السابقون ﴾ الذي صلوا إلى القبلتين، وقال الحسن وقتادة :﴿ والسابقون السابقون ﴾ أي من كل أمة، وقال الأوزاعي عن عثمان بن أبي سودة، أنه قرأ هذه الآية ﴿ والسابقون السابقون * أولئك المقربون ﴾ ثم قال : أولهم رواحاً إلى المسجد، وأولهم خروجاً في سبيل الله، وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات، كما أمروا، كما قال تعالى :﴿ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، وقال تعالى :﴿ سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض ﴾ [ الحديد : ٢١ ]، فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تُدان، ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم ﴾، وقال ابن أبي حاتم، قالت الملائكة : يا رب جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة، فقال لا أفعل، فراجوا ثلاثاً، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان؛ ثم قرأ عبد الله :﴿ والسابقون السابقون * أولئك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم ﴾.
2467
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين أنهم ﴿ ثُلَّةٌ ﴾ أي جماعة ن الأولين، وقليل من الآخرين : وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والآخرين فقيل : المراد بالأولين الأمم الماضية، وبالآخرين هذه الأمة، وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله ﷺ :« نحن الآخرون السابقون يوم القيامة »، ولم يحك غيره، ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال :« لما نزلت ﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ شقّ ذلك على أصحاب النبي ﷺ فنزلت :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٩-٤٠ ] فقال النبي ﷺ :» إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسموهم النصف الثاني « » وهذا الذي اختاره ابن جرير فيه نظر بل هو قول ضعيف، لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم والله أعلم، فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين ﴾ أي من صدر هذه الأمة، ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ أي من هذه الأمة، قال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن بكر المزني : سمعت الحسن أتى على هذه الآية ﴿ والسابقون السابقون * أولئك المقربون ﴾ [ الواقعة : ١٠-١١ ] فقال : أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قرأ الحسن :﴿ والسابقون السابقون * أولئك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين ﴾ قال : ثلة ممن مضى من هذه الأمة. وعن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الآية ﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ﴾ قال : كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأم. ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم كل أمة بحسبها، ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله ﷺ قال :« خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن عمار بن ياسر قال، قال رسول الله ﷺ :« مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره » فهذا الحديث محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه كذلك هو محتاج إلى القائمين به أواخرها، والفضل للمتقدم، وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني، ولكن العمدة الكبى على الأول، واحتياج الزرع إليه آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها، ولهذا قال عليه السلام :
2468
« لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهمولا من خالفهم إلى قيام الساعة ».
وفي لفظ :« حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك »، والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها، ولهذا ثبت بالتواتر « عن رسول الله ﷺ أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب »، وفي لفظ :« مع كل ألف سبعون ألفاً - وفي آخر - مع كل واحد سبعون ألفاً » ؛ وقد روى الحافظ الطبراني، عن أبي ملاك قال، قال رسول الله ﷺ :« أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض تقول الملائكة لَمَا جاء مع محمد صلى الله عليه سلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام » وقوله تعالى :﴿ على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ﴾ قال ابن عباس : أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به. وقال السدي : مرمولة بالذهب واللؤلؤ، وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت، وقال ابن جرير : ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مضفور وكذلك السرور في الجنة مضفورة بالذهب والآلىء.
وقوله تعالى :﴿ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴾ أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد، ﴿ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾ أي مخلدون على صفة واحدة لا يشيبون ولا يتغيرون، ﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان، والأباريق التي جمعت الوصفين، والكؤوس الهنابات والجميع من خمر عين جارية معين، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة، وقوله تعالى :﴿ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى ابن عباس أنه قال :« في الخمر أربع خصال :» السكْر، والصداع، والقيء، والبول « » فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال، وقال مجاهد وعكرمة ﴿ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ﴾ يقول : ليس لها فيهم صداع رأس، وقالوا في قوله :﴿ وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ أي لا تذهب بعقولهم، وقوله تعالى :﴿ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار، وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها، روى الطبراني عن ثوبان قال، قال رسول الله ﷺ :
2469
« إن الرجل إذا نزع ثمرة الجنة عادت مكانها أُخرى »، وقوله تعالى :﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ عن آَنَس قال، قال رسول الله ﷺ :« » إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة «، فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة، فقال :» آكلها أنعم منها - قالها ثلاثاً - وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها « وقال قتادة في قوله تعالى :﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ » وذكر لنا أن أبا بكر قال : يا رسول الله! إني لأرى طيرها ناعماً كأهلها ناعمون، قال :« ومن يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر » « وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أنَس بن مالك » أن رسول الله ﷺ سئل عن الكوثر فقال :« نهر أعطانيه ربي عزَّ وجلَّ في الجنة أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر » فقال عمر : إنها لناعمة؟ قال رسول الله ﷺ :« آكلها أنعم منها » « وعن عبد الله بن مسعود قال، » قال لي رسول الله ﷺ :« إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً » وقوله تعالى :﴿ وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون ﴾ بالرفع وتقديره : ولهم فيها حور عين، وقوله تعالى :﴿ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون ﴾ أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم، ﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ [ الصافات : ٤٩ ]، ولهذا قال :﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا في من العمل.
2470
لما ذكر تعالى مآل السابقين وهم المقربون، عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار، كما قال ميمون بن مهران : أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين، فقال :﴿ وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين ﴾ أي ما حالهم وكيف مآلهم؟ ثم فسر ذلك فقال تعالى :﴿ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ﴾ قال ابن عباس وعكرمة : هو الذي لا شوك فيه، وعن ابن عباس : هو الموقر بالثمر، وقال قتادة : كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك ليه، والظاهر أن المراد هذا وهذا، فإن سد الدنيا كثير الشوك قليل الثمر، وفي الآخرة على العكس من هذا لا شوك فيه، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله، كما روى الحافظ أبو بكر النجار، عن سليم بن عامر قال :« كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال : أقبل أعرابي يوماً فقال : يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال رسول الله ﷺ :» وما هي؟ « قال : السدر، فإن له شوكاً مؤذياً، فقال رسول الله ﷺ :» أليس الله تعالى يقول :﴿ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ﴾ خضد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمراً تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام ما فيها لون يشبه الآخر «، وقوله :﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾ الطلح : شجر عظام يكون بأرض الحجاز، من شجر العضاه واحدته طلحة، وهو شجر كثير الشوك، وأنشد ابن جرير لبعض الحداة :
بشَّرها دليلها وقالا غداً ترين الطلح والجبالا
قال مجاهد :﴿ مَّنضُودٍ ﴾ : أي متراكم الثمر، يذكر بذلك قريشاً لأنهم كانوا يعجبون من وج ظلاله من طلح وسدر، قال ابن عباس : يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل، قال الجوهري : والطلح لغة في الطلع، ( قلت ) : وقد روى أن علياً يقول هذا الحرف في ﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾ قال : طلع منضود، وهو كثرة ثمره والله أعلم. وعن أبي سعيد ﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾ قال : الموز، وأهل اليمن يسمون الموز : الطلح، ولم يحك ابن جرير غير هذا القول، وقوله تعالى :﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ روى البخاري، عن أبي هريرة يبلغ به النبي ﷺ قال :»
إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم ﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ « وقال الإمام أحمد، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :» إن في الجنة شجرة سير الراكب في ظلها مائة عام، إقرأوا إن شتم ﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ « وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد » عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها «
2471
، فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله. وقال الترمذي، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« ما في الجنة من شجرة إلا ساقها من ذهب » وقال الضحّاك والسدي في قوله تعالى :﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ لا ينقطع ليس فها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر، وقال ابن مسعود : الجنة سَجْسَجْ كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقد تقدمت الآيات كقوله تعالى :﴿ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ﴾ [ النساء : ٥٧ ] وقوله :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾ [ الرعد : ٣٥ ]، وقوله :﴿ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ ﴾ [ المرسلات : ٤١ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله :﴿ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ ﴾ قال الثوري : يجري في غير أخدود، وقد تقدم الكلام عند تفسير قوله تعالى :﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ [ محمد : ١٥ ] الآية، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى :﴿ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾ أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال تعالى :﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] أي يشبه الشكل الشكل، ولكن الطعم غير الطعم، وفي « الصحيحين » في ذكر سدرة المنتهى : فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثلا قلال هجر، وروى الحافظ أبو يعلى، عن جابر قال :« بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله ﷺ فتقدمنا معه، ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر، فلما قضى الصلاة، قال له أبي بن كعب : يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما كنت تصنعه، قال :» إنه عرضت عليَّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت منها قطفاً من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه « » وقوله تعالى :﴿ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾ أي لا تنقطع شتاء ولا صيفاً، بل أكلها دائم مستمر أبداً، مهما طلبوا وجدوا لا متنع عليهم بقدرة الله شيء، وقال قتادة : لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد، وقد تقدم في الحديث :« إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أُخْرى ».
وقوله تعالى :﴿ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ أي عالية وطيئة ناعمة، روى النسائي، عن أبي سعيد « عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ قال : ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام » وعن الحسن :﴿ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ قال : ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة، وقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين ﴾ جرى الضمير على غير مذكور، لكن لما دل السياق وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها اكتفى بذلك عن ذكرهنَّ وعاد الضمير عليهن، قال الأخفش في قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ ﴾ أضمرهن ولم يذكرن قبل ذلك، وقال أبو عبيدة ذكرن في قوله تعالى :
2472
﴿ حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون ﴾ [ الواقعة : ٢٢-٢٣ ]، فقوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ ﴾ أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعد ما كن عجائز رمصاً، صرن، ﴿ أَبْكَاراً * عُرُباً ﴾ أي بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً، متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة، وقال بعضهم ﴿ عُرُباً ﴾ أي غنجات، عن أنَس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ :« إنا أنشأناهن إنشاء قال : نساء كنَّ في الدنيا عمشاً رمصاً » وعن سلمة بن يزيد قال :« سمعت رسول الله ﷺ يقول في قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً ﴾ يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا، وقال عبد بن حميد قال : أتت عجوز، فقالت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال :» يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز « قال : فولت تبكي، قال : أخبروها إنها لا تدخلها، وهي عجوز، إن الله تعالى يقول :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ﴾ ».
وعن أم سلمة قالت :« قلت : يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى :﴿ حُورٌ عِينٌ ﴾ [ الواقعة : ٢٢ ] قال :» حور « بيض » عين « ضخام العيون، شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر، قلت : أخبرني عن قوله تعالى :﴿ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون ﴾ [ الواقعة : ٢٣ ] قال :» صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي « قلت : أخبرني عن قوله :﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ [ الرحمن : ٧٠ ] قال :» خيرات الأخلاق حسان الوجوه «، قلت أخبرني عن قوله :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ [ الصافات : ٤٩ ] قال :» رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخله البيضة مما يلي القشر وهو الغرقيء « قلت : يا رسول الله أخبرني عن قوله :﴿ عُرُباً أَتْرَاباً ﴾ قال :» هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصاً شمطاً خلقهن الله بعد الكبر، فجعلهن عذارى عرباً متعشقات محببات أتراباً على ميلاد واحد «، قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال :» بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة «، قلت : يا رسول الله وبم ذاك؟ قال :» بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عزّ وجلّ، ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن : نحن الخالدات فلا نموت أبداً، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كنا له وكان لنا «، قلت : يا رسول الله المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال :» يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول : يا رب إن هذا كان أحسن خلقاً معي فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة « »
2473
وفي الحديث :« إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً » وعن أبي هريرة قال، « قيل : يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال :» إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء « ».
وقوله تعالى :﴿ عُرُباً ﴾، قال ابن عباس : يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة هي كذلك، وقال الضحّاك عنه : العرب العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، وقال عكرمة : سئل ابن عباس عن قوله ﴿ عُرُباً ﴾ قال : هي المَلِقة لزوجها، وقال عكرمة : هي الغنجة، وعنه هي الشكلة، وقال عبد الله بن بريدة في قوله :﴿ عُرُباً ﴾ قال : الشكلة بلغة أهل مكة، والغنجة بلغة أهل المدينة، وقال تميم بن حذلم : هي حسن التبعل، وقوله :﴿ أَتْرَاباً ﴾ قال ابن عباس : يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة، وقال مجاهد : الأتراب : المستويات، وفي رواية عنه : الأمثال، وقال عطية : الأقران، وقال السدي :﴿ أَتْرَاباً ﴾ أي في الأخلاق المتواخيات بينهم، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني لا كما كن ضرائر متعاديات، وقال أبن أبي حاتم، عن الحسن ومحمد ﴿ عُرُباً أَتْرَاباً ﴾ قالا : المستوايات الأسنان يأتلفن جميعاً ويلعبن جميعاً، وقد روى الترمذي، عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن أصواتاً لم تسمع الخلائق بمثلها - قال - يقلن :» نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له « » وعن أنَس أن رسول الله ﷺ قال :« إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن : نحن خيرات حسان خبئنا لأزواج كرام » قوله تعالى :﴿ لأَصْحَابِ اليمين ﴾ أي خلقنا لأصحاب اليمين أو زوجن لأصحاب اليمين والأظهر أنه متعلق بقوله :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ﴾ فتقديره أنشأناهن لأصحاب اليمين، وهذا توجيه ابن جرير، قلت : ويحتمل أن يكون قوله :﴿ لأَصْحَابِ اليمين ﴾ متعلقاً بما قبله، وهو قوله :﴿ أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين ﴾ أي في أسنانهم، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب وريحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأرواحهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذارعاً في السماء »
2474
وعن أبي هريرية قال : قال رسول الله ﷺ :« يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين وهم على خلق آدم ستون ذراعاً في عرض سعبة أذرع » وروى ابن وهب، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ﷺ :« من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار » وروى ابن أبي الدنيا، عن أنَس قال : قال رسول الله ﷺ :« يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعاً بذراع الملك! على حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة وعلى لسان محد جرد مرد مكحلون »، وقال أبو بكر ابن أبي داود، عن أنَس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ :« يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جرداً مرداً مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى يثابهم ولا يفنى شبابهم » وقوله تعالى :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ « هما جميعاً من أُمتي ».
2475
لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين، عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال :﴿ وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال ﴾ أي أيُّ شيء هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فسر ذلك فقال :﴿ فِي سَمُومٍ ﴾ وهو الهواء الحار، ﴿ وَحَمِيمٍ ﴾ وهو الماء الحار، ﴿ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ﴾ قال ابن عباس : ظل الدخان، وهذه كقوله تعالى :﴿ انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب ﴾ [ المرسلات : ٣٠-٣١ ] ولهذا قال هاهنا :﴿ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ﴾ وهو الدخان الأسود ﴿ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ﴾ أي ليس طيب الهبوب، ولا حسن المنظر ﴿ وَلاَ كَرِيمٍ ﴾ أي ولا كريم المنظر، وقال الضّحاك : كل شراب ليس بعذب فليس كريم، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم، ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾ أي كانوا في الدار الدنيا منعمين، مقبلين على لذات أنفسهم، ﴿ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ ﴾ أي يقيمون ولا ينوون توبة عَلَى ﴿ الحنث العظيم ﴾، وهو الكفر بالله، قال ابن عباس : الحنث العظيم : الشرك، وقال الشعبي : هو اليمين الغموس ﴿ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون ﴾ يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحد، كما قال تعالى :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [ هود : ١٠٣ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ أي هو موقت بوقت محدود ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون ﴾، وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى يملأوا منهم بطونهم، ﴿ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم ﴾ وهي الإبل العطاش واحدها أهيم والأنثى هيماء، ويقال : هائم وهائمة، قال ابن عباس ومجاهد : الهيم الإبل العطاش الظماء، وق السدي : الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبداً حتى تموت، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبداً، ثم قال تعالى :﴿ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين ﴾ أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، كما قال تعالى في حق المؤمنين :﴿ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً ﴾ [ الكهف : ١٠٧ ] أي ضيافة وكرامة.
يقول تعالى مقرراً للمعاد، وراداً على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد، ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ ﴾ أي نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، أفليس الذي قدر على البداءة، بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟ ولهذا قال :﴿ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ ﴾ ؟ أي فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال تعالى مستدلاً عليهم بقوله :﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون ﴾ ؟ أي أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها أم الله الخالق لذلك؟ ثم قال تعالى :﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت ﴾ أي صرفناه بينكم، وقال الضحّاك : ساوى فيه بين أهل السماء والأرض، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ أي وما نحن بعاجزين ﴿ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ﴾ أي نغيّر خلقكم يوم القيامة، ﴿ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي من الصفات والأحوال، ثم قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ]، وقال تعالى :﴿ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٦٧ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ]، وقال تعالى :﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ﴾ [ القيامة : ٣٩-٤٠ ].
يقول تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴾ ؟ وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها، ﴿ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ ﴾ ؟ أي تنبتونه في الأرض ﴿ أَمْ نَحْنُ الزارعون ﴾ ؟ أي بل نحن الذي نقره قراره وننبته في الأرض، روى عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ ﴿ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون ﴾ وأمثالها، يقول : بل أنت يا رب، وقوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ﴾ أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لجلعناه حطاماً، أي لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده، ﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾. ثم فصر ذلك بقوله :﴿ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ أي لو جعلناه حطاماً لظلتم تفكهون في المقالة تنوعون كلامكم، فتقولون تارة :﴿ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴾ أي لملقون، وقال مجاهد وعكرمة : إنا لمولع بنا، وقال قتادة : معذبون، وتارة تقولون :﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ أي لا يثبت لنا مال ولا ينتج لنا ربح، وقال مجاهد :﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ أي مجدودون يعني لا حظ لنا، وقال ابن عباس ومجاهد :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ تعجبون، وقال مجاهد أيضاً :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم، وهذا يرجع إلى الأول، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم، وهذا اختيار ابن جرير، وقال عكرمة :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ تلاومون، وقال الحسن وقتادة :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ تندمون ومعناه إمنا على ما أنفقتم أو على ما أسلفتم من الذنوب، قال الكسائي : تفكه من الأضداد، تقول العرب : تفكهت بمعنى تنعمت، وتفكهت بمعنى حزنت.
ثم قال تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن ﴾، يعني السحاب، ﴿ أَمْ نَحْنُ المنزلون ﴾، يقول : بل نحن المنزلون، ﴿ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ﴾ أي زعافاً مراً لا يصلح لشرب ولا زرع، ﴿ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذباً زلالاً، ﴿ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [ النحل : ١٠ ] روى ابن أبي حاتم، عن جابر، عن أبي جعفر، عن النبي ﷺ أنه كان إذا شرب الماء قال :« الحمد الله الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا » ثم قال :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ ﴾ أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها ﴿ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون ﴾ أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها، وللعرب شجرتان : إحداهما ( المرخ )، والأُخرى ( العفار ) إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار، وقوله تعالى :﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾ قال مجاهد وقتادة : أي تذكر النار الكبرى، وعن النبي ﷺ قال :« إن ناركم هذه جزء من سبعين جز من نار جهنم وضربت بالبحر، مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد »
2478
، وقال الإمام مالك، عن أبي هريرة « أن رسول الله ﷺ قال :» نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزء من نار جهنم «، فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال :» إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً « »، وفي لفظ :« والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : يعني بالمقوين المسافرين، واختاره ابن جرير، وقال ابن أسلم : المقوي ههنا الجائع، وقال ليث، عن مجاهد ﴿ وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ﴾ : للحاضر والمسافر، لكل طعام لا يصلحه إلا النار، وعنه :﴿ لِّلْمُقْوِينَ ﴾ يعني المستمتعين من الناس أجمعين، وهذا التفسير أعم من غيره، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير، الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة، وغير ذلك من المنافع، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد، بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فاطبخ بها واصطلى بها واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها سائر الانتفاعات، فلهذا أفرد المسافرون، وإن كان ذلك عاماً في حق الناس كلهم، وفي الحديث :« المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء » وفي رواية :« ثلاثة لا يمنعن : الماء والكلأ والنار » وقوله تعالى :﴿ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ﴾ أي الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة، الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحاً أجاجاً كالبحار المغرقة، وخلق النار المحرقة، وجعل ذلك مصلحة للعباد، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم، وزجراً لهم في المعاد.
2479
قال الضحّاك : إن الله تعالى لا يقسم بشيء من خلقه، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه، وهذا القول ضعيف، والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وهو دليل على عظمته، ثم قال بعض المفسرين :( لا ) هاهنا زائدة، وتقديره : أقسم بمواقع النجوم، ويكون جوابه :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾، وقال آخرون : ليست ( لا ) زائدة بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسماً به على منفي، تقدير الكلام : لا أقسم بمواقع الجوم، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم، وقال بعضهم : معنى قوله :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ ﴾ فليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل : اقسم، واختلفوا في معنى قوله :﴿ بِمَوَاقِعِ النجوم ﴾ فقال ابن عباس : يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل متفرقاً في السنين بعد، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية، وقال مجاهد :﴿ بِمَوَاقِعِ النجوم ﴾ في السماء ويقال مطالعها ومشارقها وهو اختيار ابن جرير، وعن قتادة : مواقعها : منازلها، وعن الحسن : أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة، وقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به، ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم ﴿ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴾ أي معظم في كتاب معظم محفوظ موقر، عن ابن عباس قال : الكتاب الذي في السماء، ﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ يعني الملائكة، وقال ابن جرير، عن قتادة ﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس، والمنافق الجرس، وقال أبو العالية :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ ليس أنتم أصحاب الذنوب، وقال ابن زيد : زعمت كفّار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٠-٢١٢ ]، وهذا القول قول جيد، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله، وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، وقال آخرون :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ أي في الجنابة والحدث، قالوا : ولفظ الآية خبر، ومعناها الطلب، قالوا : والمارد بالقرآن هاهنا المصحف، كما روى مسلم عن ابن عمر :« أن رسول الله ﷺ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخالفة أن يناله العدو »، واحتجوا بما رواه الإمام مالك أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حازم أن « لا يمس القرآن إلا طاهر » وروى أبو داود في « المراسيل » من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله ﷺ قال :
2480
« ولا يمس القرآن إلا طاهر »، وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي الأخذ به.
وقوله تعالى :﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين، وليس هو كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حق نافع، وقوله تعالى :﴿ أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ﴾ قال ابن عباس : أي مكذبون غير مصدقين، وقال مجاهد :﴿ مُّدْهِنُونَ ﴾ أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ قال بعضهم : معنى ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ﴾ بمعنى شكركم أنكم تكذبون بدل الشكر، عن علي رضي الله عنه قال :« قال رسول الله ﷺ :» وتجعلون « رزقكم يقول : شكركم أنكم تكذبون، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا » وقال مجاهد :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ قال : قولهم في الأنواء : مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا يقول : قولوا هو من عند الله وهو رزقه، وقال قتادة : أما الحسن فكان يقول : بئس ما أخذ قوم لأنفسهم، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب، فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به، ولهذا قال قبله :﴿ أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾.
2481
يقول تعالى :﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ﴾ أي الروح ﴿ الحلقوم ﴾ أي الحلق وذلك حين الاحتضار كما قال تعالى :﴿ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾ [ القيامة : ٢٧-٢٨ ]، ولهذا قال هاهنا ﴿ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ﴾ أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت، ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ﴾ أي بملائكتنا ﴿ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ ﴾ أي ولكن لا ترونهم كما قال تعالى في الآية الأُخْرى :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦١ ]. وقوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ ﴾ معناه فهلا ترجعنون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد إن كنتم غير مدينين، قال ابن عباس : يعني محاسبين، وقال سعيد بن جبير ﴿ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴾ غير مصدقين أنكم تدانون وتعبثون وتجزون فردوا هذه النفس، وعن مجاهد ﴿ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴾ غير موقنين، وقال ميمون بن مهران : غير معذبين مقهورين.
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم : إما أن يكون من المقربين، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين، وإما أن يكون من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى، الجاهلين بأمر الله، ولهذا قال تعالى :﴿ فَأَمَّآ إِن كَانَ ﴾ أي المحتضر ﴿ مِنَ المقربين ﴾ وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، ﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ﴾ أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم في حديث البراء « إن ملائكة الرحمة تقول : أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان »، قال ابن عباس ﴿ فَرَوْحٌ ﴾ يقول : راحة ﴿ وَرَيْحَانٌ ﴾ يقول : مستراحة، وكذا قال مجاهد : إن الروح الاستراحة، وقال أبو حرزة : الراحة من الدنيا، وقال سعيد بن جبير : الروح الفرح، وعن مجاهد :﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ ﴾ جنة ورخاء، وقال قتادة : فروح فرحمة. وقال ابن عباس ومجاهد :﴿ وَرَيْحَانٌ ﴾ : ورزق؛ وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة، فإن من مات مقرباً حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن ﴿ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ﴾، وقال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغضن من ريحان الجنة فيقبض روح فيه، وقال محمد بن كعب : لا يموت أحد من الناس حتى يعلم أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سور إبراهيم ﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ]. وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية. روى الإمام أحمد، « عن أم هانىء أنها سألت رسول الله ﷺ : أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً؟ فقال رسول الله ﷺ :» يكون النسم طيراً يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها « »، هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن، ومعنى « يَعْلَق » يأكل، ويشهد له بالصحة أيضاً ما رواه الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن كعب بن مالك، عن رسول الله ﷺ قال :« إنما نسمه المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه »، وهذا إسناد عظيم ومتن قويم، وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال :« إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش » الحديث. وروى الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، « عن رسول الله ﷺ أنه قال :» من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه « قال : فأكب القوم يبكون فقال :» ما يبكيكم؟ « فقالوا : إنا نكره الموت، قال :» ليس ذاك، ولكنه إذا احتضر ﴿ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ﴾، فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عزّ وجلّ، والله عزّ وجلّ للقائه آحب ﴿ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾ فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره « ».
2483
وقوله تعالى :﴿ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين ﴾ أي وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين ﴿ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين ﴾ أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم : سلام لك أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة. وأنت من أصحاب اليمين، وقال قتادة : سَلِمَ من عذاب الله وسلَّمت عليه ملائكة الله، كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين، وهذا معنى حسن، ويكون ذلك كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ]. وقوله تعالى :﴿ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾ أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى ﴿ فَنُزُلٌ ﴾ أي فضيافة. ﴿ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾ وهو المذاب الذي يصهر به ما بطونهم والجلود، ﴿ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾ أي وتقرير له في النار تغمره من جميع جهاته، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين ﴾ أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين، الذي لا مرية فيه ولا محدي لأحد عنه، ﴿ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ﴾. قال الإمام أحمد، عن عقبة بن عامر الجهني قال :« لمّا نزلت على رسول الله ﷺ ﴿ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ﴾ قال :» اجعلوها في ركوعكم «، ولما نزلت :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى ﴾ قال رسول الله ﷺ :» اجعلوها في سجودكم « » وفي الحديث :« من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة » وروى البخاري في آخر « صحيحه »، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله :« كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ».
2484
Icon