تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الذاريات مكية
وهي ستون آية وثلاث ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ والذاريات ﴾ أي : الرياح، فإنها تذرو التراب، وغيره،
﴿ ذروا ﴾
﴿ فالحاملات ﴾ : السحاب، فإنها تحمل المطر، ﴿ وقرا ﴾ : حملا،
﴿ فالجاريات ﴾ : السفن التي تجري في البحر، ﴿ يسرا ﴾ أي : جريا ذا يسر، أي : ذا سهولة، وعن بعض هي النجوم تجري بسهولة في أفلاكها،
﴿ فالمقسمات ﴾ : الملائكة، ﴿ أمرا ﴾ : يقسمون الأمور بين الخلائق،
﴿ إنما توعدون ﴾ أي : البعث جواب للقسم، وما مصدرية، أو موصولة، ﴿ لصادق ﴾، هو كعيشة راضية،
﴿ وإن الدين ﴾ : الجزاء، ﴿ لواقع ﴾ : حاصل،
﴿ والسماء ذات الحبك ﴾ : الحسن والبهاء، أو لها حبك كحبك الرمل إذا ضربته الريح، وحبك شعر الجعد، ولكنها لا يرى لعبدها، أو ذات الشدة، أو الصفاقة، أو النجوم،
﴿ إنكم ﴾ : أيها المشركون، ﴿ لفي قول مختلف ﴾ : مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع في أمر الدين جواب للقسم،
﴿ يؤفك ﴾ : يصرف، ﴿ عنه ﴾ : عن الدين، أو عن ما توعدون، ﴿ من أفك ﴾ : من صرف أي : يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا أشد منه، والمبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به، وهو قريب من قوله :﴿ فغشيهم من اليم ما غشيهم ﴾[ طه : ٧٨ ] أو يصرف عن الهداية بسبب قول مختلف من صرف، فعن بمعنى السبب، والأجل، والضمير للقول، فإنهم كانوا يتقون من يريد الإيمان يقولون : إنه ساحر مجنون كذا وكذا، فيصرفونه عن الإيمان،
﴿ قتل الخرّاصون ﴾ : الكذابون ممن يختلف قولهم، والمراد من هذا الدعاء اللعن،
﴿ الذين هم في غمرة ﴾ : جهل يغمرهم، ﴿ ساهون ﴾ : غافلون،
﴿ يسألون أيان يوم الدين ﴾ أي : متى وقوع يوم الجزاء،
﴿ يوم هم على النار يفتنون ﴾ : يحرقون، ونصب يوم على الظرف أي : يقع يوم،
﴿ ذوقوا ﴾ أي : يقال لهم ذلك، ﴿ فتنتكم ﴾ : عذابكم، ﴿ هذا الذي كنتم به تستعجلون ﴾ أي : تستعجلون به في الدنيا سخرية.
﴿ إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم ﴾ : من النعيم راضين به، ﴿ إنهم كانوا قبل ذلك ﴾ أي : في الدنيا، ﴿ محسنين ﴾ : قد أحسنوا أعمالهم،
﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ﴾ : ينامون، فما زائدة، ويهجعون خبر كان، وقليلا إما ظرف أي : زمانا قليلا، ومن الليل إما صفة، أو متعلق بيهجعون، وإما مفعول مطلق أي : هجوعا قليلا، ولو جعلت ما مصدرية فما يهجعون فاعل قليلا ومن الليل بيان، أو حال من المصدر، ومن للابتداء، وأما جعلها نافية أي : الهجوع في قليل من الليل منتف بمعنى إن عادتهم إحياء جميع أجزاء الليل، فلا نوم لهم أصلا، أو إن عادتهم التهجد في جميع الليالي، فلا يمكن أن يناموا جميع ليل واحد فجائز عند من يجوز تقديم معمول ما النافية إذا كان ظرفا،
﴿ وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق ﴾ : نصيب، ﴿ للسائل والمحروم ﴾ : هو من ليس له في بيت المال سهم، ولا كسب له ولا حرفة، أو من لا يسأل الناس فيحسب غنيا، أو المصاب ماله،
﴿ وفي الأرض آيات للموقنين ﴾ : دلائل على قدرته وصنعه لا يدركها إلا من يطلب اليقين، لما ذكر في البين أحوال المصدقين بالبعث وأوصافهم عاد إلى ما كان فيه من إثبات القيامة والبعث،
﴿ وفي أنفسكم ﴾ : آيات هي عجائب ما في الآدمي، ﴿ أفلا تبصرون ﴾ : بنظر الاعتبار،
﴿ وفي السماء رزقكم ﴾ : المطر الذي هو سبب الرزق من جانب السماء، ﴿ وما توعدون ﴾ : الجنة، وقيل : الرزق في الدنيا والثواب في العقبى كله مقدر في السماء،
﴿ فورب السماء والأرض إنه ﴾ أي : ما توعدون، أو المذكور من الآيات والرزق وغيرهما، ﴿ لحق ﴾ : واقع، ﴿ مثل ما أنكم تنطقون ﴾ أي : مثل نطقكم، صفة لحق، ومن نصب مثل أراد حقا مثل نطقكم فكما أن نطقكم متحقق فهذا أيضا كذلك.
﴿ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ﴾، فيه تعظيم لشأن الحديث، وتنبيه على أنه إنما عرفه بالوحي، ﴿ المكرمين ﴾ : عند الله تعالى، وعند إبراهيم- عليه السلام- والضيف للواحد، والجمع ؛ لأنه في الأصل مصدر والحكاية قد تقدمت في سورة " هود "، والحجر "
﴿ إذ دخلوا عليه ﴾، ظرف للحديث، أو بتقدير اذكر، ﴿ فقالوا سلاما ﴾ : نسلم عليكم سلاما، ﴿ قال سلام ﴾ أي : عليكم سلام عدل إلى الرفع، ليدل على الثبات، فعمل بقوله تعالى :﴿ فحيوا بأحسن منها ﴾[ النساء : ٨٦ ]، ﴿ قوم منكرون ﴾ أي : أنتم قوم لا نعرفكم،
﴿ فراغ ﴾ : ذهب، ﴿ إلى أهله ﴾ : بخفية، فمن أدب المضيف أن يخفي إتيانه بالضيافة عن الضيف، ﴿ فجاء بعجل ﴾ : مشوي،
﴿ سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون ﴾ : منه، ذكره بصيغة العرض تلطفا في العبارة،
﴿ فأوجس ﴾ : أضمر، ﴿ منهم خيفة ﴾ : خوفا، لما رأى أنهم لا يأكلون ﴿ قالوا لا تخف ﴾ : إنا رسل الله تعالى، ﴿ وبشروه بغلام عليم ﴾، هو إسحاق،
﴿ فأقبلت امرأته في صرة ﴾ أي : جاءت صارة صائحة، أو أخذت في الصيحة كقولك : أقبل يشتمني، ولا إقبال ولا إدبار، ﴿ فصكت ﴾ : لطمت، ﴿ وجهها ﴾ : تعجبا كما هو عادة النساء من الأمر الغريب، ﴿ وقالت عجوز عقيم ﴾ أي : أنا
﴿ قالوا كذلك قال ربك ﴾ أي : قال الله مثل ما بشرناه فواقع البتة، فكذلك مفعول قال، ﴿ إنه هو الحكيم العليم ﴾
﴿ قال ﴾ إبراهيم :﴿ فما خطبكم ﴾ : ما شأنكم ؟ ﴿ أيها المرسلون ﴾
﴿ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ﴾ : قوم لوط،
﴿ لنرسل عليهم حجارة من طين ﴾ أي : السجيل،
﴿ مسومة ﴾ : معلمة مكتوبا على كل حجر اسم من يهلك به، ﴿ عند ربك للمسرفين ﴾
﴿ فأخرجنا من كان فيها ﴾ : في قرى قوم لوط، ﴿ من المؤمنين ﴾ : بلوط،
﴿ فما وجدنا فيها غير بيت ﴾ : أهل بيت، ﴿ من المسلمين ﴾ هم لوط، وأهل بيته إلا امرأته، ولو قلنا إن كل مؤمن مسلم من غير عكس لصح معنى الآية، فلا يستدل عليها باتحاد مفهوميهما،
﴿ وتركنا فيها ﴾ : في القرى ﴿ آية ﴾ : علامة، ﴿ للذين يخافون العذاب الأليم ﴾ : وقد بقى فيها آثار العذاب،
﴿ وفي موسى ﴾، عطف على فيها أي : وجعلنا في موسى آية، فهو من قبيل علفتها تبنا وماء بارد وقيل : عطف على وفي الأرض، ﴿ إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ﴾ : معجزة ظاهرة،
﴿ فتولى ﴾ : أعرض، ﴿ بركنه ﴾، الباء للتعدية، أي : أعرض به نحو : نأى بجانبه، أو للسببية أي : بسبب جنوده وملكه، ﴿ وقال ساحر ﴾ : هو ساحر لما يظهر منه خارق العادة، ﴿ أو مجنون ﴾ : لما يدعي خلاف العقل،
﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم ﴾ : طرحناهم، ﴿ في اليم وهو مليم ﴾ : حال كونه آت بما يلام عليه من الكفر والفجور،
﴿ وفي عاد ﴾ : آية، ﴿ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ﴾ : المفسدة التي لا تنتج نفعا،
﴿ ما تذر من شيء أتت ﴾ : مرت، ﴿ عليه إلا جعلته كالرميم ﴾ : كالشيء البالي المتفتت،
﴿ وفي ثمود ﴾ آية، ﴿ إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ﴾، وذلك حين عقروا الناقة قيل لهم :﴿ تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ﴾[ هود : ٦٥ ] وعلى هذا فالفاء في قوله :﴿ فعتوا عن أمر ربهم ﴾ مرتب على تمام القصة، كأنه قيل : وجعلنا في ذلك الزمان آية، ثم أخذ في بيانه، فقال :" فعتوا ". فلا يرد أن ما قيل لهم : تمتعوا، مؤخر عن استكبارهم، أو المراد من قوله :" إذ قال لهم " إلخ فيهم آية، إذ متعناهم في الدنيا مدة وهديناهم، فعصوا واستحبوا العمى على الهدى ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ بعد ثلاثة أيام ﴿ وهم ينظرون ﴾ : إليها عيانا،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:﴿ وفي ثمود ﴾ آية، ﴿ إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ﴾، وذلك حين عقروا الناقة قيل لهم :﴿ تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ﴾[ هود : ٦٥ ] وعلى هذا فالفاء في قوله :﴿ فعتوا عن أمر ربهم ﴾ مرتب على تمام القصة، كأنه قيل : وجعلنا في ذلك الزمان آية، ثم أخذ في بيانه، فقال :" فعتوا ". فلا يرد أن ما قيل لهم : تمتعوا، مؤخر عن استكبارهم، أو المراد من قوله :" إذ قال لهم " إلخ فيهم آية، إذ متعناهم في الدنيا مدة وهديناهم، فعصوا واستحبوا العمى على الهدى ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ بعد ثلاثة أيام ﴿ وهم ينظرون ﴾ : إليها عيانا،
﴿ فما استطاعوا من قيام ﴾ فيهربوا من عذاب الله تعالى، ﴿ وما كانوا منتصرين ﴾ : ممتنعين منه،
﴿ وقوم نوح ﴾، عطف على محل في عاد، وقراءة الجر يؤيده، أو نصب بمقدر أي : أهلكنا، أو اذكر، ﴿ من قبل ﴾ : من قبل هؤلاء، ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾.
﴿ والسماء بنيناها بأيد ﴾ : بقوة، ﴿ وإنا لموسعون ﴾ : لقادرون، أو وسعنا السماء،
﴿ والأرض فرشناها ﴾ : بسطناها ومهدناها لعبادي، ﴿ فنعم الماهدون ﴾ : نحن،
﴿ ومن كل شيء ﴾ : من الأجناس، ﴿ خلقنا زوجين ﴾ : نوعين كالسماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، ﴿ لعلكم تذكرون ﴾، مرتب على مجموع بناء السماء وغيره،
﴿ ففروا إلى الله ﴾ أي : فقل لهم فروا إليه من عقابه بطاعته، ﴿ إني لكم منه نذير مبين ﴾ : ما يجب أن يحذر، أو بين كونه منذرا من الله بالمعجزات،
﴿ ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين ﴾، كرر للتأكيد،
﴿ كذلك ﴾ أي : الأمر مثل ما أخبرتك من تكذيب الأمم رسلهم، ﴿ ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ﴾ في شأنه :﴿ ساحر أو مجنون ﴾
﴿ أتواصوا به ﴾ أي : أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى اتفقوا على كلمة واحدة ؟ ﴿ بل هم قوم طاغون ﴾ : تشابهت قلوبهم، ولهذا اتفقوا على تلك الكلمة لا لتواصيهم،
﴿ فتول ﴾ : أعرض، ﴿ عنهم فما أنت بملوم ﴾ : على الإعراض بعد ما بلغت رسالتك،
﴿ وذكر ﴾ : لا تدع الموعظة، ﴿ فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ أي : من هو مؤمن في علم الله تعالى أو من آمن بزيادة بصيرته،
﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ أي : إلا لأجل العبادة فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة، وهدوا إليها، فهذه غاية كمالية لخلقهم وتعوق البعض عن الوصال إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وأما قوله :﴿ ذرنا لجهنم ﴾[ الأعراف : ١٧٩ ] فلام العاقبة نحو : لدوا للموت، أو إلا لنأمرهم بالعبادة، أو ليقروا بي طوعا أو كرها أو المراد منهم المؤمنون،
﴿ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ﴾ أي : يطعموني أي : ليس شأني مع عبادي كشأن السادة مع العبيد، وقيل إن يرزقوا أنفسهم، أو أحدا من خلقي وإسناد الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيال الله تعالى وإطعام العيال إطعامه، وفي الحديث القدسي " استطعمته فلم يطعمني "
﴿ إن الله هو الرزاق ﴾ : لجميع خلقه، ﴿ ذو القوة المتين ﴾ : المتين المبالغ في القوة،
﴿ فإن للذين ظلموا ذنوبا ﴾ : نصيبا من العذاب، ﴿ مثل ذنوب أصحابهم ﴾ : من الأمم السوالف، ﴿ فلا يستعجلون ﴾، كما قالوا :﴿ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾[ يونس : ٤٨ ]
﴿ فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ﴾ : يوم القيامة.
والحمد لله على الهداية.