تفسير سورة الرحمن

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة الرّحمن
في السورة تنويه بنعم الله ومشاهد عظمته في الكون وذاته وإشارة إلى عنايته بالإنسان. وتنديد بالمكذبين وإنذار لهم وتنويه بالمتّقين وبشرى لهم. وبيان ما سوف يلقاه الأولون في الآخرة من هول وعذاب والآخرون من نعيم ورفاه.
والسورة فريدة في أسلوبها النظمي، كما أنها عرض عام للدعوة مثل السور النازلة في وقت مبكّر كالأعلى والشمس والليل والقارعة والمرسلات.
والطابع المكي قوي البروز عليها ومعظم المفسرين يروون مكيتها عن ابن عباس وغيره «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)
. (١) علّم القرآن: يسّر فهمه وما فيه من هدى.
(٢) علّمه البيان: الجمهور على أن معنى الجملة (علّم الإنسان النطق اختصاصا له من دون الأحياء).
في الآيات بيان لبعض نواحي عناية الله تعالى بالإنسان: فقد خلقه ممتازا عن سائر الأحياء واختصّه بالنطق والبيان ويسّر له فهم القرآن.
وأسلوب الآيات تقريري عامّ موجه إلى الناس جميعا كما هو المتبادر. وقد
(١) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي والزمخشري والطبرسي والنسفي والنيسابوري والقاسمي. [.....]
89
قال المفسرون إن اسم الرحمن هنا هو بسبيل توكيد كونه هو اسم الله تعالى وبسبيل الردّ على الكفار الذين كانوا ينكرون تسمية الله به ويتساءلون عن ذلك تساؤل المنكر المستغرب. والتعليل وجيه. وقد أشرنا إلى شيء مما كان حول اسم الرحمن في سورتي الفرقان والرعد وعلّقنا على ذلك بما يغني عن التكرار. ولعلّ بدء هذه السورة بهذا الاسم ونسبة مشاهد الكون إليه قرينة على وجاهة هذا التعليل ووجاهة ما قيل في صدد التنديد بالكفّار لكفرهم بالرحمن على ما حكته سورتا الفرقان والرعد. ولقد ذكرت روايات ترتيب السور أن هذه السورة نزلت بعد سورة الرعد «١». ولعل مطلعها قرينة على صحة الرواية.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن الْإِنْسانَ في الجملة تعني آدم وأن جملة عَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني تعليم آدم الأسماء كلّها مفضلا إيّاه على الملائكة على ما جاء في آيات سورة البقرة هذه: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) كما روى عن ابن كيسان أن الْإِنْسانَ تعني محمدا. وروى فيما رواه في سياق هذا القول أن الله علّم آدم اللغات جميعها حتى إنه كان يتكلّم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية! وإلى هذا فقد روى روايات أخرى منها أن الْإِنْسانَ تعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وعَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني القرآن. ومنها أن الْإِنْسانَ تعني الجنس البشري وعَلَّمَهُ الْبَيانَ تعني علّمهم النطق والكتابة والفهم والإفهام. وقد روى الطبري بعض ما رواه البغوي ثم قال: إن كون الإنسان هو الجنس الإنساني وأن معنى عَلَّمَهُ الْبَيانَ هو تعليمه الكلام والحلال والحرام وأمور الدنيا والآخرة هو الصواب. وهذا القول مع القول الأخير الذي يرويه البغوي هما الأكثر اتساقا مع روح الجملتين وعموم الخطاب فيهما. ويصحّ أن يضاف إليهما أن الجملتين هما بسبيل التنبيه إلى نعمة الله العظمى على الجنس
(١) ذكر ذلك المصحف الذي اعتمدناه ثم السيوطي في الإتقان وورد في الترتيب المروي عن ابن عباس وفي ترتيب الخازن.
90
البشري باختصاصه بميزة الكلام والبيان وتكامل الصقل وتيسيره له فهم ما أنزله الله. وبكلمة ثانية فتحه له آفاق العلم والمعرفة والارتفاع به إلى ذرى الكمال. وقد ينطوي فيهما دعوة للجنس البشري إلى تقدير نعمة الله عليه وشكره واستعمالها فيما فيه الخير والحقّ والصلاح.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٥ الى ١٣]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)
. (١) بحسبان: بحساب وتقدير.
(٢) النجم: النبات اللين الذي لا يغلظ ساقه كالبقول والقمح وهناك قول إنه نجم السماء ورجّح الطبري القول الأول وهو الصواب إن شاء الله.
(٣) الميزان: جمهور المفسرين على أن الأول والثاني يعنيان العدل، والثالث يعني الميزان الذي يوزن به.
(٤) ألّا تطغوا: ألا تتجاوزوا وتبغوا.
(٥) ولا تخسروا: ولا تنقصوا.
(٦) الأنام: الخلق عامة.
(٧) ذات الأكمام: ذات البراعم التي يخرج منها الثمر.
(٨) العصف: ورق الشجر والنبات. ومعنى الحبّ ذو العصف أي الزرع الذي ينتج حبّا ويكون في أوله ورقا.
(٩) الريحان: هناك من قال إنه النبات ذو الرائحة المعروفة، وهناك من قال إنه الرزق والطعام وأن جملة وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ بمعنى الحبّ الذي
91
يكون في بدئه ورقا والذي يصير حبا فيكون رزقا وطعاما وعلى كل حال فالكلمتان كانتا مفهومتي الدلالة عند السامعين.
(١٠) آلاء ربّكما: نعم ربكما وآياته.
وهذه الآيات استمرار للآيات السابقة في صدد تعداد نعم الله وعظمته:
فالشّمس والقمر يجريان بحسابه وتقديره. والشجر والنبات يخضعان لأمره وتصريفه.
وهو الذي رفع السماء فوق الأرض ومدّ الأرض وسخّرها لينتفع فيها الخلائق التي بثّها فيها. وجعل فيها فيما جعل الفاكهة والنخل والحبّ ذا العصف والريحان.
وقد تخلّل الآيات استطرادات إلى ما أوجبه الله على الناس: فقد أوجب عليهم العدل والإنصاف وحسن التعامل. وعدم بخس الكيل والوزن لما في ذلك من قوام العمران وطمأنينة المجتمع.
وانتهت الآيات بسؤال استنكاري يتضمّن تقرير كون كل ذلك لا يكون إلا من إله قادر عاقل حكيم عادل فأي آلاء الله محلّ للتكذيب والمماراة.
وفي الآية الأخيرة تنديد موجّه للكفار المكذّبين الذين يكابرون في الحقائق ويتعامون عن آلاء الله الباهرة ويظلون يكررون جحودهم وتكذيبهم. وقد جاء بصيغة التثنية لتشمل الإنس والجنّ منهم على ما يستلهم من ذكر الجنّ والإنس معا في الخطاب الموجّه إليهم في آيات تأتي بعد قليل. ولقد تكررت الآية الأخيرة المذكورة بعد مقاطع السورة وصارت كاللازمة مما يتضمّن معنى شدّة التنديد والتقريع.
ولقد قال المفسّرون «١» إن كلمة لِلْأَنامِ تشمل جميع ما خلقه الله من أحياء. ومع ما في هذا من وجاهة فإنه يتبادر لنا استلهاما من مضمون الآيات ومما احتوته من تنبيهات وواجبات أنه لا يمكن أن يكون موضوعها غير الجنس البشري وأن الكلمة تعني هذا الجنس بنوع خاص.
والتنبيهات والواجبات المذكورة من أمّهات الأخلاق الشخصية والاجتماعية
(١) انظر تفسير البغوي وابن كثير.
92
التي تكررت في سور عديدة بأساليب متنوعة والتي هي من أمّهات أهداف الرسالة المحمديّة في صدد تعامل الناس مع بعضهم على أساس الحقّ والعدل والإنصاف وعدم بخس الناس وغشّهم والطغيان عليهم مما هو مستمر التلقين والمدى في كل ظرف ومكان.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٤ الى ١٦]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦)
. (١) الصلصال: الطين اليابس الذي يرنّ إذا نقر عليه.
(٢) الفخّار: الطين المطبوخ بالنار.
(٣) مارج: قيل إنه اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل إنه المختلط بالدخان. ولعل الثاني أوجه لأن مارج من مرج بمعنى خلط أو مزج.
الآيات استمرار للسياق في بيان عظمة الله والتنديد بالمكذبين لها: فقد خلق الله الإنسان من طين يابس حتى صار له صلصلة إذا قرع عليه يشبه الفخار وخلق الجان من النار فما الذي يكذبه المكذبون من ذلك؟.
وأسلوب الآيات تقريري عام كسابقاتها كما هو ظاهر. ولقد ذكر خلق الإنسان من صلصال ومن طين والجن من نار في آيات سابقة في بعضها تطابق وفي بعضها تباين لفظي وتطابق جوهري. وكما قلنا في المناسبات السابقة نقول هنا بوجوب الوقوف من هذه الأخبار التكوينية القرآنية عند ما وقف القرآن دون تزيد مع ملاحظة أن ذلك بسبيل بيان عظمة الله وقدرته وبديع خلقه. ونرجّح أن السامعين يعترفون بأصلية تراب الإنسان ونارية الجنّ فذكروا بما يعرفونه ليستحكم التنديد بمماراة الممارين منهم.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٧ الى ١٨]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
والآيتان استمرار للسياق وبأسلوب تقريري عام كسابقاتهما أيضا. وقد قال المفسرون «١» فيما قالوه إن القصد من المشرقين والمغربين مشرقا الشمس ومغرباها، ومشرقا القمر ومغرباه في الشتاء والصيف، أو مشرقاهما ومغرباهما إطلاقا. وعلى كل حال فالقصد على ما هو المتبادر لفت نظر السامعين إلى ما يرونه من دقّة سير كل من الشمس والقمر شروقا وغروبا وما في ذلك من مشاهد قدرة الله وبديع صنعه. ولقد قال بعضهم إن عبارة المشرقين والمغربين تعني ما هو معروف اليوم من أن الشمس تشرق على نصف الكرة الغربي في حين تغرب عن نصفها الشرقي وتشرق على نصف الكرة الشرقي في حين تغرب عن نصفها الغربي.
واعتبروها دليلا قرآنيا على هذا الناموس الكوني أو أرادوا أن يستخرجوا هذا الناموس من النصّ القرآني.
ونحن نرى في هذا تمحّلا وتجوّزا وخروجا بالقرآن عن نطاق هدفه الهادي المنبّه إلى بديع كون الله ونواميسه مما يقع تحت مشاهدة الناس وحسب. ومما يمكن أن يورد على المتجوزين والمتمحّلين أن هذا كان سرّا خافيا عن البشر في وقت نزول القرآن لأنه إنما عرف بعد اكتشاف أميركا في القرن التاسع الهجري أو القرن الخامس عشر الميلادي. ولا يجوز أن يدّعي أحد أن هذا السرّ الذي كان من جملة نواميس الكون الجارية كان مغيّبا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرو أحد أن النبي قال هذا السرّ لأحد من أصحابه ولا يجوز لأحد أن يدّعي أن النبي كتمه عنهم لأن كل هذا مناقض للقرآن الذي يقول فيما يقول وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: ٤٤] ووَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: ٨٩].
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥).
(١) انظر تفسير البغوي وابن كثير والطبرسي والكشاف.
94
(١) مرج: خلط ووصل.
(٢) برزخ: حاجز.
(٣) لا يبغيان: لا يطغى أحدهما على الآخر.
(٤) الجواري: جمع جارية وهي سفينة البحر.
(٥) كالأعلام: كالجبال.
والآيات استمرار في السياق والهدف كما هو واضح: فبتقدير الله تعالى يتصل البحران ببعضهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر كأن بينهما برزخ يحجزهما عن بعضهما. وقد يسّر الله للناس استخراج اللؤلؤ والمرجان منهما.
وبتقديره تسير المراكب العظيمة المشابهة للجبال فيهما أيضا فبأي هذه الآلاء يكذب المكذبون ويمارون؟.
وقد تعددت أقوال المفسرين في المقصود من البحرين: منها أنهما البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. ومنها أنهما البحر الأحمر وبحر الهند. أو شطّ العرب وخليج البصرة «١» أو خليج البصرة وبحر الهند. وقد روى الطبري مع هذه الأقوال قولا عن سعيد أنهما بحر في السماء وبحر في الأرض حجزت بينهما قدرة الله وينزل من الأول القطر على أصداف الثاني فيتكون اللؤلؤ والمرجان فيه. والأوجه أحد الأقوال السابقة. حيث يلتقي بحر مع بحر وحيث يخرج من كل منهما اللؤلؤ والمرجان ومهما يكن من أمر فالقصد كما هو المتبادر هو لفت الأذهان إلى ما يشاهده الناس من اختلاط مياه البحار والأنهار ببعضها دون أن يطغى بعضها على بعض.
وفي الآيات دلالة على أنه كان يجري في البحار التي تقع عليها بلاد العرب مراكب عظيمة. وكان يستخرج منها اللؤلؤ والمرجان. وأن هذا وذاك كان مشاهدا أو معروفا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنتفعا به. وموضع حديث عن قدرة الله وعظمته.
(١) انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن.
95
وللشيخ محيي الدين بن العربي الصوفي تفسير للآيتين مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ جاء فيه: (مرج البحرين بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأجاج وبحر الروح المجرّد الذي هو العذب الفرات. يلتقيان في الوجود الإنساني. بينهما برزخ هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجرّدة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها. لا يبغيان لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصتيه. فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه ولا البدن يجسد الروح ويجعله ماديا. سبحان الخالق القادر على ما يشاء) «١».
وفي هذا ما هو واضح من الشطح الذي يبتعد به الشيخ عن معنى العبارة القرآنية الصريحة ودلالتها القطعية.
والشيعة يفسرون جملة مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بعلي وفاطمة رضي الله عنهما وجملة يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ بالحسن والحسين (رضي الله عنهما) «٢».
وفي هذا كذلك ما هو واضح من الشطط والتعسف.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)
. هذا المقطع فصل جديد في الخطاب والتقرير مع اتصاله ببيان عظمة الله.
فالآيات السابقة احتوت تقريرات عن آلاء الله وكونه ونواميسه ونعمته على الإنسان ووصاياه له. وهذا المقطع احتوى تقريرا عن ذات الله. والأسلوب كسابقه تقريري عام وهدفه تقرير عظمة الله أيضا: فكل كائن سواه قابل للفناء وهو الباقي الذي لا يطرأ عليه زوال ولا تغيير. وتعبير وَجْهُ رَبِّكَ بمعنى ذات الله عزّ وجلّ هو تعبير أسلوبي مألوف من المخاطبات البشرية التي نزل القرآن بأسلوبها. وقد نبّهنا على ما ينبغي أن يفهم من كلمة (وجه الله) وأمثالها مع وجوب تنزيه الله عن مماثلة خلقه
(١) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٣ ص ٧.
(٢) الصراع بين الإسلام والوثنية ج ١ ص ٤ المقدمة.
في سياق الآية [٨٨] من سورة القصص بما يغني عن التكرار.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠)
. وهذا المقطع من نوع المقطع السابق أيضا من حيث إنه تقرير عن ذات الله:
فكل من في السموات والأرض محتاج إليه وسائله. وتصريفه للأكوان وشؤون الخلق دائم لا سكون فيه.
ولقد روى البغوي عن مقاتل أحد علماء التابعين ومفسّريهم أن الآية الأولى نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا. وأسلوب الآية تقريري عام. والمقطع استمرار للسياق. فإن صحّ أن اليهود قالوا ذلك فإن الآية تكون احتوت ردّا عليهم في سياق عام ولا تكون قد نزلت لحدتها لأجل ذلك فيما هو المتبادر على أن مكية الآية والسورة وكون أكثر اليهود الممارين في المدينة يحمل على التوقف في الرواية.
ولقد روى الطبري بطرقه حديثا عن عبد الله الأزدي قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا يا رسول الله وما ذلك الشأن. قال: يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع أقواما ويضع آخرين». وقد أورد ابن كثير هذا الحديث مرويا بطرق ابن عساكر وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء أيضا. والمتبادر أن الحديث بسبيل توضيح نبويّ مختصر مفيد لجانب من جوانب شأن الله عزّ وجلّ الدائم في كل أمر ومطلب من أمور ومطالب الكون والخلق وهو ما انطوى في الأسلوب الشامل الذي جاءت عليه الجملة القرآنية.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣١ الى ٣٦]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)
97
(١) أن تنفذوا: أن تخرجوا وتخلصوا وتتفلتوا.
(٢) شواظ: قيل إنه الشرر أو اللهب.
(٣) نحاس: ذكر الطبري أن العرب تسمي الدخان نحاسا بكسر النون. وذكر احتمال أن يكون المعدن المعروف الذي كان يسمى صفرا. وروى البغوي عن قتادة أن المقصود هو النحاس المذاب وهذا إنما يكون من شدّة الحرارة.
وهذه المقاطع فصل جديد آخر، ولكنه غير منقطع عن الفصول السابقة والسياق السابق. فالثقلان هما الإنس والجنّ. والسؤال في اللازمة موجه إلى المكذبين منهما. وقد وجّه الخطاب في الآيات إليهما مباشرة. واحتوت وعيدا وتحدّيا للمكذّبين منهما. فلسوف يفرغ الله لحسابهم على أعمالهم. ولن يستطيعوا أن ينجوا من قبضته ويهربوا من نطاق سلطانه من أي ناحية في السموات والأرض، ولن تتيسر لأحد النجاة إلّا ببرهان أي بإذن من الله تعالى وحجّة مقبولة عنده. وهي الإيمان والعمل الصالح كما هو المتبادر. ولسوف يرشقون بشواظ من النيران والمذاب من النحاس الحارّ فيغلبون أمام الله ويخذلون، ولا ينتصرون ولا يكون لهم أي غلبة ومخلّص.
ولقد اقتضت حكمة التنزيل أن تكون معظم أوصاف النعم والعذاب الأخرويين مستمدة من مألوفات الدنيا على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
والراجح أن الرشق بالنار والنحاس المذاب من هذا الباب. حيث يصحّ القول والحالة هذه أن العرب كانوا يعرفون أو يسمعون بأن ذلك من وسائل الحرب الشديدة. ولعلّها مما كان يعرف بالنار اليونانية ومواد القذف النارية الأخرى.
وتعبير سَنَفْرُغُ لَكُمْ تعبير أسلوبي كما هو المتبادر. فالله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن حتى يصحّ في حقه معنى الشغل والتفرّغ والفراغ. والمقصود منه كما قلنا الإنذار والتهديد بأن الله سوف يحاسبهم ويجزيهم بما يستحقون.
98
ولقد ذكر في سورة الجنّ وسورة الأحقاف وغيرهما شمول تكليف الله للجنّ وشمول حساب الآخرة وثوابها وعقابها لهم تبعا لذلك وأسوة بالإنس، ولما كان هذا مما أخبر به القرآن في جملة ما أخبر به من شؤون الجنّ المغيبة فقد صار من الواجب الإيمان به والوقوف منه عند ما وقف القرآن بدون تزيد. مع ملاحظة أن ذكر ذلك لا بدّ من أن يكون له حكمة ربانية. ولعلّ منها تقرير كون الجن- الذين يعبدهم العرب ويعوذون بهم ويشركونهم في الدعاء مما حكته آيات عديدة في سور سابقة هم أيضا- خاضعين لأمر الله ينال المحسن منهم ثوابه والمسيء عقابه في الآخرة.
ولقد وهم بعضهم أن بين هذه الآيات وبخاصة بين الآية الأولى منها وما يجري اليوم من محاولات الارتفاع في الفضاء والوصول إلى القمر والكواكب الأخرى شيئا من التعارض، حتى لقد أرسل لي أمين عام جماعة الإرشاد الإسلامية في شيبرون في جاوا أندينوسيا يسألني عن ذلك. وواضح من الآيات وشرحها أنها في صدد الآخرة وعذابها وإنذار الجنّ والإنس بهما. وننبه في هذه المناسبة إلى أنه ليس بين تلك المحاولات والنصوص القرآنية أي تعارض. وأن القرآن بما نبّه عليه في الآيات العديدة ومن تسخير الله تعالى السموات والأرض وما بينهما والشمس والقمر والنجوم هو في مقام الحضّ على بذل الجهد في سبيل معرفة كل شيء عن ذلك والانتفاع بكل ناموس أودعه الله في كونه والتنبيه على أن ذلك هو بسبيل معرفة عظمة الله وقدرته وبديع صنعه واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه. والله تعالى أعلم.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٥]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥)
. (١) وردة كالدهان: وردة بمعنى اللون الأحمر، وسميت الفرس الحمراء
بالورد من ذلك. أما الدهان فقيل إنه الدهن ومنه الزيت فتكون الجملة (حمراء بلون الزيت) وقيل إنه الجلد فتكون الجملة (حمراء بلون الجلد المدبوغ).
(٢) آن: شديد الحرارة.
وهذه المقاطع متصلة بالمقاطع السابقة. وهي بسبيل الوعيد بعذاب الآخرة ووصف أهواله على المجرمين المكذبين من الثقلين: فإذا ما جاء الأجل المعين في علم الله انشقت السماء فكانت حمراء مهيبة المنظر. وحشر الإنس والجن جميعا.
وعرف المجرمون بعلاماتهم الظاهرة معرفة تغني عن سؤالهم عن هوياتهم وذنوبهم. وأمر بهم فسيقوا مسحوبين من نواصيهم أو مجرورين من أقدامهم إلى جهنّم حيث يقال لهم هذه جهنّم التي كانوا يكذبون بها وحيث يظلون يتنقلون بين النار والماء البالغ نهاية الشدّة في الحرارة.
والوصف رهيب، والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه إثارة الفزع في قلوب الكفار وحملهم على الارعواء.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٤٦ الى ٦١]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
. (١) أفنان: جمع فنن وهو الغصن اللين الدقيق.
(٢) جنى الجنتين: ثمرهما.
(٣) دان: قريب.
100
(٤) قاصرات الطرف: مرّ تفسيرها في سورة الصافات.
(٥) لم يطمثهن: لم يفضضهن. والطمث هو دم الرحم. وأصل المعنى لم يستنزل دمهن أحد قبلهم من إنس وجان.
والمقاطع فصل جديد فيه بيان المصير الأخروي للذين يخافون الله ويتقونه بالإيمان وصالح الأعمال مقابل فصلي الإنذار والوعيد السابقين، وبيان مصير المجرمين الأخروي جريا على مألوف النظم القرآني. فهي والآيات السابقة سياق متسلسل. وعبارتها واضحة. والوصف الذي احتوته مشوق قوي. وقد استهدف فيما استهدفه كما هو المتبادر تبشير المؤمنين المتقين وتشويقهم. وإغراء غيرهم على الخوف من الله وتقواه والارعواء عن الغي والضلال.
وذكر الفرش التي بطائنها من إستبرق وتشبيه جمال نساء الجنة بالياقوت والمرجان قد يدلّ على أن هذه الأشياء مما يعرفها السامعون ويعرفون أنها عنوان الترف والبهاء والصفاء والجمال.
ولقد روى الشيخان في سياق آية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ عن عبد الله بن قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلّا رداء الكبر على وجهه في جنّة عدن» «١» حيث ينطوي في الحديث توضيح أو تعليل لتثنية الجنة فيه إشارة إلى تفاوت ما بين الجنتين.
ومع ذلك فالمفسرون يروون تأويلات أخرى منها أن واحدة للجنّ وأخرى للإنس. ومنها أن واحدة لمستحقيها وأخرى لأزواجهم. ومنها أن واحدة للنزهة وأخرى للسكن.
وعلى كل حال فإنه لا بدّ من أن يكون لورود الجملة بالنظم الذي وردت به حكمة ربانية في صدد التطمين والتشويق إلى ما أعدّه الله تعالى لمن يخشونه ويتقونه من النعيم الأخروي.
والخوف من مقام الله ذو مدى واسع إيجابي وسلبي حيث يشمل الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح في مختلف المجالات من ناحية واجتناب الإثم
(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٢٤.
101
والفواحش والبغي من ناحية أخرى.
ولقد روى الطبري بطرقه عن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ يوما وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال:
وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي الدرداء. وروى بطرقه أنه قيل لأبي الدرداء في هذه الآية وإن زنى وإن سرق فقال إنه إن خاف مقام ربّه لم يزن ولم يسرق. حيث يبدو أن في الحديث الثاني توضيحا لما فهمه أبو الدرداء من الحديث الأول. وعلى كل حال فإن صحّ الحديث النبويّ الذي لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة فالأولى حمله على أن الزاني أو السارق إذا استشعر بخوف الله بعد عمله وندم وتاب وحسنت توبته وأصلح واصطلح نال رضاء الله وعفوه وصار مستحقا لما وعده لمن خاف مقامه.
[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٢ الى ٧٨]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
. (١) ومن دونهما: هناك من أوّلها بأنها في معنى من دونهما مرتبة وخطورة.
وهناك من أوّلها بأنها قربهما أو جنتان أخريان.
(٢) مدهامتان: منظرهما ضارب إلى السواد من شدّة الاخضرار والنضرة.
(٣) نضاختان: فوارتان. أو ممتلئتان أو الماء فيهما لا ينقطع عن النبع والفوران.
(٤) خيرات: قيل إنها مخففة من خيّرات جمع خيّرة فتكون الجملة: نساء حسان مختارات أو خيّرات.
102
(٥) مقصورات في الخيام: قيل إنها بمعنى محبوسات محفوظات في خيامهن على أزواجهن فلا يخرجن منها لغيرهم.
(٦) رفرف: قيل إنها الوسائد. وقيل إنها الطنافس والبسط، ووصف الرفرف (بالخضر) قد يلهم أنها جمع وأنها متكئات عالية من النبات الأخضر على ما هو معتاد في أيام الربيع.
(٧) عبقري: قيل إنها كناية عن الطنافس والبسط. وقيل إنها وصف لكل جليل نفيس نادر حيا كان أم جمادا. وقيل إنها نسبة إلى بلد يصنع فيها الوشي.
وقيل إن عبقر بلد أو واد للجن في أساطير العرب ينسب إليه كل عجيب. ويستلهم من نظم الآية أن الكلمة وصف ثان لرفرف. فالرفرف التي يتكىء عليها المنعمون في هذه الجنات خضراء عجيبة في رونقها ومنظرها.
وهذا الفصل متصل بالسياق أيضا. وعبارة آياته واضحة هي الأخرى. وقد روى المفسرون فيما رووه «١» في مفهوم وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ إنهما دون الأوليين في المرتبة لأن المؤمنين متفاوتون في الأعمال فاقتضت الحكمة أن تكون جناتهم متفاوتة. وقد لا يخلو هذا من وجاهة. وفي القرآن آيات نبهت على التفاوت في درجات المؤمنين وجزائهم في الآخرة. منها ما مرّ في سورة الواقعة [الآيات ٧- ٣٩] ومنها آية سورة الحديد هذه: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)، وورد أيضا أنهما جنتان أخريان قربهما وهذا أيضا وارد، ومتسق مع مفهوم الإنسان الدنيوي من تعدد الجنات والمنتزهات. وقد يؤيد هذا الاحتمال بالنسبة للمقام أنه ليس في وصف الجنتين السابقتين ونعيمهما ووصف هاتين الجنتين ونعيمهما فرق وتفاوت كما هو الحال في منازل السابقين وأصحاب اليمين الأخروية الموصوفة في سورة الواقعة مثلا.
(١) انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والطبري.
103
ولقد أورد ابن كثير في سياق آية: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ حديثا رواه عمر بن الخطاب (رض) قال: «جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمّد أفي الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها فاكهة ونخل ورمان. قالوا: فيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: نعم وأضعاف. قالوا فيقضون الحوائج قال لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى». وأورد حديثا آخر عن أبي سعيد الخدري (رض) قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب» وأورد في سياق جملة حور مقصورات في الخيام حديثا رواه البخاري جاء فيه: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كلّ زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» «١». وأورد في سياق وصف الجنة وخدمها وما أعد لها وفي أهلها حديثا عن أبي سعيد جاء فيه: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء». وروى الطبري عن ابن مسعود في تفسير الخيام حديثا جاء فيه:
(هي الدرّ المجوّف)، وهناك روايات من هذا الباب عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما فنكتفي بما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونقول إن من الواجب التسليم بما ثبت عن رسول الله والإيمان بأن في ذلك حكمة سامية. ولعلّ من هذه الحكمة التشويق والترغيب. والله أعلم.
ولقد أورد البغوي في سياق الآية الأخيرة حديثا عن عائشة (رض) قالت:
«كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلّا مقدار ما يقول اللهمّ أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» والمسلمون مدعوون للاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الثناء المأثور.
(١) أورد الحديث صاحب التاج أيضا. انظر ج ٤ ص ٢٢٤ مرويا عن عبد الله بن قيس.
104
Icon