تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن
المعروف بـفتح البيان
.
لمؤلفه
صديق حسن خان
.
المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الحاقة
هي إحدى أو اثنتان وخمسون آية وهي مكية
قال القرطبي في قول الجميع قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله وعن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بالحاقة ونحوها " أخرجه الطبراني.
ﰡ
(الْحَاقَّةُ) هي القيامة لأن الأمر يحق فيها وهي تحق في نفسها من غير شك، قاله الطبري كأنه جعلها من باب ليله قائم ونهاره صائم فالإسناد مجازي، قال الأزهري يقال حاققته فحققته أحقه غالبته فغلبته أغلبه، فالقيامة حاقة لأنها تحاق كل محاق في دين الله بالباطل وتخصم كل مخاصم.
وقال في الصحاح: حاقه أي خاصمه في صغار الأشياء ويقال ما له فيها حق ولا حقاق ولا خصومة والتحاق التخاصم، والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى، قال الواحدي: هي القيامة في قول كل المفسرين، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود.
قال الكسائي والمؤرج: الحاقة يوم الحق، وقيل سميت بذلك لأن كل إنسان فيها حقيق بأن يجزى بعمله، وقيل سميت بذلك لأنها أحقت لقوم النار، وأحقت لقوم الجنة، وقال ابن عباس: الحاقة من أسماء يوم القيامة وهي مبتدأ وخبرها قوله:
(ما الحاقة) على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان وخبره الحاقة، والجملة خبر للمبتدأ الأول والمعنى أي شيء هي في حالها أو صفاتها لا تحيط بها العبارة " وما " يسأل بها عن الصفة والحال والمقام للضمير أي ما هي؟ فوضع الظاهر موضعه لتأكيد هولها وزيادة تفظيعه، وقيل هذه الجملة وإن كان لفظها لفظ الاستفهام فمعناها التعظيم والتفخيم لشأنها كما تقول زيد ما زيد، وقد قدمنا تحقيق هذا المعنى في سورة الواقعة.
283
ثم زاد سبحانه في تفظيع شأنها وتفخيم أمرها وتهويل حالها فقال:
284
(وما أدراك ما الحاقة) أي أيّ شيء أعلمك ما هي؟ أي كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين، لا تبلغها دراية أحد منهم ولا وهمه.
والنبي ﷺ كان عالماً بالقيامة ولكن لا علم له بكنهها وصفتها فقيل له ذلك كأنه ليس عالماً بها رأساً، قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن (وما أدراك) فقد أدراه إياه وعلمه ﷺ وكل شيء قال فيه (وما يدريك) فإنه ما أخبره به.
وقال سفيان بن عيينة: كل ما في القرآن قال فيه: (وما أدراك) فإنه ﷺ أخبر به وكل شيء قال فيه (وما يدريك) فإنه لم يخبر به ذكره الخطيب، وما مبتدأ وخبره أدراك و (ما الحاقة) جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بإسقاط الخافض أدرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله:
(ولا أدراكم به) فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني وبدون الهمزة يتعدى إلى مفعول واحد بالباء نحو دريت بكذا وإن كان بمعنى العلم تعدى إلى مفعولين والجملة معطوفة على جملة ما الحاقة.
(كذبت ثمود وعاد بالقارعة) أي بالقيامة وسميت بذلك لأنها تقرع قلوب الناس بشدة أهوالها وتؤثر فيها خوفاً وفزعاً كتأثير القرع المحسوس، فإن القرع في اللغة نوع من الضرب وهو إمساس جسم لجسم بعنف، وفي المصباح وقرعت الباب من باب نفع طرقته ونقرت عليه وقال المبرد: عنى بالقارعة القرآن الذي نزل في الدنيا على أنبيائهم، وكانوا يخوفونهم بذلك فيكذبونهم، وقيل القارعة مأخوذة من القرعة لأنها ترفع أقواماً وتحط آخرين والأول أولى، ويكون وضع ضمير الحاقة للدلالة على عظيم هولها وفظاعة حالها، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقة.
284
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩)
285
(فأما ثمود) هم قوم صالح وكانت منازلهم بالحجر، بين الشام والحجاز، وقال ابن إسحاق هو وادي القرى والمقصود من ذكر هذه القصص زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهؤلاء الأمم في المعاصي لئلا يحل بها ما حل بهم.
(فأهلكوا بالطاغية) هي الصيحة التي تجاوزت الحد وهي صيحة جبريل، وقيل الرجفة أي الزلزلة، وقيل هي الفرقة التي عقرت الناقة فأهلك قوم ثمود بسببهم وقال ابن زيد: الطاغية عاقر الناقة أن أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة وكان واحداً وإنما أهلكوا جميعاً لأنهم علموا بفعله ورضوا به، وقيل له طاغيه كما يقال فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم وكفرهم، ولكن هذا لا يطابق قوله:
(وأما عاد) هم قوم هود، وقد تقدم بيان هذا وذكر منازلهم وأين كانت في غير موضع وهي الأحقاف وهو رمل بين عمان وحضرموت باليمن، وقدم ذكر ثمود لأن بلادهم أقرب إلى قريش، وواعظ القريب أكبر، ولأن إهلاكهم بالصيحة وهي أشبه النفخ في الصور.
(فأهلكوا بريح) أي بالدبور (صرصر) هي الشديدة البرد مأخوذ من الصر وهو البرد، وقيل الشديدة الصوت وقال مجاهد الشديدة السموم (عاتية) عن الطاعة فكأنها عتت على خزانها فلم تطعهم ولم يقدروا على ردها لشدة هبوبها أو عتت على عاد فلم يقدروا على ردها بل أهلكتهم.
قال ابن عباس ما أرسل الله شيئاًً من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء
285
إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم قوم نوح، فأما يوم نوح فإن الماء طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ (إنا لما طغى الماء) وأما يوم عاد فإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ (بريح صرصر عاتية) وعنه قال عاتية غالبة، وعن علي بن أبي طالب نحوه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس. عن النبي ﷺ " قال نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور "، وعن ابن عمر مرفوعاً " قال ما أمر الخزان على عاد إلا مثْل موضع الخاتم من الريح فعتت على الخزان فخرجت من نواحي الأبواب فذلك قوله (بريح صرصر عاتية) قال عتوها عتت على الخزان " أخرجه ابن أبي حاتم.
286
(سخرها عليهم سبع ليال) أي سلطها كذا قال مقاتل، وقيل أرسلها وقال الزجاج أقامها عليهم كما شاء، والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار، وفيه رد على من قال إن سبب ذلك كان باتصال الكواكب، فنفى هذا المذهب بقوله (سخرها عليهم) وبين الله تعالى أن ذلك بقضائه وقدره وبمشيئته لا باتصال الكواكب، ذكره الخازن، والجملة مستأنفة لبيان كيفية إهلاكهم، ويجوز أن تكون صفة لريح أو تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة أو من الضمير في عاتية.
(وثمانية أيام حسوماً) معطوف على سبع ليال وانتصاب حسوماً على الحال أي ذات حسوم أو على المصدر لفعل مقدر أي تحسمهم حسوماً أو على أنه مفعول له أو على أنه نعت لسبع ليال إلخ ويتضح ذلك بقول الزمخشري الحسوم لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشاهد وشهود أو مصدراً كالشكور والكفور، فإن كان جمعاً فمعنى قوله حسوماً: نحسات حسمت كل خير، واستأصلت كل بركة أو متتابعة هبوب الريح ما خفت ساعة تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم، وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بقول مضمر أي تحسمهم حسوماً أي
286
تستأصلهم استئصالاً أو يكون مفعولاً له أي سخرها عليهم للاستئصال.
قال الشهاب: حسوماً أي متتابعات فهو مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي المطلق التتابع، أو استعارة بتشبيه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكي القاطع للداء انتهى، والحسوم التتابع فإذا تتابع الشيء لم ينقطع أوله عن آخره قيل له الحسوم.
قال الزجاج: الذي توجبه اللغة في معنى قوله حسوماً أي تحسمهم حسوماً تفنيهم وتذهبهم، قال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، وقال الفراء: الحسوم الإتباع من حسم الداء وهو الكي لأن صاحبه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه.
وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره وبه قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي وقيل الحسم الاستئصال ويقال للسيف حسام لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته، وقال ابن زيد: حسمتهم فلم يبق منهم أحد، وروي عنه أنه قال حسمت الأيام والليالي.
حتى استوفتها لأنها بدأت بطلوع الشمس من أول يوم وانقطعت بغروب الشمس من آخر يوم، وقال الليث: الحسوم هي الشؤم أي تحسم الخير عن أهلها كقوله: (في أيام نحسات) وقال ابن مسعود: حسوماً متتابعات.
وقال ابن عباس تباعاً وفي لفظ متتابعات، واختلف في أولها فقيل غداة الأحد وقيل غداة الجمعة وقيل غداة الأربعاء قال وهب: وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز كان فيها بردٌ شديد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء وكان الشهر كاملاً فكان آخرها هو اليوم الأخير منه.
(فترى) الخطاب لكل من يصلح له أو لرسول الله ﷺ فالكلام على سبيل الفرض والتقدير أي أنه لو كان حاضراً حينئذ لرأى (القوم) والضمير في (فيها) يعود إلى الليالي والأيام وقيل إلى مهاب الريح
287
أو إلى البيوت والأول أولى وأظهر، (صرعى) جمع صريع يعني موتى وهو حال، وقوله:
(كأنهم أعجاز نخل خاوية) حال من القوم أو مستأنف أي أصول نخل بلا رؤوس ساقطة أو بالية وقيل خالية لا جوف فيها، وقال ابن عباس أعجاز نخل هي أصولها والنخل يذكر ويؤنث ومثله (كأنهم أعجاز نخل منقعر) وقد تقدم تفسيره وهو إخبار عن عظم أجسامهم، قال يحيى بن سلام إنما قال خاوية لأن أبدانهم خلت من أرواحهم مثل النخل الخاوية أو أن الريح كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم.
288
(فهل ترى لهم من باقية) أي من فرقة باقية أو نفس باقية أو من بقية على أن باقية مصدر كالعاقبة والعافية و " من " زائدة في المفعول، قال ابن جرير أقاموا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الريح فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر.
(وجاء فرعون ومن قبله) قرأ الجمهور بفتح القاف وسكون الباء أي ومن تقدمه من القرون الماضية والأمم الخالية، وقرىء بكسر القاف وفتح الباء أي ومن هو في جهته من أتباعه، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الثانية لقراءة ابن مسعود وأبيّ ومن معه ولقراءة أبي موسى ومن تلقاه.
(والمؤتفكات) قرأ الجمهور بالجمع وقرىء بالأفراد، واللام للجنس فهي في معنى الجمع هي قرى قوم لوط وكانت خمساً صنعة وصعرة وعمرة ودوما وسروم، وهي القرية العظمى قاله القرطبي، وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا، والمعنى وجاءت المؤتفكات أي المنقلبات من ائتفك أي انقلب أي التي اقتلعها جبريل على جناحه ورفعها إلى أقرب السماء ثم قلبها أي أهلها.
(بالخاطئة) أي بالفعلة الخاطئة أو الخطأ على أنها مصدر أو ذات الخطأ والمراد أنها جاءت بالشرك والمعاصي، قال مجاهد بالخطايا وقال الجرجاني بالخطأ العظيم.
288
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦)
289
(فعصوا رسول ربهم) أي فعصت كل أمة رسولها المرسل إليها، قال الكلبي هو موسى وقيل لوط لأنه أقرب قيل ورسول هنا بمعنى رسالة (فأخذهم) الله سبحانه (أخذة رابية) أي نامية زائدة على أخذات الأمم كما قاله الزجاج، وقال مجاهد: شديدة، والمعنى أنها بالغة في الشدة إلى الغاية يقال ربا الشيء يربو إذا زاد وتضاعف، ومنه الربا إذا أخذ وزاد في الذهب أو الفضة أكثر مما أعطى.
(إنا لما طغى الماء) أي تجاوز حده في الارتفاع والعلو وزاد على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً وذلك في زمن نوح لما أصر قومه على الكفر وكذبوه، وقيل طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه فلم يقدروا على حبسه، قاله علي، قال قتادة زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً قال ابن عباس طغى على خزانه فنزل ولم ينزل من السماء ماء إلا بمكيال أو ميزان إلا زمن نوح فإنه طغى فنزل بغير كيل ولا وزن.
(حملناكم في الجارية) أي في أصلاب آبائكم أو حملناهم وحملناكم في أصلابهم تغليباً للمخاطبين على الغائبين، والجارية سفينة نوح وسميت جارية لأنها تجري في الماء وهو أول من صنع السفن وكان يعلمه جبريل صنعتها فاتخذها على هيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء، ومحل في الجارية النصب على الحال أي رفعناكم فوق الماء حال كونكم في السفينة.
ولما كان المقصود من ذكر قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول قال
أي هذه الأمور المذكورة (لكم) يا أمة محمد ﷺ (تذكرة) أي عبرة وموعظة تستدلون بها على عظيم قدرة الله سبحانه وبديع صنعه أو لنجعل هذه الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لكم تذكرة أو هذه السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة، قال ابن جريج كانت ألواحها على الجودي، والمعنى أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكر.
(وتعيها أذن واعية) أي تحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت، قال الزجاج يقال أوعيت كذا أي حفظته في نفسي أعيه وعياً ووعيت العلم ووعيت ما قلته كله بمعنى وأوعيت المتاع في الوعاء، ويقال لكل ما وعيته في غير نفسك أوعيته بالألف ولما حفظته في نفسك وعيته بغير ألف.
قال قتادة: في تفسير هذه الآية أذن سمعت وعقلت ما سمعت، قال الفراء: المعنى لتحفظها كل أذن عظة لمن يأتي بعد، وتعيها بكسر العين باتفاق القراء السبعة، وقريء بإسكانها تشبيهاً لهذه الكلمة برحم وشهد وإن لم تكن من ذلك وجعل الأذن حافظة ومستمعة ومتذكرة ومتفكرة وعاملة تجوز لأن الفاعل لذلك صاحبها ولا ينسب إليها غير السمع، وإنما أتى به مشاكلة لقوله واعية.
عن علي في الآية قال: " قال لي رسول الله ﷺ سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي فقال علي ما سمعت من رسول الله ﷺ شيئاًً فنسيته " أخرجه سعيد بن منصور وأبو نعيم وغيرهما. قال ابن كثير وهو حديث مرسل.
وعن بريدة قال: قال رسول الله ﷺ لعلي " إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي، وحق لك أن تعي، فنزلت هذه الآية (وتعيها أذن واعية) فأتت أُذنٌ واعيةٌ لعلي " أخرجه ابن جرير وغيره، قال ابن كثير ولا يصح وعن ابن عمر قال أذن عقلت عن الله.
ولما ذكر الله سبحانه القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع في
290
تفاصيل أحوالها وبدأ لذكر مقدماتها فقال
291
(فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة) قال عطاء يريد النفخة الأولى وبه قال القاضي كالكشاف: أي التي عندها خراب العالم، وقال الكلبي ومقاتل: يريد النفخة الأخيرة ولم يؤنث الفعل وهو نفخ لأن التأنيث مجازي وحسنه الفضل، قرأ الجمهور بالرفع فيهما على أن نفخة مرتفعة على النيابة وواحدة تأكيد لها وقريء بنصبهما على أن النائب هو الجار والمجرور، وقال الزجاج: قوله في الصور يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
(وحملت الأرض والجبال) أي رفعت من أماكنها وقلعت عن مقرها بمجرد القدرة الإلهية أو بتوسط الزلزلة أو الريح العاصفة أو الملائكة، وهذا الرفع بعد خروج الناس من قبورهم، قرأ الجمهور بالتخفيف وقريء بتشديد الميم للتكثير أو للتعدية.
(فدكتا دكة واحدة) أو فكسرتا كسرة واحدة لا زيادة عليها أو ضربتا ضربة واحدة بعضهما ببعض حتى صارتا (كثيباً مهيلاً) و (هباء منبثاً) فلم يتميز شيء من أجزائهما عن الآخر، وقيل بسطتا بسطة واحدة فصارتا (قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً) من قولهم اندك سنام البعير إذ تفرش على ظهره، وبعير أدك وناقة دكاء ومنه الدكان وهذه الدكة كالزلزلة.
قال أبيّ بن كعب في الآية تصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين وذلك قوله (وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) قال الفراء ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة ومثله قوله تعالى (إن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما).
(فيومئذ وقعت الواقعة) أي قامت القيامة
(وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) أي انشقت جنبها وانصدعت وتفطرت بنزول ما فيها من الملائكة فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية ساقطة القوة من هول ذلك اليوم بعد ما كانت محكمة، قال الزجاج يقال لكل ما ضعف جداً قد وهى فهو واهٍ وقال الفراء وَهْيُها تَشَقُّقُها، وقال ابن عباس واهية متخرقة أي متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش.
291
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١)
292
(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) أي جنس الملك واقفون على أطرافها وجوانبها التي لم تسقط وهؤلاء من جملة المستثنى بقوله (إلا من شاء الله) وقال القاضي لعل هلاك الملائكة أثر ذلك وقيل يحيون بالنفخة الثانية ويقفون على أرجائها الباقية وهي جمع رجى مقصور وتثنيته رجوان مثل قفى وقفوان.
والمعنى أنها لما تشققت السماء وهي مساكنهم لجؤوا إلى أطرافها قال الضحاك إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت وتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب فينزلون إلى الأرض ويحيطون بها ومن عليها، وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا أي ينزلون إلى الأرض وقيل إذا صارت السماء قطعاً يقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها، وقال ابن عباس: على حافاتها على ما لم يهي منها.
(ويحمل عرش ربك فوقهم) أي فوق رؤوسهم
(يومئذ) أي يوم القيامة (ثمانية) أي ثمانية أملاك وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، قاله ابن عباس، وقيل ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة قاله الكلبي وغيره.
وقال ابن عباس: أيضاًً ثمانية أملاك صورة الأوعال رؤوسهم عند العرش في السماء السابعة وأقدامهم في الأرض السفلى ولهم قرون كقرون الوعلة ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمائة عام (١)، واليوم تحمله
_________
(١) زاد السير ٨/ ٣٥٠.
292
أربعة.
وعن ابن مسعود قال ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وأرض خمسمائة عام، وفضاء كل سماء وأرض خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، أخرجه أبو سعيد الدارمي وابن خزيمة وغيرهما موقوفاً على ابن مسعود وفي الباب أحاديث كثيرة وصحيحة (١).
(يومئذ تعرضون) أي تعرض العباد على الله لحسابهم ومثله (وعرضوا على ربك صفاً) وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالماً به، وإنما هو عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال.
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال، معاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله (٢) " أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجة وغيرهم، وأخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن مسعود نحوه (٣).
وجملة (لا تخفى منكم خافية) في محل نصب على الحال من ضمير
_________
(١) رواه الطبري من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خبر مقطوع. ورواه الطبري أيضاًً من طريق ابن إسحاق قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ قال: " هم اليوم أربعة " يعني حملة العرش " فإذا كانوا يوم القيامة أمدَّهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية " وقد قال الله: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وهذا خبر مقطوع أيضاًً.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) أي: يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، قال: ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش، العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب أهـ.
(٢) زاد المسير ٨/ ٣٥١.
(٣) زاد المسير ٨/ ٣٥١.
293
تعرضون أي تعرضون حال كونكم لا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم أو أقوالكم وأفعالكم وسرائركم التي كنتم تخفونها في الدنيا خافية كائنة ما كانت، والتقدير أي نفس خافية أو فعلة خافية، قريء بالتاء والياء وهما سبعيتان (١).
ولما ذكر سبحانه العرض ذكر تفصيل ما يكون فيه فقال
_________
(١) رواه أبو داود في " سننه " رقم (٤٧٢٧) وسنده جيد، وذكره ابن كثير في " تفسيره " من رواية ابن أبي حاتم وقال: وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات.
294
(فأما من أوتي كتابه بيمينه) أي أعطي كتابه الذي كتبه الحفظة عليه من أعماله (فيقول) خطاباً لجماعته لما سر به أو لأهله وأقربائه.
(هاؤم اقرأوا كتابيه) قال ابن السكيت والكسائي: العرب تقول " ها " يا رجل، وللإِثنين هاؤما يا رجلان وللجمع هاؤم يا رجال، قيل والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف، قال ابن زيد ومعنى هاؤم تعالوا وقال مقاتل هلم وقيل خذوا، والذي صرح به النحاة أنها بمعنى خذ تقول ها بمعنى خذ، هاؤما بمعنى خذا، وهاؤم بمعنى خذوا فهي اسم فعل، وقد يكون فعلاً صريحاً لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها، وفيها ثلاث لغات كما هو معروف في علم الإعراب (١).
والهاء في كتابيه وسلطانيه وماليه، هي هاء السكت، وقرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفاً ووصلاً مطابقة لرسم المصحف، ولولا ذلك لحذفت في
_________
(١) رواه أحمد في " المسند " وابن ماجة: ٢/ ١٤٣٠ من رواية وكيع عن علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي موسى. قال البوصيري في " الزوائد ": رجال الإسناد ثقات. إلا أنه منقطع، والحسن لم يسمع من أبي موسى، قاله علي بن المديني، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وقد رواه الترمذي عن الحسن عن أبي هريرة وقال: لا يصح هذا الحديث من قِبَل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ورواه الطبري ٢٩/ ٥٩ من رواية مجاهد بن موسى عن زيد، عن سليمان بن حامد عن مروان الأصغر عن أبي وائل عن عبد الله نحوه، وقال ابن كثير: ورواه سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة مرسلاً مثله.
294
الوصل كما هو شأن هاء السكت، واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في الحاق الهاء في السكت، ويوافق الخط يعني خط المصحف، وقرأ جماعة بحذفها وصلاً، وإثباتها وقفاً في جميع هذه الألفاظ واختار أبو حاتم هذه إتباعاً للغة، وقريء بحذفها وصلاً ووقفاً، تنازع في كتابيه هاؤم واقرأوا فاعمل الأول عند الكوفيين والثاني عند البصريين، وأضمر في الآخر أي: هاؤموه قرأوا كتابيه أو هاؤم اقرأوه كتابيه.
295
(إني ظننت أني ملاق حسابيه) أي علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة، وقيل المعنى إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني، قال الضحاك كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك، قال مجاهد ظن الآخرة يقين وظن الدنيا شك، قال الحسن في هذه الآية أن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة وأن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل.
قيل والتعبير بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالباً، قال ابن عباس: ظننت أي أيقنت، قال النسفي: وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العبادات والأحكام، ولأن ما يدرك بالاجتهاد قلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه.
(فهو في عيشة راضية) أي مرضية لا مكروهة أو ذات رضا يرضى بها صاحبها لا يضجر منها ولا يملها ولا يسأمها قال أبو عبيدة والفراء: راضية أي مرضية كقوله (ماء دافق) أي مدفوق فقد أسند إلى العيشة ما هو لصاحبها فكان ذلك من المجاز في الإسناد، والعرب لا تعبر عن أكثر السعادات بأكثر من العيشة الراضية والمعتبر في كمال اللذة الرضا، وقيل المعنى أنه لو كان للمعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.
295
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
296
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) أي مرتفعة المكان لأنها في السماء السابعة أو مرتفعة المنازل والمباني أو عظيمة في النفوس، وهو خبر بعد خبر
(قطوفها دانية) القطوف جمع قطف بكسر القاف ما يقطف من الثمار بالفتح مصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف، والمعنى أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع أو متكىء، عن البراء بن عازب دانية قريبة يتناول الرجل من فواكهها وهو قائم.
(كلوا واشربوا) أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة، وجمع الضمير مراعاة للمعنى وهذا أمر امتنان لا أمر تكليف (هنيئاً) أي أكلاً طيباً لذيذاً وشرباً هنيئاً شهياً مرياً لا تكدير فيه ولا تنغيص (بما أسلفتم في الأيام الخالية) أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا، وقال مجاهد هي أيام الصيام.
(وأما من أوتي كتابه بشماله) قيل تكون يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه بها وقيل تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره (فيقول) حزناً كرباً لما رأى فيه من سيئاته وسوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء (يا ليتني لم أوت) أي لم أعط (كتابيه) لما يرى فيه من الفضائح
(ولم أدر ما حسابيه) أي لم أدر أي شيء حسابي لأن كله عليه، والاستفهام للتعظيم
296
والتهويل، أي بل استمريت جاهلاً كذلك كما كنت في الدنيا.
297
(يا ليتها) أي ليت الموتة التي متها (كانت القاضية) ولم أحي بعدها، ومعنى القاضية القاطعة للحياة، والمعنى أنه تمنى دوام الموت وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله، وما يصير إليه العذاب فالضمير في " ليتها " يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها وإن لم تكن مذكورة لأنها لظهورها كانت كالمذكورة.
قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت وقيل الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت عليّ، لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت.
(ما أغنى عني ماليه) أي لم يدفع عني من عذاب الله شيئاًً، على أن " ما نافية " أو استفهامية والمعنى أي شيء أغنى عني مالي الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله، وصيغ الخطاب يقتضي أن مالي كلمة واحدة بمعنى المال، وفي أبي السعود ما كان لي من اليسار.
(هلك عني سلطانيه) أي هلكت وضلت وغابت عني حجتي، كذا قال مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك، وقال ابن زيد: يعني سلطاني الذي في الدنيا وهو الملك لم أجد له الآن نفعاً وبقيت حقيراً ذليلاً، وقيل تسلطي على جوارحي، قال مقاتل يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك.
وحينئذ يقول الله عز وجل
(خذوه فغلوه) أي اجمعوا يديه إلى عنقه بالأغلال والخطاب لخزنة جهنم أي زبانيتها، وسيأتي في سورة المدثر أن عدتهم تسعة عشر، قيل ملكاً وقيل صفاً وقيل صنفاً، حكى الثلاثة الرازي.
(ثم الجحيم صلوه) أي ادخلوه الجحيم والمعنى لا تصلوه: لا الجحيم وهي النار العظيمة، والترتيب بثم في الزمان فإن إدخاله النار بعد غله، وكذلك إدخاله في السلسلة كما يأتي بعد إدخاله النار، والتراخي المفاد بها
297
للتفاوت في الرتب، فكل واحد من المعطوفين بها أشد من العذاب وأغلى مما قبله، وفي الخطيب صلوه أي بالغوا في تصليته إياها، وكرروها بغمسه في النار كالشاة المصلية مرة بعد مرة لأنه كان يتعاظم على الناس، فناسب أن يصلى أعظم النيران.
298
(ثم في سلسلة) عظيمة جداً، والسلسلة حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة (ذرعها) أي طولها (سبعون ذراعاً) قال الحسن الله أعلم بأي ذراع هو، وقيل بذراع الملك، قال نوف الشامي: كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد ما بينك وبين مكة وكان نوف في رحبة الكوفة، قال مقاتل لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص، وقال ابن جريج لا يعرف قدرها إلا الله، وهذا العدد حقيقة أو مبالغة، ومعنى: (فاسلكوه) فاجعلوه فيها بحيث يكون كأنه السلك أي الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزات بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه، يقال سلكته الطريق إذا أدخلته فيه، ولم تمنع الفاء من تعلق الفعل أي الداخلة عليه بالظرف المتقدم وهو في سلسلة، وتقديمها كتقديم الجحيم للدلالة على التخصيص والاهتمام بذكر أنواع ما يعذبون به؛ وثم لتفاوت ما بينها في الشدة لا للدلالة على تراخي المدة.
قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. قال الكلبي: تسلك سلك الخيط في اللؤلؤ وقال سويد بن أبي نجيح: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة، قال ابن عباس: السلسة تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى.
وجملة
(إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) تعليل لما قبلها على طريق الاستئناف، وذكر العظيم للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة، فمن لا يعظمه فقد استوجب ذلك.
(ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يحث ولا يحرض نفسه على إطعامه من ماله أو لا يحث الغير على إطعامه، ووضع الطعام موضع الإطعام كما يوضع العطاء موضع الإعطاء، والإضافة للمفعول، ويجوز أن يكون في الكلام حذف المضاف أي على بذل طعام المسكين والإضافة له لكونه مستحقة وآخذه فهي لأدنى ملابسة فالحض البعث والحث على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه حروف التحضيض المبوب له في النحو لأنه يطلب به وقوع الفعل وإيجاده.
وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون على المساكين الجزاء فيما يطعمونهم، وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم.
وفي جعل هذا قريناً لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدق على المساكين وسد فاقتهم وحث النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشد المآثم، وعن أبي الدرداء قال: " إن لله سلسلة لم تزل تغلي منها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحضني على طعام المسكين يا أم الدرداء " أخرجه أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر.
وقال الحسن أدركت أقواماً يعزمون على أهليهم أن لا يردوا سائلاً وكان بعضهم يأمر أهله بتكثير المرقة لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الثاني بالإطعام، وقيل لعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر أن أقبح العقائد الكفر بالله تعالى، وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب.
299
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)
300
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا) أي يوم القيامة في الآخرة (حميم) أي قريب ينفعه أو يشفع له يحرق له قلبه لأنه يوم يفر فيه القريب من قريبه، ويهرب عنده الحبيب من حبيبه
(ولا طعام إلا من غسلين) أي وليس له طعام يأكله إلا من صديد أهل النار وما ينغسل من أبدانهم من القيح والصديد، وغسلين فعلين من الغسل أو الغسالة فنونه وياؤه زائدتان.
قال أهل اللغة هو ما يجري من الجراح إذا ما غسلت، وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار، وقال قتادة: هو شر الطعام، وقال ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا ما الزقوم إلا الله تعالى، وعن ابن عباس قال: الغسلين الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحومهم.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: " لو أن دلواً من غسلين يهراق في الدنيا لانتن أهل الدنيا (١) أخرجه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس أيضاًً قال الغسلين اسم طعام من أطعمة أهل النار، وقال سبحانه في موضع آخر.
(ليس لهم طعام إلا من ضريع) فيجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فليس له اليوم ههنا حميم
_________
(١) الحاكم ٥٠١/ ٢.
300
إلا من غسلين، على أن الحميم هو الماء الحار، ولا طعام أي ليس لهم طعام يأكلونه، قاله أبو البقاء، ولا ملجىء لهذا التقديم والتأخير.
والتوفيق بين ما هنا وبين قوله في محل آخر (إلا من ضريع) وفي موضع آخر (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) وفي موضع آخر (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) أنه يجوز أن يكون طعامهم جميع ذلك وأن العذاب أنواع والمعذبين طبقات فمنهم أكلة الغسلين ومنهم أكلة الضريع ومنهم أكلة الزقوم ومنهم أكلة النار لكل باب منهم جزء مقسوم.
301
(لا يأكله إلا الخاطئون) المراد بهم أصحاب الخطايا وأرباب الذنوب، قال الكلبي: المراد أهل الشرك، قرأ الجمهور الخاطئون مهموزاً وهو اسم فاعل من خطىء يخطأ من باب علم إذا فعل غير الصواب متعمداً والمخطىء من يفعله غير متعمد، وقرىء الخاطيون بالياء المضمومة بدل الهمزة وقرىء بالطاء المضمومة بدون همزة.
(فلا أقسم بما تبصرون) من المخلوقات
(وما لا تبصرون) منها قال قتادة أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، فيدخل في هذا جميع المخلوقات، والإقسام بغير الله إنما نهى عنه في حقنا وأما هو تعالى فيقسم بما شاء على ما شاء، وهذا رد لكلام المشركين كأنه قال ليس الأمر كما تقولون، و (لا) زائدة والتقدير فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه.
وقيل إن (لا) ليست بزائدة بل هي أصلية لنفي القسم أي لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق في ذلك والأول أولى، وقال البيضاوي: فلا أقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم. أو فلا، رد لإنكارهم البعث و (أُقْسِمُ) مستأنف، قال الكرخي: وأما حمله على معنى نفي الإقسام لظهور الأمر فيرده تعيين المقسم به بقوله بما تبصرون الخ أهـ.
(إنه لقول رسول كريم) أي أن القرآن لتلاوة رسول كريم على الله فهو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوىء الأخلاق، على أن المراد
301
بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنه لقول يبلغه رسول كريم، قال الحسن والكلبي ومقاتل يريد به جبريل، دليله قوله:
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) وعلى كل حال فالقرآن ليس من قول محمد ﷺ ولا من قول جبريل عليه السلام، بل هو من قول الله عز وجل، فلا بد من تقدير التلاوة أو التبليغ، وفي لفظ الرسول ما يدل على ذلك فاكتفى به عن أن يقول عن الله تعالى.
302
(وما هو بقول شاعر) كما تزعمون لأنه ليس من أصناف الشعر ولا مشابهاً لها والشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن (قليلاً ما تؤمنون) أي إيماناً قليلاً تؤمنون وتصديقاً يسيراً تصدقون، وقال البغوي أراد بالقليل نفي إيمانهم وتذكرهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك قلما تأتينا، وأنت تريد لا تأتينا أصلاً.
(ولا بقول كاهن) كما تزعمون فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين هذا (قليلاً ما تذكرون) قرىء بالتاء وقرىء بالياء التفاتاً عن الخطاب إلى الغيبة أي تذكراً أو زماناً تتذكرون و (ما) زائدة في الموضعين.
وذكر الإيمان مع نفي الشعر، والتذكر مع نفي الكهانة لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند كافر بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلى الله عليه وآله وسلم وتذكر معاني القرآن المنافية لطريقة الكهانة ومعاني أقوالهم، قال أبو جهل إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شاعر وقال الوليد بن المغيرة ساحر، وقال عقبة كاهن؛ فنزلت هذه الآية كذا قال مقاتل
(تنزيل من رب العالمين) أي هو تنزيل منه على لسانه.
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل) قرأ الجمهور مبنياً للفاعل وقرىء مبنياً للمفعول مع رفع بعض، وقرىء (ولو يقول) على صيغة المضارع،
302
والتقول تكلف القول وسمي الافتراء تقولاً لأنه قول متكلف وكل كاذب يتكلف ما يكذبه؛ والأقاويل جمع أقوال وهي جمع قول فهو نظير أبابيت جمع أبيات جمع بيت، وسميت الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أقوولة من القول، والمعنى ولو تقول ذلك الرسول وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو جبريل عليه السلام على ما تقدم وجاء به من جهة نفسه؛ وادعى علينا شيئاًً لم نقله.
303
(لأخذنا منه باليمين) أي بيده اليمين؛ قال ابن جرير: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب؛ وقال الفراء والمبرد والزجاج وابن قتيبة: باليمين أي بالقوة والقدرة؛ وبه قال: ابن عباس؛ وقال ابن قتيبة: إنما أقام اليمين مقام القسوة لأن قوة كل شيء في ميامنه؛ وقيل المعنى لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، وقيل المعنى لأذللناه وأهناه.
(ثم لقطعنا منه الوتين) هو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب وهو مناطه إذا قطع مات صاحبه؛ قال الواحدي والمفسرون يقولون إنه نياط القلب؛ وقال ابن عباس عرق القلب وعنه قال نياط القلب وعن مجاهد هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، وقال محمد بن كعب إنه القلب ومراقه وما يليه؛ وقال الكلبي إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء عصب العنق وهما علباوان بينهما العرق: قال ابن قتينة لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد منه أنه لو كذب علينا لأمتناه فكان كمن قطع وتينه.
(فما منكم من أحد عنه حاجزين) أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويدفعنا منه فكيف يتكلف الكذب على الله لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ولا تقدرون على الدفع عنه، وإنما قال " حاجزين " بلفظ الجمع وهو وصف " أحد " رداً على معناه.
303
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
304
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي أن القرآن لتذكرة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد، والظاهر أن هذا وما بعده معطوف على جواب القسم السابق فهو من جملة المقسم عليه. وما بينهما اعتراض.
(وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) أي أن بعضكم يكذب بالقرآن فنحن نجازيهم على ذلك بما يليق به إظهاراً للعدل وفي هذا وعيد شديد
(وإنه) أي القرآن (لحسرة) وندامة (على الكافرين) يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله.
(وإنه) أي القرآن (لحق اليقين) أي عينه ومحضه لكونه من عند الله فلا يحول حوله ريب ولا يتطرّقُ إليه شك وهو من إضافة الصفة للموصوف، أي اليقين الحق، وحق اليقين فوق علم اليقين، وقيل هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين
(فسبح باسم ربك العظيم) أي نزهه عما لا يليق به وقيل فصل لربك والأول أولى، وقيل هو قوله سبحان الله.
304
سورة سأل ويقال سورة المعارج
هي أربع وأربعون آية وهي مكية
قال القرطبي بالإتفاق عن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.
305
بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)
307