ﰡ
وهي مكية بالإجماع وعدد آياتها إحدى وخمسون آية، وهي تشمل الكلام على يوم القيامة، ومن كذب به من الأمم السابقة ونهايتهم، ثم وصفا عامّا لهذا اليوم وما يلاقيه المؤمن والكافر، ثم تعرضت للقرآن وأثبتت أنه من عند الله بلا شك، وأن الواجب على النبي هو الصبر والتسبيح لله.
جزاء من كذب بالساعة [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ١٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)
المفردات:
الْحَاقَّةُ: من حق فلان الأمر بمعنى حققه وأوجبه وأثبته، والمراد الساعة والحاقة لأمور الحساب والمثبتة له، أو هي المحققة الوقوع. بِالْقارِعَةِ: ضرب
شديدة الهبوب في الآذان وشديدة البرودة على الأبدان. عاتِيَةٍ: متجاوزة الحد في العصف والهبوب. حُسُوماً الحسم في اللغة: القطع بالاستئصال. صَرْعى:
مطروحين على الأرض. أَعْجازُ نَخْلٍ: أصولها وجذوعها. خاوِيَةٍ: نخرة فارغة. وَالْمُؤْتَفِكاتُ: المتقلبات، يقال: ائتفكت القرية بأهلها: انقلبت، ومنه الإفك للكذب لأنه يقلب الحقائق. بِالْخاطِئَةِ: بالأفعال الخاطئة.
رابِيَةً: شديدة زائدة في شدتها، من ربا: إذا زاد. طَغَى: ارتفع وتجاوز حده. الْجارِيَةِ: السفينة التي تجرى على الماء. واعِيَةٌ
: حافظة.
المعنى:
الساعة الحاقة، التي تحقق أمور البعث، وتثبتها وهي المحققة الوقوع ما هي؟! وكأن النفس لغرابتها وهولها تتساءل عنها قائلة: ما هي تلك الحاقة «١» ؟! وما أدراك أيها الإنسان ما الحاقة؟ «٢» أليس عجبا من الإنسان وخاصة المكذبين للبعث لا يدرون ما الحاقة على حقيقتها ثم يكذبون بها!! إن أمر التكذيب بيوم القيامة من قديم الزمان، فقد جاءت رسل كلها تدعو إلى التوحيد وإثبات البعث، فكذبتهم أممهم، وأنكروا البعث فكان جزاؤهم ما قصه القرآن، فاصبر يا محمد على تكذيب قريش للبعث فإن الله معك، واحذروا أيها المكذبون عاقبة عملكم، فإنها لن تكون أقل من عاقبة عاد وثمود، ومن ذكر معهم.
كذبت ثمود وعاد- قد مر ذكرهما والكلام عليهما مرارا- بالقارعة التي هي يوم القيامة، فإنها تقرع القلوب بالإفزاع، وتقرع السموات والأرض بالدك والنسف والانشقاق، فهي القارعة بلا شك.
(٢) - ما أدراك؟ مبتدأ وخبر، وجملة (ما الحاقة) سدت مسد المفعول الثاني لأدرى، والكاف مفعولها الأول.
هذه الريح التي أهلكتهم سخرها عليهم ربك سبع ليال وثمانية أيام لم تدع شيئا إلا جعلته كالرميم، فقطعت كل نبت وزرع وولد وخير، وأهلكت القوم حتى كنت تراهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية بالية، فهل ترى لهم من باقية؟ لست ترى لهم أثرا ولا عينا. وجاء فرعون ومن قبله من الأمم، وجاء قوم لوط أصحاب القرى المؤتفكة، جاءوا بالفعلة الخاطئة والإثم الكبير، حيث كفروا وكذبوا وأنكروا البعث فأخذهم ربك أخذة رابية شديدة، أخذ عزيز مقتدر.
واذكروا أيها المشركون من سلالة قوم نوح، أنه لما طغى الماء، وتجاوز حده حملناكم في السفينة ونجيناكم من الغرق وأهلكنا المكذبين الكفار، فأنتم أيها المعاصرون أبناء من نجاهم الله، فهل يليق بكم أن تكفروا به؟؟
حملنا آباءكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وعبرة وموعظة، ولتعيها آذان واعية فيرويها الخلف عن السلف فيحفظها ويعتبر بها، فاحذروا يا كفار مكة أن تكونوا مثل هذه الأمم احذروا. ثم احذروا!
يوم الحساب وما فيه من مواقف للأبرار والفجار [سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٣ الى ٣٧]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢)
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
الصُّورِ: هو البوق. حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ: رفعتا وسيرتا.
فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً: الدك والدق متقاربان في المعنى غير أن الدك أبلغ والمراد ضرب بعضهما في بعض وصارتا كتلة واحدة، أى: صارت مجموعة السهول من الأرض مع مجموعة الجبال كتلة واحدة. وَقَعَتِ الْواقِعَةُ: قامت القيامة.
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ: وهذا كناية عن انصداعها وتشققها وتبدل أحوالها.
أَرْجائِها: جنباتها، جمع رجا بمعنى الجانب. عَرْشَ رَبِّكَ: هو سرير الملك، أو كناية عن العز والملك والسلطان. خافِيَةٌ أى: حالة خافية كنتم تسترونها عن الناس. كِتابَهُ: صحيفة عمله. بِيَمِينِهِ أى: بيده اليمين، وهي كناية عن اليمن والخير والبركة. هاؤُمُ: خذوا. ظَنَنْتُ أى: تيقنت.
راضِيَةٍ: ذات رضا ويرضى عنها أصحابها. قُطُوفُها دانِيَةٌ: جمع قطف وهو الثمر الذي حان وقت قطافه، والدانية: القريبة التي لا تعب في إحضارها.
فَغُلُّوهُ: ضعوا فيه الغل، أى: ما يكبل به الأسير من القيود والسلاسل.
صَلُّوهُ أى: اجعلوه في جهنم يصلى نارها ويحترق بها. ذَرْعُها: طولها.
حَمِيمٌ: صديق حميم. غِسْلِينٍ: ما يسيل من أهل جهنم من قيح أو صديد أو دم. الْخاطِؤُنَ: الآثمون.
المعنى:
هذا هو وصف ليوم القيامة الموعود به، والذي عبر عنه القرآن أول السورة بقوله:
الحاقة، والذي كذبت به الأمم السابقة، فأهلكها الله جزاء تكذيبها، وحذر قريشا أن تسلك مسلكها.
فإذا أراد الله أن يعلم الناس بيوم القيامة، نفخ الموكل بالبوق نفخة واحدة، يصعق لها ما في السموات وما في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا الناس قيام ينظرون الحساب: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، وحملت الأرض والجبال واضطربت ورفعت من مكانها وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ فدكتا، أى: الأرض السهلة والجبال المرتفعة دكة واحدة حتى صارت مستوية كأنها كتلة واحدة، فيومئذ تتزلزل الأرض وتمور مورا، وتسير الجبال سيرا وتنسف حتى تصير كثيبا من الرمل مهيلا، يوم إذ يحصل هذا تقع الواقعة وتقوم القيامة، فالسماء وعوالمها عند ذلك يختل نظامها وتتشقق جوانبها فهي يومئذ بالية متداعية لا ترى فيها هذا النظام المحكم الدقيق، أما سكانها من الملائكة فيقفون على جوانبها حين تتصدع، كالبيت إذا انهدم منه جزء انتشر سكانه في أرجائه وجوانبه التي لم تسقط.
ويحمل عرش ربك يومئذ ثمانية فوقهم، وهذا تمثيل لكمال عزته وانفراد جلالته
وهذه الأوصاف التي ورد ذكرها في هذه الآيات وغيرها مما يجب أن نؤمن به كما ورد في القرآن والسنة الصحيحة، على أن تشعر قلوبنا بالخشية والخوف من هول ذلك اليوم! يومئذ تعرضون للحساب والثواب لا تخفى منكم حالة خافية كنتم تريدون سترها وإخفاءها وكيف تخفى على علام الغيوب خافية؟ وهو العليم بذات الصدور، إذا كان الأمر كذلك، فأما المتقون الذين اتقوا الله وخافوا هذا اليوم فأولئك يؤتون كتابهم بيمينهم، ويأخذون صحائف أعمالهم باليمين، واليمين يستعملها العرب في مواضع الخير والبركة والفرح والسرور، ولذلك يقول فرحا مسرورا لإخوانه: خذوا اقرءوا كتابي إنه كتاب يسر قارئيه، ولا عجب في ذلك إنى تيقنت أنى ملاق هذا اليوم للحساب فعملت له خير عمل وتجنبت لأجله كل سوء ومعصية، ولذلك كانت النتيجة أنه أصبح في عيشة مرضية وحياة سعيدة هنية، هذه الحياة في جنة عالية البنيان شامخة الأركان، قطوفها دانية على طرف الثّمار ثم يقال له ولأمثاله: كلوا واشربوا هنيئا جزاء ما أسلفتم وقدمتم من صالح الأعمال في الأيام الخوالى.
وأما من أوتى كتابه بشماله لأنه لم يعد لهذا الموقف حسابه، والشمال تستعمل في مواضع الشؤم والحزن ولذلك تراه يقول: يا ليتني لم أعط هذا الكتاب الذي جمع كل الأعمال ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويا ليتني مت فلم أدر ما حسابيه، يا ليت الموتة الأولى كانت القاضية ولم يكن هناك حياة ثانيةا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«١».
يا قوم: أين مالي وأهلى وقوتي وسلطاني؟! ما أغنى عنى مالي وهلك بعيدا عنى سلطاني. ثم يقول الله لملائكته: خذوه وضعوا في يديه الأغلال والأصفاد ثم ألقوه في جهنم يصطلى بنارها، أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا، أدخلوه في نار جهنم.
ولا عجب، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وما كان يحض على طعام الفقير والمسكين، وإذا كان الأمر كذلك فليس له اليوم ها هنا حميم ولا صديق كريم مع أنه في أشد الحاجة إلى الناصر والمعين، وليس له من طعام إلا من قيح وصديد، لا يأكله إلا الخاطئون المذنبون قساة القلوب وأصحاب الأعمال السيئة.
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
المفردات:
كاهِنٍ: هو من يخبر بالغيب، ويدعى معرفة الأسرار. تَقَوَّلَ التقول:
تكلف القول، ويراد به الكذب والافتراء. بِالْيَمِينِ: المراد بها اليد اليمنى: أو القوة والبطش. الْوَتِينَ: هو الوريد وهو عرق رئيسى متصل بالقلب يوزع الدم على أجزاء الجسم. حاجِزِينَ: مانعين. لَحَسْرَةٌ: لغمّ وحزن. لَحَقُّ الْيَقِينِ: حق هو اليقين الذي لا شك فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ: نزه الله عما لا يليق.
المعنى:
فلأنا «١» أقسم بما تبصرون من المخلوقات، وما لا تبصرون منهم، إن هذا القرآن لقول رسول كريم يبلغه عن ربه بعد أن أوحاه إليه. وقيل المعنى: إذا كان الأمر
وكيف تدعون أنه اختلقه ونسبه إلى ربه، ولو تقول علينا بعض الأقاويل والأكاذيب لأخذناه أخذ عزيز قادر، وقطعنا منه حبل الوريد حتى لا يحيا لحظة واحدة في الوجود لأنه يكذب على الله جل جلاله، وما وجدنا أحدا يرد عنه كيدنا أو يقف منه موقف الناصر والمعين ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ!! [سورة الصافات آية ١٥٤].
وإن القرآن لتذكرة وموعظة للمتقين، أولئك الذين صفت أرواحهم وطهرت، وخلت من العصبية الممقوتة أو التقليد الأعمى، وإنه لحسرة على الكافرين فهو يزيد المؤمنين إيمانا وسرورا، ويزيد الكافرين حسرة وارتيابا وظنونا، وإنه لحق هو اليقين، الذي لا شك فيه ولا شبهة، إذا كان الأمر كما عرفت وأن القرآن الذي أنزل عليك من