تفسير سورة الذاريات

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قوله تعالى :﴿ والذاريات ذَرْواً ﴾ قال علي رضي الله عنه : الريح، ﴿ فالحاملات وِقْراً ﴾ قال : السحاب ﴿ فالجاريات يُسْراً ﴾ قال : السفن ﴿ فالمقسمات أَمْراً ﴾ قال : الملائكة.
وقد روي عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الذاريات ذرواً، فقال عمر رضي الله عنه : هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقوله ما قلته، قال : فأخبرني عن المقسمات أمراً، قال رضي الله عنه : هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه سولم يقوله ما قتله، قال : فأخبرني عن الجاريات يسراً، قال رضي الله عنه : هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقوله ما قلته. وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر وغير واحد، ولم يحك ابن جرير غير ذلك، وقد قيل : إن المراد بالذاريات ( الريح ) وبالحاملات وقراً ( السحاب ) كما تقدم لأنها تحمل الماء، فأما ﴿ فالجاريات يُسْراً ﴾ فالمشهور عن الجمهور أنها السفن. تجري ميسرة في الماء جرياً سهلاً، وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسراً في أفلاكها، ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والمقسمات أمراً، الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية، وهذا قسم من الله عزّ وجلّ على وقوع المعاد، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴾ أي لخبر صدق، ﴿ وَإِنَّ الدين ﴾ وهو الحساب ﴿ لَوَاقِعٌ ﴾ أي لكائن لا محالة، ثم قال تعالى :﴿ والسمآء ذَاتِ الحبك ﴾ قال ابن عباس : ذات الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، وقال الضحاك : الرمل والزرع إذا ضربته الريح فينسخ بعضه بعضاً طرائق طرائق، فذلك الحبك، وعن أبي صالح ﴿ ذَاتِ الحبك ﴾ الشدة، وقال اخصيف ﴿ ذَاتِ الحبك ﴾ ذات الصفاقة، وقال الحسن البصري :﴿ ذَاتِ الحبك ﴾ حبكت النجوم، وقال عبد الله بن عمرو ﴿ والسمآء ذَاتِ الحبك ﴾ يعني السماء السابعة وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة. وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة، شديدة البناء، متسعة الأرجاء، أنيقة البهاء، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات، موشحة بالكواكب الزاهرات. وقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴾ أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل ﴿ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴾ مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع، وقال قتادة :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴾ ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به ﴿ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ أي إنما يروج على من هو ضال من نفسه، لأنه قول باطل، ينقاد له ويضل بسببه من هو مأفوك ضال، غِمْر لا فهم له. قال ابن عباس ﴿ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ يضل عنه من ضل، وقال مجاهد : يؤفن عنه من أفن، وقال الحسن البصري : يصرف عن هذا القرآن من كذب به، وقوله تعالى :﴿ قُتِلَ الخراصون ﴾ قال مجاهد : الكذابون، وهي مثل التي في عبس،
2407
﴿ قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ ﴾ [ عبس : ١٧ ] والخراصون الذين يقولون : لا نبعث ولا يوقنون، وقال ابن عباس :﴿ قُتِلَ الخراصون ﴾ أي لعن المرتابون، وقال قتادة : الخراصون أهل الغرة والظنون، وقوله تبارك وتعالى :﴿ الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴾ قال ابن عباس وغير واحد : في الكفر والشك غافلون لاهون ﴿ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين ﴾ وإنما يقولون هذا تكذيباً وعناداً، وشكاً واستبعاداً قال الله تعالى :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ ﴾ قال ابن عباس : يعذبون، قال مجاهد : كما يفتن الذهب على النار، وقال جماعة آخرون :﴿ يُفْتَنُونَ ﴾ يحرقون ﴿ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ﴾ قال مجاهد : حريقكم، وقال غيره : عذابكم ﴿ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، وتحقيراً وتصغيراً، والله أعلم.
2408
يقول تعالى مخبراً عن المتقين لله عزّ وجلّ، أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون، بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحرق والأغلال، وقوله تعالى :﴿ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ﴾، قال ابن جرير : أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴾ أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال أيضاً، والذي فسر به ابن جرير فيه نظر، لأن قوله تبارك وتعالى ﴿ آخِذِينَ ﴾ حال من قوله ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ فالمتقون في حال كونهم في الجنان والعيون آخذين ما آتاهم ربهم، أي من النعيم والسرور والغبطة. وقوله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ ﴾ أي في الدار الدنيا، ﴿ مُحْسِنِينَ ﴾ كقوله تعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾ [ الحاقة : ٢٤ ]، ثم إنه تعالى بيّن إحسانهم في العمل فقال جلّ وعلا :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾. اختلف المفسرون في ذلك على قولين : أحدهما : أن ( ما ) نافية تقديره : كانوا قليلاً من الليل لا يهجعونه. قال ابن عباس : لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً، وقال قتادة : قلّ ليلة تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عزّ وجلّ، إما من أولها أو من وسطها، وقال مجاهد : قلَّ ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون، والقول الثاني : أن ( ما ) مصدرية تقديره : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ونومهم، واختاره ابن جرير، وقال الحسن البصري :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾، كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر، وقال الأحنف بن قيس :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ كانوا لا ينامون إلا قليلاً، ثم يقول : لست من أهل هذه الآية، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة صفةٌ لا أجدها فينا ذكر الله تعالى قوماً فقال :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم. فقال له أبي :« طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ ». وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه ﷺ عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته ﷺ يقول :« يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله ﷺ قال :
2409
« إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها » فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : لمن هي يا رسول الله؟ قال ﷺ :« لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائماً والناس نيام » «.
وقوله عزّ وجلّ :﴿ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ قال مجاهد : يصلون، وقال آخرون : قاموا الليل وأخروا الاستغفار إلى الأسحار، كما قال تبارك وتعالى :﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ [ آل عمران : ١٧ ]، وقد ثبت في الصحاح، عن رسول الله ﷺ أنه قال :»
إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر « وقوله تعالى :﴿ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم ﴾ لما وصفهم بالصلاة، ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة، فقال ﴿ وفي أَمْوَالِهِمْ ﴾ أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم، أما السائل فمعروف وهو الذي يبتدىء بالسؤال وله حق، كما قال رسول الله ﷺ :» للسائل حق وإن جاء على فرس « وأما المحروم فقال ابن عباس ومجاهد : هو المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم، يعني لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : هو المحارب الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه، وقال الضحاك : هو الذي لا يكون له مال ذهب، قضى الله تعالى له ذلك، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء : المحروم المحارف، وقال قتادة والزهري : المحروم الذي لا يسأل الناس شيئاً، وقد قال رسول الله ﷺ :» ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه « وقال سعيد بن جبير : هو الذي يجيء وقد قسم المغنم فيرضخ له، وقال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم، واختار ابن جرير أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان وقد ذهب ماله، سواء كان لا يقدر على الكسب، أو قد هلك ماله بآفة أو نحوها.
وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴾ أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد، والجبال والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة وألوانهم، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم، في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ ؟ قال قتادة : من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة، ثم قال تعالى :﴿ وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ ﴾ يعني المطر ﴿ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ يعني الجنة، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وقوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾، يقسم تعالى بنفسه الكريمة : أن ما وعدهم به من أمر القيامة، والبعث والجزاء كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون، وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه إن هذا لحقٌ كما أنك هاهنا.
2410
وعن الحسن البصري قال : بلغني أن رسول الله ﷺ قال :« قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا ».
2411
هذه القصة قد تقدمت في سورة هود والحجر، فقوله :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين ﴾ أي الذين أرصد لهم الكرامة، وقد ذهب الإمام أحمد إلى وجوب الضيافة للنزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل، وقوله تعالى :﴿ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ﴾ الرفع أقوى وأثبت من النصب، فردّه أفضل من التسليم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾ [ النساء : ٨٦ ] فالخليل اختار الأفضل، وقوله تعالى :﴿ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ وذلك أن الملائكة، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة، ولهذا قال ﴿ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾. وقوله عزّ وجلّ :﴿ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ ﴾ أي انسل خفية في سرعة، ﴿ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ أي منن خيار ماله، وفي الآية الأُخْرى :﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [ هود : ٦٩ ] أي مشوي على الرَّضْف ﴿ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ﴾ أي أدناه منهم، ﴿ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ ﴾ ؟ تلطف في العبارة وعرض حسن، وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجلٌ فتيٌّ سمين مشوي، فقربه إليهم لم يضعه وقال اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال :﴿ أَلاَ تَأْكُلُونَ ﴾ ؟ على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم : إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل. وقوله تعالى :﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [ هود : ٧٠ ] ﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ ﴾ البشارة له بشارة لها، لأن الولد منهما فكل منهما بشر به، وقوله تعالى :﴿ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ ﴾ أي في صرخة عظيمة ورنة، وهي قولها ﴿ يَاوَيْلَتَا ﴾ [ المائدة : ٣١ ] ﴿ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ﴾ أي ضربت بيدها على جبينها، قال ابن عباس : لطمت أي تعجباً، كما تتعجب النساء من الأمر الغريب ﴿ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ أي كيف ألد وأنا عجوز وقد كنت في حال الصبا عقيماً لا أحبل؟ ﴿ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم ﴾ أي عليم بما تستحقون من الكرامة، حكيم في أقواله وأفعاله.
قال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم ﷺ :﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون ﴾ ؟ ما شأنكم، وفيم جئتم؟ ﴿ قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ يعنون قوم لوط، ﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً ﴾ أي معلمة، ﴿ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ أي مكتتبة عنده بأسمائهم، كل حجر عليه اسم صاحبه، ﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين ﴾ وهو لوط وأهل بيته إلا امرأته ﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم ﴾ أي جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين ﴿ لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم ﴾.
يقول تعالى :﴿ وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بدليل باهر وحجة قاطعة، ﴿ فتولى بِرُكْنِهِ ﴾ أي فأعرض فرعون عما جاءه موسى من الحق المبين استكباراً وعناداً، قال مجاهد : تعزز بأصحابه، وقال قتادة : غلب عدو الله على قومه، وقال ابن زيد :﴿ فتولى بِرُكْنِهِ ﴾ أي بمجموعه التي معه، ثم قرأ :﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٠ ] والمعنى الأولى قوي، ﴿ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ أي لا يخلو أمرك فيما جئتني به، من أن تكون ساحراً أو مجنوناً، قال الله تعالى :﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ ﴾ أي ألقيناهم ﴿ فِي اليم ﴾ وهو البحر، ﴿ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ أي وهو ملوم جاحد، فاجر معاند. ثم قال عزّ وجلّ :﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم ﴾ أي المفسدة التي لا تنتج شيئاً لهذا قال تعالى :﴿ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ﴾ أي مما تفسده الريح ﴿ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم ﴾ أي كالشيء الهالك البالي، وقد ثبت في الصحيح :« نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور » ﴿ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ ﴾ قال ابن جرير : يعني إلى وقت فناء آجالكم، والظاهر أن هذه كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ فصلت : ١٧ ]، وهكذا قال ههنا :﴿ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار، ﴿ فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ ﴾ أي من هرب ولا نهوض، ﴿ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ ﴾ أي لا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ﴾ أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾، وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة من سور متعددة. والله تعالى أعلم.
يقول تعالى منبهاً على خلق العالم العلوي والسفلي :﴿ والسمآء بَنَيْنَاهَا ﴾ أي جعلناها سقفاً محفوظاً رفيعاً، ﴿ بِأَييْدٍ ﴾ أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد، ﴿ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ أي قد وسعنا أرجاءها، ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي، ﴿ والأرض فَرَشْنَاهَا ﴾ أي جعلناها فراشاً للمخلوقات، ﴿ فَنِعْمَ الماهدون ﴾ أي وجعلناها مهداً لأهلها، ﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾ أي جميع المخلوقات أزواج : سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات ولهذا قال تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ أي لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له، ﴿ ففروا إِلَى الله ﴾ أي الجأوا إليه واعتمدوا عليه في أموركم عليه، ﴿ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ أي لا تشركوا به شيئاً ﴿ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾.
يقول تعالى مسلياً لنبيّه ﷺ : وكما قال لك هؤلاء المشركون، قال المكذبون الأولون لرسلهم ﴿ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ قال الله عزّ وجل :﴿ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ ﴾ ؟ أي أوصى بعضهم بعضاً بهذه المقالة؟ ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾، أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم، فقال متأخرهم كما ق متقدمهم، قال الله تعالى :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ﴾ أي فأعرض عنهم يا محمد، ﴿ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ يعني لا نلومك على ذلك، ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين ﴾ أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة، ثم قال جلّ جلاله :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم، وقال ابن عباس :﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ أي إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج : إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنَس إلا للعبادة، وقوله تعالى :﴿ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين ﴾، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أقرأني رسول الله ﷺ :﴿ إني أنا الرزاق ذو القوة المتين ﴾، ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه واحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم، وفي الحديث القدسي :« يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ».
وقد ورد في بعض الكتب الإلهية : يقول الله تعالى :« ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء » وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً ﴾ أي نصيباً من العذاب، ﴿ مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ ﴾ ذلك فإنه واقع لا محالة، ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ ﴾ يعني يوم القيامة.
Icon