تفسير سورة ق

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة ق من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة ق
وفي السورة توكيد للبعث الأخروي وتبشير وإنذار به، وتدليل على قدرة الله عليه، وحكاية لبعض مشاهده، وتنديد بالكافرين المكذبين وتنويه بالمتقين، وبيان مصير هؤلاء وأولئك في الآخرة، وفيها تذكير بمصير الأقوام السابقة المكذبين، وتسلية للنبي وتطمين له من مواقف قومه، وموضوعها عام ليس فيه مشاهد ومواقف شخصية ومعينة، وانسجام فصولها وترابطها واتساق وزنها يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة، وقد روي أن الآية [ ٣٨ ] مدنية، وأسلوبها وانسجامها مع بقية الآيات يحملان على الشك في ذلك.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ ق والقرآن المجيد( ١ ) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب( ٢ ) أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد( ٣ ) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ( ٤ ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج( ٥ ) ﴾ [ ١-٥ ].
قال بعض المفسرين : إن ﴿ ق ﴾ اسم جبل، ومنهم من قال : إنه جبل أخضر محدق بالدنيا، ومنهم من قال : إنه اسم السورة أو من أسماء الله، ومنهم من قال : إنه حرف مثل الحروف المفردة التي بدئ بها كثير من السور للتنبيه والاسترعاء١ ونحن نرجح هذا ؛ لأن القسم بالقرآن أعقب حرف ﴿ ق ﴾، وهذا الأسلوب قد تكرر كثيرا في هذه السور بل هو الأغلب.
أما جوب القسم فإما انه محذوف، وتقديره : إن الكفار كاذبون أو إن ما يتلى من القرآن صدق لا ريب فيه أو إن بعثكم أكيد وإما في الآية الرابعة.
وفي الآيات حكاية لما ثار في الكافرين من عجب ودهشة حينما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهم ومثلهم يدعوهم إلى الله وينذرهم بالآخرة. ويبدو من مضمون الآيات وروحها أن عجب الكافرين ودهشتهم كانا منصبين في الدرجة الأولى على البعث الأخروي ؛ حيث حكت الآية الثالثة تساءلهم عما ينذره النبي من هذا البعث وقولهم : إنه مستبعد بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا، وفي الآية الرابعة رد عليهم بأسلوب تقريري بأن الله محيط بهم وبذرات أجسامهم وقادر على بعثهم.
أما الآية الخامسة فهي بسبيل تقرير أنهم في تكذيبهم إنما يكذبون الحق الذي لا ريب فيه حينما جاءهم وأن الأمر قد التبس عليهم واضطرب، شأن من يبهته الحق فيذهله.
﴿ ق والقرآن المجيد( ١ ) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب( ٢ ) أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد( ٣ ) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ( ٤ ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج( ٥ ) ﴾ [ ١-٥ ].
قال بعض المفسرين : إن ﴿ ق ﴾ اسم جبل، ومنهم من قال : إنه جبل أخضر محدق بالدنيا، ومنهم من قال : إنه اسم السورة أو من أسماء الله، ومنهم من قال : إنه حرف مثل الحروف المفردة التي بدئ بها كثير من السور للتنبيه والاسترعاء١ ونحن نرجح هذا ؛ لأن القسم بالقرآن أعقب حرف ﴿ ق ﴾، وهذا الأسلوب قد تكرر كثيرا في هذه السور بل هو الأغلب.
أما جوب القسم فإما انه محذوف، وتقديره : إن الكفار كاذبون أو إن ما يتلى من القرآن صدق لا ريب فيه أو إن بعثكم أكيد وإما في الآية الرابعة.
وفي الآيات حكاية لما ثار في الكافرين من عجب ودهشة حينما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهم ومثلهم يدعوهم إلى الله وينذرهم بالآخرة. ويبدو من مضمون الآيات وروحها أن عجب الكافرين ودهشتهم كانا منصبين في الدرجة الأولى على البعث الأخروي ؛ حيث حكت الآية الثالثة تساءلهم عما ينذره النبي من هذا البعث وقولهم : إنه مستبعد بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا، وفي الآية الرابعة رد عليهم بأسلوب تقريري بأن الله محيط بهم وبذرات أجسامهم وقادر على بعثهم.
أما الآية الخامسة فهي بسبيل تقرير أنهم في تكذيبهم إنما يكذبون الحق الذي لا ريب فيه حينما جاءهم وأن الأمر قد التبس عليهم واضطرب، شأن من يبهته الحق فيذهله.
تعليق على ذكر القرآن والقسم به بعد حرف ﴿ ق ﴾
هذه السورة أولى السور التي أعقبت حروفها المتقطعة المفردة الأولى ذكر القرآن. ثم جرى النظم القرآني على ذلك في معظم السور التي تبتدئ بحرف أو حروف منفردة متقطعة مع ورود كلمة الكتاب بدلا من القرآن في بعضها، ومع ورود كلمة القرآن والكتاب معا في بعضها، ومع القسم بالقرآن أو الكتاب في بعضها، ومع الإشارة إلى القرآن أو الكتاب بدون قسم في بعضها.
والقرآن أو الكتاب الذي هو تعبير آخر له ولو كان لكل من الكلمتين معنى أو دلالة خاصة، ١ ظل يطلق على ما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الله عز وجل إلى أن تم تمامه. فيصح أن يعتبر القسم بالنسبة لما نزل حين نزوله كما يصح أن يعتبر لمجموعه بطبيعة الحال. والله تعالى أعلم.
تعليق على حكاية تعجب الكفار من مجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة.
وحكاية عجب الكفار بمجيء رسول إليهم منهم وإنذاره بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب، قد تكررت كثيرا في القرآن مما يدل على أن الأمرين كانا مثار الدهشة والخلاف والجحود والعناد دائما. وخاصة أمر البعث والحساب. وهذا يفسر الحيز الواسع الذي شغله هذا الأمر في القرآن حتى لا تكاد سورة من سورة تخلو منه بأسلوب وصيغة ما، وصفا وإنذارا وتبشيرا وتوكيدا. ويستدل منه ومما تكرر كثيرا من حكاية موقفهم من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن موقفهم من النبي آت من شكهم في صلته بالله تعالى وهو منهم ومثلهم، وأن موقفهم من الآخرة آت من اعتقادهم باستحالة البعث بعد أن يصبحوا رميما وترابا. ولقد مرت أمثلة عديدة من موقفهم من الآخرة. وأما موقفهم من شخص الرسول وشكهم في صلته بالله تعالى فمن الأمثلة عليه بالإضافة إلى ما احتوته هذه الآيات، آيات سورة الإسراء هذه :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا٩٤ ﴾ وسورة ص هذه :﴿ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب٤ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب٥ وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد٦ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق٧ أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب٨ ﴾٢.
ومن هنا جاء ما حكته آيات كثيرة من تحديهم للنبي صلى الله عليه وسلم بإثبات صلته بالله بالمعجزات واستنزال الملائكة وبإحياء آبائهم مثل آيات سورة الأنبياء هذه ﴿ لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون٣ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم٤ بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون٥ ﴾ ومثل آيات سورة الحجر هذه :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون٦ لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين٧ ﴾ ومثل آيات سورة الدخان هذه :﴿ إن هؤلاء ليقولن٣٤ إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين٣٥فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين٣٦ ﴾.
١ - كلمة القرآن تعني كلام الله المقروء. وكلمة الكتاب تعني كلام الله المكتوب؛ حيث كان ما ينزل من القرآن يكتب فيصير كتابا ويقرأ فيكون قرآنا. والله تعالى أعلم..
٢ - اكتفينا بهذين المثالين من أمثلة كثيرة سوف تأتي في السور الآتية..
( ١ ) مريج : مضطرب أو ملتبس عليهم.
﴿ ق والقرآن المجيد( ١ ) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب( ٢ ) أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد( ٣ ) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ( ٤ ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج( ٥ ) ﴾ [ ١-٥ ].
قال بعض المفسرين : إن ﴿ ق ﴾ اسم جبل، ومنهم من قال : إنه جبل أخضر محدق بالدنيا، ومنهم من قال : إنه اسم السورة أو من أسماء الله، ومنهم من قال : إنه حرف مثل الحروف المفردة التي بدئ بها كثير من السور للتنبيه والاسترعاء١ ونحن نرجح هذا ؛ لأن القسم بالقرآن أعقب حرف ﴿ ق ﴾، وهذا الأسلوب قد تكرر كثيرا في هذه السور بل هو الأغلب.
أما جوب القسم فإما انه محذوف، وتقديره : إن الكفار كاذبون أو إن ما يتلى من القرآن صدق لا ريب فيه أو إن بعثكم أكيد وإما في الآية الرابعة.
وفي الآيات حكاية لما ثار في الكافرين من عجب ودهشة حينما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهم ومثلهم يدعوهم إلى الله وينذرهم بالآخرة. ويبدو من مضمون الآيات وروحها أن عجب الكافرين ودهشتهم كانا منصبين في الدرجة الأولى على البعث الأخروي ؛ حيث حكت الآية الثالثة تساءلهم عما ينذره النبي من هذا البعث وقولهم : إنه مستبعد بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا، وفي الآية الرابعة رد عليهم بأسلوب تقريري بأن الله محيط بهم وبذرات أجسامهم وقادر على بعثهم.
أما الآية الخامسة فهي بسبيل تقرير أنهم في تكذيبهم إنما يكذبون الحق الذي لا ريب فيه حينما جاءهم وأن الأمر قد التبس عليهم واضطرب، شأن من يبهته الحق فيذهله.
( ١ ) فروج : شقوق أو فتوق.
﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج١( ٦ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي٢ وأنبتنا فيها من كل زوج٣ بهيج٤( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب( ٨ ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٥( ٩ ) والنخل باسقات٦ لها طلع٧ نضيد٨( ١٠ ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج( ١١ ) ﴾ [ ٦-١١ ].
والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري : يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة، وليس البعث بأعظم من ذلك.
ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم.
ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها : آية سورة الصافات هذه :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب٦ ﴾ حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك.
وجملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي بدأت بها الآيات، قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهن عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا.
ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عز وجل على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك ما جاء في آية سورة الروم هذه :﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾ وما جاء في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون٥٧ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون
ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحس الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردد أحد في رد ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عز وجل الخالق البارئ المصور الرازق، وبأن الله يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته.
وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان.
ومادام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه، فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق بين ما ورد في القرآن من هذه المشاهد وبين ما عرف فنيا من ذلك، لأن ذلك مما يخرج القرآن عن هدفه الوعظي والتذكيري ويعرضه للنقاش فيما لم يقصد إليه.
وبعض المسلمين يفعلون ذلك بسبيل البرهنة على أن القرآن احتوى كثيرا مما ظهرت صحته ومداه فنيا، ومن الحق أن نذكر أن فيما يفعلونه أحيانا كثيرة تجوزا وتمحلا. ونحن لا نرى ذلك ضروريا لإثبات صحة الوحي القرآني وصدق ما احتواه. ففي أساليب القرآن ومحتوياته ما فيه أقوى إثبات لمن يكون حسن النية وراغبا في الإيمان بالله وكتابه. أما غيرهم فإنه يجد دائما ما يورده على من يحاول استخراج نواميس الكون والطبيعة من القرآن. في حين أن هذه المحاولة ليست من ضروريات الدين والإيمان وليست متسقة مع أهداف ما في القرآن من ذلك.
هذا، والمتبادر أن الآية السابقة قد جاءت استطرادية أو تنبيهية ؛ لتهتف بأن في كل هذه المشاهد الكونية والنعم الربانية تبصرة وذكرا لمن حسنت نيته ورغب في الحق وأراد الإنابة إلى الله تعالى ؛ حيث يرى في كل ذلك دلائل قدرة الله وعظمته فلا يبقى له مندوحة عن الاستجابة لدعوته. وهي بهذا الشرح متساوقة مع الأسلوب الذي نبهنا عليه آنفا.

( ٢ ) رواسي : كناية عن الجبال.
( ٣ ) من كل زوج : من كل صنف.
( ٤ ) بهيج : حسن المنظر.
﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج١( ٦ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي٢ وأنبتنا فيها من كل زوج٣ بهيج٤( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب( ٨ ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٥( ٩ ) والنخل باسقات٦ لها طلع٧ نضيد٨( ١٠ ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج( ١١ ) ﴾ [ ٦-١١ ].
والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري : يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة، وليس البعث بأعظم من ذلك.
ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم.
ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها : آية سورة الصافات هذه :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب٦ ﴾ حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك.
وجملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي بدأت بها الآيات، قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهن عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا.
ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عز وجل على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك ما جاء في آية سورة الروم هذه :﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾ وما جاء في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون٥٧ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون
ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحس الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردد أحد في رد ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عز وجل الخالق البارئ المصور الرازق، وبأن الله يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته.
وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان.
ومادام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه، فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق بين ما ورد في القرآن من هذه المشاهد وبين ما عرف فنيا من ذلك، لأن ذلك مما يخرج القرآن عن هدفه الوعظي والتذكيري ويعرضه للنقاش فيما لم يقصد إليه.
وبعض المسلمين يفعلون ذلك بسبيل البرهنة على أن القرآن احتوى كثيرا مما ظهرت صحته ومداه فنيا، ومن الحق أن نذكر أن فيما يفعلونه أحيانا كثيرة تجوزا وتمحلا. ونحن لا نرى ذلك ضروريا لإثبات صحة الوحي القرآني وصدق ما احتواه. ففي أساليب القرآن ومحتوياته ما فيه أقوى إثبات لمن يكون حسن النية وراغبا في الإيمان بالله وكتابه. أما غيرهم فإنه يجد دائما ما يورده على من يحاول استخراج نواميس الكون والطبيعة من القرآن. في حين أن هذه المحاولة ليست من ضروريات الدين والإيمان وليست متسقة مع أهداف ما في القرآن من ذلك.
هذا، والمتبادر أن الآية السابقة قد جاءت استطرادية أو تنبيهية ؛ لتهتف بأن في كل هذه المشاهد الكونية والنعم الربانية تبصرة وذكرا لمن حسنت نيته ورغب في الحق وأراد الإنابة إلى الله تعالى ؛ حيث يرى في كل ذلك دلائل قدرة الله وعظمته فلا يبقى له مندوحة عن الاستجابة لدعوته. وهي بهذا الشرح متساوقة مع الأسلوب الذي نبهنا عليه آنفا.

﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج١( ٦ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي٢ وأنبتنا فيها من كل زوج٣ بهيج٤( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب( ٨ ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٥( ٩ ) والنخل باسقات٦ لها طلع٧ نضيد٨( ١٠ ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج( ١١ ) ﴾ [ ٦-١١ ].
والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري : يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة، وليس البعث بأعظم من ذلك.
ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم.
ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها : آية سورة الصافات هذه :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب٦ ﴾ حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك.
وجملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي بدأت بها الآيات، قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهن عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا.
ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عز وجل على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك ما جاء في آية سورة الروم هذه :﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾ وما جاء في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون٥٧ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون
ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحس الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردد أحد في رد ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عز وجل الخالق البارئ المصور الرازق، وبأن الله يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته.
وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان.
ومادام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه، فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق بين ما ورد في القرآن من هذه المشاهد وبين ما عرف فنيا من ذلك، لأن ذلك مما يخرج القرآن عن هدفه الوعظي والتذكيري ويعرضه للنقاش فيما لم يقصد إليه.
وبعض المسلمين يفعلون ذلك بسبيل البرهنة على أن القرآن احتوى كثيرا مما ظهرت صحته ومداه فنيا، ومن الحق أن نذكر أن فيما يفعلونه أحيانا كثيرة تجوزا وتمحلا. ونحن لا نرى ذلك ضروريا لإثبات صحة الوحي القرآني وصدق ما احتواه. ففي أساليب القرآن ومحتوياته ما فيه أقوى إثبات لمن يكون حسن النية وراغبا في الإيمان بالله وكتابه. أما غيرهم فإنه يجد دائما ما يورده على من يحاول استخراج نواميس الكون والطبيعة من القرآن. في حين أن هذه المحاولة ليست من ضروريات الدين والإيمان وليست متسقة مع أهداف ما في القرآن من ذلك.
هذا، والمتبادر أن الآية السابقة قد جاءت استطرادية أو تنبيهية ؛ لتهتف بأن في كل هذه المشاهد الكونية والنعم الربانية تبصرة وذكرا لمن حسنت نيته ورغب في الحق وأراد الإنابة إلى الله تعالى ؛ حيث يرى في كل ذلك دلائل قدرة الله وعظمته فلا يبقى له مندوحة عن الاستجابة لدعوته. وهي بهذا الشرح متساوقة مع الأسلوب الذي نبهنا عليه آنفا.

( ٥ ) حب الحصيد : إشارة إلى الزراعة الحبوبية التي تجنى بطريق الحصد كالقمح والشعير.
﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج١( ٦ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي٢ وأنبتنا فيها من كل زوج٣ بهيج٤( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب( ٨ ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٥( ٩ ) والنخل باسقات٦ لها طلع٧ نضيد٨( ١٠ ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج( ١١ ) ﴾ [ ٦-١١ ].
والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري : يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة، وليس البعث بأعظم من ذلك.
ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم.
ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها : آية سورة الصافات هذه :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب٦ ﴾ حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك.
وجملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي بدأت بها الآيات، قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهن عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا.
ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عز وجل على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك ما جاء في آية سورة الروم هذه :﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾ وما جاء في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون٥٧ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون
ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحس الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردد أحد في رد ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عز وجل الخالق البارئ المصور الرازق، وبأن الله يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته.
وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان.
ومادام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه، فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق بين ما ورد في القرآن من هذه المشاهد وبين ما عرف فنيا من ذلك، لأن ذلك مما يخرج القرآن عن هدفه الوعظي والتذكيري ويعرضه للنقاش فيما لم يقصد إليه.
وبعض المسلمين يفعلون ذلك بسبيل البرهنة على أن القرآن احتوى كثيرا مما ظهرت صحته ومداه فنيا، ومن الحق أن نذكر أن فيما يفعلونه أحيانا كثيرة تجوزا وتمحلا. ونحن لا نرى ذلك ضروريا لإثبات صحة الوحي القرآني وصدق ما احتواه. ففي أساليب القرآن ومحتوياته ما فيه أقوى إثبات لمن يكون حسن النية وراغبا في الإيمان بالله وكتابه. أما غيرهم فإنه يجد دائما ما يورده على من يحاول استخراج نواميس الكون والطبيعة من القرآن. في حين أن هذه المحاولة ليست من ضروريات الدين والإيمان وليست متسقة مع أهداف ما في القرآن من ذلك.
هذا، والمتبادر أن الآية السابقة قد جاءت استطرادية أو تنبيهية ؛ لتهتف بأن في كل هذه المشاهد الكونية والنعم الربانية تبصرة وذكرا لمن حسنت نيته ورغب في الحق وأراد الإنابة إلى الله تعالى ؛ حيث يرى في كل ذلك دلائل قدرة الله وعظمته فلا يبقى له مندوحة عن الاستجابة لدعوته. وهي بهذا الشرح متساوقة مع الأسلوب الذي نبهنا عليه آنفا.

( ٦ ) باسقات : مرتفعات أو عاليات.
( ٧ ) طلع : هو في اللغة أول ثمر النخلة.
( ٨ ) نضيد : منضد بعضه فوق بعضه، أو بعضه إلى جانب بعضه.
﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج١( ٦ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي٢ وأنبتنا فيها من كل زوج٣ بهيج٤( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب( ٨ ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٥( ٩ ) والنخل باسقات٦ لها طلع٧ نضيد٨( ١٠ ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج( ١١ ) ﴾ [ ٦-١١ ].
والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري : يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة، وليس البعث بأعظم من ذلك.
ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم.
ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها : آية سورة الصافات هذه :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب٦ ﴾ حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك.
وجملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي بدأت بها الآيات، قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهن عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا.
ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عز وجل على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك ما جاء في آية سورة الروم هذه :﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾ وما جاء في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون٥٧ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون
ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحس الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردد أحد في رد ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عز وجل الخالق البارئ المصور الرازق، وبأن الله يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته.
وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان.
ومادام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه، فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق بين ما ورد في القرآن من هذه المشاهد وبين ما عرف فنيا من ذلك، لأن ذلك مما يخرج القرآن عن هدفه الوعظي والتذكيري ويعرضه للنقاش فيما لم يقصد إليه.
وبعض المسلمين يفعلون ذلك بسبيل البرهنة على أن القرآن احتوى كثيرا مما ظهرت صحته ومداه فنيا، ومن الحق أن نذكر أن فيما يفعلونه أحيانا كثيرة تجوزا وتمحلا. ونحن لا نرى ذلك ضروريا لإثبات صحة الوحي القرآني وصدق ما احتواه. ففي أساليب القرآن ومحتوياته ما فيه أقوى إثبات لمن يكون حسن النية وراغبا في الإيمان بالله وكتابه. أما غيرهم فإنه يجد دائما ما يورده على من يحاول استخراج نواميس الكون والطبيعة من القرآن. في حين أن هذه المحاولة ليست من ضروريات الدين والإيمان وليست متسقة مع أهداف ما في القرآن من ذلك.
هذا، والمتبادر أن الآية السابقة قد جاءت استطرادية أو تنبيهية ؛ لتهتف بأن في كل هذه المشاهد الكونية والنعم الربانية تبصرة وذكرا لمن حسنت نيته ورغب في الحق وأراد الإنابة إلى الله تعالى ؛ حيث يرى في كل ذلك دلائل قدرة الله وعظمته فلا يبقى له مندوحة عن الاستجابة لدعوته. وهي بهذا الشرح متساوقة مع الأسلوب الذي نبهنا عليه آنفا.

﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج١( ٦ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي٢ وأنبتنا فيها من كل زوج٣ بهيج٤( ٧ ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب( ٨ ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد٥( ٩ ) والنخل باسقات٦ لها طلع٧ نضيد٨( ١٠ ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج( ١١ ) ﴾ [ ٦-١١ ].
والآيات متصلة بسابقاتها بقرينة جملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي تنصرف إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة عجبهم من رسالة النبي واستبعادهم البعث الأخروي. وهي بسبيل البرهنة على قدرة الله. والسؤال الذي بدأت به الآيات استنكاري : يتضمن التنديد بالجاحدين لإنكارهم قدرة الله بينما يرون آثارها العظيمة ماثلة أمامهم في السماء وبديع خلقها وزينتها، والأرض ورواسيها وصنوف نباتها وأشجارها والمطر المبارك الذي ينزل من السماء فينبت به الشجر والحب وتحيا به الأرض بعد موتها ويعرفون أن ذلك من آثار تلك القدرة، وليس البعث بأعظم من ذلك.
ولقد حكى القرآن اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، على ما أوردنا شواهده القرآنية في السورة السابقة وبذلك تستحكم حجة الله فيهم.
ولقد أشير في آيات أخرى إلى تزيين الله سبحانه السماء بالكواكب منها : آية سورة الصافات هذه :﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب٦ ﴾ حيث يمكن القول إن العبارة القرآنية هنا قد قصدت ذلك.
وجملة ﴿ أفلم ينظروا ﴾ التي بدأت بها الآيات، قد تفيد أن ما لفت نظر السامعين أو الجاحدين إليه فيها من بديع خلق الله ونواميس كونه ولا سيما عدم وجود شقوق في السماء وزينتها مطابق لما كان في أذهانهن عنها. وبذلك تستحكم كذلك حجة القرآن فيهم من هذه الناحية أيضا.
ولقد انطوت الآية الأخيرة على تشبيه إحياء الأرض بالماء بعد موتها بالبعث الأخروي. وعلى دليل على قدرة الله عز وجل على هذا البعث. فالماء الذي ينزله الله تعالى من السماء يثير في الأرض الميتة الجافة مظاهر الحياة المتنوعة. والذي يقدر على ذلك يقدر بطبيعة الحال على بعث الناس بعد موتهم. وقد تكرر هذا البرهان التشبيهي المقتطع من مشاهدات الناس في المناسبات المماثلة، ومن ذلك ما جاء في آية سورة الروم هذه :﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير٥٠ ﴾ وما جاء في آية سورة الأعراف هذه :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون٥٧ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:صورة من الأسلوب القرآني في مخاطبة العقل والقلب والحس في البرهنة على قدرة الله عبر مشاهد الطبيعة ونواميس الكون
ويلفت النظر الأسلوب البسيط القوي المسترعي للأذهان والحس الذي أشير به إلى المشاهد والنواميس الكونية، والذي هو سائغ لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم فلا يقصر أحد به عن إدراك ما في تلك المشاهد والنواميس من عظمة ونفع وقوام حياة وبرهان، ولا يتردد أحد في رد ذلك إلى قدرة الله ورحمته، والإقناع بأنها ليست في نطاق قدرة ما غير قدرة الله عز وجل الخالق البارئ المصور الرازق، وبأن الله يقدر على هذا يقدر على كل شيء بما في ذلك بعث الناس يوم القيامة ومحاسبتهم ومجازاتهم حسب أعمالهم لأن ذلك من مقتضيات عدل الله وحكمته.
وهذا الأسلوب تكرر في كل المناسبات والآيات المماثلة. وهو أسلوب مخاطبة العقل والقلب والبصر والحس والبرهان الحي الماثل لكل الناس من جميع الطبقات وفي كل زمن ومكان.
ومادام أن هذا الأسلوب في عرض مشاهد الكون والطبيعة في القرآن قد قصد به استرعاء الأذهان والأبصار إلى عظمة الله وقدرته والبرهنة على أنه هو وحده المستحق للعبادة والاتجاه عبر ما يلمسه السامعون ويشاهدونه ويعرفون مداه، فالأولى إبقاؤه في هذا النطاق وعدم محاولة الخروج منه إلى بحوث فنية والتوفيق بين ما ورد في القرآن من هذه المشاهد وبين ما عرف فنيا من ذلك، لأن ذلك مما يخرج القرآن عن هدفه الوعظي والتذكيري ويعرضه للنقاش فيما لم يقصد إليه.
وبعض المسلمين يفعلون ذلك بسبيل البرهنة على أن القرآن احتوى كثيرا مما ظهرت صحته ومداه فنيا، ومن الحق أن نذكر أن فيما يفعلونه أحيانا كثيرة تجوزا وتمحلا. ونحن لا نرى ذلك ضروريا لإثبات صحة الوحي القرآني وصدق ما احتواه. ففي أساليب القرآن ومحتوياته ما فيه أقوى إثبات لمن يكون حسن النية وراغبا في الإيمان بالله وكتابه. أما غيرهم فإنه يجد دائما ما يورده على من يحاول استخراج نواميس الكون والطبيعة من القرآن. في حين أن هذه المحاولة ليست من ضروريات الدين والإيمان وليست متسقة مع أهداف ما في القرآن من ذلك.
هذا، والمتبادر أن الآية السابقة قد جاءت استطرادية أو تنبيهية ؛ لتهتف بأن في كل هذه المشاهد الكونية والنعم الربانية تبصرة وذكرا لمن حسنت نيته ورغب في الحق وأراد الإنابة إلى الله تعالى ؛ حيث يرى في كل ذلك دلائل قدرة الله وعظمته فلا يبقى له مندوحة عن الاستجابة لدعوته. وهي بهذا الشرح متساوقة مع الأسلوب الذي نبهنا عليه آنفا.

﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود( ١٢ ) وعاد وفرعون وإخوان لوط( ١٣ ) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد( ١٤ ) ﴾ [ ١٢-١٤ ].
الصلة بين الآيات وسابقاتها قائمة بضمير ﴿ قبلهم ﴾ المنصرف إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة دهشتهم وعجبهم وتكذيبهم. وقد هدفت إلى تذكير هؤلاء بمصير أمثالهم من المكذبين السابقين وإنذارهم به. ولعل فيها قصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. فالتكذيب الذي يلقاه ليس بدعا. فقد لقيه الأنبياء الأولون قبله من أقوامهم أيضا. وقد استحق أولئك نكال الله وحق عليهم وعيده. وسيحق على هؤلاء وعيده ونكاله أيضا. وقد تكرر بيان هذا القصد أكثر من مرة، مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه ﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور٤ ﴾ ومثل ما جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين٣٤ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق توضيحي لأهل الرس والأيكة وتبّع
وقد جاءت إشارة إلى أقوام فرعون وعاد وثمود ونوح في السور السابقة، وعلقنا عليها بما اقتضى المقام، أما أقوام الرس والأيكة وتبّع فإنهم يذكرون هنا لأول مرة، وكذلك هي المرة الأولى الذي يذكر فيها قوم لوط بصراحة لأن ذكرهم سابقا كان باسم المؤتفكة في سورة النجم.
ولم ترد إشارة في موضع آخر من القرآن إلى أنبياء أرسلوا إلى أصحاب الرس وقوم تبّع مثل ما ورد من ذلك بشأن فرعون وعاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وأصحاب الأيكة، وكل ما هناك أن أصحاب الرس ذكروا بنفس التعبير في سورة الفرقان مرة أخرى دون تبع.
والرس : هي البئر المطوية بالخسف أو الردم، وقد تعددت أقوال المفسرين في أصحابها، منها : أنهم قوم في شمال جزيرة العرب أو اليمامة منه، وقيل : إنهم أصحاب الأخدود، وروح التسمية يلهم بأنهم كانوا من أقوام وقبائل جزيرة العرب، ويطلق اسم بلاد الرس اليوم، على ناحية في شمال الجزيرة، ولعلها تسمية ممتدة من القديم. ولقد روى المفسرون عن علماء الأخبار من التابعين فيما رووه في سياق هذه الآيات وآية سورة الفرقان [ ٣٨ ] عن أهل الرس : أنهم أهل قرية اسمها فلج في اليمامة، وأن اسم النبي الذي أرسله الله إليهم : حنظلة، وأنهم وثبوا عليه وقتلوه فأهلكهم الله ؛ حيث يفيد هذا أن أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته كانوا يتداولون قصصا حول أهل الرس. ويدعم كونهم من جزيرة العرب.
والأيكة هي الحرج١ وقد ذكر أصحاب الأيكة ثلاث مرات أخرى، مرتين بصيغة خاطفة مثل ما ذكروا هنا في سورتي ص والحجر، ومرة في سورة الشعراء مع اسم شعيب بصفته رسول الله الذي أرسل إلى أصحاب الأيكة، وقد ذكرت مدين مع اسم شعيب بنفس الصفة أيضا في سورتي الأعراف وهود. والوصف الذي وصفت به حالة أصحاب الأيكة في سورة الشعراء، والخطاب الذي حكى توجيهه إليهم من قبل شعيب وخاصة ﴿ أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ﴾ [ الشعراء : ١٨١ ] وصفت به حال أهل مدين في سورتي الأعراف وهود، والخطاب الذي حكى فيهما توجيهه إليهم من قبل شعيب ﴿ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] و﴿ لا تنقصوا المكيال والميزان ﴾ [ هود : ٨٤ ] بحيث يسوغ هذا القول : إن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب وأصحاب مدين.
واسم مدين مذكور في سفر الخروج وغيره من أسفار العهد القديم، ولا يزال هذا الاسم يطلق على خرائب أو بقايا مدينة في جهات العقبة في شرق الأردن، ويرجح المفسرون أن شعيبا هو الذي تزوج موسى ابنته على ما سوف نشرحه في سورة القصص.
وفي الإصحاح الثاني من سفر الخروج من أسفار العهد القديم اسم [ رعوئيل ] كاهن مدين، الذي تزوج موسى عليه السلام بإحدى بناته. وهذا ما حكاه الإصحاح نفسه، وحكته آيات في سورة القصص ﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين٢٧ قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل٢٨ ﴾. وفي الإصحاح الثامن عشر من نفس السفر ورد اسم آخر لهذا الكاهن، وهو بترو حمو موسى. وفي الإصحاح العاشر من سفر العدد ورد هذا الاسم [ حوباب بن رعوئيل المديني حمي موسى ] والتقارب اللفظي بين حوباب وشعيب واضح فضلا عن ما هو ملموح من اللمحة العربية على الاسم. وقد يرد أن هذا هو اسم ابن الكاهن. ولعل هذا هو الذي كان النبي المرسل إلى قومه. وليس في آيات القصص ولا في آيات أخرى ما يفيد أن الذي تزوج موسى ابنته هو شعيب النبي. وليس في الأسفار ذكر لرسالة شعيب أو كاهن مدين لقومه. غير أن هذا لا يمنع أن يكون ذلك ورد في قراطيس ضاعت ؛ لأن المتداول اليوم من الأسفار ليس كل ما كان متداولا على ما سوف نشرحه في مناسبة قريبة آتية. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول رسالة شعيب لقومه معزوة إلى علماء التابعين. وردت في سياق قصته في السور الأخرى على ما سوف نشرحه بعد ؛ حيث يدل هذا على أن قصة رسالته مما كان متداولا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. ومدين كانت في طريق قوافل أهل الحجاز إلى بلاد الشام ومصر. والراجح : أنهم كانوا يتداولون معارف قديمة عنها، ومن جملة ذلك رسالة شعيب. وما حل في مدين من العذاب الرباني مما ذكر في قصته في السور الأخرى.
وتبّع : لقب لملوك اليمن قبل البعثة النبوية، مثل : ألقاب كسرى وقيصر والنجاشي. وواضح أن المقصد من الجملة أهل اليمن الذين كانوا تحت حكم الملوك التبابعة. وهم غير قوم عاد الذين هم أقدم منهم. وهذا مؤيد بذكر القومين معا في آية واحدة. وفي كتب التفسير والتاريخ بيانات كثيرة عن الملوك التبابعة الذي استمر حكمهم إلى ما قبل عصر النبي صلى الله عليه وسلم بقليل معزوة إلى علماء التابعين، والذين كان منهم الذين اعتنقوا اليهودية واضطهدوا النصارى على ما شرحناه في سياق سورة الفيل، والذين كان في عهدهم سيل العرم الذي ذكر في آيات سورة سبأ هذه :﴿ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ١٦ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور١٧ ﴾. وقد قرئت على المنقوشات أخبار كثيرة عن المملكة السبئية والحميرية للمدة العائدة إلى ما قبيل الميلاد للمسيح، والممتدة إلى أواسط القرن السادس بعد الميلاد، وهي مملكة التبابعة التي عناها القرآن وعنتها الروايات العربية على الأرجح، والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون أخبارهم في جملة ما يتداولون من أخبار جزيرة العرب الأخرى والأقطار المجاورة القديمة، ٢ وكان في أذهانهم بالنسبة إليهم صورة قوية فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم في جملة ما اقتضت ذكره في مقام العظة والإنذار.
والأسلوب الذي ذكر به الأقوام واضح الدلالة على أن الهدف هو الإنذار والتذكير، ولقد جاءت بعد الحملة على الكفار والتنديد بهم ولفت أنظارهم إلى مشاهد عظمة الله وقدرته، وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني.
ومما يحسن التنبيه إليه أن بلاد قسم من الأقوام الثمانية المذكورين في الآيات هي في جزيرة العرب، وهم : تبّع عاد وثمود وأصحاب الرس، وأن بلاد القسم الآخر متصلة بالجزيرة، وهم : قوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة وفرعون، ومتصلة من قريب أو بعيد ببلاد الحجاز مهبط وحي الله ومبعث نبيه المصطفى، ومنها ما هو على طريق قوافلها كبلاد ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، ومنها ما تصل إليه قوافلها كاليمن ومصر، فالتذكير بهم تذكير بأمور معروفة سمعا ومشاهدة من قبل سامعي القرآن، وهو المتسق مع هدف القصص، كما أن فيه القرينة على عدم جهل السامعين لأخبارهم على ما نبهنا عليه آنفا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود( ١٢ ) وعاد وفرعون وإخوان لوط( ١٣ ) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد( ١٤ ) ﴾ [ ١٢-١٤ ].
الصلة بين الآيات وسابقاتها قائمة بضمير ﴿ قبلهم ﴾ المنصرف إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة دهشتهم وعجبهم وتكذيبهم. وقد هدفت إلى تذكير هؤلاء بمصير أمثالهم من المكذبين السابقين وإنذارهم به. ولعل فيها قصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. فالتكذيب الذي يلقاه ليس بدعا. فقد لقيه الأنبياء الأولون قبله من أقوامهم أيضا. وقد استحق أولئك نكال الله وحق عليهم وعيده. وسيحق على هؤلاء وعيده ونكاله أيضا. وقد تكرر بيان هذا القصد أكثر من مرة، مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه ﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور٤ ﴾ ومثل ما جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين٣٤ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق توضيحي لأهل الرس والأيكة وتبّع
وقد جاءت إشارة إلى أقوام فرعون وعاد وثمود ونوح في السور السابقة، وعلقنا عليها بما اقتضى المقام، أما أقوام الرس والأيكة وتبّع فإنهم يذكرون هنا لأول مرة، وكذلك هي المرة الأولى الذي يذكر فيها قوم لوط بصراحة لأن ذكرهم سابقا كان باسم المؤتفكة في سورة النجم.
ولم ترد إشارة في موضع آخر من القرآن إلى أنبياء أرسلوا إلى أصحاب الرس وقوم تبّع مثل ما ورد من ذلك بشأن فرعون وعاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وأصحاب الأيكة، وكل ما هناك أن أصحاب الرس ذكروا بنفس التعبير في سورة الفرقان مرة أخرى دون تبع.
والرس : هي البئر المطوية بالخسف أو الردم، وقد تعددت أقوال المفسرين في أصحابها، منها : أنهم قوم في شمال جزيرة العرب أو اليمامة منه، وقيل : إنهم أصحاب الأخدود، وروح التسمية يلهم بأنهم كانوا من أقوام وقبائل جزيرة العرب، ويطلق اسم بلاد الرس اليوم، على ناحية في شمال الجزيرة، ولعلها تسمية ممتدة من القديم. ولقد روى المفسرون عن علماء الأخبار من التابعين فيما رووه في سياق هذه الآيات وآية سورة الفرقان [ ٣٨ ] عن أهل الرس : أنهم أهل قرية اسمها فلج في اليمامة، وأن اسم النبي الذي أرسله الله إليهم : حنظلة، وأنهم وثبوا عليه وقتلوه فأهلكهم الله ؛ حيث يفيد هذا أن أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته كانوا يتداولون قصصا حول أهل الرس. ويدعم كونهم من جزيرة العرب.
والأيكة هي الحرج١ وقد ذكر أصحاب الأيكة ثلاث مرات أخرى، مرتين بصيغة خاطفة مثل ما ذكروا هنا في سورتي ص والحجر، ومرة في سورة الشعراء مع اسم شعيب بصفته رسول الله الذي أرسل إلى أصحاب الأيكة، وقد ذكرت مدين مع اسم شعيب بنفس الصفة أيضا في سورتي الأعراف وهود. والوصف الذي وصفت به حالة أصحاب الأيكة في سورة الشعراء، والخطاب الذي حكى توجيهه إليهم من قبل شعيب وخاصة ﴿ أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ﴾ [ الشعراء : ١٨١ ] وصفت به حال أهل مدين في سورتي الأعراف وهود، والخطاب الذي حكى فيهما توجيهه إليهم من قبل شعيب ﴿ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] و﴿ لا تنقصوا المكيال والميزان ﴾ [ هود : ٨٤ ] بحيث يسوغ هذا القول : إن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب وأصحاب مدين.
واسم مدين مذكور في سفر الخروج وغيره من أسفار العهد القديم، ولا يزال هذا الاسم يطلق على خرائب أو بقايا مدينة في جهات العقبة في شرق الأردن، ويرجح المفسرون أن شعيبا هو الذي تزوج موسى ابنته على ما سوف نشرحه في سورة القصص.
وفي الإصحاح الثاني من سفر الخروج من أسفار العهد القديم اسم [ رعوئيل ] كاهن مدين، الذي تزوج موسى عليه السلام بإحدى بناته. وهذا ما حكاه الإصحاح نفسه، وحكته آيات في سورة القصص ﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين٢٧ قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل٢٨ ﴾. وفي الإصحاح الثامن عشر من نفس السفر ورد اسم آخر لهذا الكاهن، وهو بترو حمو موسى. وفي الإصحاح العاشر من سفر العدد ورد هذا الاسم [ حوباب بن رعوئيل المديني حمي موسى ] والتقارب اللفظي بين حوباب وشعيب واضح فضلا عن ما هو ملموح من اللمحة العربية على الاسم. وقد يرد أن هذا هو اسم ابن الكاهن. ولعل هذا هو الذي كان النبي المرسل إلى قومه. وليس في آيات القصص ولا في آيات أخرى ما يفيد أن الذي تزوج موسى ابنته هو شعيب النبي. وليس في الأسفار ذكر لرسالة شعيب أو كاهن مدين لقومه. غير أن هذا لا يمنع أن يكون ذلك ورد في قراطيس ضاعت ؛ لأن المتداول اليوم من الأسفار ليس كل ما كان متداولا على ما سوف نشرحه في مناسبة قريبة آتية. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول رسالة شعيب لقومه معزوة إلى علماء التابعين. وردت في سياق قصته في السور الأخرى على ما سوف نشرحه بعد ؛ حيث يدل هذا على أن قصة رسالته مما كان متداولا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. ومدين كانت في طريق قوافل أهل الحجاز إلى بلاد الشام ومصر. والراجح : أنهم كانوا يتداولون معارف قديمة عنها، ومن جملة ذلك رسالة شعيب. وما حل في مدين من العذاب الرباني مما ذكر في قصته في السور الأخرى.
وتبّع : لقب لملوك اليمن قبل البعثة النبوية، مثل : ألقاب كسرى وقيصر والنجاشي. وواضح أن المقصد من الجملة أهل اليمن الذين كانوا تحت حكم الملوك التبابعة. وهم غير قوم عاد الذين هم أقدم منهم. وهذا مؤيد بذكر القومين معا في آية واحدة. وفي كتب التفسير والتاريخ بيانات كثيرة عن الملوك التبابعة الذي استمر حكمهم إلى ما قبل عصر النبي صلى الله عليه وسلم بقليل معزوة إلى علماء التابعين، والذين كان منهم الذين اعتنقوا اليهودية واضطهدوا النصارى على ما شرحناه في سياق سورة الفيل، والذين كان في عهدهم سيل العرم الذي ذكر في آيات سورة سبأ هذه :﴿ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ١٦ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور١٧ ﴾. وقد قرئت على المنقوشات أخبار كثيرة عن المملكة السبئية والحميرية للمدة العائدة إلى ما قبيل الميلاد للمسيح، والممتدة إلى أواسط القرن السادس بعد الميلاد، وهي مملكة التبابعة التي عناها القرآن وعنتها الروايات العربية على الأرجح، والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون أخبارهم في جملة ما يتداولون من أخبار جزيرة العرب الأخرى والأقطار المجاورة القديمة، ٢ وكان في أذهانهم بالنسبة إليهم صورة قوية فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم في جملة ما اقتضت ذكره في مقام العظة والإنذار.
والأسلوب الذي ذكر به الأقوام واضح الدلالة على أن الهدف هو الإنذار والتذكير، ولقد جاءت بعد الحملة على الكفار والتنديد بهم ولفت أنظارهم إلى مشاهد عظمة الله وقدرته، وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني.
ومما يحسن التنبيه إليه أن بلاد قسم من الأقوام الثمانية المذكورين في الآيات هي في جزيرة العرب، وهم : تبّع عاد وثمود وأصحاب الرس، وأن بلاد القسم الآخر متصلة بالجزيرة، وهم : قوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة وفرعون، ومتصلة من قريب أو بعيد ببلاد الحجاز مهبط وحي الله ومبعث نبيه المصطفى، ومنها ما هو على طريق قوافلها كبلاد ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، ومنها ما تصل إليه قوافلها كاليمن ومصر، فالتذكير بهم تذكير بأمور معروفة سمعا ومشاهدة من قبل سامعي القرآن، وهو المتسق مع هدف القصص، كما أن فيه القرينة على عدم جهل السامعين لأخبارهم على ما نبهنا عليه آنفا.


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود( ١٢ ) وعاد وفرعون وإخوان لوط( ١٣ ) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد( ١٤ ) ﴾ [ ١٢-١٤ ].
الصلة بين الآيات وسابقاتها قائمة بضمير ﴿ قبلهم ﴾ المنصرف إلى المكذبين الذين حكت الآيات السابقة دهشتهم وعجبهم وتكذيبهم. وقد هدفت إلى تذكير هؤلاء بمصير أمثالهم من المكذبين السابقين وإنذارهم به. ولعل فيها قصد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. فالتكذيب الذي يلقاه ليس بدعا. فقد لقيه الأنبياء الأولون قبله من أقوامهم أيضا. وقد استحق أولئك نكال الله وحق عليهم وعيده. وسيحق على هؤلاء وعيده ونكاله أيضا. وقد تكرر بيان هذا القصد أكثر من مرة، مثل ما جاء في آية سورة فاطر هذه ﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور٤ ﴾ ومثل ما جاء في آية سورة الأنعام هذه ﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين٣٤ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق توضيحي لأهل الرس والأيكة وتبّع
وقد جاءت إشارة إلى أقوام فرعون وعاد وثمود ونوح في السور السابقة، وعلقنا عليها بما اقتضى المقام، أما أقوام الرس والأيكة وتبّع فإنهم يذكرون هنا لأول مرة، وكذلك هي المرة الأولى الذي يذكر فيها قوم لوط بصراحة لأن ذكرهم سابقا كان باسم المؤتفكة في سورة النجم.
ولم ترد إشارة في موضع آخر من القرآن إلى أنبياء أرسلوا إلى أصحاب الرس وقوم تبّع مثل ما ورد من ذلك بشأن فرعون وعاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وأصحاب الأيكة، وكل ما هناك أن أصحاب الرس ذكروا بنفس التعبير في سورة الفرقان مرة أخرى دون تبع.
والرس : هي البئر المطوية بالخسف أو الردم، وقد تعددت أقوال المفسرين في أصحابها، منها : أنهم قوم في شمال جزيرة العرب أو اليمامة منه، وقيل : إنهم أصحاب الأخدود، وروح التسمية يلهم بأنهم كانوا من أقوام وقبائل جزيرة العرب، ويطلق اسم بلاد الرس اليوم، على ناحية في شمال الجزيرة، ولعلها تسمية ممتدة من القديم. ولقد روى المفسرون عن علماء الأخبار من التابعين فيما رووه في سياق هذه الآيات وآية سورة الفرقان [ ٣٨ ] عن أهل الرس : أنهم أهل قرية اسمها فلج في اليمامة، وأن اسم النبي الذي أرسله الله إليهم : حنظلة، وأنهم وثبوا عليه وقتلوه فأهلكهم الله ؛ حيث يفيد هذا أن أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته كانوا يتداولون قصصا حول أهل الرس. ويدعم كونهم من جزيرة العرب.
والأيكة هي الحرج١ وقد ذكر أصحاب الأيكة ثلاث مرات أخرى، مرتين بصيغة خاطفة مثل ما ذكروا هنا في سورتي ص والحجر، ومرة في سورة الشعراء مع اسم شعيب بصفته رسول الله الذي أرسل إلى أصحاب الأيكة، وقد ذكرت مدين مع اسم شعيب بنفس الصفة أيضا في سورتي الأعراف وهود. والوصف الذي وصفت به حالة أصحاب الأيكة في سورة الشعراء، والخطاب الذي حكى توجيهه إليهم من قبل شعيب وخاصة ﴿ أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ﴾ [ الشعراء : ١٨١ ] وصفت به حال أهل مدين في سورتي الأعراف وهود، والخطاب الذي حكى فيهما توجيهه إليهم من قبل شعيب ﴿ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] و﴿ لا تنقصوا المكيال والميزان ﴾ [ هود : ٨٤ ] بحيث يسوغ هذا القول : إن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب وأصحاب مدين.
واسم مدين مذكور في سفر الخروج وغيره من أسفار العهد القديم، ولا يزال هذا الاسم يطلق على خرائب أو بقايا مدينة في جهات العقبة في شرق الأردن، ويرجح المفسرون أن شعيبا هو الذي تزوج موسى ابنته على ما سوف نشرحه في سورة القصص.
وفي الإصحاح الثاني من سفر الخروج من أسفار العهد القديم اسم [ رعوئيل ] كاهن مدين، الذي تزوج موسى عليه السلام بإحدى بناته. وهذا ما حكاه الإصحاح نفسه، وحكته آيات في سورة القصص ﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين٢٧ قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل٢٨ ﴾. وفي الإصحاح الثامن عشر من نفس السفر ورد اسم آخر لهذا الكاهن، وهو بترو حمو موسى. وفي الإصحاح العاشر من سفر العدد ورد هذا الاسم [ حوباب بن رعوئيل المديني حمي موسى ] والتقارب اللفظي بين حوباب وشعيب واضح فضلا عن ما هو ملموح من اللمحة العربية على الاسم. وقد يرد أن هذا هو اسم ابن الكاهن. ولعل هذا هو الذي كان النبي المرسل إلى قومه. وليس في آيات القصص ولا في آيات أخرى ما يفيد أن الذي تزوج موسى ابنته هو شعيب النبي. وليس في الأسفار ذكر لرسالة شعيب أو كاهن مدين لقومه. غير أن هذا لا يمنع أن يكون ذلك ورد في قراطيس ضاعت ؛ لأن المتداول اليوم من الأسفار ليس كل ما كان متداولا على ما سوف نشرحه في مناسبة قريبة آتية. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول رسالة شعيب لقومه معزوة إلى علماء التابعين. وردت في سياق قصته في السور الأخرى على ما سوف نشرحه بعد ؛ حيث يدل هذا على أن قصة رسالته مما كان متداولا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته. ومدين كانت في طريق قوافل أهل الحجاز إلى بلاد الشام ومصر. والراجح : أنهم كانوا يتداولون معارف قديمة عنها، ومن جملة ذلك رسالة شعيب. وما حل في مدين من العذاب الرباني مما ذكر في قصته في السور الأخرى.
وتبّع : لقب لملوك اليمن قبل البعثة النبوية، مثل : ألقاب كسرى وقيصر والنجاشي. وواضح أن المقصد من الجملة أهل اليمن الذين كانوا تحت حكم الملوك التبابعة. وهم غير قوم عاد الذين هم أقدم منهم. وهذا مؤيد بذكر القومين معا في آية واحدة. وفي كتب التفسير والتاريخ بيانات كثيرة عن الملوك التبابعة الذي استمر حكمهم إلى ما قبل عصر النبي صلى الله عليه وسلم بقليل معزوة إلى علماء التابعين، والذين كان منهم الذين اعتنقوا اليهودية واضطهدوا النصارى على ما شرحناه في سياق سورة الفيل، والذين كان في عهدهم سيل العرم الذي ذكر في آيات سورة سبأ هذه :﴿ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ١٦ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور١٧ ﴾. وقد قرئت على المنقوشات أخبار كثيرة عن المملكة السبئية والحميرية للمدة العائدة إلى ما قبيل الميلاد للمسيح، والممتدة إلى أواسط القرن السادس بعد الميلاد، وهي مملكة التبابعة التي عناها القرآن وعنتها الروايات العربية على الأرجح، والمتبادر أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون أخبارهم في جملة ما يتداولون من أخبار جزيرة العرب الأخرى والأقطار المجاورة القديمة، ٢ وكان في أذهانهم بالنسبة إليهم صورة قوية فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم في جملة ما اقتضت ذكره في مقام العظة والإنذار.
والأسلوب الذي ذكر به الأقوام واضح الدلالة على أن الهدف هو الإنذار والتذكير، ولقد جاءت بعد الحملة على الكفار والتنديد بهم ولفت أنظارهم إلى مشاهد عظمة الله وقدرته، وهو الأسلوب الذي جرى عليه النظم القرآني.
ومما يحسن التنبيه إليه أن بلاد قسم من الأقوام الثمانية المذكورين في الآيات هي في جزيرة العرب، وهم : تبّع عاد وثمود وأصحاب الرس، وأن بلاد القسم الآخر متصلة بالجزيرة، وهم : قوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة وفرعون، ومتصلة من قريب أو بعيد ببلاد الحجاز مهبط وحي الله ومبعث نبيه المصطفى، ومنها ما هو على طريق قوافلها كبلاد ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، ومنها ما تصل إليه قوافلها كاليمن ومصر، فالتذكير بهم تذكير بأمور معروفة سمعا ومشاهدة من قبل سامعي القرآن، وهو المتسق مع هدف القصص، كما أن فيه القرينة على عدم جهل السامعين لأخبارهم على ما نبهنا عليه آنفا.


( ١ ) عيينا : عجزنا أو تعبنا.
( ٢ ) الخلق الأول : الخلق لأول مرة للناس والكائنات.
( ٣ ) لبس : شك أو حيرة.
﴿ أفعيينا١ بالخلق الأول٢ بل هم في لبس٣ من خلق جديد( ١٥ ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد٤ ( ١٦ ) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد٥( ١٧ ) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب٦ عتيد٧( ١٨ ) ﴾ [ ١٥-١٨ ].
والآيات متصلة بالسياق السابق. وفيها عود على بدء في مناقشة المكذبين للبعث والرد عليهم والبرهنة على قدرة الله عليه بأسلوب آخر فيه تنديد وتسفيه، وفيه في نفس الوقت إنذار بعلم الله بكل ما يدور في نفوس الناس وبأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يقولونه ويشهدون على كل ما يفعلونه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس وشمائلهم.
ولقد روى المفسرون في صدد الآيتين الأخيرتين من هذه الآيات بعض الأحاديث. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) ومنها حديث رواه الطبرسي عن أنس بن مالك قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى وكّل بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا : يا رب، قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين ؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني. إذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبّراني وهللاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة ).
ومنها حديث أورده الطبري في سياق تفسير الآية [ ١١ ] من سورة الرعد مرويا عن كنانة العدوي قال :( دخل عثمان بن عفان على رسول الله فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ملك على يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب ؟ قال : لا، لعله يستغفر الله ويتوب، فإذا قال ثلاثا قال : اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منه. يقول الله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك. وملكان على شفتيك يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وملك قائم على فيك لا يدع الحية تدخل في فيك وملكان على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي، وإبليس بالنهار وولده بالليل ). وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الصحاح. ومع ذلك فإن مضمونها إجمالا قد يتسق مع ظاهر الآيتين. وفي سورة الانفطار آيات قد يتسق ظاهرها مع ذلك أيضا وهي :﴿ وإن عليكم لحافظين١٠ كراما كاتبين١١ يعلمون ما تفعلون١٢ ﴾ وفي سورة الجاثية آية متصلة بهذا المعنى وهي :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون٢٩ ﴾ وفي سورة الزخرف هذه الآية :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون٨٠ ﴾. وهناك آيات تذكر أن كتب أعمال الناس توضع أمامهم أو توزع عليهم، منها : آيات سورة الإسراء هذه :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا١٣ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا٤٩ }.
فهذه الآيات وتلك الأحاديث التي تتساوق معها والتي ليس ما يمنع أن تكون صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، وكذلك الآيات الكثيرة التي تذكر قيام الملائكة بخدمات الله المتنوعة، ومن جملة ذلك إحصاء وتسجيل أعمال الناس توجب الإيمان بما ذكرته من ذلك، ولو لم تدرك العقول كيفيته مع الإيمان بأن وروده في القرآن بالأسلوب الذي ورد به لا بد من أن يكون له حكمة. وفي الآية [ ١٦ ] من آيات [ ق ] التي نحن في صددها تقرير كما هو ظاهر بأن الإنسان تحت مراقبة الله عز وجل وإحاطته مباشرة، وأنه قريب جدا إليه، وأنه يعلم كل ما يجول في ذهنه وتوسوس به نفسه فضلا عن ما يباشره من أعمال ويلفظه من أقوال. وفي سورة يس هذه الآية :﴿ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين١٢ ﴾ حيث ينسب الله عز وجل الكتابة والإحصاء إلى نفسه. وهذه التقريرات متكررة أيضا كثيرة في القرآن. وقد مر أمثلة منها وستأتي أمثلة كثيرة أخرى.
ولما كان علم الله الشامل محيطا بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه، وهو غني عن الاستعانة على ذلك بالراصدين والرقباء والكتاب والشهود وإبراز ذلك يوم القيامة في صورة كتب توزع على الناس. ولما كان الناس قد اعتادوا في حياتهم تسجيل الأعمال ورصدها والشهادة عليها في مقام الاحتجاج على ما صدر منهم حتى لا يكون أي مجال للإنكار والمماراة. ولما كانت حكمة الله قد اقتضت أن تكون صور المشاهد الأخروية من مألوفات الناس في الدنيا، فيتبادر أن هذا من هذا الباب، وأنه قصد من ذكره بالأسلوب الذي ورد به تحذير الناس وتنبيههم إلى أن كل ما يفعلونه محصي مسجل عليهم لا يمكن أن يماروا فيه حتى يظلوا مجتنبين ما فيه إثم وفاحشة مجتهدين في الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يدعم هذا التوجيه ويتسق مع هذا القصد والله تعالى أعلم.

( ٤ ) حبل الوريد : جهاز من الدورة الدموية، والقصد من التعبير هنا بيان شدة القرب.
﴿ أفعيينا١ بالخلق الأول٢ بل هم في لبس٣ من خلق جديد( ١٥ ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد٤ ( ١٦ ) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد٥( ١٧ ) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب٦ عتيد٧( ١٨ ) ﴾ [ ١٥-١٨ ].
والآيات متصلة بالسياق السابق. وفيها عود على بدء في مناقشة المكذبين للبعث والرد عليهم والبرهنة على قدرة الله عليه بأسلوب آخر فيه تنديد وتسفيه، وفيه في نفس الوقت إنذار بعلم الله بكل ما يدور في نفوس الناس وبأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يقولونه ويشهدون على كل ما يفعلونه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس وشمائلهم.
ولقد روى المفسرون في صدد الآيتين الأخيرتين من هذه الآيات بعض الأحاديث. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) ومنها حديث رواه الطبرسي عن أنس بن مالك قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى وكّل بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا : يا رب، قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين ؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني. إذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبّراني وهللاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة ).
ومنها حديث أورده الطبري في سياق تفسير الآية [ ١١ ] من سورة الرعد مرويا عن كنانة العدوي قال :( دخل عثمان بن عفان على رسول الله فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ملك على يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب ؟ قال : لا، لعله يستغفر الله ويتوب، فإذا قال ثلاثا قال : اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منه. يقول الله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك. وملكان على شفتيك يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وملك قائم على فيك لا يدع الحية تدخل في فيك وملكان على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي، وإبليس بالنهار وولده بالليل ). وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الصحاح. ومع ذلك فإن مضمونها إجمالا قد يتسق مع ظاهر الآيتين. وفي سورة الانفطار آيات قد يتسق ظاهرها مع ذلك أيضا وهي :﴿ وإن عليكم لحافظين١٠ كراما كاتبين١١ يعلمون ما تفعلون١٢ ﴾ وفي سورة الجاثية آية متصلة بهذا المعنى وهي :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون٢٩ ﴾ وفي سورة الزخرف هذه الآية :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون٨٠ ﴾. وهناك آيات تذكر أن كتب أعمال الناس توضع أمامهم أو توزع عليهم، منها : آيات سورة الإسراء هذه :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا١٣ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا٤٩ }.
فهذه الآيات وتلك الأحاديث التي تتساوق معها والتي ليس ما يمنع أن تكون صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، وكذلك الآيات الكثيرة التي تذكر قيام الملائكة بخدمات الله المتنوعة، ومن جملة ذلك إحصاء وتسجيل أعمال الناس توجب الإيمان بما ذكرته من ذلك، ولو لم تدرك العقول كيفيته مع الإيمان بأن وروده في القرآن بالأسلوب الذي ورد به لا بد من أن يكون له حكمة. وفي الآية [ ١٦ ] من آيات [ ق ] التي نحن في صددها تقرير كما هو ظاهر بأن الإنسان تحت مراقبة الله عز وجل وإحاطته مباشرة، وأنه قريب جدا إليه، وأنه يعلم كل ما يجول في ذهنه وتوسوس به نفسه فضلا عن ما يباشره من أعمال ويلفظه من أقوال. وفي سورة يس هذه الآية :﴿ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين١٢ ﴾ حيث ينسب الله عز وجل الكتابة والإحصاء إلى نفسه. وهذه التقريرات متكررة أيضا كثيرة في القرآن. وقد مر أمثلة منها وستأتي أمثلة كثيرة أخرى.
ولما كان علم الله الشامل محيطا بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه، وهو غني عن الاستعانة على ذلك بالراصدين والرقباء والكتاب والشهود وإبراز ذلك يوم القيامة في صورة كتب توزع على الناس. ولما كان الناس قد اعتادوا في حياتهم تسجيل الأعمال ورصدها والشهادة عليها في مقام الاحتجاج على ما صدر منهم حتى لا يكون أي مجال للإنكار والمماراة. ولما كانت حكمة الله قد اقتضت أن تكون صور المشاهد الأخروية من مألوفات الناس في الدنيا، فيتبادر أن هذا من هذا الباب، وأنه قصد من ذكره بالأسلوب الذي ورد به تحذير الناس وتنبيههم إلى أن كل ما يفعلونه محصي مسجل عليهم لا يمكن أن يماروا فيه حتى يظلوا مجتنبين ما فيه إثم وفاحشة مجتهدين في الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يدعم هذا التوجيه ويتسق مع هذا القصد والله تعالى أعلم.


تعليق على جملة
﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾
ولقد رأينا بعض المفسرين يتوقفون عند جملة ﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ] فيؤولونها بأن ذلك بواسطة الملائكة تفاديا من معنى حلول الله أو اتحاده بخلقه سبحانه وتعالى١. ولقد تكرر مثل هذا التعبير بالنسبة إلى الله عز وجل كما جاء في آية سورة البقرة هذه :{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون١٨٦ ﴾ وآية سورة سبأ التي فيها أمر الله للنبي بأن يقول :﴿ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب٥٠ ﴾ ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال :( أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائب، وإما تدعون سميعا قريبا، وإن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) حيث يتبادر من ذلك والله أعلم : أن المقصود من هذه التعبيرات وأمثالها هو تقرير إحاطة علم الله بخلقه وكون الناس تحت مراقبته التامة استهدافا لجعلهم يرقبونه في كل ما يقدمون عليه من أعمال ويتقونه. وهذا ملموح بقوة في آية سورة المجادلة هذه :﴿ ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم٧ ﴾ وهو ملموح كذلك بقوة في الآية التي ورد فيها التعبير الذي نحن في صدده. والله تعالى أعلم.
ومن الجدير بالذكر أن شيخ المفسرين القدماء الطبري لم يتوقف عند ما توقف عنده بعض المفسرين المتأخرين من هذه الجملة، وكل ما قاله : إن بعضهم قال : إن معناها نحن أقرب إليه من حبل وريده بالعلم بما توسوس به نفسه.
١ - انظر تفسير ابن كثير والقاسمي مثلا..
( ٥ ) قعيد : قاعد ومترصد.
﴿ أفعيينا١ بالخلق الأول٢ بل هم في لبس٣ من خلق جديد( ١٥ ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد٤ ( ١٦ ) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد٥( ١٧ ) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب٦ عتيد٧( ١٨ ) ﴾ [ ١٥-١٨ ].
والآيات متصلة بالسياق السابق. وفيها عود على بدء في مناقشة المكذبين للبعث والرد عليهم والبرهنة على قدرة الله عليه بأسلوب آخر فيه تنديد وتسفيه، وفيه في نفس الوقت إنذار بعلم الله بكل ما يدور في نفوس الناس وبأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يقولونه ويشهدون على كل ما يفعلونه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس وشمائلهم.
ولقد روى المفسرون في صدد الآيتين الأخيرتين من هذه الآيات بعض الأحاديث. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) ومنها حديث رواه الطبرسي عن أنس بن مالك قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى وكّل بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا : يا رب، قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين ؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني. إذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبّراني وهللاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة ).
ومنها حديث أورده الطبري في سياق تفسير الآية [ ١١ ] من سورة الرعد مرويا عن كنانة العدوي قال :( دخل عثمان بن عفان على رسول الله فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ملك على يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب ؟ قال : لا، لعله يستغفر الله ويتوب، فإذا قال ثلاثا قال : اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منه. يقول الله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك. وملكان على شفتيك يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وملك قائم على فيك لا يدع الحية تدخل في فيك وملكان على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي، وإبليس بالنهار وولده بالليل ). وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الصحاح. ومع ذلك فإن مضمونها إجمالا قد يتسق مع ظاهر الآيتين. وفي سورة الانفطار آيات قد يتسق ظاهرها مع ذلك أيضا وهي :﴿ وإن عليكم لحافظين١٠ كراما كاتبين١١ يعلمون ما تفعلون١٢ ﴾ وفي سورة الجاثية آية متصلة بهذا المعنى وهي :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون٢٩ ﴾ وفي سورة الزخرف هذه الآية :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون٨٠ ﴾. وهناك آيات تذكر أن كتب أعمال الناس توضع أمامهم أو توزع عليهم، منها : آيات سورة الإسراء هذه :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا١٣ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا٤٩ }.
فهذه الآيات وتلك الأحاديث التي تتساوق معها والتي ليس ما يمنع أن تكون صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، وكذلك الآيات الكثيرة التي تذكر قيام الملائكة بخدمات الله المتنوعة، ومن جملة ذلك إحصاء وتسجيل أعمال الناس توجب الإيمان بما ذكرته من ذلك، ولو لم تدرك العقول كيفيته مع الإيمان بأن وروده في القرآن بالأسلوب الذي ورد به لا بد من أن يكون له حكمة. وفي الآية [ ١٦ ] من آيات [ ق ] التي نحن في صددها تقرير كما هو ظاهر بأن الإنسان تحت مراقبة الله عز وجل وإحاطته مباشرة، وأنه قريب جدا إليه، وأنه يعلم كل ما يجول في ذهنه وتوسوس به نفسه فضلا عن ما يباشره من أعمال ويلفظه من أقوال. وفي سورة يس هذه الآية :﴿ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين١٢ ﴾ حيث ينسب الله عز وجل الكتابة والإحصاء إلى نفسه. وهذه التقريرات متكررة أيضا كثيرة في القرآن. وقد مر أمثلة منها وستأتي أمثلة كثيرة أخرى.
ولما كان علم الله الشامل محيطا بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه، وهو غني عن الاستعانة على ذلك بالراصدين والرقباء والكتاب والشهود وإبراز ذلك يوم القيامة في صورة كتب توزع على الناس. ولما كان الناس قد اعتادوا في حياتهم تسجيل الأعمال ورصدها والشهادة عليها في مقام الاحتجاج على ما صدر منهم حتى لا يكون أي مجال للإنكار والمماراة. ولما كانت حكمة الله قد اقتضت أن تكون صور المشاهد الأخروية من مألوفات الناس في الدنيا، فيتبادر أن هذا من هذا الباب، وأنه قصد من ذكره بالأسلوب الذي ورد به تحذير الناس وتنبيههم إلى أن كل ما يفعلونه محصي مسجل عليهم لا يمكن أن يماروا فيه حتى يظلوا مجتنبين ما فيه إثم وفاحشة مجتهدين في الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يدعم هذا التوجيه ويتسق مع هذا القصد والله تعالى أعلم.

( ٦ ) رقيب : مراقب.
( ٧ ) عتيد : حاضر.
﴿ أفعيينا١ بالخلق الأول٢ بل هم في لبس٣ من خلق جديد( ١٥ ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد٤ ( ١٦ ) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد٥( ١٧ ) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب٦ عتيد٧( ١٨ ) ﴾ [ ١٥-١٨ ].
والآيات متصلة بالسياق السابق. وفيها عود على بدء في مناقشة المكذبين للبعث والرد عليهم والبرهنة على قدرة الله عليه بأسلوب آخر فيه تنديد وتسفيه، وفيه في نفس الوقت إنذار بعلم الله بكل ما يدور في نفوس الناس وبأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يقولونه ويشهدون على كل ما يفعلونه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:تعليق على موضوع الملائكة الكاتبين على أيمان الناس وشمائلهم.
ولقد روى المفسرون في صدد الآيتين الأخيرتين من هذه الآيات بعض الأحاديث. منها حديث رواه البغوي بطرقه عن أبي أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) ومنها حديث رواه الطبرسي عن أنس بن مالك قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى وكّل بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا : يا رب، قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين ؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني. إذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبّراني وهللاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة ).
ومنها حديث أورده الطبري في سياق تفسير الآية [ ١١ ] من سورة الرعد مرويا عن كنانة العدوي قال :( دخل عثمان بن عفان على رسول الله فقال : يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ملك على يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب ؟ قال : لا، لعله يستغفر الله ويتوب، فإذا قال ثلاثا قال : اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منه. يقول الله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك. وملكان على شفتيك يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وملك قائم على فيك لا يدع الحية تدخل في فيك وملكان على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي، وإبليس بالنهار وولده بالليل ). وهذه الأحاديث لم ترد في كتب الصحاح. ومع ذلك فإن مضمونها إجمالا قد يتسق مع ظاهر الآيتين. وفي سورة الانفطار آيات قد يتسق ظاهرها مع ذلك أيضا وهي :﴿ وإن عليكم لحافظين١٠ كراما كاتبين١١ يعلمون ما تفعلون١٢ ﴾ وفي سورة الجاثية آية متصلة بهذا المعنى وهي :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون٢٩ ﴾ وفي سورة الزخرف هذه الآية :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون٨٠ ﴾. وهناك آيات تذكر أن كتب أعمال الناس توضع أمامهم أو توزع عليهم، منها : آيات سورة الإسراء هذه :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا١٣ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا٤٩ }.
فهذه الآيات وتلك الأحاديث التي تتساوق معها والتي ليس ما يمنع أن تكون صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، وكذلك الآيات الكثيرة التي تذكر قيام الملائكة بخدمات الله المتنوعة، ومن جملة ذلك إحصاء وتسجيل أعمال الناس توجب الإيمان بما ذكرته من ذلك، ولو لم تدرك العقول كيفيته مع الإيمان بأن وروده في القرآن بالأسلوب الذي ورد به لا بد من أن يكون له حكمة. وفي الآية [ ١٦ ] من آيات [ ق ] التي نحن في صددها تقرير كما هو ظاهر بأن الإنسان تحت مراقبة الله عز وجل وإحاطته مباشرة، وأنه قريب جدا إليه، وأنه يعلم كل ما يجول في ذهنه وتوسوس به نفسه فضلا عن ما يباشره من أعمال ويلفظه من أقوال. وفي سورة يس هذه الآية :﴿ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين١٢ ﴾ حيث ينسب الله عز وجل الكتابة والإحصاء إلى نفسه. وهذه التقريرات متكررة أيضا كثيرة في القرآن. وقد مر أمثلة منها وستأتي أمثلة كثيرة أخرى.
ولما كان علم الله الشامل محيطا بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه، وهو غني عن الاستعانة على ذلك بالراصدين والرقباء والكتاب والشهود وإبراز ذلك يوم القيامة في صورة كتب توزع على الناس. ولما كان الناس قد اعتادوا في حياتهم تسجيل الأعمال ورصدها والشهادة عليها في مقام الاحتجاج على ما صدر منهم حتى لا يكون أي مجال للإنكار والمماراة. ولما كانت حكمة الله قد اقتضت أن تكون صور المشاهد الأخروية من مألوفات الناس في الدنيا، فيتبادر أن هذا من هذا الباب، وأنه قصد من ذكره بالأسلوب الذي ورد به تحذير الناس وتنبيههم إلى أن كل ما يفعلونه محصي مسجل عليهم لا يمكن أن يماروا فيه حتى يظلوا مجتنبين ما فيه إثم وفاحشة مجتهدين في الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها. وفي بعض الأحاديث التي أوردناها ما يدعم هذا التوجيه ويتسق مع هذا القصد والله تعالى أعلم.

( ١ ) ذلك ما كنت منه تحيد : تبتعد عن تذكره أو تنفر منه وتهرب ولا تفكر فيه.
﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

( ٢ ) حديد : حاد قوي الإبصار.
﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

( ٣ ) قرينه : مقارنة وملازمة. والمقصود من الكلمة في الآية [ ٢٣ ] الملك الموكل على الإنسان ؛ حيث يجيء ليشهد عليه والمقصود من الكلمة في الآية [ ٢٧ ] الذي أغوى الغاوي الجاحد من الإنس والجن بملازمته ووسوسته له على ما ذكره جمهور المفسرين١.
﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.


١ - انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي..
﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:( ١ ) ذلك ما كنت منه تحيد : تبتعد عن تذكره أو تنفر منه وتهرب ولا تفكر فيه.
﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.


﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

( ٤ ) لا تختصموا : لا تتجادلوا
﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد١ ( ١٩ ) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد( ٢٠ ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد( ٢١ ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد٢ ( ٢٢ ) وقال قرينه٣ هذا ما لدي عتيد( ٢٣ ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد( ٢٤ ) مناع للخير معتد مريب( ٢٥ ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد( ٢٦ ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد( ٢٧ ) قال لا تختصموا٤ لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد( ٢٨ ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد( ٢٩ ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو ظاهر. وفيها استطراد إلى حكاية ما سوف يواجهه المكذبون حين احتضارهم ثم حين بعثهم يوم القيامة من الحقائق التي كانوا يتهربون منها، أو يرتابون فيها بأسلوب قوي يتضمن التبكيت والتقريع، وبعض المشاهد المذكورة في الآيات مما هو مألوف للناس في الحياة ؛ حيث يتساوق هذا مع الحكمة الملموحة في وصف مشاهد الآخرة من مألوفات الحياة الدنيا على ما نبهنا عليه في تعليقات سابقة.
ولقد أورد المفسرون أقوالا معزوة إلى علماء التابعين بأن السائق المذكور في الآية [ ٢١ ] هو الملك الموكل بالإنسان، وأن الشهيد هو النبي أو عمل الإنسان أو جوارحه، وبأن القرين المذكور في الآية [ ٢٣ ] هو الملك وفي الآية [ ٢٥ ] هو الشيطان. وهذه الأقوال اجتهادية. ولا تخلو من وجاهة متسقة مع نصوص وروح الآيات هنا وفي مواضع أخرى.
ولقد أوردوا أحاديث في صدد الحوار الذي يجري بين الله تعالى وجهنم. منها حديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال١ :( يقال لجهنم : هل امتلأت وتقول : هل من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط ). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال٢ :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار، فقالت النار : أوثرت بالمستكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فتقول : قط قط. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا ).
ومع واجب الإيمان بما جاء في القرآن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار المشاهد الأخروية يجب الإيمان أيضا بأنه لا بد لذلك من حكمة. ويتبادر من نصوص الآيات التي نحن في صددها والأحاديث التي أوردناها أن من هذه الحكمة قصد التبشير والترهيب لإثارة الغبطة في نفوس المؤمنين المخلصين وحملهم على الاستزادة من الأعمال الصالحة المرضية لله تعالى والخوف في قلوب الكفار والمشركين والمجرمين، وحملهم على الارعواء عن كفرهم وشركهم وإجرامهم والإنابة إلى الله وكسب رضائه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

سورة ق
وفي السورة توكيد للبعث الأخروي وتبشير وإنذار به، وتدليل على قدرة الله عليه، وحكاية لبعض مشاهده، وتنديد بالكافرين المكذبين وتنويه بالمتقين، وبيان مصير هؤلاء وأولئك في الآخرة، وفيها تذكير بمصير الأقوام السابقة المكذبين، وتسلية للنبي وتطمين له من مواقف قومه، وموضوعها عام ليس فيه مشاهد ومواقف شخصية ومعينة، وانسجام فصولها وترابطها واتساق وزنها يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة، وقد روي أن الآية [ ٣٨ ] مدنية، وأسلوبها وانسجامها مع بقية الآيات يحملان على الشك في ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما في التنديد بمنع الخير من تلقين في الآية [ ٢٧ ]
والآية [ ٢٧ ] في إطلاقها وعمومها تتضمن تقبيح منع الخير والاعتداء عامة. وإنذار المتصف بهذه الأخلاق بسخط الله وغضبه بالإضافة إلى وصف الكفار بها في المشهد الأخروي وإعلان استحقاقهم النار بسببها. وفي ذلك تلقين مستمر المدى للسامعين عامة وللمسلمين خاصة.
ولقد سبق في سورة القلم تنديد بمنّاع الخير، وهنا يأتي هذا للمرة الثانية. وقد تكرر بأساليب متنوعة في أماكن أخرى أيضا ؛ حيث يبدو من ذلك تلقين مستمر المدى أيضا بما في منع الخير من جرم وإثم وبما يستحقه المنّاعون للخير من نكال وخزي ربانيين وبوجوب تجنب هذا الخلق والإقبال على فعل الخير الذي أمرت به، ونوّهت بفاعليه آيات عديدة، مثل آية سورة البقرة هذه :﴿ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير١٤٨ ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون١٠٤ ﴾ وآية سورة الحج هذه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون٧٧ ﴾ وآيات سورة المؤمنون هذه :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون٦٠ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون٦١ ﴾ وآية سورة فاطر هذه :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير٣٢ ﴾.
والنفخ في الصور هنا كالنقر بالناقور في سورة المدثر. وقد شرحنا مدى ذلك، وعلقنا عليه في سياق هذه السورة بما يغني عن التكرار.
والآية [ ٣٠ ] مع أنها تحكي ما يقال للمكذبين، فإنها تتضمن تقرير كون ما يلقاه الكفار المناعون للخير المعتدون الخبثاء إنما هو جزاء على ما اقترفوه من إثم حقا وعدلا. وبمعنى آخر : تقرير قابلية الإنسان لاختيار طريقه وعمله، واستحقاق الضال الآثم العقاب بسبب اختياره طريق الضلال والإثم، بعد أن بين الله عز وجل للناس الطريق وأوعد من حاد عنها كما ذكرته الآية التي قبلها، وفي هذا كذلك تلقين قرآني مستمر المدى كذلك.
تعليق على تعبير
﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾
والآيتان [ ٢٩ و ٣٠ ] وبخاصة تعبير ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ كانت موضوع تشاد بين أصحاب المذاهب الكلامية حيث استشهد بها وبأمثالها المعتزلة : على أن الجزاء الأخروي هو جزاء عدل على أعمال الناس ومكتسباتهم في الدنيا وحيث أولها وأمثالها الأشاعرة ليجعلوا ذلك الجزاء من حق الله المطلق١.
والمعنى الذي شرحناه آنفا، هو المتسق مع روح الآيات ومضمونها ومقام ورودها مع روح الآيات القرآنية عامة. مع التنبيه إلى أننا لا نرى التشاد حولها وحول أمثالها متسقا مع ما استهدفته الآيات من العظة والترهيب لإثارة هيبة الله وخوف المصير في قلوب الناس، وحملهم على الارعواء ولا متسقا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها من السعي والنشاط ونتائجهما في الدنيا والآخرة ؛ مما نبهنا إليه أكثر من مرة في السور السابقة. ومما قاله الطبري في معنى الجملة :( ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذبه به ) حيث يفيد هذا أن الإمام أخذ الجملة على معناها القريب الصحيح. وقد جاراه في ذلك البغوي والخازن والطبرسي.
ولقد أورد القاسمي في سياق آية الأنفال هذه :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد٥١ ﴾ حديثا رواه مسلم عن أبي ذر يمكن أن يورد في مناسبة ورود التعبير المذكور لأول مرة في هذه السورة، وقد جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول : إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) حيث يتساوق الحديث مع روح الآيات وتأويل المفسرين.
تنبيه إلى مدى عقيدة الشرك عند العرب.
والآية [ ٢٨ ] تتضمن إشارة إلى ما كان عليه العرب من عقيدة الشرك وتبين ماهيتها، وهي الجمع بين الاعتراف بالله وإشراك غيره معه في العبادة والدعاء والاعتماد، أو بقصد الشفاعة لهم عنده كما جاء ذلك بصراحة في آيات أخرى أوردنا نصوصها في مناسبات سابقة. وقد قامت الرسالة النبوية على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل واستحقاقه وحده للعبادة والاتجاه والاعتماد والدعاء وتسفيه إشراك غيره معه وتفنيده ومحاربته في كل ذلك وبأي أسلوب ومقصد كان. ولقد تكررت هذه المعاني في القرآن كثيرا بحيث يمكن أن يقال : إن هذه العقيدة كانت عقيدة العرب العامة على اختلاف منازلهم ومداركهم وتنوع الشركاء الذين كانوا يشركونهم في الاتجاه والعبادة والدعاء.
تعليق على ما حكته بعض الآيات من حوار
بين الله وبين قرناء الإنسان يوم الحساب
وفي الآيات حكاية حوار سوف يكون بين الله عز وجل وبين قرين الكافر المحصي عمله وقرينه الموسوس له. ولقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار كثيرا بأساليب متنوعة في سورة عديدة كثيرة تغني عن التكرار.
ومع واجب الإيمان بالمشاهد الأخروية التي يخبر بها القرآن على اختلاف صورها، فإن من الحكمة الملموحة في ذلك، إثارة الخوف في الكفار والضالين والمجرمين وحملهم على الارعواء بإيذانهم بأن الذين وسوسوا لهم من قرنائهم وشياطينهم سيتنصلون منهم، وبأن الذين يرافقونهم من ملائكة الله قد أحصوا عليهم كل شيء وسوف يقدمونه لله تعالى لمحاسبتهم. وهذا المعنى بهذا القصد، ورد في آيات كثيرة منها، آية سورة إبراهيم هذه :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم٢٢ ﴾.
تعليق على تأويل روي عن مفسري الشيعة لجملة
﴿ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ﴾
وبرغم ما هو واضح من مدى هذه الجملة وسياقها، فإن مفسري الشيعة يؤولونها تأويلا متسقا مع هواهم حيث رووا عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله سئل عن هذه الجملة فقال :( أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ) وهذا الحديث لم يرد في الكتب الخمسة، ولا في أي كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد الهوى الحزبي. وهم يصرفون بوجه عام كلمة الكفر والكفار والكافرين في كثير من الآيات إلى جاحدي إمامة علي وأولاده٢. ومن هنا جاء تأويلهم لكلمة ﴿ الكفار ﴾ في الجملة بأنهم أعداء علي أو الجاحدين بإمامته.

( ١ ) أزلفت : هيئت وقربت.
﴿ وأزلفت١ الجنة للمتقين غير بعيد( ٣١ ) هذا ما توعدون لكل أواب٢ حفيظ٣( ٣٢ ) من خشي الرحمان بالغيب٤ وجاء بقلب منيب٥( ٣٣ ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود( ٣٤ ) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد( ٣٥ ) ﴾ [ ٣١-٣٥ ].
الآيات متصلة أيضا بسابقاتها واستمرار لها، وفيها استطراد لذكر مصير الصالحين في الآخرة مقابل ذكر مصير الكفار الآثمين جريا على الأسلوب القرآني.
والوصف في الآيات قوي ومشوق، ومن شأنه جذب أصحاب القلوب الواعية والنفوس الطيبة وحملها على السير في السبيل القويم وبث الطمأنينة والغبطة والرضاء فيها بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة النعيم والتكريم الأخروية الإيمانية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح
والأوصاف الواردة في الآيات، تتضمن تلقينات جليلة مستمرة المدى. فلا يكفي أن يعلن المرء إسلامه، بل عليه أن يكون مجتهدا في تقوى الله بالعمل الصالح واجتناب الآثام. وأن يكون حافظا لعهوده وواجباته مراقبا لله في سره وعلنه منيبا إليه بقلبه وجوارحه. وفي هذا ما فيه من قصد تهذيب نفس المسلم وإعداده ليكون صالحا بارا خيرا راشدا يقظ القلب طاهر السريرة والنفس، قائما بواجباته نحو الله والناس لذاتها، متقيا ربه في السر والعلن.
وفي الآيات دلالة على أن الصالحين إنما ينالون رضاء الله وتكريمه وجناته جزاء اختيارهم سلوك السبيل إليه وعملهم الصالح، كما هو شأن الكفار بالنسبة للعذاب والهوان اللذين ينالونهما على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.

( ٢ ) أوّاب : صيغة مبالغة من الأوبة : وهي الرجوع، وهنا هي الرجوع إلى الله وشدة التعلق به أو الدائم التوبة والاستغفار.
( ٣ ) حفيظ : حافظ لما يجب عليه قائم به.
﴿ وأزلفت١ الجنة للمتقين غير بعيد( ٣١ ) هذا ما توعدون لكل أواب٢ حفيظ٣( ٣٢ ) من خشي الرحمان بالغيب٤ وجاء بقلب منيب٥( ٣٣ ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود( ٣٤ ) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد( ٣٥ ) ﴾ [ ٣١-٣٥ ].
الآيات متصلة أيضا بسابقاتها واستمرار لها، وفيها استطراد لذكر مصير الصالحين في الآخرة مقابل ذكر مصير الكفار الآثمين جريا على الأسلوب القرآني.
والوصف في الآيات قوي ومشوق، ومن شأنه جذب أصحاب القلوب الواعية والنفوس الطيبة وحملها على السير في السبيل القويم وبث الطمأنينة والغبطة والرضاء فيها بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة النعيم والتكريم الأخروية الإيمانية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح
والأوصاف الواردة في الآيات، تتضمن تلقينات جليلة مستمرة المدى. فلا يكفي أن يعلن المرء إسلامه، بل عليه أن يكون مجتهدا في تقوى الله بالعمل الصالح واجتناب الآثام. وأن يكون حافظا لعهوده وواجباته مراقبا لله في سره وعلنه منيبا إليه بقلبه وجوارحه. وفي هذا ما فيه من قصد تهذيب نفس المسلم وإعداده ليكون صالحا بارا خيرا راشدا يقظ القلب طاهر السريرة والنفس، قائما بواجباته نحو الله والناس لذاتها، متقيا ربه في السر والعلن.
وفي الآيات دلالة على أن الصالحين إنما ينالون رضاء الله وتكريمه وجناته جزاء اختيارهم سلوك السبيل إليه وعملهم الصالح، كما هو شأن الكفار بالنسبة للعذاب والهوان اللذين ينالونهما على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.

( ٤ ) الغيب : كثر استعمال هذه الكلمة في القرآن. وقد تعددت مفهوماتها مع تقاربها حسب مواضعها. فعنت الشيء البعيد : المطوي في التاريخ، وعنت الشيء : المغيّب المجهول ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وعنت الشيء : الذي لا تدرك ماهيته، ولكن وجوده مقرر بالتبليغ القرآني كالحياة الأخروية والوحي الرباني. وعنت : حالات السرّ والغياب والخلوة. والكلمة هنا عنت المعنى الأخير : أي الذي يخاف الله في السر ولو لم ير أحد ما يفعله على ما ذهب إليه جمهور المفسرين١.
( ٥ ) منيب : من الإنابة، وهي الاستسلام والخضوع. وهنا بمعنى الاستسلام والخضوع إلى الله.
﴿ وأزلفت١ الجنة للمتقين غير بعيد( ٣١ ) هذا ما توعدون لكل أواب٢ حفيظ٣( ٣٢ ) من خشي الرحمان بالغيب٤ وجاء بقلب منيب٥( ٣٣ ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود( ٣٤ ) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد( ٣٥ ) ﴾ [ ٣١-٣٥ ].
الآيات متصلة أيضا بسابقاتها واستمرار لها، وفيها استطراد لذكر مصير الصالحين في الآخرة مقابل ذكر مصير الكفار الآثمين جريا على الأسلوب القرآني.
والوصف في الآيات قوي ومشوق، ومن شأنه جذب أصحاب القلوب الواعية والنفوس الطيبة وحملها على السير في السبيل القويم وبث الطمأنينة والغبطة والرضاء فيها بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة النعيم والتكريم الأخروية الإيمانية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح
والأوصاف الواردة في الآيات، تتضمن تلقينات جليلة مستمرة المدى. فلا يكفي أن يعلن المرء إسلامه، بل عليه أن يكون مجتهدا في تقوى الله بالعمل الصالح واجتناب الآثام. وأن يكون حافظا لعهوده وواجباته مراقبا لله في سره وعلنه منيبا إليه بقلبه وجوارحه. وفي هذا ما فيه من قصد تهذيب نفس المسلم وإعداده ليكون صالحا بارا خيرا راشدا يقظ القلب طاهر السريرة والنفس، قائما بواجباته نحو الله والناس لذاتها، متقيا ربه في السر والعلن.
وفي الآيات دلالة على أن الصالحين إنما ينالون رضاء الله وتكريمه وجناته جزاء اختيارهم سلوك السبيل إليه وعملهم الصالح، كما هو شأن الكفار بالنسبة للعذاب والهوان اللذين ينالونهما على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.


١ - انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والطبرسي..
﴿ وأزلفت١ الجنة للمتقين غير بعيد( ٣١ ) هذا ما توعدون لكل أواب٢ حفيظ٣( ٣٢ ) من خشي الرحمان بالغيب٤ وجاء بقلب منيب٥( ٣٣ ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود( ٣٤ ) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد( ٣٥ ) ﴾ [ ٣١-٣٥ ].
الآيات متصلة أيضا بسابقاتها واستمرار لها، وفيها استطراد لذكر مصير الصالحين في الآخرة مقابل ذكر مصير الكفار الآثمين جريا على الأسلوب القرآني.
والوصف في الآيات قوي ومشوق، ومن شأنه جذب أصحاب القلوب الواعية والنفوس الطيبة وحملها على السير في السبيل القويم وبث الطمأنينة والغبطة والرضاء فيها بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة النعيم والتكريم الأخروية الإيمانية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح
والأوصاف الواردة في الآيات، تتضمن تلقينات جليلة مستمرة المدى. فلا يكفي أن يعلن المرء إسلامه، بل عليه أن يكون مجتهدا في تقوى الله بالعمل الصالح واجتناب الآثام. وأن يكون حافظا لعهوده وواجباته مراقبا لله في سره وعلنه منيبا إليه بقلبه وجوارحه. وفي هذا ما فيه من قصد تهذيب نفس المسلم وإعداده ليكون صالحا بارا خيرا راشدا يقظ القلب طاهر السريرة والنفس، قائما بواجباته نحو الله والناس لذاتها، متقيا ربه في السر والعلن.
وفي الآيات دلالة على أن الصالحين إنما ينالون رضاء الله وتكريمه وجناته جزاء اختيارهم سلوك السبيل إليه وعملهم الصالح، كما هو شأن الكفار بالنسبة للعذاب والهوان اللذين ينالونهما على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.

﴿ وأزلفت١ الجنة للمتقين غير بعيد( ٣١ ) هذا ما توعدون لكل أواب٢ حفيظ٣( ٣٢ ) من خشي الرحمان بالغيب٤ وجاء بقلب منيب٥( ٣٣ ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود( ٣٤ ) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد( ٣٥ ) ﴾ [ ٣١-٣٥ ].
الآيات متصلة أيضا بسابقاتها واستمرار لها، وفيها استطراد لذكر مصير الصالحين في الآخرة مقابل ذكر مصير الكفار الآثمين جريا على الأسلوب القرآني.
والوصف في الآيات قوي ومشوق، ومن شأنه جذب أصحاب القلوب الواعية والنفوس الطيبة وحملها على السير في السبيل القويم وبث الطمأنينة والغبطة والرضاء فيها بالإضافة إلى ما فيها من حقيقة النعيم والتكريم الأخروية الإيمانية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجوب تلازم الإيمان مع التقوى والعمل الصالح
والأوصاف الواردة في الآيات، تتضمن تلقينات جليلة مستمرة المدى. فلا يكفي أن يعلن المرء إسلامه، بل عليه أن يكون مجتهدا في تقوى الله بالعمل الصالح واجتناب الآثام. وأن يكون حافظا لعهوده وواجباته مراقبا لله في سره وعلنه منيبا إليه بقلبه وجوارحه. وفي هذا ما فيه من قصد تهذيب نفس المسلم وإعداده ليكون صالحا بارا خيرا راشدا يقظ القلب طاهر السريرة والنفس، قائما بواجباته نحو الله والناس لذاتها، متقيا ربه في السر والعلن.
وفي الآيات دلالة على أن الصالحين إنما ينالون رضاء الله وتكريمه وجناته جزاء اختيارهم سلوك السبيل إليه وعملهم الصالح، كما هو شأن الكفار بالنسبة للعذاب والهوان اللذين ينالونهما على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.


تعليق على مدى جملة
﴿ ولدينا مزيد ﴾
ولقد تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون في مدة جملة ﴿ ولدينا مزيد ﴾. منها : أنه النعيم الذي لا يخطر ببال المؤمنين أو ما أعدّ لهم من الألطاف الزائدة وقرة العين.
ومنها : أنها رؤية الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم. وأوردوا في هذا الصدد أحاديث نبوية وصحابية متنوعة الرتب منها ما رواه أصحاب مساند الأحاديث الصحيحة، ومنها ما لم يرووه١. وقد تشاد الذين يسوغون رؤية الله تعالى ولا يسوغونه حول ذلك. ولقد شرحنا هذا الموضوع في تعليق كتبناه في سياق تفسير سورة القيامة شرحا يغني عن التكرار. ويتبادر لنا بالنسبة للعبارة التي نحن في صددها : أنها لا تتحمل هذا التشاد، وأن الأقوال الأولى في مداها هي الأوجه استهدافا للتشويق والترغيب والتطمين. والله أعلم.
١ - انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري..
( ١ ) نقبوا في البلاد : ضربوا في البلاد وطوفوا.
( ٢ ) محيص : مخلص أو مهرب.
﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد١ هل من محيص٢( ٣٦ ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد( ٣٧ ) ﴾ [ ٣٦-٣٧ ]
الصلة بين هاتين الآيتين وسابقاتهما مستمرة. وفيهما عود على بدء في إنذار الكفار والتذكير بما كان من نكال الله في أمثالهم المكذبين السابقين الذين كانوا أقوى منهم وأشد بطشا، فما أعجزوا الله ولم يجدوا لهم منه مخلصا ومهربا في الأرض. وفي هذا الذي يعرفه السامعون عظة وعبرة لمن حسنت سريرته وطابت نيته ورغب في النجاة.
﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد١ هل من محيص٢( ٣٦ ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد( ٣٧ ) ﴾ [ ٣٦-٣٧ ]
الصلة بين هاتين الآيتين وسابقاتهما مستمرة. وفيهما عود على بدء في إنذار الكفار والتذكير بما كان من نكال الله في أمثالهم المكذبين السابقين الذين كانوا أقوى منهم وأشد بطشا، فما أعجزوا الله ولم يجدوا لهم منه مخلصا ومهربا في الأرض. وفي هذا الذي يعرفه السامعون عظة وعبرة لمن حسنت سريرته وطابت نيته ورغب في النجاة.
وفي الآية الثانية : تقرير بأسلوب جديد لقابلية الاختيار في الإنسان كما هو المتبادر.
( ١ ) لغوب : تعب.
﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [ ٣٨ و ٣٩ و ٤٠ و٤٥ ] تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عن تكذيب المكذبين ومواقفهم ؛ حيث تهيب به بأن يتحمل أقوالهم التي يسمعها الله عز وجل وأن يواصل تسبيح الله وعبادته، وحيث تعلنه أنه لم يرسله ربه لإجبار الناس على الاستجابة، وأنه ليس عليه إلا أن يذكر القول بالقرآن من يخاف وعيد الله. وقد انطوى في الآيات تقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم والإشادة بذوي النيات الحسنة والضمائر اليقظة الراغبين في الحق والهدى. فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بما في القرآن من عظة وهدى، وقد انطوى في الآية الأخيرة خاصة توكيد مبدأ حرية التدين وترك الناس لاختيارهم وعدم الإكراه في الدين. فعلى النبي أن يدعو ويذكر وليس عليه أن يجبر. وقد تكرر هذا بأساليب متنوعة، منها : آيات سورة الغاشية هذه، ﴿ فذكر إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمصيطر٢٢ ﴾ وآية سورة يونس هذه :﴿ ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين٩٩ ﴾ وآية سورة البقرة هذه :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم٢٥٦ ﴾.
تعليق على موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
في كتب التفسير أقوال وتعليقات وأحاديث في هذا الموضوع، الذي تكرر كثيرا وبأساليب متنوعة في القرآن. وفيما يلي إحاطة به في مناسبة وروده هنا لأول مرة نرجو أن يكون فيها الفائدة والصواب إن شاء الله.
ولقد روى المفسرون١ حديثا عن أبي هريرة جاء فيه :( أن رسول الله أخذ بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ). وهذا الحديث رواه مسلم أيضا، ويعد من الصحاح في اصطلاح علماء الحديث٢. ومع ذلك فإنه يلحظ منه أن الخلق استغرق سبعة أيام حيث بدأ به يوم السبت، وانتهى منه مساء الجمعة وليس فيه ذكر للسماوات. وهذا مناقض لنص الآية. وقد لحظ هذا ونبه عليه ابن كثير أيضا، وقال : إن البخاري تكلم في هذا الحديث. وهناك حديث رواه الطبري عن مجاهد جاء فيه :( إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة ).
ولقد ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم : أن الدنيا كانت خالية وظلاما ويغمرها الماء، وكانت روح الله ترفّ على وجهه، وأن الله خلق في يوم النور وفصل بينه وبين الظلام فسمى النور نهارا والظلام ليلا، وأنه خلق في اليوم التالي السماء وفي اليوم الثالث الأرض [ الجَلَد ] في وسط الماء وصنوف النبات والشجر، وفي اليوم الرابع الشمس والقمر والنجوم لتضيء على الأرض، وفي اليوم الخامس الزحافات والطيور والحيتان، وفي اليوم السادس البهائم والوحوش ودبابات الأرض، ثم صنع الإنسان على صورته ذكرا وأنثى، وفرغ في اليوم السابع من العمل واستراح- سبحانه وتعالى وبارك هذا اليوم وقدسه. ولم يرد في هذا السياق أسماء الأيام الستة. غير أنه ورد في أسفار أخرى : أن الله قدس السبت وحرم فيه العمل٣. حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن اليهود كانوا يرون أن يوم السبت هو اليوم الذي انتهى الخلق قبله.
ولقد روى ابن كثير عن الإمام أحمد ومجاهد وابن عباس رضي الله عنهم أن اليوم السابع الذي اكتمل الخلق قبله كان يوم السبت، وأنه سمي بهذا الاسم ؛ لأن معناه القطع على اعتبار أن العمل قد انقطع فيه٤. ومع ما في هذا من غرابة، سواء من ناحية القول بانقطاع الله سبحانه عن العمل أو من ناحية كون تسمية [ السبت ] لا يمكن أن تكون إلا متأخرة جدا عن عملية الخلق الأولى، فإن شيئا من التماثل قائم بين ما ورد في الحديث وما ورد في سفر التكوين، ثم بين ما روي في صدد السبت وبين ما ورد في سفر التكوين والأسفار الأخرى من تقديس السبت وتحريم العمل فيه. وفي سورة هود هذه الآية :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ﴾ [ ٧ ] حيث يبدو شيء من التماثل بينها وبين عبارة سفر التكوين ( كان روح الله يرفّ على وجه الماء ).
ولقد تساءل ابن كثير٥ عما إذ كان يوم الخلق هو يوم عادي أو مثل اليوم الذي ذكر في آية سورة الحج [ ٤٧ ] :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ وفي تفسير ابن عباس رواية الكلبي أنه يوم كألف سنة بأسلوب الجزم، وبعض المفسرين قالوا : إن اليوم يعني في اللغة زمنا ما، أو وقتا ما على الإطلاق، وإن عبارة القرآن قد تعني أن الله خلق الكائنات في أزمان متتالية٦. ولقد أول السيد رشيد رضا٧ الأيام بالأطوار التكوينية التي مرت بعملية خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من كائنات حية وغير حية. وبعض المفسرين أخذوا عبارة القرآن على ظاهرها واعتبروا الأيام عادية. وبعضهم علل ذلك : بأن الله مع قدرته على خلق جميع ما خلق في الأيام الستة بمجرد تعلق إرادته به فإنه أراد بذلك تعليم عباده التأني والتدرج٨. ومنهم من جال في كيفيات وماهيات خلق السماوات والأرض وما فيهما خلال الأيام الستة في سياق آيات سورة فصلت هذه بخاصة التي تفسح المجال لذلك الجولان :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين١٠ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين١١ فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم١٢ ﴾.
ومع تقريرنا واجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن، وأنه من عند ربنا ما فهمنا حكمته ومداه وما لم نفهم فإننا نقول : إن الإشارات القرآنية تلهم كما قلنا قبل أن من مقاصدها التذكير بقدرة الله وعظمته أكثر من قصد تقريره المدة والكيفيات لذاتها، وفي الآية التي نحن في صددها وفي آيات سورة فصلت التي أوردناها دليل قوي على ذلك.
وقد يكون في فكرة السيد رشيد رضا بتأويل ال ﴿ يوم ﴾ بالتطور الزمني في تكون مشاهد الكون وصنوف الكائنات الحية وغير الحية شيء كثير من الوجاهة بالنسبة لموضوعية الآيات، غير أن هذا لم يكن معروفا على الوجه الذي عرف به في القرون الحديثة في زمن النبي عليه السلام، ولا نريد أن نسلم بأن القرآن احتوى إشارات إلى أمور فنية وعلمية لم تكن معروفة ولا مدركة على حقيقتها من قبل النبي عليه السلام وسامعي القرآن، ونرى هذا مما لا تتحمله أهداف القرآن ولا عباراته من جهة، ومما فيه إخراج له من نطاقه الإرشادي إلى مجال البحث والنقد من جهة أخرى.
ومن الممكن أن نضيف إلى ما قلناه : إن مشاهد الكون ونواميسه في القرآن من قسم الوسائل التدعيمية لمبادئ الدعوة، وبخاصة لحقيقة عظمة الله ووحدته وقدرته الشاملة، وأن الأولى أن يوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه فيها بالأساليب التي اقتضتها هذه الحكمة بدون تزيد ولا تخمين. ولقد قلنا أكثر من مرة في مناسبات سابقة : إن هذه الوسائل تكون أقوى على تحقيق غايتها، حين يكون موضوعها مما يعرفه السامعون وخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان روح الله قبل ذلك يرفّ على وجه الماء مما ورد كما قلنا في سفر التكوين الذي كان من جملة الأسفار المتداولة بين أيدي الكتابين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما لا ريب فيه أن سامعي القرآن العرب كانوا أو كان كثير منهم يعرفون ذلك عن طريق الكتابيين. فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت أن يذكر ذلك بصورة موجزة لما فيه من تماثل مع ما يعرفه السامعون لتدعيم المبدأ القرآني المحكم، وهو وجود واجب الوجود وشمول قدرته وربوبيته وكونه الذي خلق الكون. والذي يسير بتدبيره ونواميسه التي أودعها فيه، وإننا لنرجو أن يكون في هذا الصواب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.


١ - انظر الآية [٥٤] من سورة الأعراف في تفسير ابن كثير..
٢ - انظر التاج جـ٤ ص ٣٣-٣٤..
٣ - انظر الإصحاح ٢٠ من سفر الخروج مثلا. وقد تكررت ذلك كثيرا في الأسفار الأخرى..
٤ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٥ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٦ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير محاسن التأويل للقاسمي..
٧ انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير المنار جـ ٧..
٨ - انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير البغوي ومجمع البيان للطبرسي مثلا..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:( ١ ) لغوب : تعب.
﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [ ٣٨ و ٣٩ و ٤٠ و٤٥ ] تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عن تكذيب المكذبين ومواقفهم ؛ حيث تهيب به بأن يتحمل أقوالهم التي يسمعها الله عز وجل وأن يواصل تسبيح الله وعبادته، وحيث تعلنه أنه لم يرسله ربه لإجبار الناس على الاستجابة، وأنه ليس عليه إلا أن يذكر القول بالقرآن من يخاف وعيد الله. وقد انطوى في الآيات تقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم والإشادة بذوي النيات الحسنة والضمائر اليقظة الراغبين في الحق والهدى. فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بما في القرآن من عظة وهدى، وقد انطوى في الآية الأخيرة خاصة توكيد مبدأ حرية التدين وترك الناس لاختيارهم وعدم الإكراه في الدين. فعلى النبي أن يدعو ويذكر وليس عليه أن يجبر. وقد تكرر هذا بأساليب متنوعة، منها : آيات سورة الغاشية هذه، ﴿ فذكر إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمصيطر٢٢ ﴾ وآية سورة يونس هذه :﴿ ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين٩٩ ﴾ وآية سورة البقرة هذه :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم٢٥٦ ﴾.
تعليق على موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
في كتب التفسير أقوال وتعليقات وأحاديث في هذا الموضوع، الذي تكرر كثيرا وبأساليب متنوعة في القرآن. وفيما يلي إحاطة به في مناسبة وروده هنا لأول مرة نرجو أن يكون فيها الفائدة والصواب إن شاء الله.
ولقد روى المفسرون١ حديثا عن أبي هريرة جاء فيه :( أن رسول الله أخذ بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ). وهذا الحديث رواه مسلم أيضا، ويعد من الصحاح في اصطلاح علماء الحديث٢. ومع ذلك فإنه يلحظ منه أن الخلق استغرق سبعة أيام حيث بدأ به يوم السبت، وانتهى منه مساء الجمعة وليس فيه ذكر للسماوات. وهذا مناقض لنص الآية. وقد لحظ هذا ونبه عليه ابن كثير أيضا، وقال : إن البخاري تكلم في هذا الحديث. وهناك حديث رواه الطبري عن مجاهد جاء فيه :( إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة ).
ولقد ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم : أن الدنيا كانت خالية وظلاما ويغمرها الماء، وكانت روح الله ترفّ على وجهه، وأن الله خلق في يوم النور وفصل بينه وبين الظلام فسمى النور نهارا والظلام ليلا، وأنه خلق في اليوم التالي السماء وفي اليوم الثالث الأرض [ الجَلَد ] في وسط الماء وصنوف النبات والشجر، وفي اليوم الرابع الشمس والقمر والنجوم لتضيء على الأرض، وفي اليوم الخامس الزحافات والطيور والحيتان، وفي اليوم السادس البهائم والوحوش ودبابات الأرض، ثم صنع الإنسان على صورته ذكرا وأنثى، وفرغ في اليوم السابع من العمل واستراح- سبحانه وتعالى وبارك هذا اليوم وقدسه. ولم يرد في هذا السياق أسماء الأيام الستة. غير أنه ورد في أسفار أخرى : أن الله قدس السبت وحرم فيه العمل٣. حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن اليهود كانوا يرون أن يوم السبت هو اليوم الذي انتهى الخلق قبله.
ولقد روى ابن كثير عن الإمام أحمد ومجاهد وابن عباس رضي الله عنهم أن اليوم السابع الذي اكتمل الخلق قبله كان يوم السبت، وأنه سمي بهذا الاسم ؛ لأن معناه القطع على اعتبار أن العمل قد انقطع فيه٤. ومع ما في هذا من غرابة، سواء من ناحية القول بانقطاع الله سبحانه عن العمل أو من ناحية كون تسمية [ السبت ] لا يمكن أن تكون إلا متأخرة جدا عن عملية الخلق الأولى، فإن شيئا من التماثل قائم بين ما ورد في الحديث وما ورد في سفر التكوين، ثم بين ما روي في صدد السبت وبين ما ورد في سفر التكوين والأسفار الأخرى من تقديس السبت وتحريم العمل فيه. وفي سورة هود هذه الآية :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ﴾ [ ٧ ] حيث يبدو شيء من التماثل بينها وبين عبارة سفر التكوين ( كان روح الله يرفّ على وجه الماء ).
ولقد تساءل ابن كثير٥ عما إذ كان يوم الخلق هو يوم عادي أو مثل اليوم الذي ذكر في آية سورة الحج [ ٤٧ ] :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ وفي تفسير ابن عباس رواية الكلبي أنه يوم كألف سنة بأسلوب الجزم، وبعض المفسرين قالوا : إن اليوم يعني في اللغة زمنا ما، أو وقتا ما على الإطلاق، وإن عبارة القرآن قد تعني أن الله خلق الكائنات في أزمان متتالية٦. ولقد أول السيد رشيد رضا٧ الأيام بالأطوار التكوينية التي مرت بعملية خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من كائنات حية وغير حية. وبعض المفسرين أخذوا عبارة القرآن على ظاهرها واعتبروا الأيام عادية. وبعضهم علل ذلك : بأن الله مع قدرته على خلق جميع ما خلق في الأيام الستة بمجرد تعلق إرادته به فإنه أراد بذلك تعليم عباده التأني والتدرج٨. ومنهم من جال في كيفيات وماهيات خلق السماوات والأرض وما فيهما خلال الأيام الستة في سياق آيات سورة فصلت هذه بخاصة التي تفسح المجال لذلك الجولان :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين١٠ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين١١ فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم١٢ ﴾.
ومع تقريرنا واجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن، وأنه من عند ربنا ما فهمنا حكمته ومداه وما لم نفهم فإننا نقول : إن الإشارات القرآنية تلهم كما قلنا قبل أن من مقاصدها التذكير بقدرة الله وعظمته أكثر من قصد تقريره المدة والكيفيات لذاتها، وفي الآية التي نحن في صددها وفي آيات سورة فصلت التي أوردناها دليل قوي على ذلك.
وقد يكون في فكرة السيد رشيد رضا بتأويل ال ﴿ يوم ﴾ بالتطور الزمني في تكون مشاهد الكون وصنوف الكائنات الحية وغير الحية شيء كثير من الوجاهة بالنسبة لموضوعية الآيات، غير أن هذا لم يكن معروفا على الوجه الذي عرف به في القرون الحديثة في زمن النبي عليه السلام، ولا نريد أن نسلم بأن القرآن احتوى إشارات إلى أمور فنية وعلمية لم تكن معروفة ولا مدركة على حقيقتها من قبل النبي عليه السلام وسامعي القرآن، ونرى هذا مما لا تتحمله أهداف القرآن ولا عباراته من جهة، ومما فيه إخراج له من نطاقه الإرشادي إلى مجال البحث والنقد من جهة أخرى.
ومن الممكن أن نضيف إلى ما قلناه : إن مشاهد الكون ونواميسه في القرآن من قسم الوسائل التدعيمية لمبادئ الدعوة، وبخاصة لحقيقة عظمة الله ووحدته وقدرته الشاملة، وأن الأولى أن يوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه فيها بالأساليب التي اقتضتها هذه الحكمة بدون تزيد ولا تخمين. ولقد قلنا أكثر من مرة في مناسبات سابقة : إن هذه الوسائل تكون أقوى على تحقيق غايتها، حين يكون موضوعها مما يعرفه السامعون وخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان روح الله قبل ذلك يرفّ على وجه الماء مما ورد كما قلنا في سفر التكوين الذي كان من جملة الأسفار المتداولة بين أيدي الكتابين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما لا ريب فيه أن سامعي القرآن العرب كانوا أو كان كثير منهم يعرفون ذلك عن طريق الكتابيين. فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت أن يذكر ذلك بصورة موجزة لما فيه من تماثل مع ما يعرفه السامعون لتدعيم المبدأ القرآني المحكم، وهو وجود واجب الوجود وشمول قدرته وربوبيته وكونه الذي خلق الكون. والذي يسير بتدبيره ونواميسه التي أودعها فيه، وإننا لنرجو أن يكون في هذا الصواب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.


١ - انظر الآية [٥٤] من سورة الأعراف في تفسير ابن كثير..
٢ - انظر التاج جـ٤ ص ٣٣-٣٤..
٣ - انظر الإصحاح ٢٠ من سفر الخروج مثلا. وقد تكررت ذلك كثيرا في الأسفار الأخرى..
٤ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٥ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٦ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير محاسن التأويل للقاسمي..
٧ انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير المنار جـ ٧..
٨ - انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير البغوي ومجمع البيان للطبرسي مثلا..

( ٢ ) أدبار السجود : عقب السجود.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:( ١ ) لغوب : تعب.
﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [ ٣٨ و ٣٩ و ٤٠ و٤٥ ] تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عن تكذيب المكذبين ومواقفهم ؛ حيث تهيب به بأن يتحمل أقوالهم التي يسمعها الله عز وجل وأن يواصل تسبيح الله وعبادته، وحيث تعلنه أنه لم يرسله ربه لإجبار الناس على الاستجابة، وأنه ليس عليه إلا أن يذكر القول بالقرآن من يخاف وعيد الله. وقد انطوى في الآيات تقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم والإشادة بذوي النيات الحسنة والضمائر اليقظة الراغبين في الحق والهدى. فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بما في القرآن من عظة وهدى، وقد انطوى في الآية الأخيرة خاصة توكيد مبدأ حرية التدين وترك الناس لاختيارهم وعدم الإكراه في الدين. فعلى النبي أن يدعو ويذكر وليس عليه أن يجبر. وقد تكرر هذا بأساليب متنوعة، منها : آيات سورة الغاشية هذه، ﴿ فذكر إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمصيطر٢٢ ﴾ وآية سورة يونس هذه :﴿ ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين٩٩ ﴾ وآية سورة البقرة هذه :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم٢٥٦ ﴾.
تعليق على موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
في كتب التفسير أقوال وتعليقات وأحاديث في هذا الموضوع، الذي تكرر كثيرا وبأساليب متنوعة في القرآن. وفيما يلي إحاطة به في مناسبة وروده هنا لأول مرة نرجو أن يكون فيها الفائدة والصواب إن شاء الله.
ولقد روى المفسرون١ حديثا عن أبي هريرة جاء فيه :( أن رسول الله أخذ بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ). وهذا الحديث رواه مسلم أيضا، ويعد من الصحاح في اصطلاح علماء الحديث٢. ومع ذلك فإنه يلحظ منه أن الخلق استغرق سبعة أيام حيث بدأ به يوم السبت، وانتهى منه مساء الجمعة وليس فيه ذكر للسماوات. وهذا مناقض لنص الآية. وقد لحظ هذا ونبه عليه ابن كثير أيضا، وقال : إن البخاري تكلم في هذا الحديث. وهناك حديث رواه الطبري عن مجاهد جاء فيه :( إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة ).
ولقد ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم : أن الدنيا كانت خالية وظلاما ويغمرها الماء، وكانت روح الله ترفّ على وجهه، وأن الله خلق في يوم النور وفصل بينه وبين الظلام فسمى النور نهارا والظلام ليلا، وأنه خلق في اليوم التالي السماء وفي اليوم الثالث الأرض [ الجَلَد ] في وسط الماء وصنوف النبات والشجر، وفي اليوم الرابع الشمس والقمر والنجوم لتضيء على الأرض، وفي اليوم الخامس الزحافات والطيور والحيتان، وفي اليوم السادس البهائم والوحوش ودبابات الأرض، ثم صنع الإنسان على صورته ذكرا وأنثى، وفرغ في اليوم السابع من العمل واستراح- سبحانه وتعالى وبارك هذا اليوم وقدسه. ولم يرد في هذا السياق أسماء الأيام الستة. غير أنه ورد في أسفار أخرى : أن الله قدس السبت وحرم فيه العمل٣. حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن اليهود كانوا يرون أن يوم السبت هو اليوم الذي انتهى الخلق قبله.
ولقد روى ابن كثير عن الإمام أحمد ومجاهد وابن عباس رضي الله عنهم أن اليوم السابع الذي اكتمل الخلق قبله كان يوم السبت، وأنه سمي بهذا الاسم ؛ لأن معناه القطع على اعتبار أن العمل قد انقطع فيه٤. ومع ما في هذا من غرابة، سواء من ناحية القول بانقطاع الله سبحانه عن العمل أو من ناحية كون تسمية [ السبت ] لا يمكن أن تكون إلا متأخرة جدا عن عملية الخلق الأولى، فإن شيئا من التماثل قائم بين ما ورد في الحديث وما ورد في سفر التكوين، ثم بين ما روي في صدد السبت وبين ما ورد في سفر التكوين والأسفار الأخرى من تقديس السبت وتحريم العمل فيه. وفي سورة هود هذه الآية :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ﴾ [ ٧ ] حيث يبدو شيء من التماثل بينها وبين عبارة سفر التكوين ( كان روح الله يرفّ على وجه الماء ).
ولقد تساءل ابن كثير٥ عما إذ كان يوم الخلق هو يوم عادي أو مثل اليوم الذي ذكر في آية سورة الحج [ ٤٧ ] :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ وفي تفسير ابن عباس رواية الكلبي أنه يوم كألف سنة بأسلوب الجزم، وبعض المفسرين قالوا : إن اليوم يعني في اللغة زمنا ما، أو وقتا ما على الإطلاق، وإن عبارة القرآن قد تعني أن الله خلق الكائنات في أزمان متتالية٦. ولقد أول السيد رشيد رضا٧ الأيام بالأطوار التكوينية التي مرت بعملية خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من كائنات حية وغير حية. وبعض المفسرين أخذوا عبارة القرآن على ظاهرها واعتبروا الأيام عادية. وبعضهم علل ذلك : بأن الله مع قدرته على خلق جميع ما خلق في الأيام الستة بمجرد تعلق إرادته به فإنه أراد بذلك تعليم عباده التأني والتدرج٨. ومنهم من جال في كيفيات وماهيات خلق السماوات والأرض وما فيهما خلال الأيام الستة في سياق آيات سورة فصلت هذه بخاصة التي تفسح المجال لذلك الجولان :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين١٠ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين١١ فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم١٢ ﴾.
ومع تقريرنا واجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن، وأنه من عند ربنا ما فهمنا حكمته ومداه وما لم نفهم فإننا نقول : إن الإشارات القرآنية تلهم كما قلنا قبل أن من مقاصدها التذكير بقدرة الله وعظمته أكثر من قصد تقريره المدة والكيفيات لذاتها، وفي الآية التي نحن في صددها وفي آيات سورة فصلت التي أوردناها دليل قوي على ذلك.
وقد يكون في فكرة السيد رشيد رضا بتأويل ال ﴿ يوم ﴾ بالتطور الزمني في تكون مشاهد الكون وصنوف الكائنات الحية وغير الحية شيء كثير من الوجاهة بالنسبة لموضوعية الآيات، غير أن هذا لم يكن معروفا على الوجه الذي عرف به في القرون الحديثة في زمن النبي عليه السلام، ولا نريد أن نسلم بأن القرآن احتوى إشارات إلى أمور فنية وعلمية لم تكن معروفة ولا مدركة على حقيقتها من قبل النبي عليه السلام وسامعي القرآن، ونرى هذا مما لا تتحمله أهداف القرآن ولا عباراته من جهة، ومما فيه إخراج له من نطاقه الإرشادي إلى مجال البحث والنقد من جهة أخرى.
ومن الممكن أن نضيف إلى ما قلناه : إن مشاهد الكون ونواميسه في القرآن من قسم الوسائل التدعيمية لمبادئ الدعوة، وبخاصة لحقيقة عظمة الله ووحدته وقدرته الشاملة، وأن الأولى أن يوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه فيها بالأساليب التي اقتضتها هذه الحكمة بدون تزيد ولا تخمين. ولقد قلنا أكثر من مرة في مناسبات سابقة : إن هذه الوسائل تكون أقوى على تحقيق غايتها، حين يكون موضوعها مما يعرفه السامعون وخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان روح الله قبل ذلك يرفّ على وجه الماء مما ورد كما قلنا في سفر التكوين الذي كان من جملة الأسفار المتداولة بين أيدي الكتابين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما لا ريب فيه أن سامعي القرآن العرب كانوا أو كان كثير منهم يعرفون ذلك عن طريق الكتابيين. فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت أن يذكر ذلك بصورة موجزة لما فيه من تماثل مع ما يعرفه السامعون لتدعيم المبدأ القرآني المحكم، وهو وجود واجب الوجود وشمول قدرته وربوبيته وكونه الذي خلق الكون. والذي يسير بتدبيره ونواميسه التي أودعها فيه، وإننا لنرجو أن يكون في هذا الصواب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.


١ - انظر الآية [٥٤] من سورة الأعراف في تفسير ابن كثير..
٢ - انظر التاج جـ٤ ص ٣٣-٣٤..
٣ - انظر الإصحاح ٢٠ من سفر الخروج مثلا. وقد تكررت ذلك كثيرا في الأسفار الأخرى..
٤ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٥ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٦ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير محاسن التأويل للقاسمي..
٧ انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير المنار جـ ٧..
٨ - انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير البغوي ومجمع البيان للطبرسي مثلا..

﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.

﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [ ٤٢ و ٤٣ و ٤٤ ] توكيد جديد من الله عز وجل : بأنه هو الذي يحيي ويميت، وبأن صوت مناديه سوف يعلو فيخرج الناس من الأرض ملبين مسرعين إليه ليفصل بينهم حسب أعمالهم، وبأن ذلك هين سهل عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [ ٤٢ و ٤٣ و ٤٤ ] توكيد جديد من الله عز وجل : بأنه هو الذي يحيي ويميت، وبأن صوت مناديه سوف يعلو فيخرج الناس من الأرض ملبين مسرعين إليه ليفصل بينهم حسب أعمالهم، وبأن ذلك هين سهل عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [ ٤٢ و ٤٣ و ٤٤ ] توكيد جديد من الله عز وجل : بأنه هو الذي يحيي ويميت، وبأن صوت مناديه سوف يعلو فيخرج الناس من الأرض ملبين مسرعين إليه ليفصل بينهم حسب أعمالهم، وبأن ذلك هين سهل عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.


( ٣ ) جبار : هنا بمعنى مسيطر وقاهر أو مجبر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:( ١ ) لغوب : تعب.
﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب١( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب( ٣٩ ) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود٢( ٤٠ ) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب( ٤١ ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج( ٤٢ ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير( ٤٣ ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير( ٤٤ ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار٣ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد( ٤٥ ) ﴾ [ ٣٨-٤٥ ].
يروي الطبري والبغوي في صدد نزول الآيتين [ ٣٨ و ٣٩ ] أنهما نزلتا في موقف جدلي بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود : حيث روى الطبري عن أبي بكر قال :( جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاثة ساعات يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم، قالوا : صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله ﴿ وما مسنا من لغوب٣٨ فاصبر على ما يقولون ﴾ ). وروى البغوي هذا الحديث بزيادة وهي :( أن اليهود حينما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : صدقت إن أتممت، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم، وقال له : فاصبر على ما يقولون من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد، وهذا قبل الأمر بقتالهم ).
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية [ ٣٨ ] التي فيها خلق السماوات والأرض في ستة أيام مدنية دون الآية [ ٣٩ ] مع أن الآية [ ٣٩ ] هي الأولى لأن تكون مدنية. لأن فيها أمرا بالصبر على ما يقولون، ومقتضى الرواية : أن تكون الآيات نزلت مجزأة مع أنها وحدة منسجمة متوازنة، وهي وما قبلها في صدد مواقف الكفار منكري البعث، وفي صدد إنذارهم وحكاية ما سوف يلقونه من مصير أخروي رهيب، وما سوف يلقاه المؤمنون من مصير أخروي سعيد بالمقابلة. وكل هذا يجعلنا نتوقف أولا في رواية مدنية الآية [ ٣٨ ] ثم في الرواية التي يرويها الطبري كسبب لنزول الآيات، ونرجح أنها في صدد البرهنة على قدرة الله تعالى على بعث الناس بالتذكير بأنه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما دون أن يناله بذلك إعياء وعجز. وبأن من كان كذلك قادر من باب أولى على الخلق ثانية. وقد استمر الإنذار الرباني لهم مع تسلية النبي وتثبيته مما هو متصل بموضوع الآيات عامة. وفيه دليل على انسجامها ووحدتها. على أن هذا لا يمنع أن يكون من مقاصد جملة ﴿ وما مسنا من لغوب ﴾ الرد على ما كان يقول اليهود والنصارى معا لأنه مما ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين ولم يكن ذلك مجهولا في العهد المكي.
ولم نطلع على روايات في صدد وسبب نزول الآيات الأخرى التي نرجح كما قلنا أنها سياق واحد ونزلت معا.
وفي الآيات [ ٣٨ و ٣٩ و ٤٠ و٤٥ ] تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عن تكذيب المكذبين ومواقفهم ؛ حيث تهيب به بأن يتحمل أقوالهم التي يسمعها الله عز وجل وأن يواصل تسبيح الله وعبادته، وحيث تعلنه أنه لم يرسله ربه لإجبار الناس على الاستجابة، وأنه ليس عليه إلا أن يذكر القول بالقرآن من يخاف وعيد الله. وقد انطوى في الآيات تقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم والإشادة بذوي النيات الحسنة والضمائر اليقظة الراغبين في الحق والهدى. فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بما في القرآن من عظة وهدى، وقد انطوى في الآية الأخيرة خاصة توكيد مبدأ حرية التدين وترك الناس لاختيارهم وعدم الإكراه في الدين. فعلى النبي أن يدعو ويذكر وليس عليه أن يجبر. وقد تكرر هذا بأساليب متنوعة، منها : آيات سورة الغاشية هذه، ﴿ فذكر إنما أنت مذكر٢١ لست عليهم بمصيطر٢٢ ﴾ وآية سورة يونس هذه :﴿ ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين٩٩ ﴾ وآية سورة البقرة هذه :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم٢٥٦ ﴾.
تعليق على موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
في كتب التفسير أقوال وتعليقات وأحاديث في هذا الموضوع، الذي تكرر كثيرا وبأساليب متنوعة في القرآن. وفيما يلي إحاطة به في مناسبة وروده هنا لأول مرة نرجو أن يكون فيها الفائدة والصواب إن شاء الله.
ولقد روى المفسرون١ حديثا عن أبي هريرة جاء فيه :( أن رسول الله أخذ بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ). وهذا الحديث رواه مسلم أيضا، ويعد من الصحاح في اصطلاح علماء الحديث٢. ومع ذلك فإنه يلحظ منه أن الخلق استغرق سبعة أيام حيث بدأ به يوم السبت، وانتهى منه مساء الجمعة وليس فيه ذكر للسماوات. وهذا مناقض لنص الآية. وقد لحظ هذا ونبه عليه ابن كثير أيضا، وقال : إن البخاري تكلم في هذا الحديث. وهناك حديث رواه الطبري عن مجاهد جاء فيه :( إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة ).
ولقد ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم : أن الدنيا كانت خالية وظلاما ويغمرها الماء، وكانت روح الله ترفّ على وجهه، وأن الله خلق في يوم النور وفصل بينه وبين الظلام فسمى النور نهارا والظلام ليلا، وأنه خلق في اليوم التالي السماء وفي اليوم الثالث الأرض [ الجَلَد ] في وسط الماء وصنوف النبات والشجر، وفي اليوم الرابع الشمس والقمر والنجوم لتضيء على الأرض، وفي اليوم الخامس الزحافات والطيور والحيتان، وفي اليوم السادس البهائم والوحوش ودبابات الأرض، ثم صنع الإنسان على صورته ذكرا وأنثى، وفرغ في اليوم السابع من العمل واستراح- سبحانه وتعالى وبارك هذا اليوم وقدسه. ولم يرد في هذا السياق أسماء الأيام الستة. غير أنه ورد في أسفار أخرى : أن الله قدس السبت وحرم فيه العمل٣. حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن اليهود كانوا يرون أن يوم السبت هو اليوم الذي انتهى الخلق قبله.
ولقد روى ابن كثير عن الإمام أحمد ومجاهد وابن عباس رضي الله عنهم أن اليوم السابع الذي اكتمل الخلق قبله كان يوم السبت، وأنه سمي بهذا الاسم ؛ لأن معناه القطع على اعتبار أن العمل قد انقطع فيه٤. ومع ما في هذا من غرابة، سواء من ناحية القول بانقطاع الله سبحانه عن العمل أو من ناحية كون تسمية [ السبت ] لا يمكن أن تكون إلا متأخرة جدا عن عملية الخلق الأولى، فإن شيئا من التماثل قائم بين ما ورد في الحديث وما ورد في سفر التكوين، ثم بين ما روي في صدد السبت وبين ما ورد في سفر التكوين والأسفار الأخرى من تقديس السبت وتحريم العمل فيه. وفي سورة هود هذه الآية :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ﴾ [ ٧ ] حيث يبدو شيء من التماثل بينها وبين عبارة سفر التكوين ( كان روح الله يرفّ على وجه الماء ).
ولقد تساءل ابن كثير٥ عما إذ كان يوم الخلق هو يوم عادي أو مثل اليوم الذي ذكر في آية سورة الحج [ ٤٧ ] :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ وفي تفسير ابن عباس رواية الكلبي أنه يوم كألف سنة بأسلوب الجزم، وبعض المفسرين قالوا : إن اليوم يعني في اللغة زمنا ما، أو وقتا ما على الإطلاق، وإن عبارة القرآن قد تعني أن الله خلق الكائنات في أزمان متتالية٦. ولقد أول السيد رشيد رضا٧ الأيام بالأطوار التكوينية التي مرت بعملية خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من كائنات حية وغير حية. وبعض المفسرين أخذوا عبارة القرآن على ظاهرها واعتبروا الأيام عادية. وبعضهم علل ذلك : بأن الله مع قدرته على خلق جميع ما خلق في الأيام الستة بمجرد تعلق إرادته به فإنه أراد بذلك تعليم عباده التأني والتدرج٨. ومنهم من جال في كيفيات وماهيات خلق السماوات والأرض وما فيهما خلال الأيام الستة في سياق آيات سورة فصلت هذه بخاصة التي تفسح المجال لذلك الجولان :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين١٠ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين١١ فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم١٢ ﴾.
ومع تقريرنا واجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن، وأنه من عند ربنا ما فهمنا حكمته ومداه وما لم نفهم فإننا نقول : إن الإشارات القرآنية تلهم كما قلنا قبل أن من مقاصدها التذكير بقدرة الله وعظمته أكثر من قصد تقريره المدة والكيفيات لذاتها، وفي الآية التي نحن في صددها وفي آيات سورة فصلت التي أوردناها دليل قوي على ذلك.
وقد يكون في فكرة السيد رشيد رضا بتأويل ال ﴿ يوم ﴾ بالتطور الزمني في تكون مشاهد الكون وصنوف الكائنات الحية وغير الحية شيء كثير من الوجاهة بالنسبة لموضوعية الآيات، غير أن هذا لم يكن معروفا على الوجه الذي عرف به في القرون الحديثة في زمن النبي عليه السلام، ولا نريد أن نسلم بأن القرآن احتوى إشارات إلى أمور فنية وعلمية لم تكن معروفة ولا مدركة على حقيقتها من قبل النبي عليه السلام وسامعي القرآن، ونرى هذا مما لا تتحمله أهداف القرآن ولا عباراته من جهة، ومما فيه إخراج له من نطاقه الإرشادي إلى مجال البحث والنقد من جهة أخرى.
ومن الممكن أن نضيف إلى ما قلناه : إن مشاهد الكون ونواميسه في القرآن من قسم الوسائل التدعيمية لمبادئ الدعوة، وبخاصة لحقيقة عظمة الله ووحدته وقدرته الشاملة، وأن الأولى أن يوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه فيها بالأساليب التي اقتضتها هذه الحكمة بدون تزيد ولا تخمين. ولقد قلنا أكثر من مرة في مناسبات سابقة : إن هذه الوسائل تكون أقوى على تحقيق غايتها، حين يكون موضوعها مما يعرفه السامعون وخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان روح الله قبل ذلك يرفّ على وجه الماء مما ورد كما قلنا في سفر التكوين الذي كان من جملة الأسفار المتداولة بين أيدي الكتابين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما لا ريب فيه أن سامعي القرآن العرب كانوا أو كان كثير منهم يعرفون ذلك عن طريق الكتابيين. فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت أن يذكر ذلك بصورة موجزة لما فيه من تماثل مع ما يعرفه السامعون لتدعيم المبدأ القرآني المحكم، وهو وجود واجب الوجود وشمول قدرته وربوبيته وكونه الذي خلق الكون. والذي يسير بتدبيره ونواميسه التي أودعها فيه، وإننا لنرجو أن يكون في هذا الصواب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:كثرة الآيات المتضمنة تطمينا للنبي عليه السلام وحكمتها
وبمناسبة ما انطوى في الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم نقول : إن القرآن المكي احتوى آيات كثيرة جدا في هذا الباب وبأساليب متنوعة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه، وكان حزنه وهمه يشتدان كل ما أرى الزعماء يستمرون في مواقف الجحود والمناوأة والصد، ورأى الأكثرية الساحقة من العرب ينكمشون عن الدعوة نتيجة لذلك طيلة العهد المكي الذي امتد ثلاث عشرة سنة، مضافا إلى ذلك اضطهاد المستضعفين من المؤمنين وفتنتهم حتى ليكاد يهلك نفسه من الهم والحزن، مما أشارت إليه آيات عديدة، منها آية سورة فاطر هذه :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون٨ ﴾ وآية سورة الشعراء هذه :﴿ لعلك باخع١ نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾ وآية سورة طه هذه :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى٢ إلا تذكرة لمن يخشى٣ ﴾ وآية سورة الكهف هذه :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا٦ ﴾ فاقتضت حكمة التنزيل موالاة التطمين له وتسليته والتهوين عليه وإخباره بأنه ليس مسؤولا عن هدايتهم ولا هو وكيلا عليهم ولا جبارا ولا مسيطرا، وإنما هو نذير وبشير. والآيات في هذا الباب كثيرة جدا منثورة في أكثر السور المكية فلم نر ضرورة إلى إيراد نماذج منها.
والمفسرون يقولون في سياق هذه الآيات وأمثالها : إنها نسخت بآيات السيف والقتال في العهد المدني. وقد علقنا على هذا القول بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورتي المزمل والكافرون، فلا نرى ضرورة للإعادة.
تعليق على مدى العبارات القرآنية في تعيين أوقات الصلاة
وقد علق بعض المفسرين على ما احتوته الآيات [ ٣٩ و ٤٠ ] من ذكر أوقات التسبيح التي أمر النبي بالتسبيح فيها بحمد ربه فقال : إنها بصدد أوقات الصلوات الخمس. ولقد تكرر الأمر والحث على ذكر الله وقراءة القرآن وإقامة الصلوات مقرونا بذكر أوقات معينة من الليل والنهار، كما في آية سورة هود هذه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين١١٤ ﴾ وفي آيات سورة الإسراء هذه :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا٧٩ ﴾ وفي آية سورة طه هذه :﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى١٣٠ ﴾ ومع أن المتبادر من روح الآيات : هو قصد الأمر بذكر الله وعبادته في جميع الأوقات، فإن مما يحتمل أيضا أن يكون قد انطوى فيها قصد الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها. وإذا صح هذا، ففيه دلالة على أن الصلوات الخمس في الليل والنهار مما كان ممارسا منذ عهد مبكر من البعثة، أو على الأقل فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقيمون الصلاة في أوقات عديدة في الليل والنهار منذ أوائل البعثة إذا صح أن الصلوات الخمس لم تفرض فرضا محددا إلا في ظروف الإسراء، على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والنجم.
وواضح من آيات هذه السورة والآيات الأخرى التي أوردناها آنفا أنها لا تحتوي أسماء الأوقات صراحة ولا تحددها تحديدا معينا وقاطعا. وهذا ما تكفلت به السنة النبوية التي تكفلت بشرح وتحديد كثير من التعليمات والتشريعات والخطوط القرآنية.
تعليق على ما يمده ذكر الله وتسبيحه وعبادته للمؤمنين
من قوة معنوية تساعد على مواجهة الملمات
ويلحظ أن الأمر بتسبيح الله في الآيات، مسبوق بأمر النبي بالصبر على ما يقول الكفار من أقوال مثيرة للشجن، وعلى ما يقفونه من مواقف الجحود واللجاج. وهذا ما يلحظ في آية سورة طه أيضا، بل إن هذا ملحوظ في السياق الذي يسبق آيات سورة الإسراء كما ترى في هاتين الآيتين اللتين سبقتا تلك الآيات ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا٧٧ ﴾ كما هو ملحوظ أيضا في السياق الذي يسبق آية سورة هود، كما ترى في هاتين الآيتين :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير١١٢ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون١١٣ ﴾ وينطوي في هذا تلقين روحاني رائع، وهو أن ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه والوقوف بين يديه في الأوقات التي يلم فيها بالمؤمن غم وهم من شأنه أن يشرح صدره ويمده بقوة معنوية كبيرة تتضاءل معها خطوب الدنيا وهمومها. وهذا مما انطوى في الآيتين الأخيرتين لسورتي العلق والشرح على ما ذكرناه تعليقا عليهما.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق الآية عن جرير بن عبد الله قال :( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ )٢.
وفي الحديث توضيح تدعيمي لكون التسبيح المأمور به في الآيات هو الصلاة أو كون الصلاة من جملة ذلك.
ولقد أوردنا هذا الحديث في سياق تعليقنا على مسألة رؤية الله تعالى في سورة القيامة. ونقول بمناسبة وروده في سياق هذه الآية : إن الحكمة النبوية الملموحة في هذا الحديث هي جعل المؤمنين يهتمون اهتماما عظيما لأداء الصلوات في أوقاتها رجاء نيل رضوان الله تعالى، وفي ذلك عميم الخير في الدنيا والآخرة معا.


١ - انظر الآية [٥٤] من سورة الأعراف في تفسير ابن كثير..
٢ - انظر التاج جـ٤ ص ٣٣-٣٤..
٣ - انظر الإصحاح ٢٠ من سفر الخروج مثلا. وقد تكررت ذلك كثيرا في الأسفار الأخرى..
٤ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٥ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير..
٦ - انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير محاسن التأويل للقاسمي..
٧ انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير المنار جـ ٧..
٨ - انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير البغوي ومجمع البيان للطبرسي مثلا..

Icon