تفسير سورة الحاقة

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٦٩) سورة الحاقة مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨)
اللغة:
(الْحَاقَّةُ) القيامة والساعة الواجبة الوقوع وهو اسم فاعل من حق الشيء وجب، وسيأتي مزيد حديث عنها في باب البلاغة.
(القارعة) القيامة والساعة أيضا لأنها تقرع القلوب بأهوالها، والقرع في اللغة نوع من الضرب وهو إمساس جسم لجسم بعنف وفي المصباح: «وقرعت الباب من باب نفع طرقته ونقرت عليه».
(بِالطَّاغِيَةِ) بالواقعة المجاوزة للحدّ والمراد بها الصيحة.
188
(صَرْصَرٍ) الصرصر: الشديدة الصوت وقيل الباردة وتكرير الصاد والراء إشعار بتكريرهما.
(عاتِيَةٍ) قوية شديدة وسيأتي مزيد بحث عنها.
(حُسُوماً) سيأتي ذكرها في الإعراب والفوائد.
الإعراب:
(الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ) الحاقة مبتدأ أو هي نعت لمنعوت وما اسم استفهام تعظيمي في محل رفع مبتدأ والحاقة خبرهما والجملة الاسمية خبر الحاقة والرابط هو إعادة المبتدأ بلفظه (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) الواو عاطفة وما اسم استفهام للتعظيم في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر ما وما الثانية اسم استفهام للتعظيم أيضا في محل رفع مبتدأ والحاقة خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول أدراك الثاني والثالث لأن أدرى ينصب ثلاثة مفاعيل ومعناه أعلم، وقد علقت أدراكم عن العمل بالاستفهام وعبارة أبي حيان: «وما استفهام أيضا مبتدأ وأدراك الخبر والعائد على ما ضمير الرفع في أدراك وما مبتدأ والحاقة خبر والجملة في موضع نصب بأدراك وأدراك معلقة وأصل درى يتعدى بالباء وقد تحذف على قلة فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر فقوله ما الحاقة بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر» (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) كلام مستأنف مسوق لبسط بعض أحوال الحاقة وكذبت ثمود فعل ماض وفاعل وعاد عطف على ثمود وبالقارعة متعلقان بكذبت (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) الفاء عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل وثمود مبتدأ والفاء رابطة لجواب أما وأهلكوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل، وبالطاغية متعلقان بأهلكوا والجملة خبر ثمود (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
189
عاتِيَةٍ)
عطف على الجملة السابقة وصرصر وعاتية صفتان لريح (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) الجملة صفة ثالثة لريح وسخرها فعل ماض ومفعول به والفاعل يعود على الله وعليهم متعلقان بسخرها وسبع ليال نصب على الظرفية الزمانية وثمانية أيام عطف على سبع ليال وحسوما نعت لسبع ليال وثمانية أيام أو مصدر منصوب بفعل من لفظه أي تحسمهم حسوما أو حال من مفعول سخرها أي ذات حسوم أو مفعول لأجله، وعبارة الزمخشري في هذا الصدد جيدة ننقلها فيما يلي لنفاستها: الحسوم لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود أو مصدر كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله حسوما نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة أو متتابعة هبوب الرياح ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرّة بعد أخرى حتى ينحسم، وإن كان مصدرا فإما أن ينتصب بفعله مضمرا أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا، أو يكون صفة كقولك ذات حسوم، أو يكون مفعولا له أي سخرها عليهم للاستئصال، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
ففرّق بين بينهم زمان تتابه فيه أعوام حسوم
أقول: فبينهم ظرف للتفريق إلا أنه أراد المبالغة بجعل التفرق بين أجزاء هذا الظرف أيضا فقال ففرّق بين بينهم زمان وإذا فرق بين الظرف فقد فرّق بين أصحابه بالضرورة فهو من باب الكناية (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) الفاء عاطفة وترى القوم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفيها متعلقان بتري والضمير يعود على الأيام والليالي أو على الريح وأعاده الزمخشري على مهابها وصرعى حال لأن الرؤية هنا بصرية، وكأنهم كأن واسمها وأعجاز نخل خبرها وخاوية نعت لنخل أي ساقطة وجملة كأنهم حال من القوم ولك أن تجعلها مستأنفة
190
(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي أي لا ترى لهم وجعله بعضهم للإنكار ولا مساغ للإنكار هنا وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان بتري ومن حرف جر زائد وباقية مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول ترى أي من بقية أو من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان.
البلاغة:
١- في قوله «الحاقة ما الحاقة» فنان رفيعان أولهما الإسناد المجازي للزمان على حد ليل قائم فالمراد بها الزمان الذي يحق أن يتحقق فيه ما أنكر في الدنيا من البعث فيصير فيها محسوسا مشاهدا بالعيان، وقيل سمّيت حاقة لأنها تكون من غير شك وقيل سمّيت بذلك لأن كل إنسان يصير فيها حقيقا بجزاء عمله فلا يكون في الكلام مجاز على هذين الوجهين، وقال الأزهري: «يقال حاققته فحققته أحقه أي غالبته فغلبته فالقيامة تحقّ كل محاق في دين الله بالباطل أي كل مخاصم» وفي الصحاح: «وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق فإذا غلبه قيل حقه والتحاق التخاصم والاحتقاق الاختصام والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات» وفي الاستفهام تعظيم لشأن الحاقة وتهويل لأمرها وهناك فن ثالث وهو وضع الظاهر موضع المضمر فلم يقل ما هي والفائدة منه زيادة التهويل والتفخيم لشأنها.
٢- وفي قوله «حسوما» مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي لمطلق التتابع وقيل هو استعارة تصريحية تبعية فقد شبّه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكي القاطع للداء.
٣- وفي قوله «كأنهم أعجاز نخل خاوية» تشبيه مرسل، فقد شبّههم بالجذوع لطول قاماتهم وكانت الريح تقطع رءوسهم كما تقطع
191
رءوس النخل المتطاولة خلال تلك الأيام الثمانية أو الليالي السبع قيل هي أيام العجوز وذلك أن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل هي أيام العجز وهي آخر الشتاء وأسماؤها: الصّن والضبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر ومكفىء الظعن.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٩ الى ١٨]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)
اللغة:
(وَالْمُؤْتَفِكاتُ) هي قرى قوم لوط وقد تقدم الحديث عنها.
(بِالْخاطِئَةِ) أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة أو بالخطأ فيكون مصدرا جاء على فاعلة كالعاقبة أو أنها صيغة نسب كتامر وباقل، قال في الخلاصة:
ومع فاعل وفعال فعل... في نسب أغنى عن اليا فقل
192
(رابِيَةً) زائدة في شدّتها على غيرها يقال ربا الشيء يربو إذا زاد.
(واعِيَةٌ)
حافظة لما تسمع.
(فَدُكَّتا) الدك فيه تفرق الأجزاء والدق فيه اختلاط الأجزاء.
(أَرْجائِها) جوانبها جمع رجا ويكتب بالألف لأنه من ذوات الواو لقولهم في التثنية رجوان ومن غريب أمر هذه اللفظة أنها تعذب في الجمع وتسمج في المفرد ولعلك لا تجدها في كلام شاعر فصيح ولم تستعمل إلا مجموعة لأن الجمع يلبسها ثوبا من الحسن لم يكن لها في حال كونها موحدة وقد تستعمل موحدة بشرط الإضافة وهي بهذا تخالف الأرض فإنها تعذب مفردة وتجمع مجموعة ولهذا لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل: «ومن الأرض مثلهنّ» في قوله تعالى «الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ» وهذا مردّه إلى الذوق السليم لأنه الحاكم في الفرق بين الألفاظ.
الإعراب:
(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) كلام مستأنف أو معطوف على سابقه، وجاء فرعون فعل ماض وفاعله ومن عطف على فرعون وقبله ظرف زمان متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة من وقرىء قبله بكسر القاف وفتح الباء أي ومن هو في جهته والمؤتفكات عطف أيضا وبالخاطئة متعلقان بجاء (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) الفاء حرف عطف وعصوا فعل ماض وفاعل ورسول ربهم مفعول به، فأخذهم عطف على فعصوا وأخذة مفعول مطلق ورابية نعت وفتح
193
همزة أخذة لأنها مصدر مرة وليست مصدر هيئة وإنما معنى الهيئة مستفاد من النعت (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) إن واسمها ولما ظرفية حينية أو رابطة وطغى الماء فعل وفاعل وجملة حملناكم خبر إنّا والمراد آباؤكم وفي الجارية متعلقان بحملناكم (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
اللام للتعليل ونجعلها فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بحملناكم والهاء مفعول أول لنجعلها ولكن حال وتذكرة مفعول به ثان وتعيها منصوب بالعطف على نجعل ولكم حال وتذكرة مفعول به ثان وتعيها منصوب بالعطف على نجعل وأذن فاعل وواعية نعت لأذن والضمير في لنجعلها عائد للفعلة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر تفاصيل أحوال القيامة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة نفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفحة نائب الفاعل وهو مصدر متصرف لكونه مرفوعا ومختص لكونه موصوفا بواحدة، وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث، وواحدة نعت (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) وحملت فعل ماض مبني للمجهول معطوف على نفخ والأرض نائب فاعل والجبال عطف على الأرض، فدكّت عطف أيضا ودك فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة والألف نائب فاعل ودكة مفعول مطلق وواحدة نعت ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الفاء رابطة للجواب ويوم ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة مكوّنة من جملتي نفخ وحملت والظرف متعلق بوقعت ووقعت الواقعة فعل وفاعل (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) الواو عاطفة وانشقت السماء فعل وفاعل والفاء عاطفة وهي مبتدأ ويومئذ ظرف مضاف إلى مثله متعلق بواهية والتنوين عوض عن جملة وقد تقدم ذلك وواهية خبر هي (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) والملك
194
مبتدأ وعلى أرجائها خبر ويحمل فعل مضارع مرفوع وعرش ربك مفعول به وفوقهم ظرف متعلق بمحذوف حال من العرش أي حال كونه فوق الملائكة ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بيحمل وثمانية فاعل أي يحمله فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عزّ وجلّ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) يومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بتعرضون وتعرضون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ولا نافية وتخفى فعل مضارع مرفوع ومنكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لخافية وخافية فاعل والجملة حال من الواو في تعرضون.
البلاغة:
١- في قوله «إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية» استعارة تمثيلية وهي من باب استعارة المعقول للمحسوس للاشتراك في أمر معقول وهي الاستعارة المركبة من الكثيف واللطيف، فالمستعار الطغي وهو الاستعلاء المنكر، والمستعار منه كل مستعل متكبر متجبر مضر، والمستعار له الماء، والطغي معقول والماء محسوس والمستعار منه محسوس.
٢- في قوله «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» تكرر حذف الفاعل في هذه الآيات، ومن الظواهر الأسلوبية اللافتة في البيان المعجز ظاهرة الاستغناء عن الفاعل التي توزعت في دراساتنا وكتبنا بين أبواب شتى متباعدة لا تعطي سر هذا الاستغناء، فأنت تقرأ في الصرف كيفية بناء الفعل للمجهول وصيغ المطاوعة وفي النحو أحكام نائب الفاعل أما لماذا حذف الفاعل فذلك موضوع آخر ندرسه في علم آخر هو علم المعاني التي انفصلت عن الإعراب فعاد هذا الإعراب صنعة
195
وهو في الأصل من صميم المعنى كما ندرس في علم البيان إسناد الفعل إلى فاعله على سبيل المجاز دون أن نحاول جمع هذا الشتات المنتشر للظاهرة الأسلوبية لاجتلاء سرّها الذي من أجله تستغني العربية عن الفاعل فتسنده إلى غير فاعله بالبناء للمجهول أو بالمطاوعة أو بالإسناد المجازي، ومما يلفت النظر اطّراد هذه الظاهرة في البيان القرآني في موقف واحد هو موقف القيامة وفي الآيات المكيّة بنوع خاص كما سترى وغاية ما يقوله البلاغيون أنه قد يحذف الفاعل للخوف منه أو عليه وللعلم أو للجهل به وقد مضى المفسرون على تقدير فاعل محذوف لأحداث القيامة هو الله سبحانه أو ملك من ملائكته مع وضوح العمد في البيان القرآني إلى صرف النظر عن الفاعل والاستغناء عن ذكره وأكثر ما قالوه في تأويل ذلك أن الفاعل محذوف للعلم به فما سرّ ظاهرة الاستغناء عنه في أحداث القيامة.
الفوائد:
يشترط في نيابة المصدر عن الفاعل أن يكون متصرفا مختصا بصفة أو غيرها نحو فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، وغير المتصرف من المصادر ما لزم النصب على المصدرية نحو سبحان الله، وغير المختص المبهم نحو سير سير فيمتنع سبحان الله بالضم على أن يكون نائب فاعل فعله المقدر على أن الأصل يسبّح سبحان الله لعدم تصرفه ويمتنع سير سير لعدم الفائدة إذ المصدر المبهم مستفاد من الفعل فيتحد معنى المسند والمسند إليه ولا بدّ من تغايرهما بخلاف ما إذا كان مختصّا فإن الفعل مطلق ومدلول المصدر مقيد فيتغايران فتحصل الفائدة وإذا امتنع سير سير مع إظهار المصدر فامتناع سير بالبناء للمفعول على إضمار ضمير المصدر أحقّ بالمنع لأن ضمير المصدر المؤكد أكثر إبهاما
196
من ظاهره خلافا لمن أجازه كالكسائي وهشام فيما نقل ابن السيد أنهما أجازا جلس بالبناء للمفعول وفيه ضمير مجهول، قال ثعلب: أراد أن فيه ضمير المصدر وتبعهما أبو حيان في النكت الحسان فقال ومضمر المصدر يجري مجرى مظهره فيجوز أن تقول: قيم وقعد فتضمر المصدر كأنك قلت قيم القيام وقعد القعود انتهى، والصحيح المنع، وأما قول امرئ القيس:
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب
فالنائب عن الفاعل بيتعلل ضمير مصدر مختص بلام العهد أو بصفة محذوفة والمعنى ويعتلل الاعتلال المعهود أو اعتلال ثم خصّصه أخرى محذوفة للدليل الدّال عليها وهو عليك المذكورة قبل الفعل وحذفت كما تحذف الصفات المخصصة للموصوفات للدليل كقوله تعالى: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، أي نافعا لأن أعمالهم توزن بدليل ومن خفّت موازينه الآية قاله في المغني وإضمار ضمير المصدر النوعي أجازه سيبويه لأن الفعل لا يدل عليه قاله ابن خروف في شرح كتاب سيبويه ويسؤك من الإساءة جواب الشرط الأول وتدرب بالدال المهملة من الدربة وهي العادة جواب الشرط الثاني والاعتلال الاعتذار يقال اعتلّ عليه بعلة اعتذر له عن قضاء غرضه بعذر وبذلك التوجيه يوجّه وحيل بينهم بالنصب فيكون المعنى وحيل هو أي الحول المعهود أو حول بينهم إلا أن الصفة هنا مذكورة وبذلك يوجه أيضا قول طرفة بن العبد:
فيا لك من ذي حاجة حيل دونها وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله
فيكون المعنى حيل هو أي الحول المعهود أو حول دونها وليس النائب الظرف فيهما لأنه غير متصرف عند جمهور البصريين، وعن
197
الأخفش أنه أجاز في لقد تقطع بينكم ومنا دون ذلك أن يكون الظرف في موضع رفع مع فتحه ثم قال أبو علي وتلميذه ابن جنّي فتحة إعراب واستشكل وقال غيرهما فتحة بناء وهو المشهور.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٩ الى ٣٧]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
الإعراب:
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الفاء استئنافية وأما حرف شرط أو تفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة أوتي صلة وأوتي
198
فعل ماض مبني للمجهول وكتابه مفعول به ثان والأول نائب الفاعل المستتر وبيمينه متعلق بأوتي (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) الفاء رابطة لجواب أما وجملة يقول خبر من وهاؤم فيها استعمالان:
١- أنها تكون فعلا صريحا.
٢- أنها تكون اسم فعل ومعناها في الحالين خذوا.
فإن كانت اسم فعل وهي المذكورة ففيها لغتان المدّ والقصر تقول هاء درهما يا زيد وها درهما يا زيد ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وتتصل بهما كاف الخطاب اتصالها باسم الإشارة فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي أن الكاف ضمير المخاطب تقول: هاك هاءك هاك هاءك إلى آخره ويخلف كاف الخطاب همزة متصرفة تصرف كاف الخطاب فتقول هاء يا زيد، هاء يا هند، هاؤما، هاؤم، هاؤن، وهي لغة القرآن. وإذا كانت فعلا صريحا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاث لغات إحداها أنها تكون مثل عاطى يعاطي فيقال: هاء يا زيد هائي يا هند هائيا يا زيدان أو يا هندان هاءوا يا زيدون، هائين يا هندات، الثانية أن تكون مثل هب فيقال هأهيء هآهئوا هئن مثل هب هبي هبا هبوا هبن، الثالثة أن تكون مثل خف أمرا من الخوف فيقال هأهائي هاءا هاءوا هأن مثل خف خافي خافا خافوا خفن، واختلف في مدلولها والمشهور أنها بمعنى خذوا وقيل معناها تعالوا فتتعدى بإلى وقيل معناها القصد.
وعبارة البحر: «هاء بمعنى خذ وقال الكسائي وابن السكيت: والعرب تقول: هاء يا رجل وللاثنين رجلين وامرأتين هاؤما وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة من غير ياء وللنساء هاين، وقيل: هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه عليه الصلاة والسلام هاؤم
199
بصولة صوته، وزعم قوم أنها مركبة في الأصل والأصل هاء أموا ثم نقله التخفيف والاستعمال وزعم قوم أن هذه الميم ضمير جماعة الذكور».
واقتصر في الكشاف على قوله: «هاء صوت يصوّت به فيفهم منه معنى خذ كأفّ وحس وما أشبه ذلك» وهذا هو المشهور فيها. واقرءوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكتابيه تنازع فيه هاؤم واقرءوا فأعمل الأول عند الكوفيين والثاني عند البصريين وأضمر في الآخر أي هاؤموه اقرءوا كتابيه أو هاؤم اقرءوه كتابيه وأصله كتابي فأدخلت عليه هاء السكت لتظهر فتحة الياء وقد تقدم بحث هاء السكت والجملة مقول القول (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) إن واسمها وجملة ظننت خبرها وأن واسمها سدّ مسدّ مفعولي ظننت وملاق بخبر أني وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وحسابيه مفعول به لملاق لأنه اسم الفاعل والياء مضاف إليه والهاء للسكت (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) الفاء الفصيحة وهو مبتدأ وفي عيشة خبر وراضية نعت لعيشة وفيها ثلاثة أقوال: ١- أنها على النسب أي ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر أي ثابت لها الرضا ودائم لها لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبّر عن أكثر السعادات بأكثر من العيشة الراضية بمعنى أن أهلها راضون بها والمعتبر في كمال اللذة الرضا.
٢- أنها على إظهار جعل المعيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها وأنه لو كان للمعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها فهي من باب المجاز. ٣- وقال أبو عبيدة والفرّاء إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى مفعول نحو ماء دافق بمعنى مدفوق بمعنى أن صاحبها يرضى بها ولا يسخطها كما جاء مفعول بمعنى فاعل كما في قوله تعالى: حجابا مستورا أي ساترا، وعبارة أبي عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل إن العرب وصفوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل والمعنى أنه مفعول وفي القرآن: في عيشة راضية وإنما
200
يرضى بها الذي يعيش فيها. (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) الجار والمجرور بدل من قوله في عيشة وعالية صفة أي مرتفعة المكان والدرجات (قُطُوفُها دانِيَةٌ) مبتدأ وخبر والجملة صفة ثانية لجنة والقطوف جمع قطف بكسر القاف بمعنى مفعول كالذبح بمعنى المذبوح وهو ما يقطفه القاطف من الثمار وأما القطف بفتح القاف فهو المصدر (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)
الجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم ذلك وهنيئا حال أي مهنئين وقال الزمخشري: «هنيئا أكلا وشربا هنيئا أو هنيتم هنيئا على المصدر» ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك أي أكلا هنيئا وشربا هنيئا وقد تقدم القول مفصلا في هنيئا، وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية أو موصولة والجار والمجرور متعلقان بهنيئا وجملة أسلفتم لا محل لها على كل حال وفي الأيام متعلقان بأسلفتم والخالية نعت للأيام (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) الجملة معطوفة على الجملة السابقة، ويا حرف نداء والمنادى محذوف أو لمجرد التنبيه وليت حرف مشبّه بالفعل للتمنّي والنون للوقاية والياء اسمها وجملة لم أوت خبر وكتابيه مفعول به ثان والأول نائب الفاعل المستتر (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وأدر فعل مضارع مجزوم بلم وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وحسابيه خبرها والهاء للسكت والجملة سدّت مسدّ مفعولي أدر المعلقة عن العمل بالاستفهام ومعنى الاستفهام التعظيم والتهويل (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الياء للنداء أو للتنبيه وقد تقدمت وليت واسمها والضمير يعود على الموتة في الدنيا وجملة كانت خبر ليت واسم كان ضمير مستتر يعود على الموتة والقاضية خبر كانت (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) ما نافية وأغنى فعل ماض وعنّي متعلقان بأغنى وماليه فاعل أغنى ومفعول أغنى محذوف للتعميم، ولك أن تعرب ما استفهامية في محل نصب مفعول مطلق لأغنى فيكون الاستفهام للتوبيخ وبّخ نفسه أي أيّ
201
إغناء أغنى ما كان لي من اليسار في الدنيا الذي ضننت به على الفقراء، وبعضهم يعربها مفعولا به مقدما لأغني أي أيّ شيء، فيهمل المصدر والعودة إليه والأول أرجح ويجوز في ماليه أن تكون ما اسم موصول هي فاعل أغنى واللام حرف جر والياء في محل جر والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول أي الذي ثبت واستقر لي والأول أرجح (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) هلك فعل ماض وعني متعلقان به وسلطانيه فاعل هلك والياء في محل جر بالإضافة والهاء للسكت (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) الجملة مقول قول مقدّر وجملة القول مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدّر كأنه قيل: وما يفعل به بعد هذا التحسّر الصادر عنه فقيل يقال خذوه، وخذوه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به، فغلّوه عطف على خذوه والخطاب للزبانية الموكلين بالعذاب (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والجحيم مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده وصلوه فعل أمر وفاعل ومفعول به (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفي سلسلة متعلقان باسلكوه ولم تمنع الفاء من ذلك لأنه قدّم للاهتمام والتخصيص، وذرعها مبتدأ وسبعون خبره وذراعا تمييز والفاء عاطفة أيضا واسلكوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، ثم إن كلمتي ثم والفاء الواقعتين في الجملة الأخيرة إن كانتا لعطف جملة فاسلكوه لزم اجتماع حرفي العطف على معطوف واحد فينبغي أن تكون كلمة ثم لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل
قوله خذوه أي قيل لخزنة جهنم خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم قيل لهم في سلسلة إلخ وتكون الفاء لعطف المقول على المقول وثم لعطف القول على القول وعبارة الزمخشري: «ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغلّ والتصلية بالجحيم وما بينها وبين السلك في السلسلة لا على تراخي المدة» (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) الجملة تعليلة مسوقة لتعليل هذا العذاب
202
الشديد الذي يلقاه وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر يعود عليه وجملة لا يؤمن خبر كان وبالله متعلقان بيؤمن والعظيم نعت لله وعبارة الزمخشري «أنه تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل:
ما له يعذب هذا العذاب الشديد فأجيب بذلك»
(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) الواو عاطفة لتجمع بين الأمرين المستوبلين وهما الكفر والبخل وهما أقبح العقائد والرذائل، ولا نافية ويحضّ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وعلى طعام المسكين متعلق بيحضّ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إن شئت أن تعرف مصيره بعد الحالة الدينية التي ارتطم فيها فليس. وليس فعل ماض ناقص وله خبر مقدّم واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال أو متعلق بما في الخبر من معنى الاستقرار وها للتنبيه وهنا اسم إشارة في محل نصب على الظرفية متعلق بما تعلق به اليوم أيضا وحميم اسم ليس ولا يصحّ أن يكون اليوم خبر ليس لأنه زمان والمخبر عنه جثة وحميم اسم ليس (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) الواو حرف عطف ولا نافية وطعام عطف على حميم وإلا أداة حصر ومن غسلين نعت لطعام فدخل الحصر على الصفة كقولك ليس عندي رجل إلا من بني تميم إذ المراد بالحميم الصديق فعلى هذا الصفة مختصة بالطعام أي ليس له صديق ينفعه ولا طعام إلا من كذا، ونون غسلين وياؤه زائدتان وهو ما يجري من الجراح إذا غسلت، ومن الغريب أن يجيز أبو البقاء جعل من غسلين صفة للحميم كأنه أراد به الشيء الذي يحم البدن من صديد النار على أنه عاد فذكر قوله «وقيل من الطعام والشراب لأن الجميع يطعم بدليل قوله ومن لم يطعمه فعلى هذا يكون قوله إلا من غسلين صفة لحميم ولطعام» وما أكثر ما للنقل من آفات (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الجملة صفة لغسلين ولا نافية ويأكله فعل مضارع ومفعول به مقدم وإلا أداة حصر والخاطئون فاعل ليأكله.
203
البلاغة:
في تقديم السلسلة على السلك نكتة بلاغية هامة وهي التخصيص وكذلك تقديم الجحيم على التصلية أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، وفي تخصيص الطول بسبعين ذراعا مبالغة في إرادة الوصف بالطول كما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة لأن السلسلة كلما طالت كان الإرهاق أشد والعذاب أمضّ. والعدد عند الجاحظ لا يحمل في القرآن معنى التحديد الكمّي، إنما المقصود التعدّد والكثرة.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٥٢]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
اللغة:
(تَقَوَّلَ) التقوّل: افتعال القول لأن فيه تكلفا من المفتعل، وقال
204
أبو حيان: «التقوّل: أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئا لم يقله».
(الْأَقاوِيلِ) جمع الجمع وهو أقوال كبيت وأبيات وأبابيت، وقال الزمخشري وسمى الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول.
(الْوَتِينَ) عرق في القلب يجري منه الدم إلى العروق كلها ويجمع على وتن وأوتنة.
الإعراب:
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) الفاء استئنافية ولا زائدة وقد تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله فلا أقسم بمواقع النجوم، وأقسم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبما متعلقان بأقسم وتبصرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صلة وفي البيضاوي «فلا أقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم أو فأقسم ولا مزيدة أو فلا رد لإنكارهم البعث وأقسم مستأنف» ويرد قول البيضاوي الأول أي جعلها نافية للقسم تعيين المقسم به بقوله بما تبصرون وما لا تبصرون (وَما لا تُبْصِرُونَ) عطف على ما تبصرون (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وقول رسول خبرها وكريم صفة لرسول والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم فهو المحلوف عليه والضمير يعود على القرآن أي قاله الرسول تبليغا عن الله (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وهو اسمها والباء حرف جر زائد وقول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما الحجازية وشاعر مضاف إليه وقليلا صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق أو صفة لزمان محذوف فهو ظرف زمان أي تؤمنون إيمانا قليلا أو زمانا قليلا، وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي أيمانهم البتة ويحتمل أن تكون مصدرية
205
والمتّصف بالقلّة هو الإيمان اللغوي ويكون المصدر المؤول في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويحتمل أن تكون زائدة مؤكدة ولعل هذا الوجه أصوب الوجوه لأنه المناسب لتأكيد القلّة والمعنى أنهم آمنوا بأشياء يسيرة مما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلم من الخير كالصلة والعفاف وإنما آمنوا بهذه الأشياء لأنها جارية وفق طباعهم منسجمة مع مقتضيات مروءاتهم (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل ومن رب العالمين متعلقان بتنزيل (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) الواو عاطفة ولو شرطية وتقوّل فعل ماض وفاعله يعود على النبي صلّى الله عليه وسلم وتأدب أبو حيان فقال أنه يعود على المتقوّل المضمر وليس عائدا على الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه قال أبو حيان «فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام» وعلينا متعلقان بتقول وبعض الأقاويل نائب مفعول مطلق (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) اللام واقعة في جواب لو وأخذنا فعل وفاعل ومنه متعلقان بأخذنا وباليمين يجوز أن تكون الباء على أصلها غير مزيدة والمعنى لأخذناه بقوة منّا فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة ويجوز أن تكون الباء زائدة والمعنى لأخذنا منه يمينه (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولقطعنا عطف على لأخذنا ومنه متعلقان بقطعنا أو بمحذوف حال والوتين مفعول به (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الفاء عاطفة وما نافية حجازية ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد فلما تقدم صار حالا ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه اسم ما وعنه متعلقان بحاجزين وحاجزين خبر ما لأنه هو محطّ الفائدة وقال الحوفي والزمخشري حاجزين نعت لأحد على اللفظ وجمع على المعنى لأنه
206
في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث وعلى هذا الإعراب يكون أحد مبتدأ والخبر منكم وقد ضعف أبو حيان هذا الإعراب قال: «ويضعف هذا القول لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز وإذا كان حاجزين خبرا تسلط النفي عليه وصار المعنى ما أحد منكم يحجزه عمّا يريد به من ذلك والضمير في عنه للقتل أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه أو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أي لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه والخطاب للناس» وعبارة الجلال «حاجزين مانعين خبر ما وجمع لأن أحدا في سياق النفي بمعنى الجمع وضمير عنه للنبي صلّى الله عليه وسلم أي لا مانع لنا عنه من حيث العقاب» وعبارة أبي البقاء: «من زائدة وأحد مبتدأ وفي الخبر وجهان أحدهما حاجزين وجمع على معنى
أحد وجر على لفظ أحد وقيل هو منصوب بما ولم يعتد بمنكم فصلا وأما منكم على هذا فحال من أحد وقيل تبيين والثاني الخبر منكم وعن يتعلق بحاجزين»
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة والكلام معطوف على جواب القسم السابق فهو من جملة المقسم به وما بينهما اعتراض وإن واسمها والضمير يعود على القرآن واللام المزحلقة وتذكرة خبر وللمتقين متعلقان بتذكرة (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) عطف أيضا وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة نعلم خبر وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي نعلم ومنكم خبر أن المقدم ومكذبين اسمها المؤخر (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) عطف أيضا وإن واسمها وخبرها وعلى الكافرين نعت لحسرة أو متعلق به (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) عطف أيضا وإن واسمها وخبرها (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء الفصيحة وسبّح فعل أمر وباسم ربك متعلقان بسبّح أو الباء زائدة وقد تقدم إعراب نظيره والعظيم نعت لربك.
207
Icon