تفسير سورة الذاريات

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

ففي هذا الثناء على إبراهيم صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة :
أحدها : أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. وهذا على أحد القولين : أنه بإكرام إبراهيم لهم، والثاني : أنهم المكرمون عند الله. ولا تنافي بين القولين : فالآية تدل على المعنيين.
الثاني : قوله تعالى :﴿ إذ دخلوا عليه ﴾ فلم يذكر استئذانهم. ففي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم. فصار منزله مضيفة مطروقا لمن ورده، لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل إليه دخوله. وهذا غاية ما يكون من الكرم.
الثالث : قوله :﴿ سلام ﴾ بالرفع. وهم سلموا عليه بالنصب. والسلام بالرفع أكمل. فإنه يدل على الجملة الإسمية الدالة على الثبوت والتجدد، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد. فإبراهيم صلى الله عليه وسلم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم. فإن قولهم :﴿ سلاما ﴾ يدل على : سلمنا سلاما، وقوله :﴿ سلام ﴾ أي سلام عليكم.
الرابع : أنه حذف المبتدأ من قوله :﴿ قوم منكرون ﴾ فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال : أنتم قوم مكرمون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام.
الخامس : أنه بنى الفعل للمفعول، وحذف فاعله، فقال :﴿ منكرون ﴾ ولم يقل : أني أنكركم. وهو أحسن في هذا المقام، وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.
السادس : أنه راغ إلى أهله ليحييهم بنُزُلهم. و«الروغان » : هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به. وهذا من كرم رب المنزل المضيف : أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي. فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه وهو يقول له، أو لمن حضر : مكانكم حتى آتيكم بالطعام، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.
السابع : انه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة. فدل على أن ذلك كان معدا عندهم مهيئا للضيفان. ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه، أو غيرهم فيشتريه، أو يستقرضه.
الثامن : قوله تعالى :﴿ فجاء بعجل سمين ﴾ يدل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل :«فأمر لهم »، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه. وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
التاسع : أنه جاء بعجل كامل، ولم يأت ببضعة منه. وهذا من تمام كرمه صلى الله عليه وسلم.
العاشر : أنه سمين لا هزيل. ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.
الحادي عشر : أنه قربه إليهم بنفسه، ولم يأمر خادمه بذلك.
الثاني عشر : أنه قربه إليهم بنفسه، ولم يقربهم إليه. وهذا أبلغ في الكرامة : أن تجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه، وتحمله إلى حضرته، ولا يضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه.
الثالث عشر : أنه قال :﴿ ألا تأكلون ﴾ وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله : كلوا، أو مدوا أيديكم ونحوها. وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه. ولهذا يقولون : بسم الله، أو ألا تتصدق ؟ أو إلا تجبر ؟ ونحو ذلك.
الرابع عشر : أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل قال لهم :﴿ إلا تأكلون ﴾ ولهذا أوجس منهم خيفة، أي أحسها وأضمرها في نفسه، ولم يبدها لهم. وهو :
الوجه الخامس عشر : فإنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم، ولم يظهر لهم الخوف منهم. فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا :﴿ لا تخف ﴾ وبشروه بالغلام الحليم.
فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي اشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف : إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم.
وكفى بهذه الآداب شرفا وفخرا. فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما، وعلى سائر النبيين.
Icon