ﰡ
في السورة إنذار للكفار بعذاب الله. وتذكير بما حلّ بأمثالهم الأولين.
ووصف لهول يوم القيامة. ومصائر المؤمنين والكفّار فيه. وتوكيد قوي بصحة صلة النبي ﷺ بالوحي الرباني وصدور القرآن عنه. ونفي الافتراء والشعر والكهانة عنه.
وآياتها متوازنة مقفاة ومترابطة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ١٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)
. (١) الحاقّة: الحادثة التي يحق فيها الموعود من عذاب الله.
(٢) وما أدراك: ما هنا موصولة والجملة في صدد لفت النظر إلى خطورة الحاقة.
(٣) القارعة: مشتقة من القرع بمعنى الطرق. وهي كناية عن يوم القيامة حيث تقرع الآذان من شدّة هولها.
(٥) صرصر: شديد البرد أو شديد الصوت والدويّ.
(٦) عاتية: من العتوّ وهي صفة بمعنى الشدّة التي لا يمكن منعها.
(٧) حسوما: من الحسم بمعنى القطع. والكلمة بمعنى مستأصلة قاطعة.
(٨) صرعى: مصروعين أو مطروحين على الأرض هلكى.
(٩) أعجاز النخل: قرامي شجر النخل وأصولها.
(١٠) خاوية: فارغة أو مهدمة.
(١١) المؤتفكات: المخسوفات. وجمهور المفسرين على أنها قرى قوم لوط.
(١٢) رابية: زائدة. والقصد وصفها بالشدّة الزائدة على المعتاد.
(١٣) الجارية: السفينة والفلك.
الآيات الثلاث الأولى في صدد التنبيه على ما في بلاء الله حينما يحقّ ويحلّ في قوم من الأقوام من هول. وقد استعمل نفس الأسلوب في مطلع سورة القارعة في نفس المعنى. وقد قال المفسرون إن الحاقة كناية عن يوم القيامة. غير أن التذكير بما حلّ من عذاب دنيوي في الأقوام الأولين في الآيات التي تلت هذه الآيات الثلاث يلهم أن القصد من الحاقة التنبيه على بلاء الله وعذابه مطلقا. ويمكن أن يشمل عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما.
وفي الآيات التي تبعت الآيات الثلاث:
١- إشارات تذكيرية مقتضبة إلى ما حلّ من عذاب رباني بالأمم السابقة: فقد كذبت ثمود وعاد بيوم القيامة فأهلك الأولين ببلاء طاغ شديد وأهلك الآخرين بريح قويّة شديدة سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة قطّعتهم تقطيعا مستأصلا حتى صاروا صرعى مطروحين على الأرض كأنما هم قرامي النخل الخاوية المهدمة دون أن يبقى منهم بقية كما يعرف ذلك السامعون.
٢- وقد اقترف فرعون وأقوام من قبله وأهل المؤتفكات الخطيئات والآثام
٣- وحينما فاض الماء وطغى وملأ الآفاق حمل الله السامعين في السفينة لتكون الحادثة مذكرة واعظة لا تبرح الأذهان.
والمتبادر أن الآيتين الأخيرتين تشيران إلى حادثة طوفان نوح وسفينته. وأن توجيه الكلام للسامعين بضمير الجمع المخاطب هو من باب ما للحادثة من صلة بهم عن طريق الأجداد الأولين الذين أنجاهم الله على السفينة وهم نوح وأهله كما ورد بعبارة أوضح في مواضع أخرى من القرآن ومنها آية سورة الصافات هذه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وضمير الجمع المخاطب قد ينطوي على قرينة على كون السامعين يعرفون الحادثة، ويعرفون صلتهم بنوح وأبنائه الذين نجوا على السفينة.
والمتبادر كذلك أن الآيات قد استهدفت تذكير كفار العرب بما كان من تكذيب الأقوام السابقين لرسلهم وما اقترفوه من آثام وما كان من انصباب بلاء الله المتنوع عليهم. وتنبيههم إلى ما يجب عليهم من الاعتبار والاتعاظ. وإنذارهم بما يمكن أن يصيبهم من عذاب وبلاء مثل أمثالهم الأولين.
والأقوام المذكورة في الآيات وعذاب الله المسلّط عليهم قد ذكر في سور سابقة. واستمرار التذكير بذلك مرة بعد مرة بأساليب متنوعة متصل بالهدف الإنذاري الذي تستهدفه القصص القرآنية وبتجدد وتنوع المواقف الإنذارية ومحلها على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٣ الى ٣٧]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢)
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
(٢) واهية: متداعية.
(٣) الملك: الملائكة.
(٤) أرجائها: أطرافها أو جوانبها.
(٥) ظننت: هنا بمعنى علمت وتيقنت.
(٦) دانية: قريبة للمتناول.
(٧) أسلفتم: قدمتم.
(٨) الأيام الخالية: كناية عن الدنيا.
(٩) هلك عني سلطانيه: ضاع سلطاني وفقدت قوّتي أو فقدت حجتي وبرهاني.
(١٠) فغلّوه: قيّدوه بالأغلال.
(١١) صلّوه: أدخلوه النار يصلى بها.
(١٢) حميم: صديق.
(١٣) غسلين: الصديد.
هذه الآيات احتوت وصف الحالة في يوم القيامة:
فحينما يحين الحين وينفخ في الصور وتحمل الأرض والجبال فتندكّ
والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة في هدف التذكير والإنذار. فكما أهلك الله المكذّبين الكافرين الأوّلين بأنواع البلاء في الدنيا فقد أعدّ لهم أنواع العذاب في الآخرة. وشأن كفار العرب شأن الكفار السابقين ومصيرهم هو نفس المصير.
وقد ذكر مصير المؤمنين الصالحين في سياق ذكر مصير الكفار للمقابلة والتنويه جريا على الأسلوب القرآني.
والآيات الأولى قد استهدفت- كما هو المتبادر بالإضافة إلى حقيقة المشاهد الأخروية التي يجب الإيمان بها- تصوير شدّة هول القيامة للتذكير والإنذار. وقد جاء وصف مصير المؤمنين أخاذا من شأنه أن يبعث الطمأنينة والاستبشار والرغبة في العمل الصالح في المؤمنين كما جاء وصف مصير الكفار مفزعا يثير الخوف ويحمل على الارعواء، وهذا وذاك مما استهدفته الآيات فيما هو المتبادر أيضا.
ولقد استعيرت المألوفات الدنيوية في وصف مصير الفريقين جريا على النظم
ولقد نبهنا قبل على ما تعنيه عبارات إيتاء كتب الأعمال في الآخرة من اليمين والشمال في مناسبة سابقة فلا ضرورة للتكرار.
ولقد روى الطبري عن بعض التابعين أن كل ذراع من أذرع السلسلة سبعون باعا وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة وأن معنى فَاسْلُكُوهُ هو إدخال السلسلة في فيه حتى تخرج من دبره أو في دبره حتى تخرج من منخريه. وفي كتب التفسير الأخرى روايات وأقوال مماثلة بدون سند وثيق. ومهما يكن من أمرها فهي من باب الترهيب وإثارة الخوف في نفوس الكفار.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية [١٧] أحاديث وروايات عن حملة العرش. ولقد أوردوا مثل ذلك في سياق الآية [٧] من سورة غافر التي تذكر حمل الملائكة لعرش الله تعالى. وقد أوردناه في سياق تفسيرها وعلقنا عليه كما علقنا على موضوع الملائكة بصورة عامة في سياق تفسير سورة المدثر بما يغني عن الإعادة والزيادة.
تعليق على تخصيص الحضّ على طعام المسكين في الآية [٣٤]
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إنه لم يقصد من عدم الحضّ على طعام المسكين حصر البرّ في إطعام المسكين والإثم في عدمه. غير أن ذلك ينطوي- من دون ريب- على تلقين قرآني مستمرّ المدى في صدد هذا العمل والحثّ عليه واعتباره من أعظم أعمال البرّ الاجتماعية وبخاصة في البيئات التي تكون الحاجة فيها شديدة وملحّة.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٥٢]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
(٢) رسول كريم: كناية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(٣) لو تقوّل علينا بعض الأقاويل: لو افترى علينا بقول ما.
(٤) لأخذنا منه باليمين: لانقضضنا عليه بقوّتنا.
(٥) الوتين: وريد القلب.
(٦) حاجزين: مانعين.
في هذه الآيات قسم رباني بما يراه السامعون وما لا يرونه من مشاهد الكون وأسراره ومن المشهودات والمغيبات في الدنيا والآخرة في معرض التوكيد بصحة رسالة النبي وصدق قوله وتبليغه: فهو رسول كريم على الله. وليس هو شاعرا ولا كاهنا. وإن هذا ليبدو حقا واضحا ساطعا لكل من تدبر في الأمر وتروّى فيما يسمعه من الأقوال وكان قلبه نقيا من الخبث مستعدا للتسليم بالحقيقة راغبا في الهدى والحق. لأن ما يقوله يعلو كل العلوّ عن متناول الشعراء والكهان وخاصة في الأهداف والجوهر والمدى. وهو تذكرة وموعظة ينتفع بهما ذوو القلوب النقيّة والرغبة الصالحة والمتّقون لغضب الله الراغبون في رضائه. وهو حقّ اليقين الذي لا يمكن أن يشوبه باطل. وهو تنزيل من الله ربّ العالمين. وإن الله لقادر على البطش به وإهلاكه لو اخترع بعض الآيات ونسبها إليه افتراء دون أن يقدر أحد على إنقاذه منه. وإن الله ليعلم أنه سيكون من الناس من يكذّبونه. ولكن هؤلاء سيندمون ويتحسّرون على تكذيبهم وجحودهم.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر من حيث توكيد صدق ما يتلوه النبي من الآيات التي فيها تقرير مصائر الكفار والمؤمنين. وهي قوية رائعة في تنديدها وفي إنذارها وفي توكيدها وفي نفيها وفي تثبيتها من شأنها أن تبعث أعظم شعور الثقة في نفس النبي والمؤمنين بل والسامعين إطلاقا إذا تجرّدوا عن العناد والمكابرة والهوى والحقد في صدق صلة النبي بالوحي الربانيّ وصدور القرآن عنه.
ويبدو على الآية الأخيرة طابع الختام الذي اختتمت بمثله سور عديدة.
ويتبادر من ذكر قطع الوتين الذي قال المفسرون إنه عرق يكون في القلب أن السامعين يعرفون أن قطعه مما يودي بحياة الإنسان فورا.
ولقد سبقت حكاية أقوال الكفار بأن النبي ﷺ شاعر وكاهن. وعلّقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.