تفسير سورة الرحمن

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

ففى هذه المتتاليات: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» ثم «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» ثم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - فى هذه المتتاليات، تدرّج من الإنذار والتخويف من عذاب الله، إلى عرض وسيلة النجاة من عذاب الله وتيسير الاتصال بها والوصول إليها، وهى القرآن الكريم. إلى مساءلة هؤلاء المدعوّين إلى كتاب الله، كيف يكذبون بآلاء الله ونعمه التي من أعظمها وأجلّها هذا الكتاب الذي يدعون إليه؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات: (١- ١٣) [سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١ الى ١٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)
التفسير:
قوله تعالى: «الرحمن......»
[سورة الرحمن.. ونظمها]
فى سورة الرحمن ظاهرة ملفتة للأنظار، داعية إلى التساؤل عنها والبحث عما وراءها من أسرار.. تلك هى التكرار الملتزم فى قوله تعالى:
651
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» فقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، خلال آيات السورة البالغ عددها ثمانيا وسبعين آية..
وقد كان هذا التكرار مدخلا من مداخل الطعن على القرآن، عند كثيرين من مرضى العقول والقلوب، من المستشرقين والمتتلمذين عليهم.. إذ عدوّا هذا التكرار مخلّا ببلاغة الكلام، جائرا على فصاحته، ثم يجاوزون هذا إلى القول بأن هذا التكرار الذي جاء خارجا على الأسلوب العام للقرآن، إنما يمثل حالا من أحوال الصّرع الذي كان يعرض للنبىّ! «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً»..
ولا نعرض لدحض هذه المفتريات، إذ كانت تحمل فى كيانها أكثر من شاهد يشهد عليها بالكذب والافتراء.. وحسبنا أن نقف بين يدى هذا الإعجاز المبين من آيات الله..
فهذا المقطع الذي بدأت به السورة الكريمة، هو مقدمة موسيقية علوّية اللحن، قدسية النغم، لا تكاد تتحرك بها الشفاه، وتتصل بها الآذان، حتى يتفتق من أكمامها هذا الجلال المهيب، الذي يملأ القلوب مهابة وخشية، وحتى يشيع فى النفوس روحا وانتشاء.. سواء فى ذلك من وقف عند تناغم الألفاظ، وتجاوب جرسها، أم من جمع إلى هذا ما يفتح الله له من علم يرى فى أضوائه جلال المعنى، وصدقه المصفّى من شوائب الباطل والضلال..
فالنظم الذي جاءت عليه هذه الآيات، مستغن بنفسه عن أن يحمل كلماته ما تحمل اللغة من دلالات ومفاهيم، متعارفة بين أهلها، وحسبه أن يفعل بنغمه الموسيقى، ما لا تفعل أروع ألحان الموسيقى من روح وانتشاء! فكيف إذا حمل هذا النغم مع ذلك أدق وأصدق وأحكم ما تحمل الكلمات من معنى؟..
انظر كيف يطلع هذا المطلع على تلك الصورة الرائعة الفريدة من النظم..
652
فأنت بين يدى خمس آيات تلاحمت، وتماسكت دون أن يقوم بينها حرف عطف:
«الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ»..
إن ما بينها من تجاوب وتآلف، يجعلها فى غنى عن أن يقوم بينها عاطف يعطف بعضها على بعض، ويجمع بعضها إلى بعض..!
ثم انظر كيف كانت كلمة «الرحمن» التي بدئت بها السورة، هى الميزان الذي تجرى أحكامه على آيات السورة كلها، وتنضبط عليه أنغامها، وتتألف منه وحدة اللحن كله.. فيكون أشبه «بالرتم» الذي يمسك باللحن الموسيقى من مطلعه إلى نهايته!..
«الرحمن».. إنه الذي يمسك بأجزاء السورة كلها، لفظا ومعنى..
فالرحمن، تتدفق من رحمته هذه النّعم، التي تعرضها السورة فى كل آية من آياتها، وقد تصدر القرآن- ومعناه القراءة الواعية فى صحف الوجود وفى كتب العلم وأجلها القرآن الكريم- تصدّر كلّ هذه النعم..
فإنه بغير هذه القراءة لا يهتدى الإنسان إلى الله سبحانه، ولا يتعرف على خالقه، ولا تقوم قدماه على طريق الحق والخير.. ثم يجىء الإنسان على رأس المخلوقات جميعها، إذ هو وحده الذي حمل الأمانة، أي العقل والتكليف، من بينها جميعا، فيكون هو التلقي لمجتمع كلمات الله، القارئ المستبصر، الذي يكشف بقراءته دلائل القدرة الإلهية.. فيؤمن بالله، ويقوم على خلافته فى الأرض، وبقيم موازين العدل فيها..
ثم انظر مرة أخرى إلى هذا التدبير الحكيم الذي تطلع به عليك هذه
653
المقدمة من الفواصل المتتابعة، المتماثلة، مع فاصلة الآية المكررة..
الرحمن.. القرآن.. الإنسان.. البيان.. بحسبان.. يسجدان..
الميزان.. الميزان.. الميزان.. للأنام.. الأكمام.. الريحان..
فهذه اثنتا عشرة فاصلة، سبقت المقطع الذي سيتكرر فى السورة فى قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» فيكون أشبه بمقدمة لهذا التكرار، إذ يكون من شأنه أن يقيم الأذن على هذا النغم، ويربطها به، فإذا تكررت هذه الآية بعد ذلك، لم تجد الطريق إلى الأذن مسدودا عليها، أو مستوحشا منها، بل إن الأذن لتتفتح لها، وتدعوها إليها، وتجذبها نحوها..
وانظر مرة ثالثة..
فلقد سبق هذا التكرار المنتظر، تكرار آخر، يمهد له، ويهيىء السمع واللسان لاستقباله..
وذلك بأن تكررت كلمة «الميزان» ثلاث مرات فى ثلاث فواصل متتابعة، دون أن يفصل بينها فاصل آخر.. ولا شك أن هذا تمهيد بليغ للتكرار الذي سيبدأ بعد هذه الفواصل مباشرة بقوله «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» والذي سيتكرر إحدى وثلاثين مرة..
ثم انظر مرة رابعة فى هذا المطلع.. تجد السورة قد بدئت بآية، هى كلمة واحدة، ثم بثلاث آيات، كل آية فيها من كلمتين..
الرحمن..
علم القرآن..
خلق الإنسان..
علّمه البيان..
654
ثم تجىء بعد هذا آيتان من ثلاث كلمات:
الشمس والقمر بحسبان..
والنجم والشجر يسجدان..
ثم تتلوها آيتان من أربع كلمات:
والسماء رفعها ووضع الميزان..
ألّا تطغوا فى الميزان..
تعقبها آية من ست كلمات:
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان..
ثم تتلوها آية من ثلاث كلمات:
والأرض وضعها للأنام..
تجيء بعدها آية من خمس كلمات:
فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام..
ثم آية من أربع:
والحبّ ذو العصف والريحان..
ثم تجىء بعد هذا الآية:
فبأى آلاء ربكما تكذبان..
فتكون هى القرار الذي ينتهى إليه النغم، والذي يتردد بعد كل آية أو آيتين من السورة..
إن لعلماء الموسيقى مجالا فسيحا للدراسة والإفادة من هذا النظم، الذي تمثل كلّ آية منه جملة موسيقية، تختلف طولا وقصرا، وتأتلف مطلعا- قرارا..
655
أما عند الموسيقىّ، فإنه يجد نفسه، وهو يتلو هذه الآيات إنما يتلقى درسا علويا من ينابيع الموسيقى السماوية، فيستفتح اللحن بكلمة «الرحمن» فيعطيها كل ما يمتلىء به صدره من أنفاس الحياة.. ثم يعود فيوزع أنفاسه بين كلمتين، كلمتين، ثم بين ثلاث ثلاث، ثم بين أربع أربع، ثم بين ست كلمات، هى آخر ما يمكن أن يمتد إليه النفس غالبا. ثم يعود ليلتقط أنفاسه، فيوزّعها بين ثلاث كلمات.. ثم يأخذ نفسه مرة أخرى ليوزعه على خمس كلمات..
وهنا يكون النفس قد توازن، وانضبط على حدود معينة، بين ثلاث كلمات، وخمس كلمات، فتلقاه الآية التي ستكرر على امتداد السورة، «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».. وهى من أربع كلمات، هى وسط بين الثلاث، والخمس!! هذا قليل من كثير لا نهاية له، مما يجده الناظر فى نظم هذا المقطع، الذي بدئت به السورة، والذي جاءت عليه السورة كلها..
أما المعنى الذي وراء هذا النظم، فهو أروع وأعجب.. إنه جامعة معارف، وبحار لآلئ ودرر، لا تزال أبد الدهر تغرى الطالبين لها، الغواصين فى بحارها، ليملئوا أيديهم منها، ويزينوا جيد الزمن بما ينظمون من جواهرها.. وها نحن أولاء نمدّ أبدينا إلى ما يفضل به الله تعالى علينا من فيض كرمه وإحسانه..
قوله تعالى:
«الرَّحْمنُ» هو الله سبحانه وتعالى، المتجلّى بتلك الصفة من صفاته الكريمة،
656
وهى الرحمة، التي هى اللطف الساري فى هذا الوجود، والنور الهادي لكل موجود..
وقد سميت السورة سورة «الرحمن».. فهى بهذا محلّى من مجالى رحمة الله، وكل آية من آياتها رحمة راحمة، ونعمة سابغة، حتى تلك الآيات التي تحمل العذاب إلى الكافرين والضالين.. فإنهم- مع هذا العذاب الذي هم فيه- واقعون تحت رحمة الله، ولولا هذه الرحمة لتضاعف لهم هذا العذاب أضعافا كثيرة، لا تنتهى..
وإن هذا العذاب الذي هم فيه، هو رحمة واسعة بالإضافة إلى ما فى قدرة الله من عذاب، يتعذب به هذا العذاب نفسه!! وقوله تعالى:
«عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ»..
هو أول تجليات رحمة الرحمن، وأعظمها شأنا، فيما يتصل بالإنسان..
ولهذا قدّم تعليم القرآن، أي القراءة، على خلق الإنسان ذاته، الذي هو موضع هذه الرحمة، ومتلّقى غيوثها..
فالقرآن- كما أشرنا من قبل- معناه هنا القراءة والدرس، والتعلم.. ومن أجل هذه القراءة، وهذا الدرس والتعلم خلق الإنسان، ليعرف الله، ويتعبد له، كما يقول سبحانه: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».. (٥٦: الذاريات)
657
فبهذه القراءة الواعية، يكون لقراءة القرآن ثمراتها، التي يحصل بها الخير كله، الذي ملاكه معرفة الله، والإيمان به، والولاء له..
وقد كان سياق المعنى، يقضى- فى ظاهر الأمر- بأن يقدم خلق الإنسان على تعلمه القراءة، مطلقا، أو قراءة القرآن بصفة خاصة.. ولكن النظم القرآنى لا يوزن بميزان نظم البشر لكلامهم.. فهذا كلام الله..
وكلامه صفة من صفاته، والفرق بين كلام الله وكلام البشر كالفرق بين صفات الله، وصفات عباد الله.. ولا تصح المقايسة بحال أبدا بين الخالق، والمخلوق..
نقول- كان سياق النظم يقضى- فى ظاهر الأمر- بأن يقدّم خلق الإنسان على تعلم القرآن، فيقال: الرحمن، خلق الإنسان، علم القرآن..
فماذا إذن وراء هذا النظم الذي جاء عليه القرآن؟
والجواب، أن وراء هذا النظم كثيرا من الأسرار، لا يحصيها العدّ، ولا يحيط بها العقل..
وإنما هى أسرار تتكشف حالا بعد حال، على مسرح العقول، وعلى امتداد الأزمان والآباد..
والذي يبدو لنا من هذا النظم- والله أعلم- أن القراءة، وهى- كما قلنا- قراءة عامة فى صحف الوجود، وفى الكتب- هى التي تكشف للإنسان الطريق إلى الله، وتدله على الله سبحانه من كمال وجلال، ومن تفرد بالخلق والأمر..
658
والتعرف على الله، هو الغاية من خلق الإنسان على تلك الصورة الفريدة، التي امتاز بها عن عالم المخلوقات كلها، والتي استقل بها وحده بحمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، والتي بها أيضا استحق أن يكون أولى من الملائكة بخلافة الله على هذه الأرض..
فلمعرفة الله تلك المعرفة القائمة على وعى، وإدراك، وعلى حساب وتقدير- كان خلق الإنسان..
فمعرفة الله، هى العلة، وخلق الإنسان ليقوم بوظيفة هذه المعرفة هو معلول لهذه العلة، والعلة مقدمة على معلولها.. ولهذا قدم قوله تعالى:
«عَلَّمَ الْقُرْآنَ» على قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ» وقد «عَلَّمَهُ الْبَيانَ»..
أي خلقه ذا عقل وإدراك..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (٥٦: الذاريات) أي ليعرفونى، ويعبدونى.. وما يشير إليه قوله سبحانه:
«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.. ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (٣١- ٣٣: البقرة).. فالله سبحانه وتعالى، قد علم آدم: «خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ» أي خلقه قادرا على البيان والإفصاح عن حقائق الأشياء، والتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال..
ولم يعلّم سبحانه وتعالى الملائكة هذا العلم، ولم يخلقهم على طبيعة
659
ترى هذا التزاوج فى الموجودات، وإنما هم على طبيعة هى من عالم الحق، والخير، والنور، فلا ترى من الأشياء إلا ما هو حق، وخير، ونور..
وهنا يبدو لنا بعض السر فى هذا الجمع بين الجن والإنس فى قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».. فالجن فى هذا المقام كالإنس، فى أن كلا منهما على طبيعة يرى بها الأشياء فى هذا الازدواج:
الخير والشر، والحق والباطل.. وكما جمعت هذه الطبيعة بين الجن والإنس فى رؤية الأشياء على الازدواج- جمعت بينهما فى الخطيئة، وفى عصيان أمر الله.. فعصى إبليس أمر ربه بالسجود لآدم، وعصى آدم ربه فى الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.. فالشيطان عصى فى أمر، وآدم عصى فى نهى.. وعصيان الأمر- فى ميزان التحدّى والمخالفة- أثقل وأشنع منه، فى حال النهى.. إذ كان الأمر إيجابا، والنهى سلبا..
فالأمر فعل، والنهى ترك.. وإتيان المأمورات، مقدم على ترك المنهيات، ولهذا التزم القرآن تقديم الأمر على النهى فى كل مقام اجتمعا فيه، فقال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (١١٠: آل عمران) وقال سبحانه: «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (١٧: لقمان).
وذلك أن فعل الأمر، يحمل فى طياته الانتهاء عن منكر يقع فيه من لا يمتثل الأمر..
ومخالفة الأمر يحمل مع تضييع الأمر، الوقوع فى محذور النهى..
وليس الشأن كذلك فى النهى، الذي يقف بصاحبه عند محذور النهى، إذا هو فعل المنهي عنه..
660
ومن هنا كان إتيان المأمورات مثابا عليه، بخلاف اجتناب المنهيّات، فإنه بحسب المرء باجتنابها أن يسلم من شرها، ويخرج معافى لا عليه، ولا له..
ومع هذا، فإن الشيطان خالف أمر ربه بامتناعه عن السجود لآدم..
وآدم عصى ربه كذلك بإتيان ما نهاه عنه، فأكل من الشجرة- ولهذا كان لكل منهما حسابه وعقابه.. وقد أظهر آدم الندم، وأقبل على ربه تائبا مستغفرا، فتقبّل الله سبحانه وتعالى توبته وغفر له.. وأما الشيطان فقد أحاطت به خطيئته، وأعمته عن طريق الرجوع إلى الله سبحانه، فمضى فى غيّه وضلاله، تصحبه لعنة الله إلى يوم الدين..
وقد تحدّى إبليس- لعنه الله- ربه، ورأى فى نفسه فى انه خير من آدم، وأنه قادر على إفساده، وجعله وليّا له، محاربا لله الذي كرمه وأمر الملائكة بالسجود له!! وكان من حلم الله، على هذا اللعين، أن أفسح له فى مجال التحدي، وأن يجلب بخيله ورجله على بنى آدم، وسيرى أنه مقهور مخذول، فإنه لن ينال من عباد الله مالا، وإنما هو دعوة يستجيب لها من أبناء آدم من سبقت عليه كلمة الله، فكان من أهل النار، كما يقول سبحانه: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ».. وكما يقول سبحانه: «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» (٦: فاطر)..
661
ماذا هناك؟؟
ونحن بين يدى سورة «الرحمن» وفى أنس وروح من رحمة الرحمن، تهب علينا، وعلى غير انتظار، ريح سموم من رياح هذه الدنيا، تلفح وجوهنا، وتكوى مشاعرنا، وتثير بلبلة واضطرابا فى خواطرنا.. حتى ليكاد ذلك يفسد علينا هذا الجو المعطر بأنفاس الرحمة، ويقطع عنا- فى غفلة من إيماننا بالله، وثقتنا فى رحمته- هذا الأنس برحمة الرحمن..
ثم.. ثم ماذا؟؟
ثم نجد رحمة الرحمن الرحيم تحفّ بنا، وتعيدنا مرة أخرى إلى رحاب هذه السورة الكريمة- بعد أن انقطعنا عنها أياما، جريا وراء لقمة عيش نحصّلها من حديث فى صحيفة، أو إذاعة- وإذا بنا نجد أنفسنا وقد أظلّتها السكينة، وعاد إليها الأمن والسلام..
أما هذه الريح السموم، فإننا ندعها لرحمة الرحمن، لتحيل نارها بردا وسلاما.. فذلك هو إيماننا بالله، وثقتنا فى رحمته..
662
ونعود إلى نظم الآيات مرة أخرى..
«الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
فماذا نرى فى هذا النظم، من حيث المعنى، بعد أن كانت نظرتنا مقصورة على حدود النغم والجرس؟
هنا نجد- وهذا فى حدود نظرنا المحدود القاصر- أن الآيات الكريمات يأخذ بعضها بأعناق بعض، فى تعاطف، وتآلف، من غير أن يدخل بينها عاطف صناعى يشى بهذا السر الذي بينها، ويتسمع إلى هذه المناجاة الودود، بين الأحباء والأصفياء..
هذه واحدة!! ثم ماذا؟
«الرَّحْمنُ» ما شأنه؟ وما مظاهر رحمته؟.. ذاك سؤال! «عَلَّمَ الْقُرْآنَ»..
وهذا جواب.. يقوم من ورائه سؤال:
كيف علم القرآن؟
«خَلَقَ الْإِنْسانَ»..
663
وهذا جواب.. يثير سؤالا:
وماذا بين خلق الإنسان، وتعليم القرآن؟
«عَلَّمَهُ الْبَيانَ» وهذا هو الجواب.. فبالبيان الذي علمه الله الإنسان، تعلم القرآن..
ومن وراء هذا الجواب سؤال؟
وأي شىء يقرؤه هذا الإنسان الذي خلقه الله مستعدا للقراءة والبيان لما يقرأ؟..
«الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ»..
«وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ»..
«وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ»..
هذا هو جواب السؤال.. فتلك هى الصحف المنشورة، التي يقرأ فيها هذا الإنسان المهيأ للقراءة، المجهز بأدوات البيان والكشف، بما أودع فيه الخالق من عقل، وقلب، وسمع، وبصر، ولسان يصور به ما رأى ببصره، وما سمع بأذنه، وما وقر فى قلبه، وما تشكل فى عقله- يصور ذلك كله بكلمات واضحة مبينة، يهتدى بهديها، ويمشى فى حياته على ضوئها..!
فالشمس والقمر.. يجريان بحساب مقدور.. كل فى فلكه..
«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ.. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ». (٤٠: يس) وهذا كتاب يضم من العلوم والمعارف ما لا يقع تحت حصر، ولا ينتهى
664
عند حد، إذ كان موضوعه العالم العلوي وما فيه من أفلاك، وما يدور فى هذه الأفلاك من نجوم وكواكب..
والشمس والقمر، هما أظهر ما فى العالم العلوي المنظور لنا من نجوم وكواكب.. بحيث يقعان فى نظر كل إنسان، ويدنوان من مفهوم كل ذى نظر، فلا يكاد يوجد إنسان على ظهر هذا الكوكب الأرضى إلا وعنده علم عن الشمس والقمر، على اختلاف فى درجة هذا العلم، وعلى تفاوت بعيد بين القدر الذي يقع لكل إنسان منه، إذ بينما يكون هذا العلم عند بعض الناس مجرد نظر جامد بارد، ولا يحرك شعورا، ولا يثير إحساسا، إذ هو عند آخرين مثار خيال، ومبعث وجدان، ومنطلق إدراك، وجامعة علم وفن وفلسفة..!
فإذا نظر الإنسان إلى الشمس والقمر، نظرا قائما على الدرس والحساب، أسلمه هذا النظر إلى ما وراء الشمس والقمر، مما حواه العالم العلوي من أجرام ظاهرة يراها رأى العين، أو خفية يلتمس لها الوسائل التي يراها من خلالها..
وبهذا النظر المستند إلى الحسبان أو الحساب، عرف الإنسان كثيرا من أسرار هذا العالم، ورأى أن الشمس والقمر الذين يبدوان وكأنهما سيّدا الأجرام السماوية، ليسا إلا إشارتين باهتتين تطلّان من هذا العالم على الأرض، وأنهما بالنسبة لهذا العالم أشبه بحصاتين فى سفح جبل الهملايا بالهند مثلا..!
فإذا بلغ الإنسان اليوم من العلم بحيث يضع قدميه على القمر، فليس ذلك إلا خطوة قصيرة من مسيرة طويلة العلم، فى مسابح هذا العالم الذي لا حدود له..
وإذا قصر نظر الإنسان عن أن يرى ما وراء الشمس والقمر فى العالم العلوي،
665
فليقم نظره على ما بين يديه من العالم الأرضى.. حيث يجد وجه الأرض وقد نجمت فيه نجوم أشبه بنجوم السماء وكواكبها..
«وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ»..
ففى الأرض نجم، وشجر..
والنجم، هو النبات الذي لا ساق له، مما يظهر على وجه الأرض، كالحشائش، ونحوها..
والشجر هو ما قام على سوق وما اتصل بهذه السوق من فروع، وأغصان وأوراق، وأزهار، وثمار..
والنجم من نبات الأرض، يمثّل الكواكب والنجوم المنثورة فى السماء، والتي تبدو فى مرأى العين صغيرة باهتة..
والشجر، يمثل الشمس والقمر فى ظهورهما، وكبر حجمهما..
وإذا كان جريان الشمس والقمر بحسبان، فإن قيام النجم والشجر من النبات، بحسبان أيضا، إذ أن كلّا منهما فى يدالقدرة الإلهية، قائم فى محراب الولاء، والخضوع، والسجود، لله رب العالمين.. وأنه كما فى العالم العلوي مجال فسيح النظر والكشف عن علوم لا حدود لها، فكذلك فى عالم النبات، نجمه، وشجره- علم لا ينتهى أبدا.. «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ..»
ثم، إنه إذا كان فى الناس من لا يرى هذا التفصيل فى العالم العلوي أو الأرضى، فإنه لن يكون فى الناس أبدا من لا يرى السماء جملة، أو الأرض جملة..
«وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ
666
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ»
..
فالسماء مرفوعة كالمظلة فوق الناس، بلا عمد تقوم عليها، وإنما يد القدرة هى التي تمسك بها، وتقيمها على ميزان دقيق لا ينحرف قيد أنملة: «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ».. أي أقامها، ووضع لها حسابا دقيقا، وميزانا مضبوطا تجرى عليه أمورها..
وقوله تعالى: «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ.. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ..»
هو دعوة إلى أن يقيم الناس أمرهم فى التعامل مع هذه العوالم على العدل والإحسان، فلا ينحرف بهم النظر عن مواقع الحق منها، فذلك ضلال وخسران للميزان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فى أيديهم، وهو عقولهم التي من شأنها أن تضبط مسيرتهم فى الحياة، كما تضبط السماء دعائمها بهذا الميزان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لها..
وفى قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ» - إشارة إلى أن هذه الأرض، هى فى خلافة الأنام، وهم الناس، وأن معهم الميزان الذي يضبطون به أمور الأرض، أشبه بذلك الميزان الذي وضعه الله سبحانه لضبط السماء وعوالمها..
وفى هذا تكريم للإنسان، ورفع لقدره، وإعطاؤه حكم هذه الأرض بالميزان الذي معه، وهو العقل.. وهو بهذا الميزان استحق أن يكون خليفة الله فى الأرض.. فإذا لم يقم أمرها على ميزان الحق والعدل والإحسان، اضطرب أمره، وفسد حاله، وساء مصيره..
«فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» أي أن هذه الأرض التي وضعها الله
667
للأنام، وأقامها على هذا الوضع- قد هيأها الله سبحانه لتكون مأوى صالحا لحياة الإنسان، فأخرج منها فاكهة ونخلا ذات أكمام..
والأكمام: جمع كمّ، وهو الجراب الذي يضمّ طلع النخل، الذي يتكون منه الثمر..
«وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ»..
معطوف على قوله تعالى: «فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» - أي وفيها الحبّ ذو العصف والريحان..
«وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» هو الحبّ الذي يؤكل كالحنطة وغيرها..
والعصف، هو أوعية هذا الحب التي تنفصل عنه عند نضجه، فتكون حطاما وهشيما، كما فى قوله تعالى: «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ»..
أما الريحان، فهو ذلك النبت الطيب الريح.. وهو إشارة إلى كل نبت طيب ريحه.. وفى هذا إشارة إلى أن الإنسان ليس مجرد حيوان يطلب حاجة الجسد من طعام وشراب وحسب، وإنما هو كائن أسمى من عالم الحيوان، لا يقف عند مطالب الجسد، بل إن لروحه مطالب لا تقل عن مطالب الجسد، وحاجته إلى ما يقيم وجوده..
فالريح الطيب ينعش النفوس، ويغذّى الأرواح..
وفى التعبير القرآنى بكلمة: «والريحان» عن النبت الطيب الريح، إشارة إلى أن اتجاه هذا النبت إنما هو إلى الروح.. فالريحان والروح من مادة واحدة لفظا، ومعنى!! وبعد هذا العرض الكاشف لرحمة الرحمن، وقدرته، وقيومته على هذا الوجود، علوه، وسفله، وخلقه الإنسان، وقد علمه البيان، ووضع بين يديه
668
الميزان الذي يزن به الأمور، ويفرق به بين خيرها وشرها- بعد هذا يجىء قوله تعالى مخاطبا الكائنين اللذين لهما وجود ظاهر على هذه الأرض، ولهما مجال فسيح فيها، وصراع محتدم بينهما على الخير والشر اللّذين فى كيانهما.. فيقول سبحانه:
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
فالخطاب هنا من الحق سبحانه وتعالى، إلى عالمى الجن والإنس، إذ هما- كما قلنا- الكائنان المكلّفان، بما لهما من عقل وإدراك. وهما اللذان يحاسبان، ويثابان، أو يعاقبان.
والآلاء: جمع إلى، على وزن معى، وألى على وزن على وهى النعم..
والاستفهام هنا تقريرى، إذ كانت نعم الله ظاهرة، تلبس كل ذرة فى هذا الوجود.. حيث أن الوجود نفسه، هو نعمة بالنسبة العدم..
عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكنوا، فقال: «ما لى أراكم سكوتا؟ للجنّ أحسن جوابا لربها منكم»..
قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ما أتيت على قوله تعالى:
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلا قالت الجن: ولا بشىء من نعم ربنا نكذب»..
وعن جابر بن عبد الله، قال خرج رسول الله ﷺ على أصحابه، فقرأ سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن، ليلة الجن، فكانوا أحسن ردودا منكم.. كنت
669
كما أتيت على قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» قالوا: ولا بشىء من نعمك ربّنا نكذب.. فلك الحمد»..
وقد استدل بهذا الحديث على أن السورة مكية، لأن ليلة الجن التي يشير إليها النبي ﷺ كانت قبل الهجرة، وذلك كان بوادي نخلة حيث بات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو فى طريق عودته من الطائف إلى مكة، بعد أن عرض دعوته على ثقيف بالطائف، فردوه، ولم يقبلوا منه..
الآيات: (١٤- ٣٢) [سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ١٤ الى ٣٢]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢)
670
التفسير:
قوله تعالى:
«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
الصلصال: الطين الجاف، الذي له صلصلة وجرس عند احتكاك بعضه ببعض.. وهذا من طبيعة الطين اللازب، أي اللزج إذا جف..
ولهذا شبه بالفخار، وهو الطين الذي وضع فى النار حتى احترق، وصار فخارا..
والمارج من النار، هو المضطرب من لهيبها، المختلط بالدخان..
وفى الجمع بين خلق الإنسان، وخلق الجان- جواب على سؤال يرد عند ذكر قوله تعالى فى الآية السابقة على هاتين الآيتين، وهو قوله تعالى:
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» حيث لم يذكر فى السورة قبل هذه الآية ما يدل على هذا المثنّى الذي يتجه إليه الخطاب.. فكان ذكر خلق الإنس والجن، والجمع بينهما، جوابا على هذا السؤال: من المخاطب هنا بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ؟.. إنهما هذان المخلوقان، الإنس والجن..
وقدّم خلق الإنس على خلق الجن، مع أن الجن أسبق فى الخلق
671
من الإنس- تشريفا للإنسان، وتكريما له فى رتبة الخلق، حيث أمر الله الملائكة- ومنهم الجنّ- أن يسجدوا له، احتفاء بمولده..
قوله تعالى:
«رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
أي هو سبحانه رب المشرقين، ورب المغربين، أي مشرقى الشمس، ومغربيها، صيفا وشتاء..
وهذه الربوبية، هى نعمة عظيمة جليلة للموجودات كلها، إذ كان كل موجود هو صنعة هذه الربوبية، وغذىّ فضلها وإحسانها.. فهل من مكذّب بهذه الآلاء، منكر لها؟
قوله تعالى:
«مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
مرج البحرين: أي أثار بينهما تماوجا، وتدافعا واضطرابا، عند التقاء أحدهما بالآخر.. فقوله تعالى: «يَلْتَقِيانِ» حال يكشف عما وراء هذا الالتقاء من تماوج، وتدافع بينهما، بما يحدثه هذا الالتقاء.
والمراد بالبحرين: المالح، والعذب..
والبرزخ: الحاجز الذي يحجز بين شيئين..
فمن رحمة الرحمن الرحيم، أنه جمع بين البحرين: هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، وهما على طبيعة واحدة، وفى مرأى العين ماء، لا فرق بين الملح والعذب إلا فى المذاق.. ومع هذا فقد جعلت القدرة
672
الإلهية بينهما حاجزا، فلا يبغى أحدهما على الآخر، ولا يجاوز حدوده..
كما يقول سبحانه: «وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً» (٥٣: الفرقان)..
فمن ينكر هذا؟ ومن يكذب بآلاء الله ونعمه على عباده، فلا يستقبل هذه النعم بالحمد والشكران؟.. فالتكذيب بالنعم، هو كفر بها، وجحود لفضل المتفضل بمنحها..
قوله تعالى:
«يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
أي يخرج من البحرين- الحلو والملح- اللؤلؤ والمرجان..
واللؤلؤ: إفراز حيوان بحرى، داخل بيت صدفىّ، لونه أبيض، وتتخذ منه الحلي الثمينة، من قلائد، وقرط، وخواتم.. ولونه أبيض، مشرب بصفرة.
والمرجان: خرز أحمر، صغار، وهو نباتى أقرب إلى عالم الحيوان..
واللؤلؤ يخرج من التقاء الماء العذب بالماء الملح، أو حيث خلجان البحار الساكنة التي ينزل عليها ماء المطر، فيكون الماء العذب، سواء من الأنهار، أو الأمطار، أشبه باللقاح للماء الذي يتخلّق منه حيوان اللؤلؤ، ولهذا أضيف إخراج اللؤلؤ إلى البحرين معا.. الملح والعذب..
ومن كلّ من البحار والأنهار، يستخرج اللؤلؤ والمرجان.. ولكن لا بد من التقاء الملح بالعذب، والعذب بالملح، على أية صورة من الصور حتى يتخلّق منهما اللؤلؤ والمرجان.. فتارة يكون البحر هو محتواهما،
673
وتارة يكون النهر هو مستخرجهما، حسب الظروف التي يتم بها التقاء أحدهما بالآخر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ.. هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» (١٢: فاطر)..
قوله تعالى:
«وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
الجوار: السفن، جمع جارية، لأنها تجرى طافية على وجه الماء..
والمنشآت: أي المصنوعات، بأيدى الناس..
والأعلام: الجبال.. جمع علم، وسمّى الجبل علما لظهوره، وإشرافه على الأرض، كمعلم من معالمها، وسميت الراية علما، وسمى الرجل العظيم البارز علما، لهذا المعنى.
قوله تعالى:
«كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
الضمير فى «عليها» : يعود على الأرض التي يعيش عليها الناس، وتجرى فيها الأنهار، وتتلاحم بالبحار، ويتخذ الناس من ظهور البحار والأنهار مطايا ذللا يسرجونها بالسفن، وينتقلون عليها، ويحملون أمتعهم، وتجاراتهم من بلد إلى بلد..
فهذا الذي يعيش فيه الناس، ويشغلون به، ينبغى ألا يشغلهم عن الإعداد
674
ليوم القيامة، والعمل للحياة الأخرى، التي هى الحياة حقّا.. كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (٦٤ العنكبوت) أما هذه الحياة الدنيا، وأما ما يتقلب فيه الناس منها، فهو فان لا بقاء له..
وقوله تعالى: «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» هو إلفات إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّه الحىّ الباقي، الذي ينبغى أن تتجه إلى وجهه الوجوه، وتتعلق برضاه وكرمه الآمال، ويرجى عنده الخير كله.. فهو صاحب الملك، وبيده الخير، والفضل، والإكرام، لمن يقصدون وجهه، ويبتغون فضله وكرمه..
ويلاحظ أن صفة الجلال والكرم هنا، إنما كانت لوجه الله سبحانه، وذلك إشارة إلى أن الاتجاه إلى الله والإقبال عليه، من شأنه أن يفسح الطريق للعبد إلى رضاء الله، والإقبال عليه بوجهه سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى: «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى» (١٩- ٢١ الليل).
والسؤال هنا هو: هل هذا الفناء المسلط على الحياة الدنيا وما فيها- هل هو نعمة من النعم، حتى يدعى الإنس والجن إلى الإقرار بها وشكرانها؟..
ونعم، فإن هذا الفناء للدنيا، هو نعمة من أجلّ النعم، إذ كان مدخلا إلى حياة باقية خالدة.. ولو أن أمر الناس كان إلى تلك الحياة الدنيا وحدها، وليس لهم حياة أخرى بعدها، لكان فى ذلك الخسران المبين الناس جميعا،. إذ أن أسعد الناس حظا فى هذه الدنيا هو مبخوس الحظ،
675
إذا كانت حياته محدودة بهذه الحياة، وكان وجوده منتهيا عندها إلى الفناء الأبدىّ، بعد أن عانى الإنسان فى الحياة الدنيا ماعانى من آلام، وأحزان، وأمراض وشيخوخة، ونقص من الثمرات والأنفس! فالحياة على أية حال، وعلى أية صورة خير من العدم، إنها نعمة تستوجب الحمد والشكران لله رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (٢٨: البقرة).
ففناء الناس وموتهم نعمة، إذ أن هذا الموت- كما قلنا- هو مدخل إلى عالم الخلود، وبقاء الله سبحانه وتعالى، هو مجتمع النعم كلها، إذ أن بقاءه ضمان لوجود هذا الوجود..
فبأى هذه النعم يكذّب الثقلان.. الجن والإنس؟
قوله تعالى:
«يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
أي أن كل من فى السموات والأرض يسأل الله من فضله وإحسانه، سؤال الفقير إلى الغنىّ، والضعيف إلى القوى، ومن لا يملك أي شىء، لمن يملك كل شىء.
فكل من فى السموات والأرض مستمد من فضل الله، سأل أولم يسأل..
فإن لم يسأل بلسانه، فإن علم الله بحاله يغنى عن سؤاله.. وهذه المنن والعطايا التي تعيش فيها المخلوقات، وتحفظ عليها وجودها، هى من عند الله، ومن واسع رحمته، يجود بها عليها، سألت أو لم تسأل.. فالسؤال هنا كناية عن الحاجة، وكل مخلوق فى حاجة أبدا إلى عون الله، وإلى أمداد إنعامه وإحسانه..
676
وقوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»..
الشأن: الأمر، والحال..
أي إن الله سبحانه وتعالى، فى تصريف، وتدبير للخلق، فى كل يوم بل فى كل لحظة.. فذلك شأن المالك فيما ملك، والخالق لما خلق، لا يغفل أبدا عن ملكه، ولا يفتر أبدا عن تدبير شئون خلقه.. «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» (٤١. فاطر)..
وليس ذلك بالأمر الذي يتكلّف الله سبحانه له جهدا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ».. (٢٥٥: البقرة)..
فليس الوجود مجرد آلة تدور على وجه واحد، لا يتغير أبدا، بل هو فى كل آنة من آنات الزمن، بل فى كل فراغ بين الآنة والآنة- إن كان هنا فراغ- هو فى صورة غير الصورة التي كان عليها.. إنه فى تجدّد دائم، وفى حركة دائبة.. يقبدل أثوابا بأثواب، وأحوالا بأحوال.. دون أن يقع فى نظامه خلل أو اضطراب.. وهذا برهان على قدرة الخالق جلّ وعلا، وعلى أن على هذا الوجود إلها قادرا، عالما، حكيما، يغيّر فيه ويبدل كيف يشاء، مع احتفاظه بهذا النظام المحكم البديع.. ولو كان الوجود وجها واحدا لما قام منه شاهد أبدا على أن له مدبّرا يدبره، ويحكم أمره..
وننظر إلى الهرم الأكبر فى مصر مثلا، وهو أعجوبة من عجائب الدنيا، ومعجزة من معجزات الإنسان.. إن بقاءه على تلك الحال فى علوّه وشموخه منذ آلاف السنين، وإن شهد لبانيه بالقدرة، والبراعة، فإن هذا البقاء نفسه على تلك الحال التي قام عليها من أول يومه، هو ذاته شهادة وفاة لهذا الباني البارع،
677
وإلّا لأحدث فيه شيئا يدلّ على أنه حى يعيش فى عالم الأحياء..
إن من شأن الكائن الحىّ أن يتحرك، ويعمل، ويؤثّر، وأن يبلى قديما ويلبس جديدا، وأن يأخذ كل يوم وضعا جديدا فى الحياة.. فهذا الذي يشهد بأنه حىّ، له وجود مؤثر فى الحياة..
والله سبحانه حى حياة أبدية سرمدية، بدليل هذا التحول المستمر فى عوالم الوجود، القائم عليه بسلطانه، خلقا وتدبيرا..
وفى معنى قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيما بروى عن أبى ذرّ: «إن من شأنه- سبحانه- أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين وليس هذا التبدل والتحول فى أحوال الناس، وفى صور الموجودات، هو مما يحدثه الله سبحانه حين يحدث، وإنما هى أمور واقعة فى علم الله القديم، مسطورة فى كتابه المكنون، فيظهر منها ما يظهر فى الوقت المقدور له، وعلى الصورة التي أرادها سبحانه وتعالى أزلا.. إنها أمور يبديها ولا يبتديها..
قوله تعالى:
«سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»
..
الثقلان: الإنس والجن، وسميا بالثقلين، لأنهما ثقلا الأرض، كلّ يأخذ جانبا من كفتى ميزانها.. الإنس فى كفة والجن فى كفة.. عالم الظهور فى جانب، وعالم الخفاء فى جانب.. ومثل هذا «الملوان» وهما الليل والنهار، لأنهما يملآن الزمان كله، ويستوعبان كل آناته، ولحظاته.
678
وقوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» كناية عن رقابة الله سبحانه وتعالى للجن والإنس، رقابة محكمة، بحيث لا يفلت أحد منهما من قبضته..
أمّا الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه أمر عن أمر.. ولكن فى قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ» ما يؤكد للجن والإنس أنهما تحت رقابة خاصة، على غير تلك الرقابة العامة القائمة من الله سبحانه وتعالى على الوجود كله، إذ هما- كما قلنا- المخلوقان اللذان يناط بهما التكليف، ويقعان تحت حكم المساءلة والحساب والثواب، وإذ كان الله سبحانه لا يحاسب غير هما- فيما نعلم- فكأن رقابة الله سبحانه وتعالى متجهة كلّها إليهم.. وهذا كله على التمثيل والتشبيه، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وهذا فضل من فضل الله تعالى، على الجن والإنس، إذ هما من بين المخلوقات على تلك الصفة التي تجعل لهما هذا الامتياز عن المخلوقات جميعها، والتي تجعلهما فى مقام الحضور بين يدى الله للمساءلة والحساب.. وهذا الحساب، وتلك المساءلة- على أي حال يكونان عليها، وإلى أية نهاية ينتهيان بمن يحاسب ويسأل- دليل على أهلية المحاسب المسئول، وعلى أنه له إرادة عاملة.. أما من لا يحاسب ولا يسأل، فلا تكاد تتضح ملامح شخصيته، ولا تبين له ذاتية ذات شأن وأثر..
وهذا الوجود على تلك الحال التي عليها الجن والإنس هو- كما قلنا- نعم جليلة من نعم الله.. فمن يكذب بهذه النعم، وهى تشكل وجوده، وتقيم كيانه، وترفع قدره فى العالمين؟
هذا، ويلاحظ أن ألف هاء التنبيه قد حذفت من قوله تعالى: «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» فى خط المصحف العثماني.. فما حكمة هذا الحذف؟.
679
نقول- والله أعلم- إن ذلك الحذف هنا- مقصود من كتّاب المصحف، من صحابة رسول الله رضى الله عنهم، وهو- والله أعلم- إشارة إلى فهم خاص لهم، اقتبسوه من أضواء النبوة.. وهذا الفهم، هو أن خطاب الله سبحانه وتعالى الجن والإنس، وأنه قد فرغ لهم، وأقبل على حسابهم ومساءلتهم- يشير إلى أنهم هنا فى مقام حضور من الله سبحانه، وأنه سبحانه قريب من كل فرد منهم، قربا لا يدع لأحد فرصة للغفلة عن مراقبة الله تعالى له..
فهو فى حال حضور دائم، وإن كان غافلا، ومن ثمّ فلا يحتاج إلى تنبيه!!
الآيات: (٣٣- ٦١) [سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٣٣ الى ٦١]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢)
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧)
ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧)
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١)
680
التفسير:
قوله تعالى:
«يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
نداء إلى الجنّ والإنس، بأن يختبرا قوتهما وسلطانهما أمام قوة الله وسلطانه.. إنهما محاسبون ومسئولون بين يدى الله، كما جاء فى قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ».. وإنه ليس لهما ملجأ من الله إلا إليه.. فإن استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض فلينفذوا..
ولكن إلى أين؟ إنهم لا ينفذون إلى أي قطر من أقطار السموات والأرض، إلّا وهم واقعون تحت سلطان الله، مسيّرون به..
681
فالباء فى قوله تعالى: «بِسُلْطانٍ» باء المصاحبة مثل قوله تعالى:
«وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» أو باء الاستعانة، مثل قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»..
وأقطار السموات والأرض: جوانبهما، والقطر هو الخط الذي يصل بين طرفى الدائرة مارّا بمركزها..
وعلى هذا، فيكون معنى النفوذ من أقطار السموات والأرض، هو الانتقال من فلك إلى فلك، ومن كوكب إلى كوكب..
وفى التعبير بلفظ أقطار، عن نهاية كل فلك أو كوكب- إشارة إلى كروية الأفلاك والكواكب..
وهذا ما أثبته العلم الحديث من كروية الفلك، والنجوم، والكواكب، وأنّ الوجود كلّه دائرىّ..
وفى التعبير عن السموات بصيغة الجمع، وعن الأرض بلفظ المفرد- إشارة إلى أن السموات عوالم وأكوان بعضها فوق بعض، أو محيط بعضها ببعض، وأن الأرض عالم واحد، له قطر واحد.. وأما قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (١٤: الطلاق) فليست المثلية هنا فى العدد، وإنما هى من حيث اختلاف طبقات الأرض، التي تبدأ من وجه الأرض وقشرتها، إلى وسط المركز منها.. فقشرة الأرض تراب، وطين، ورمال وأحجار.. تم تلى ذلك طبقات، كل طبقة ذات طبيعة خاصة، وعلى درجة حرارة خاصة، تتكون منها المعادن، والجواهر.. من الحديد والنحاس، والذهب، والفضة، والألماس، وهكذا..
فالأرض واحدة فى كيانها وجرمها، وهى سبع فى طبقاتها، واختلاف
682
طبيعة كل طبقة، ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز: «وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» ولم يجىء: ومن الأرضين مثلهن.. حيث تدل المثلية هنا فى التعبير غير القرآنى على مثلية العدد نصا أما التعبير القرآنى فالمثليّة فيه مثلية فى تنوع العوالم واختلاف المنازل.
قوله تعالى:
«يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
أي إذا استطعتم أن تنفذوا- معشر الجن والإنس- من أقطار السموات والأرض، بما مكّن الله سبحانه وتعالى لكم من سلطان- استطعتم به أن تخرجوا من فلك إلى فلك، وأن تنتقلوا من كوكب إلى كوكب- فإنكم لن تجدوا الحياة مهيأة لكم فى الفلك الجديد، أو الكوكب الذي انتقلتم إليه، إذ لا حياة لكم إلا على هذا الكوكب الأرضى.. أما الكواكب، والأفلاك الأخرى، فإنها نرسل عليكم شواظا من نارها، ورجوما ملتهبة من نحاسها.. «فلا تنتصران» أي فلا تحققان غاية النصر الذي طلبتموه من انتقالكم من عالمكم الأرضى إلى العالم العلوىّ.. إنكم أبناء هذه الأرض، مادمتم فيها..
والشواظ من النار: ألسنة اللهب المختلطة بالدخان.. وهذا يعنى أن بعض الكواكب نار ملتهبة، لا تزال فى دور الاحتراق، وبعضها فى دور الانصهار، فيقطر منها هذا السائل الناري من النحاس وبعضها فى دور الغليان لهذه المعادن المنصهرة.. وهكذا..
هذا، وقد نفذ الإنسان فى هذه الأيام من قطر الأرض، وخرج من سلطان جاذبيتها إلى القمر، ونزل على سطحه ومشى بقدميه
683
فوق أديمه، مصطنعا لذلك الوسائل التي تحميه من لهيب القمر، فى النهار القمري، ومن برده القاتل فى ليله.. وإنه بغير هذه الوسائل لن يستطيع أن يمكث لحظة واحدة..
ومع هذا، فإن القمر أقرب كوكب إلى الأرض، والرحلة إليه لا تعدو أن تكون خطوة نملة على الأرض، فى محيط هذا الكون الرحيب!.
ومع هذا أيضا، فإنه- وهذا مقطوع به- لن تطيب حياة للإنسان على هذا الكوكب، ولن يعمر به أبدا!! أما عالم الجن، فإن له محاولاته لاختراق أقطار السموات، ولكنه لا يكاد يبلغ مدّى معينا حتى يجد المهلكات تنتظره، وترده خاسئا إلى الأرض.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ».. (١٧، ١٨: الحجر) ويقول سبحانه وتعالى على لسان الجن: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (٨، ٩: الجن).
والسؤال هنا:
كيف يكون إرسال الشواظ من النار، والقذائف من النحاس الملتهب- كيف يكون إرسال هذه الرجوم على الجن والإنس آلاء ونعما، يدعوان إلى الإقرار بها، والشكر عليها؟.
والجواب: أن هذه الرجوم تحدّث عن تلك الحياة الميسرة التي يحياها الإنس والجن على الأرض، وأنه مما فى قدرة الله أن يحيل هذه الأرض إلى نار مثل هذه الكواكب التي ترمى بالشرر.. ولكنه سبحانه- جعل
684
هذه الأرض بحيث تطيب فيها الحياة لساكنيها من الإنس والجن.. وهذا رحمة منه سبحانه، وإحسان، يقتضى الحمد والشكر لله رب العالمين..
قوله تعالى:
«فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
انشقت السماء: أي فتحت أبوابها. وذلك عند انتقال الثقلين- الجن والإنس- إلى العالم الآخر.. فعندئذ تتبدل حقائق الأشياء، فى نظر الجن والإنس، وتبدو السماء التي كانت مغلقة عليهم، وقد أمكنهم النفوذ إلى أقطارها، وهنا ترى الأشياء على حقيقتها لهم.. وهذه السماء التي تبدو فى لونها الأزرق، تأخذ عندهم لونا ورديا، أي أحمر داكنا، كالدهان، وهو الشحم حين يصهر، فيأخذ هذا اللون الوردي الداكن.. ذلك أن هذا اللون الأزرق الذي نراه فى جو السماء، ليس إلا انعكاسا لأشعة الشمس على الأرض.. فإذا صعد الإنسان فى الجو تغير هذا اللون فى مرأى العين، وأخذ صورا من الألوان التي يغلب عليها السواد.. فإذا خرج عن فلك الأرض لم ير إلا هذا اللون الأحمر، وهو اللون الذي يعلو جميع الألوان التي تبدو من تحليل الضوء خلال منشور زجاجى..
وهنا سؤال أيضا:
أين الآلاء التي تحدث عنها الآية الكريمة هنا؟ وإذا كان ما تحدث عنه آلاء، هى فى حيز الشرط الذي لم يأت جوابه بعد- فكيف يكون لها مفهوم بغير الجواب الذي يحكم الشرط، ويكشف عن مضمونه؟.
685
والجواب على هذا- والله أعلم- أن مجرد انشقاق السماء، على أية حال، ولأية غاية، هو وحده دليل على قدرة الله، وعلى تمكن سلطانه فى هذا الوجود، وهذا- كما قلنا- نعمة من أجل النعم على المخلوقات إذ كانت قيومة الله على الوجود ضمانة وثيقة للمخلوقات جميعها، بأنها فى يد صانعها، ومدبر أمرها، وأنها بهذا لن يجار عليها، ولن تؤخذ بغير الحكمة والعدل، ولن تتلقى غير الفضل والإحسان..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن انشقاق السماء إيذان بالبعث، والحساب والجزاء.. وهذا أيضا نعمة من النعم الجليلة، إذ أنها أعادت المخلوقات- من إنس وجن- إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن ردها الموت إلى حال من العدم أو ما يشبه العدم.. والوجود- كما قلنا أكثر من مرة- هو فى ذاته خير من العدم، على أية صورة يكون عليها الموجود، وفى أي وضع يأخذه فى سلّم الموجودات..
«فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ»..
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
هذه هى الآلاء الجليلة، التي يشير إليها انشقاق السماء.. لمجرد الانشقاق..
فإذا كان وراء هذا الانشقاق غاية، كانت تلك الغاية آلاء أخرى جليلة مستغنية بذاتها، فإذا اتصلت بانشقاق السماء، كان ذلك آلاء إلى آلاء..
وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
686
أي فإذا كان هذا اليوم الذي تنشق فيه السماء، وهو يوم القيامة، كما يقول سبحانه: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (١٩، ٢٠: النبأ) - إذا كان هذا اليوم، انقطعت الأعمال، وطويت الصحف على ما كان لأصحابها من عمل فى هذه الدنيا، فلا يحاسب مخلوق من الجن أو الإنس على ما يكون منه فى اليوم الآخر من قول أو فعل.. لقد انتهى زمن الامتحان والابتلاء.. فما يقوله أو يعمله المرء فى موقف الحساب لا يحسب له، أو عليه، حتى الذين يقع منهم فى هذا الموقف، مما يكون موضع ذم وعقاب فى الدنيا- كما يتلاعن المتلاعنون من أهل الضلال فى هذا اليوم- هو مما لا ينظر إليه فى الآخرة..
وفى الآية، إشارة إلى أن الجن يبعثون، ويحاسبون، كما يبعث الناس ويحاسبون..
واختصاص جانب الذنوب بالذكر هنا، دون جانب الإحسان- إذ كانت الذنوب فى هذا اليوم مما يتحاشاه أهل الموقف، ويفرون منه..
إنهم يطلبون السلامة، ويعضون أصابع الندم على ما فرط منهم فى الدنيا، فكيف يطوف بأحدهم طائف يدعوه إلى أن يرتكب ذنبا فى هذا المقام؟
ولكنه لو فرض- مع هذا- أن يقع من مذنب ذنب- وهو محال- فلن يحاسب عليه.. فقد طويت صحف الأعمال على ما كان فى عالم الامتحان والابتلاء..
هذا، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» - يجوز- والله أعلم- أن يكون أنه لا يسأل المذنبون عن ذنوبهم فى هذا اليوم سؤال مراجعة وعتاب، إذ لا نفع لهم من وراء هذه المراجعة، وهذا العتاب، حيث لا سبيل لهم إلى إصلاح
687
ما أفسدوا، كما يقول سبحانه: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».. (٥٧: الروم).
ويجوز كذلك- والله أعلم- أن يكون المعنى، أنه فى هذا اليوم، لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال تعرّف على حاله، ولا على جنايته التي جناها، إذ كانت جنايته معلقة برقبته، يراها أهل الموقف جميعا، فلا يسأل من سائل: ما حاله فى هذا اليوم؟ إذ كانت سمته الموسوم بها دالة عليه، ناطقة بالمصير الذي هو صائر إليه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية التالية..
«يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
فعلى هذا المعنى الأخير، تكون هذه الآيات تعليلا لقوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ».. إذ لا فائدة من وراء هذه المساءلة والمراجعة.
أما على المعنيين الأول والثاني، فتكون الآيات مستأنفة..
والنواصي، جمع ناصية، وهى الرأس..
والمعنى، أنه إذ يعرف المجرمون بسيماهم، تتولى زبانية جهنم أمرهم، فتأخذ بنواصيهم وأقدامهم، أخذا عزيزا متمكنا، لا يدع لأحدهم أن يتحرك، فهو فى هذا الوضع أشبه بحجر، أو حصاة فى اليد، فيلقى به حيث يريد القابض عليه..
وإقامة موازين العدل بين المخلوقات، وأخذ المسيء بإساءته، هو من النعم التي تستوجب الحمد والشكر، من المحسنين والمسيئين على السواء..
إذ لم يؤخذ المحسنون بإساءة من أساءوا، وإذ كان فى عقاب المسيئين إحسان إليهم بتطهيرهم من هذا الرجس الذي علق بهم، وتصفية لجوهرهم من هذا الخبث الذي أفسد طبيعتهم.
688
قوله تعالى:
«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
الإشارة إلى جهنم هنا، هى استحضار لها فى هذه الدنيا بين يدى المكذبين بها، وبالحساب وبالجزاء، حيث يشهدون أنفسهم وهم يطوفون بينها وبين حميمها..
والحميم الآن: ما ينبعث من النار من سموم، يشوى الوجوه.. فأهل النار إذا تحركوا فى جهنم، كانت حركتهم فيها على بحار من الحميم، وهو القيح والصديد الذي يسيل منهم، كما يسيل الماء من القدور أثناء غليانها..
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - إشارة إلى هذه النعم التي يحدّث عنها هذا العذاب، الذي من شأنه أن يبعث فى النفوس الخشية من الله، والخوف من الوقوع فى هذا العذاب، فيستعدّ أصحاب العقول للقاء هذا اليوم، بالعمل الصالح الذي ينجيهم من الوقوع فى هذا البلاء.. على خلاف ما لو طلع هذا العذاب على الناس من غير أن ينذروا به، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى لبيان الحكمة من إرسال الرسل، وما يحملون إلى أقوامهم من النذر، إذ يقول سبحانه: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ»
(٥٦- ٥٩ الزمر) وما يشير إليه قوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» (٥٩: الإسراء)..
689
قوله تعالى:
«وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
وهذا من ثمرة الخوف من الله، ومن الوقوف بين يديه يوم القيامة، ذلك الخوف الذي يدخل على الإنسان من هذه النار التي أعدّت لأهل الشرك والضلال.. فمن عرف أن هناك حسابا وجزاء يوم القيامة، وأن هناك نارا أعدّت للكافرين وللضالين، وخاف حساب الله وعقابه- نجا من هذا البلاء، بإيمانه بالله، وتجنبه ما يغضبه، واستقامته على سبيله المستقيم، وكان له الجزاء الحسن عند ربه، فأوسع له من فضله وإحسانه، وأدخله الجنة يتبوأ منها حيث يشاء.. فهى جنة فسيحة لا حدود لها، عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين..
والتعبير عن الجنة بالجنتين، إشارة إلى اتساعها، وقد جاء فى القرآن الكريم لفظ الجنة، والجنتين، والجنات، كما يقول سبحانه: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (٣٢: النحل) وكما يقول سبحانه: «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (٢٣: إبراهيم)..
فالجنة، جنات فى اتساعها وامتدادها.. والجنات، جنة فى طيب ثمارها، ووفرة النعيم فيها..
ويجوز أن تكون الجنتان، جنة للإنس، وجنة للجن.. أي ولمن خاف مقام ربه من عالم الإنس وعالم الجن ثواب حسن، ثم بين هذا الجزاء بأنه جنتان، ينزل كل محسن من الفريقين فى جنته منهما..
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلفات إلى هذه النعم التي
690
يجدها من يدخل هذه الجنة، على أية صورة تكون عليها.. فكيف، وهى على هذه الصفات التي وصفها الله سبحانه وتعالى بها؟ إن كل وصف لهذه الجنة الرحيبة الفسيحة، هو نعم مجددة، تضاف إليها، وتستدعى واجب الحمد والشكر لله رب العالمين..
قوله تعالى:
«ذَواتا أَفْنانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
فهاتان الجنتان ذواتا أفنان، والأفنان، جمع فنن، وهو الغصن المورق.
فالجنتان ذواتا أغصان مورقة، وهذا يعنى أن لأشجارها ظلّا ممدودا..
فالظل نعيم من نعيم الجنة، حيث يطيب الهواء، ويعتدل الجو..
كما يقول سبحانه:
«وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» (٢٧- ٣٠: الواقعة)..
قوله تعالى:
«فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
ومن صفات هاتين الجنتين أن فيهما عينان تجريان، بالماء العذب الرقراق..
وهذا الماء السلسبيل المتدفق من العيون الجارية، هو نفسه نعمة، إلى جانب نعمة الجنة، وإلى ظلها الممدود.. فمن يكذب بهذه النعم المتظاهرة، ويجحد فضل الله وإحسانه بها؟.
691
قوله تعالى:
«فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
ومما فى هاتين الجنتين كذلك، هذا الثمر الطيب الجنىّ،. وهو ثمر متزاوج، أي مؤتلف، يشبه بعضه بعضا فى حسنه، وطيبه، وإن اختلفت طعومه، وتعددت مذاقاته، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه:
«كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (٢٥: البقرة).. وقيل إن معنى: «مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ»..
أي كل صنف من أصناف الفاكهة يرد على أهل الجنة، يجيئهم فى صورتين، صورة لما كانوا يعرفونه فى الدنيا، وصورة لما هو من حقيقة ثمار الجنة، وبهذا يظهر لهم ما بين الفاكهتين من بون شاسع، وفرق بعيد، وهذا مما يحدّث عن فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، فى هذا المنزل الكريم الذي أحلهم الله سبحانه وتعالى فيه..
قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
وفى هاتين الجنتين، وتحت أفنانهما المورقة، وظلالهما الممتدة، وفاكتهما التي تجمع بين فاكهة الدنيا وفاكهة الآخرة- فرش بطائنها أي حشوها من إستبرق، أي حرير، مهيأة ليتكىء عليها أهل الجنة، اتكاء استرواح، واسترخاء، واطمئنان..
والإستبرق: الديباج..
692
وفى قوله تعالى: «وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» - استدراك لما قد يقع فى الوهم من أنّ اتكاءهم على هذه الفرش، مما يباعد بينهم وبين ثمر هذه الجنة التي يتكئون تحت ظلالها، فإذا أراد أحدهم أن ينال من هذا الثمر شيئا، اضطر إلى أن يتحول عن هذا الوضع المريح له، وجلس، أو وقف، لينال الثمر الذي يريده.. وكلّا، فإن الثمر دان بحيث لا يتكلف له المتكئ شيئا، بل هو حاضر بين يديه، بتخير منه ما يشاء، متكئا، أو مضطجعا، أو نائما..!
والجنى: الثمر الناضج، وهو ما يجنى من شجره، ومنه الجنين، وهو ثمرة الحيوان، ويسمى بيض الطير جنّى لهذا المعنى..
قوله تعالى:
«فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
وفى هاتين الجنتين كذلك، حور قاصرات الطرف، أي قصرن أعينهن عن النظر إلى غير ما أحل الله لهن، تقىّ وحياء وعفّة.. «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» أي لم يقربهن، ولم يغش حماهنّ أحد من الإنس أو الجنّ، قبل أزواجهن الذين زففن إليهم فى الجنة، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» (٣٥- ٣٨: الواقعة).
وفى إعادة الضمير جمعا على الجنتين فى قوله تعالى. «فِيهِنَّ» بدلا من «فيهما» إشارة إلى أن هاتين الجنتين، جنات فى سعتهما، وامتدادهما..
فهما- كما قلنا من قبل- جنة، وجنتان، وجنات..
والطمث: دم الحيض، والطامث: الحائض، ويسمى افتضاض البكر طمئا..
693
قوله تعالى:
«كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
هو وصف لهؤلاء الحور، بالنقاء والصفاء، بعد وصفهن بالعفة والحياء..
والياقوت والمرجان، حجران كريمان، صافيان صفاء البلور، ولكنهما مع هذا الصفاء مشربان بحمرة، ليست فى البلور، ولهذا كان تشبيه الحور بهن أبلغ وأصدق، لما يجرى فى بشرتهن من دم الشباب، الذي يشرق منه هذا الشعاع الشفقى على وجوههن! هذا ويلاحظ أن الجنتين اللتين وعدهما الله الذين يخافون مقام ربهم، قد عرضتا فى هذا العرض المفصل، الذي يحدّث فى كل مقطع من مقاطعه عن نعم الله وآلائه، التي يحملها هذا المقطع، والتي تدعو الثقلين- الإنس والجن- إلى الوقوف بين يديها، وإنعام النظر فيها، ثم تحديد موقفهم منها.. وهل يشكرون أم يكفرون؟..
وفى هذا التفصيل، إشارة إلى أن أىّ نعمة من نعم الله، وإن بدت فى العين صغيرة، لا يكاد يلتفت إليها الناس، ولا يقدرونها قدرها- هى فى حقيقتها نعمة جليلة، تضم فى كيانها نعما جليلة أيضا.. وهذا هو بعض السرّ فى هذا التعقيب عقب كلّ نعمة بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
قوله تعالى:
«هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
أي أن هذا النعيم الذي يفاض من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين فى الجنة- هو جزاء إحسانهم فى الدنيا، وخوفهم مقام ربهم، كما يقول سبحانه عنهم:
694
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (١٥- ١٩: الذاريات)..
وإذا كان هؤلاء المحسنون قد أحسنوا العمل، فإن هذا النعيم الذي هم فيه لا يعدله إحسان المحسنين، مهما بالغوا فى الإحسان، وإنما هو فضل من الله عليهم، ومضاعفة للجزاء الحسن، الذي كانت أعمالهم الحسنة مدخلا إليه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (٢٦: يونس)..
الآيات: (٦٢- ٧٨) [سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٦٢ الى ٧٨]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)
695
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
أي ومن دون هاتين الجنتين اللتين ذكرهما الله سبحانه وتعالى فى قوله جلّ شأنه: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» - أي ومن دون هاتين الجنتين جنتان أخريان، أنزل منهما درجة، وأدنى منزلة، وإن كان ما فيهما من النعيم ممّا لا يحيط به وصف، وإن القطرة منه لتوازى ما عرف الناس جميعا من نعيم الدنيا..
وهذا يعنى أن أهل الجنة ليسوا على درجة واحدة.. وهذا طبيعى، إذ لم يكن المحسنون على درجة سواء فى الإحسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ» (١٦٣: آل عمران) وقد جاء بيان ذلك فى سورة «الواقعة» التالية لهذه السورة، وفيها يقول سبحانه: «وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (٧- ١١: الواقعة).. فالناس فى الآخرة، على ثلاثة أحوال: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون من أصحاب اليمين وكل حال من تلك الأحوال الثلاثة درجات كثيرة، يختلف بعضها عن بعض، صعودا ونزولا..
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - إشارة إلى أن هاتين الجنتين، مجردتين من أي وصف، هما نعم جليلة من نعم الله، لمن ظفر بدخولهما.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (١٨٥: آل عمران).. وأي فوز أعظم من النجاة من النار، ولو كان فى الحياة بالعراء؟ فكيف بالنجاة من
696
النار، ثم دخول الجنة، والفوز بنعيمها؟
قوله تعالى:
«مُدْهامَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
هذا وصف لما فى هاتين الجنتين من أشجار، وهى أشجار متشابكة الأفنان، وإن لم يكن فى ظلها هذا الصفاء البلورى. وإنما فى ظلها شىء من الكثافة التي تجعل الظل ذالون أدهم، كلون الشفق عند الغروب.. وهذا الظل هو نعمة، بل نعم تضاف إلى هاتين الجنتين، وتستوجب الحمد والشكر ان لله رب العالمين..
قوله تعالى:
«فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
النضخ، والنضح، بمعنى، إلا أن النضخ أكثر إعطاء للماء من النضح..
كما يشعر بذلك ثقل الخاء، وخفة الحاء، فعلى مقدار وزن كل منهما يكون قدر كلّ من النضخ والنضح من الماء..
أي أن فى هاتين الجنتين عينى ماء تضخان الماء ضخا، فى دفعات متتالية، ولا ترسلانه متدفقا كهاتين العينين اللتين فى الجنتين السابقتين، كما يقول سبحانه:
«فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ»..
وليس هذا عن ضنّ من الله سبحانه وتعالى، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وإنما هو عطاء يفرّق فيه بين أهل الإحسان، حيث ينزل كل منهما منزله الذي هو أهل له، وذلك هو عدل الله، الذي يجرى مع إحسانه، ويضبط موازينه..
697
قوله تعالى:
«فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
وهذا فرق آخر بين الجنتين العاليتين، وبين الجنتين اللتين دونهما، وذلك فى ثمار الجنتين، هنا وهناك.. فالجنتان العاليتان «فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ»..
فهما يحويان كل فاكهة معروفة وغير معروفة، مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر «مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ».. وهاتان الجنتان الأخريان «فِيهِما فاكِهَةٌ.. وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» إن فيهما فاكهة، ولكن لا على سبيل الشمول، كما فى وصف الجنتين العاليتين فى قوله تعالى: «فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ».. ومن فاكهتهما النخل والرمان.. ومع أن ثمر النخل والرمان ليس أكرم الثمر ولا أطيبه، ولكنه إذا كان من ثمر الجنة، فهو من الطّيب والكرم، بحيث تعدل الثمرة منه فواكه الدنيا وثمرها جميعا..
قوله تعالى:
«فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
أي فى هاتين الجنتين خيرات، ومع أن الخيرات مستغنية عن الوصف بذاتها، لأنها خيرات لا يجىء منها إلا كل ما هو خير، فقد وصفت بأنها حسان، تحقيقا لكمال الخيرية فيها، ومحضها للخير الخالص، وعزلها عن الخير الذي يشوبه شىء مما يكدّر صفوه، إذ كثيرا ما يشوب الخير ما ليس منه.. ولهذا كانت هذه الخيرات الحسان التي تطلع على أصحاب هاتين الجنتين- آلاء تحمد وتشكر، على أية صورة كانت عليها، وعلى أي وجه تجىء به، وحسبها أنها خيرات، وخيرات حسان!! يكرم الله سبحانه بها، المكرمين من عباده..
698
قوله تعالى:
«حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
فإذا انكشف وجه هذه الخيرات الحسان، كنّ حورا مقصورات فى الخيام.. يقابلن هؤلاء الحور اللائي فى الجنتين العاليتين واللاتي ذكرهن الله سبحانه وتعالى فى قوله:
«فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ».. وإنه لفرق بين هؤلاء وأولئك، وإن كن جميعا على صورة من الحسن والجمال لم تقع العين على مثلها..
ففى قوله تعالى: فى حور الجنتين العاليتين «قاصِراتُ الطَّرْفِ» إشارة إلى ما فى هؤلاء الحوريات من خفر، وحياء، وعفة، وأن ذلك فى أصل خلقهن.. وفى قوله تعالى: فى حور الجنتين الأخريين: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» - إشارة إلى أن هؤلاء الحوريات قد قصرتهن الخيام وحجبتهن عن العيون، وحجبت العيون عنهن.. وهذا لا يمنع من أن يكون لهن ما لأخواتهن من الخفر والحياء..
ولكن شتان بين خفر وحياء مطلقين، وخفر وحياء مقصورين، مقيدين.. ذاك قد امتحن وجرب، فظل ثابتا، لم تنل منه التجربة والامتحان، وهذا لم يمتحن ولم يجرب بعد!.
وقوله تعالى: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» هو بدل مبيّن لقوله تعالى: «خَيْراتٌ حِسانٌ» فالخيرات الحسان، هن أولئك الحور المقصورات فى الخيام..
والحور: جمع حوراء، وهى ما طاف بمقلتيها طائف من السواد
699
الطبيعي، أشبه بالكحل، يزيد العيون حسنا، ويلقى عليها فتنة وسحرا..
يقول جرير:
إن العيون التي فى طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا!
قوله تعالى:
«لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».
مضى تفسير هذه الآية فيما سبق..
قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»..
هو مقابل لقوله تعالى فى وصف حال أهل الجنتين العاليتين: «مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ»..
الرفرف: المسند، ووصف بلفظ الجمع «خضر» - إشارة إلى أن لكل من أهل الجنة مسندا خاصا يتكىء عليه.. والمساند جميعها ذات لون واحد.. فهى مفردة فى صفوفها، جمع فى لونها..
والعبقرىّ: الجيد من البسط: الخارق للعادة فى دقة صنعه..
والعبقري: نسبة إلى «عبقر» - وهو واد كانت العرب تعتقد فى جاهليتها أنه موطن الجن، وإلى الجن تنسب الأعمال الخارقة التي تتجاوز حدود الطاقة البشرية، ومنه سمى «العبقري» وهو الذي يجىء فى أفعاله بالخارق والمعجز لغيره.
وهنا فرق آخر يظهر فى متّكأ أصحاب كلّ من الجنتين العاليتين، والجنتين الواقعتين تحتهما..
700
فعلى حين يتكىء أصحاب الجنتين الأوليين على فرش بطائنها من ديباج، وحشوها من حرير، وعلى حين أن هذا الاتكاء لا يباعد بينهم وبين ثمر الجنة الذي يكون بين أيديهم فى أي وضع يكونون عليه، كما يقول سبحانه: «مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» - يكون متكأ أصحاب الجنتين الأخريين على رفارف أي مساند خضر، لم تعرف المادة المشكلة منها.. أهى حرير أم غير حرير، وإن عرف أن هذه المساند مبثوثة على بسط حسان، كما لم يعرف إن كان هذا الاتكاء يباعد بين المتكئين وبين ثمر الجنة، فلا تناله أيديهم إلا إذا غيروا من وضعهم، واعتدلوا فى جلستهم.. أم أنهم ينالونه من قريب؟.
ونعود مرة أخرى فنقول، إن هذه التفرقة بين حال أصحاب الجنة، هى أمر لازم، يقضى به عدل الله، فكما فرق هذا العدل بين المحسنين والمسيئين، فأنزل هؤلاء الجنة، وأنزل أولئك النار- كذلك فرق هذا العدل بين المحسنين أنفسهم، فأخذ كلّ منهم منزلته حسب إحسانه.. وبهذا يعمل المحسنون على أن يزدادوا إحسانا. حتى لا يقصّر بهم سعيهم، ويسبقهم السابقون إلى الدرجات العلا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» (١٣٢: الأنعام).
قوله تعالى:
«تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ».
وبهذه الآية الكريمة، تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها هذا اللقاء المبارك الميمون الذي يزاوج بين رحمة الرحمن، وكرم الكريم.. فلقد بدئت السورة بالاسم الجليل «الرحمن».. وختمت بالتبريك لهذا الاسم العظيم، الذي يتجلى على عباده بجلاله، وعظمته وكرمه!.
701
فالاسم المشار إليه فى قوله تعالى: «تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ» هو هذا الاسم الكريم «الرحمن» الذي بدئت به السورة، والذي عرضت فيه آياتها آلاء الله ونعمه التي أفاضها على عباده، وكان من حق كل نعمة منها أن يلقاها الثقلان بالحمد والشكر، وإن كان حمدهما وشكرهما لا يقوم بحق نعمة منها..
ولهذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي بارك نفسه، وحمد ذاته، ليجبر تقصير العباد، وليؤدى عنهم هذا الدّين الذي عجزوا عن أدائه، حتى لا يقطع عنهم أمداد هذه النعم، ولا يأخذهم بعجزهم وتقصيرهم عن أداء حق شكرها وحمدها.. فسبحانه، سبحانه، من رب رحمن، رحيم، كريم.. يوالى النعم على عباده، ثم يقوم عنهم بأداء الشكر عليها، والحمد لها..
يقول الإمام النسفي: كررت هذه الآية- أي «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إحدى وثلاثين مرة، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة، ثمانية فى وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى (أي المذكورات فى أول السورة) وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة، وأغلقت عنه أبواب جهنم، نعوذ بالله منها..
702
Icon