ﰡ
التخويف بيوم القيامة وجزاء المكذبين بها
القيامة أو الحاقّة أعظم وأخطر بكثير مما نتصور، وحينما كذبت أقوام بها كثمود وعاد وفرعون وقومه وقرى قوم لوط، دمّرهم الله تدميرا شديدا، جعل عبرة بالغة للأجيال الآتية من بعدهم. وهذا ما تحكيه لنا سورة الحاقّة المكّية بالإجماع، التي سمعها عمر رضي الله عنه من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال في أوائلها في نفسه: إنه لشاعر، كما تقول قريش، حتى بلغ إلى قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) ثم مرّ حتى انتهى إلى آخر السورة فأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام. وهذا مطلع هذه السورة:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ١٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩»
(٢) القيامة التي تقرع القلوب بالإفزاع.
(٣) الواقعة التي جاوزت الحدّ في الشدة وهي الصيحة أو الرجفة.
(٤) بريح شديدة الصوت والبرد، شديدة القوة والعصف.
(٥) متتابعة.
(٦) موتى مطروحين على الأرض.
(٧) أصول نخيل ساقطة فارغة.
(٨) قرى قوم لوط.
(٩) بالخطإ الشديد الفاحش.
البعث والقيامة، وما أدراك ما القيامة، وهي التي يتحقق فيها الوعد والوعيد، وسميت بالحاقّة لأن أمور الحساب مثبتة فيها، وحقّقت لكل عامل عمله، ومتحققة الوقوع من غير شك ولا ريب. وكلمة (الحاقّة) اسم فاعل من (حق الشيء يحق) إذا كان صحيح الوجود. وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) مبالغة في أهوالها وصفاتها.
ونوع العقاب ببعض الأمم السابقة التي كذبت بيوم القيامة، تخويفا لأهل مكة وغيرهم: هو:
كذبت قبيلة ثمود قوم صالح وقبيلة عاد قوم هود بالقيامة التي هي القارعة التي تقرع الناس بأهوالها. فأما جماعة ثمود فأهلكوا هلاكا تامّا بالطاغية: وهي الصيحة أو الصاعقة أو الرجفة التي جاوزت الحدّ في الشدة. قال قتادة: الطاغية: معناه الصيحة التي خرجت عن حدّ كل صيحة. وهذا أولى الأقوال وأصوبها.
وأما قبيلة عاد قوم هود، فأهلكوا هلاكا ساحقا بريح شديدة الصوت والبرد، قاسية شديدة الهبوب، جاوزت الحدّ، لشدة هولها، وطول زمنها وشدة بردها، سلّطها الله عليهم طوال مدة سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، لا تنقطع ولا تهدأ، وكانت تقتلهم بالحجارة، تحسمهم حسوما، أي تفنيهم وتذهبهم. فتشاهد إن حضرت أولئك القوم في ديارهم موتى مصروعين على الأرض، كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية، لم يبق الله منهم أحدا، فهل تحس منهم من أحد من بقاياهم؟ بل
(٢) جاوز الحدّ المعتاد.
(٣) السفينة التي تجري في الماء.
(٤) عظة.
(٥) حافظة لما تسمع. [.....]
ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور».
وقوله: مِنْ باقِيَةٍ إما مبالغة كعلّامة ونسّابة، والمعنى: من باق، أو من فئة باقية، وإما مصدر، أي من بقاء.
وأتى بالفعلة الخاطئة الطاغية فرعون ومن تقدّمه من الأمم الكافرة، وأهل المنقلبات (المؤتفكات) قرى قوم لوط، وخطؤهم: الشّرك والمعاصي الكبائر.
فعصت كل أمة من هؤلاء رسولها المرسل إليها، فأهلكهم الله ودمّرهم، وأخذهم أخذة أليمة شديدة، زائدة على عقوبات سائر الأمم الأخرى. و (الرّابية) النامية التي قد عظمت جدا.
ثم عدد الله تعالى نعمته على الناس في قصة الطوفان.
إننا لما تجاوز الماء حدّه وارتفع بإذن الله، وجاء الطوفان في زمن نوح عليه السّلام، حملنا آباءكم المؤمنين وأنتم في أصلابهم، في السفينة التي تجري في الماء، لتتحقق لهم النجاة من الغرق، ولنجعل نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين عبرة وعظة، تستدلون بها على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، وشدة انتقامه، ولتحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت ووعت. فقوله تعالى: لِنَجْعَلَها
ووَ تَعِيَها
عائد إلى الواقعة المعلومة، وهي نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين، أي: من تذكرها ازدجر.
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن مكحول مرسلا قال: لما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سألت ربّي أن يجعلها أذن عليّ»، قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قط، فنسيته.
هذا أنموذج من أوصاف العقاب الأليم الذي أوقعه الله ببعض الأقوام الغابرة، اتصفت بأقسى ألوان الشدة في الدنيا، لتكون درسا بليغا، وعظة بالغة للأقوام
هول القيامة وحال الأبرار فيها
للقيامة أهوال وأحزان، ومفاجات وكوارث، تبدأ من نفخة الفزع التي ينفخها إسرافيل في الصور (وهو القرن الذي ينفخ فيه) ومعها يكون الصعق، ثم يعقبها نفخة البعث، وبعد النفخة الأولى تدكّ الأرض والجبال، وتنشق السماء وتنتثر الكواكب والنجوم، ثم يكون الحساب للأبرار والفجّار، أما الأبرار: فهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، ويهنأون في العيش الرغيد الخالد، في جنات النعيم، وأما الفجار: فهم الأشقياء الذين يعطون كتبهم بشمائلهم أو من وراء ظهورهم، ويعذّبون في الجحيم بسبب كفرهم وإحجامهم عن الخير، كما يتضح في الآيات الآتية:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٣ الى ٢٤]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨»
(٢) هي نفخة القيامة التي للفزع والصعق.
(٣) أي تصير الأرض والجبال كتلة واحدة.
(٤) قامت القيامة.
(٥) كناية عن تصدّعها وتبدّدها.
(٦) مختلة ضعيفة غير متماسكة.
(٧) هو مخلوق وأعظم المخلوقات.
(٨) خذوا.
ذكّر الله تعالى بأمر القيامة في هذه الآيات، ومبدؤها حين ينفخ إسرافيل النفخة الأولى التي يكون عندها خراب العالم، وحدوث الفزع والصعق. ثم تكون نفخة البعث. وقيل: هي نفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ثم نفخة البعث.
وبعد النفخة الأولى ترفع الجبال من أماكنها بقدرة الله، ويضرب بعضها ببعض ضربة واحدة، وتصير مع الأرض كتلة واحدة، وترجع كثيبا مهيلا، وتتبدد وتتغير.
فحينئذ قامت القيامة، ووقعت النازلة. فقوله: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ معناه: قامت القيامة والطّامّة الكبرى.
وتصدّعت السماء، فتصير يومئذ ضعيفة مسترخية، غير متماسكة الأجزاء، وتتبدل هي والأرض تبدّلا محسوسا واضحا، ويبرز الناس للحساب بين يدي الله تعالى.
وتكون الملائكة على جوانب السماء وحافاتها على أتم الاستعداد لتنفيذ ما يأمرهم الله به. ويحمل عرش ربّك فوق رؤوس الملائكة الذين هم على الأرجاء (الجوانب) ثمانية أملاك. وقوله: الْمَلَكُ اسم جنس، يريد به الملائكة. وضمير أَرْجائِها عائد على السماء، أي الملائكة على نواحيها وجوانبها. والعرش في اللغة: سرير الملك، وهو أعظم مخلوقات الله تعالى، نؤمن به، ونفوض الأمر في وصفه لله عزّ وجلّ.
في ذلك اليوم، يعرض العباد على الله تعالى لحسابهم، فلا يخفى على الله من
(٢) ثمارها قريبة التناول.
(٣) الماضية في الدنيا.
والناس بعد الحساب فريقان: سعداء أبرار، وأشقياء فجّار.
أما الأبرار: فهم الذين يؤتون كتبهم التي كتبتها الحفظة عليهم من أعمالهم، فيقول السعيد صاحب اليمين لكل من لقيه: خذوا هذا الكتاب فاقرؤوا ما فيه، لعلمه أنه صار من الناجين، بعد أن كان خائفا مضطربا كشأن أهل المحشر كلهم، كما قال تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) أي تيقّنت وعلمت أني ألقى حسابي في هذا اليوم، فيؤاخذني الله بسيئاتي، ولكنه تعالى تفضّل علي بالعفو، ولم يؤاخذني بها. والآية عبارة عن إيمان هذا السعيد بالبعث وغيره. فهو يقول: لقد علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة، وأن هذا اليوم كائن لا محالة. قال قتادة: ظنّ هذا ظنّا يقينيا فنفعه، وقوم ظنوا ظن شك فشقوا به.
ومصير هذا السعيد: أنه بعد تلقي كتابه بيمينه هو في عيشة مرضية أو ذات رضا، خالية من المكدّرات، غير مكروهة، في جنة مرتفعة المكان، رفيعة القدر، عالية المنازل، مكانا وقدرا، دائمة السرور، ثمارها قريبة التناول لكل أحد بحسب راحته، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع. والقطوف: جمع قطف: وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف. ودنوها: هو أنها تأتي طوع التّمني، فيأكلها القائم والقاعد والمضطجع، بفيه، من شجرتها.
ويقال لهؤلاء السعداء من الملائكة الأبرار: كلوا أيها المتّقون الأبرار في الجنّة من طيباتها وثمارها، واشربوا من أشربتها الهانئة، أكلا وشربا هنيئا، أي لا تكدير فيه ولا تنغيص، جزاء لما عملتم، وبسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا. والْأَيَّامِ الْخالِيَةِ هي أيام الدنيا، لأنها في الآخرة قد خلت وذهبت. وأَسْلَفْتُمْ قدمتم.
ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اعملوا وسدّدوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنّة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
إن دخول الجنان بفضل من الله ورحمة وإحسان، أما تفاوت الناس الصالحين في درجات الجنّة، فإنما هو بحسب تفاضلهم في أعمالهم، وهو ما صرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النّحل: ١٦/ ٣٢].
وهذا جمع موفّق بين الآيات والأحاديث النّبوية.
حال الفجّار في القيامة
يتميز أسلوب القرآن الكريم بالموازنة أو المقارنة بين الأضداد والمتغايرات، ليختار الإنسان العاقل الواعي بحرّيته طريق الخير أو طريق الشرّ، ويكون عمله هو سبب جزائه الحسن أو السوء، وقد ذكر الله تعالى في آيات سابقة حال الأبرار الأتقياء من نعيم الجنان، ليستعد الإنسان للعمل بعملهم، ثم أعقبه ببيان حال الأشقياء التعساء في نيران الجحيم، ليتجنّب المرء مسيرتهم وسلوكهم، لأن الجزاء الواضح في الآخرة مرتبط بنوع العمل، فأهل الإيمان والعمل الصالح هم السعداء، وأهل الكفر والجحود والمعاصي هم الهالكون الخاسرون، بسبب الإعراض عن الإيمان الصحيح بالله ورسالاته وعن أعمال البر والخير، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٥ الى ٣٧]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
المعنى: أما الشّقي الذي أعطي كتابه بشماله أو من وراء ظهره، فيقول حزنا وكربا لما رأى من سوء عمله وعقيدته: يا ليتني لم أعط كتابي. ولم أعلم شيئا عن حسابي، لأن كله وبال علي، ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت القاطعة نهاية الحياة، ولم أبعث بعدها، أي ليتها لم يكن بعدها رجوع ولا حياة، فهو يتمنى دوام الموت وعدم البعث، لما شاهد من سوء عمله، وما يجابهه في الآخرة من العذاب.
جمعت الآيات بين مقابلة العذاب النفسي بتمنّي عدم تلقّي الكتاب، وبين الشعور بالعذاب الجسدي، حين تمنّي الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه، كما قال قتادة.
ويضيف الكافر قائلا: ما أفادني مالي شيئا، ولم يدفع عني شيئا من عذاب الله تعالى، وذهب منصبي وجاهي وملكي وحجتي، والسلطان: هو الحجة، على الراجح، فلم يدفع عني العذاب. قال ابن عطية: والظاهر عندي أن سلطان كل أحد: هو حاله في الدنيا من عدد وعدد، ومنه
الحديث: «لا يؤمنّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» «٨».
هؤلاء الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم: هم المخلّدون في النار، أهل الكفر، فيتمنون
(٢) شدّوه في الأغلال.
(٣) أدخلوه في نار جهنم. [.....]
(٤) مبلغ كيلها أو طولها سبعون ذراعا، المراد أنها طويلة، وهي ذراع الملك.
(٥) صديق.
(٦) ما يسيل من صديد أهل جهنم.
(٧) الآثمون.
(٨) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه، وأحمد في مسنده، عن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه.
فيأمر الله زبانية جهنم قائلا لهم: خذوه، أي خذوا هذا الكافر الشّقي، مكبّلا بالقيود والسلاسل والأغلال، بجمع يده إلى عنقه في الغلّ، ثم أدخلوه الجحيم ليصلى حرّها، ثم أدخلوه في سلسلة (حلق منتظمة) طولها سبعون ذراعا تلفّ على جسمه، لئلا يتحرّك. وقد جعل الله تعالى في قرآنه السبع مائة، والسبعين، والسبعة، مواقف ونهايات لأشياء عظام، فلذلك مشى العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات، وهذه السلسلة من الأشياء التي جعل الله تعالى فيها السبعين: نهاية.
وسبب وعيد هذا الشّقي وعذابه: أنه كان لا يؤمن بالله العظيم، أي كافرا جاحدا، لا يصدق بالله صاحب العظمة والسلطان، ولا يحب الخير ولا يفعله، ولا يحث على إطعام الفقير والمسكين البائس، فضلا عن أنه لا يبذل المال لمحتاج. أي لا يؤدي حقوق الله من توحيده وعبادته، وترك الشّرك به، ولا يوفي بحقوق العباد من الإحسان والمعاونة على البر والتقوى. وفي ذكر الحضّ دون الفعل تشنيع على صاحبه، يفيد أن تارك الحض كتارك الفعل. وهذا دليل على أن غير المؤمنين إطلاقا مطالبون بفروع أحكام الشريعة الإسلامية، من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها من شرائع المعاملات والأحوال الشخصية.
والعذاب متعين لازم لهذا الشقي، فليس له يوم القيامة قريب ينفعه، أو صديق يشفع له، أو منقذ ينقذه من العذاب. والحميم: هو الصديق اللطيف المودة.
وأما وسائل بقاء الحياة في النار لأهلها، فتتجدد حياتهم كلما عذّبوا، وليس لهم طعام يأكلونه إلا أقبح الأشياء، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار من صديد ودم وقيح، إنها سموم قاتلة في الباطن، مع العذاب في الظاهر، وهذا الطعام لا يتناوله إلا
نفى الله تعالى في هاتين الآيتين أن يكون للكافر في الآخرة من يواليه، ونفى أن يكون له طعام إلا من غسلين: ما يسيل من أجساد أهل النار، وذلك غاية القبح.
القرآن تنزيل من الله وتذكرة
ختم الله تعالى سورة الحاقّة بما يدلّ على تعظيم القرآن الكريم، وكونه تنزيل ربّ العالمين، على قلب رسوله الأمين، وأنه تذكرة للمتقين، ولا قيمة لتكذيب المكذبين، وسيبقى حق اليقين الذي لا شك فيه، ومصدر غصة وعذاب وحسرة على الكافرين، وهو الكتاب المعجز الدالّ على إخراس ألسنة المتقولين فيه، قال مقاتل: سبب نزول الآيات أي التي يقسم الله فيها على أن القرآن قول الله الذي يبلّغه رسول كريم: أن الوليد ابن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فقال الله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) الآيات، أي أقسم. وهذه هي الآيات:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٥٢]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الحاقّة: ٦٩/ ٣٨- ٥٢].
(٢) الكاهن: من يخبر بالغيب.
(٣) تكلف وافترى.
(٤) لعاقبناه بقوة.
(٥) الوريد: العرق الرئيسي المتّصل بالقلب.
(٦) مانعين.
(٧) أي اليقين الحق الذي لا شك فيه.
(٨) نزّه الله عما لا يليق به.
أقسم أي أقسم لخلقي بما تشاهدون من المخلوقات الدالة على كمالي في أسمائي وصفاتي، وما لا تشاهدون مما غاب عنكم من المغيبات، إن هذا القرآن هو كلام الله ووحيه وتنزيله على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو تلاوة وتبليغ رسول كريم: هو جبريل عليه السّلام، أو محمد عليه الصّلاة والسّلام، وعليه الأكثرون، وأضيف القول إليه، لأنه هو الذي تلاه وبلّغه.
وليس القرآن بقول شاعر كما تزعمون، لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بشاعر، وليست آيات القرآن من أصناف الشعر، وأنتم تؤمنون أو تصدّقون تصديقا يسيرا، حين تقولون عن الخالق: إنه الله.
وليس هو بقول كاهن: وهو من يدّعي الغيب ومعرفة أسرار المستقبل، كما تزعمون، فإن القرآن سبّ الشياطين، فلا يعقل أن يكون بإلهامهم، ولكنكم تتذكرون تذكّروا قليلا، فيلتبس الأمر عليكم.
بل هو تنزيل من الله ربّ الإنس والجنّ، نزل به جبريل الرّوح الأمين على قلب الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثم أكّد الله تعالى أن هذا النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع أن يختلق القرآن، فإنه لو افترى القرآن، وجاء به من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى، على سبيل الفرض، لأخذناه وأهلكناه بالقوة، ولنلنا عقابه بقوة منا، واليمين: القوة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثم لبترنا منه الوتين من قلبه، وهو العرق أو الوريد المتصل من القلب بالرأس، إذا قطع مات صاحبه. وهذا تصوير لإهلاكه بأشنع وأشد ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه.
فليس منكم أحد يحجزنا ويمنعنا منه، أو ينقذنا منه، فكيف يجرأ على تكلف الكذب على الله لأجلكم؟! وقوله: حاجِزِينَ جمع روعي فيه المعنى، لأن قوله:
وأوصاف القرآن الكريم: هي أنه عظة وتذكرة لأهل التقوى الذين يخشون عذاب الله بإطاعة أوامره، واجتناب نواهيه.
وإنا لنوقن ونجزم أن بعضكم مكذبون بالقرآن، كفرا وعنادا، ونحن نجازيهم على ذلك، وبعضكم مصدّقون به، لاهتدائه إلى الحق. وفي هذا وعيد شديد للمكذبين.
وإن هذا القرآن سيكون حسرة وألما وندامة على الكافرين، يوم القيامة، من حيث إنهم كفروا به، ويرون من آمن به ينعّم، وهم يعذّبون.
وإن القرآن هو الخبر الصدق، واليقين الحق الذي لا شك فيه، لكونه من عند الله، وليس من قول أحد من البشر. وقوله: لَحَقُّ الْيَقِينِ في رأي الكوفيين: من إضافة الشيء إلى نفسه، كدار الآخرة، ومسجد الجامع. وفي رأي البصريين والحذّاق: أن الحقّ مضاف إلى الأبلغ من وجوهه، قال المبرد: إنما هو كقولك: عين اليقين، ومحض اليقين.
ثم أمر الله تعالى نبيّه بتسبيح الله باسمه العظيم، أي نزّه الله تعالى الذي أنزل هذا القرآن العظيم، عما لا يليق به، بقولك: سبحان ربي العظيم. وفي ضمن ذلك:
الاستمرار على تبليغ رسالته.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لما نزلت هذه الآية: «اجعلوها في ركوعكم».
واسم الرّب: كل لفظ يدل على الذات الأقدس أو على صفة من صفاته، كالله والرّحمن والرّحيم. وتنزيه الاسم الخاص: تنزيه للذات، فتكون الباء في قوله: بِاسْمِ زائدة.