تفسير سورة الذاريات

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة والذاريات
مكية
سورة والذاريات مكية١.
١ انظر: تفسير القرطبي ١٧/٢٩، وابن كثير ٤/٢٣٢، والدر المنثور ٧/٦١٣، والبرهان ١/١٩٣..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة والذاريات
مكية
سورة والذاريات مكية. قوله: (وَالذَّارِيَاتِ) إلى قوله (مُحْسِنِينَ) الآيات [١ - ١٦].
المعنى: ورب الرياح الذاريات ذروا. يقال: ذَرَتِ الرِّيحُ الشَّيءَ: إذا فَرَّقَتْهُ، وأَذْرَتْهُ فَهِيَ مَذْرِيَّة.
ورب السحاب الحاملات وقراً، يعني موقرة من ماء المطر، يعني مثقلة من المطر.
أي: ورب السفن الجاريات يسراً: أي: جرياً سهلاً.
قال: ﴿فالمقسمات أَمْراً﴾ أي: ورب الملائكة المقسمات بأمر الله الأمر من عنده بين خلقه.
قال الفراء: ﴿فالمقسمات أَمْراً﴾ يعني: الملائكة (تأتي بأمر مختلف) جبريل / صاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت، فتلك قسمة الأمر، والجواب عن هذه الأقسام:
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدين لواقع﴾ يعني: البعث والجزاء، والجنة والنار.
قال أبو الطفيل: شهدت علي بن أبي طالب بخطب وهو يقول: سلوني فوَالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا أعلمتكم به، وسلوني عن كتاب
7070
الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل، فقام إليه ابن الكواء فقال: ما والذاريات ذرواً، فالحاملات وقراً، فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً، (فقال علي): ويلك، سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، والذاريات ذوراً: الريح، فالحاملات وقراً: السحاب، فالجاريات يسرا: السفن، فالمقسمات أمرا: الملائكة، وهو قول ابن عباس.
وقد قيل: إن الحاملات وقراً السفن تحمل أثقال بني آدم بأمر الله تعالى.
وقيل: هي الرياح؛ لأنها تحمل السحاب من بلد إلى بلد فتسوقه.
7071
وقوله ﴿لَصَادِقٌ﴾ معناه لصدقه، فوقع الاسم في موضع المصدر، كما يأتي المصدر في موضع الاسم نحو: هو رجل عدل: أي: عادل، ورجل رضى أي: مرضي ودرهم وِزْنُ الأمير: أي: مَوْزُونُه.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الدين لواقع﴾ أي: وإن الجزاء بالأعمال لواقع يوم القيامة كائن لا محالة فيه.
أي: ورب السماء ذات الخلق الحسن.
فقال ابن عباس: ذات الحبك: هو حسنها واستواؤها.
وقال أبو مالك: وأبو صالح وعكرمة ذات الحبك: ذات الخلق الحسن.
فقال ابن عباس: ذات الحبك: هو حسنها واستواؤها.
وقال أبو مالك: وأبو صالح وعكرمة ذات الحبك: ذات الخلق الحسن.
وقال الحسن: ذات النجوم. قال: حُبِكَتْ بالخَلقِ الحَسَنِ: حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ.
7072
وقال أبو عبيدة: ذات الحبك: ذات الطرائق، يقال للرمل والماء إذا ضربتهما الريح فصارت فيهما طرائق حبائك.
قال الأخفش: واحد الحُبُك: حِبَاك.
وقال الكسائي والفراء: يقال حِبَاك وَحَبِيكة، ويقال لِتَكَسُّرِ الشَّعر الجعد حُبُكٌ، وحباك الحمام: طرائق على جناحيه، وطرائق الماء حُبُكه.
قال ابن جبير: ذات الحبك: ذات الزينة.
وروى البكالي عن عبد الله بن عمر والسماء ذات الحبك: قال: هي السماء السابعة.
وجواب القسم قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾، (أي: منكم مصدق
7073
بهذا القرآن مكذب به).
قال الحسن: ﴿لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾: (أي: في أمر النبي ﷺ).
قال (ابن زيد): اختلافهم أن بعضهم يقول هو سحر، وبعضهم يقول غير ذلك.
أي: يصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف عنه في اللوح المحفوظ. قاله الحسن.
وقيل: معناه يصرف عن الإيمان ناساً / إذا أرادوه بقولهم وكذِبِهم من صُرِف؛ لأنهم يقولون لمن أراد الإيمان هو سحر وكهانة، فيصرف عن الإيمان.
قال ابن عباس: معناه لعن المرتابون.
قال ابن زيد: قتل الخراصون يخرصون الكذب، يقولون شاعر ساحر
7074
وكهانة، وأساطير الأولين اكتتبها.
قال مجاهد: معناه قتل الخراصون الذين يقولون لسنا نبعث.
وقال الفراء: معناه: لعن الكاذبون الذين يقولون محمد مجنون وساحر شاعر كذاب يخترصون ما لا يعلمون.
ولا يعرف أهل اللغة " قُتِل " بمعنى " لُعِن " ومعناه على قول سيبويه والخليل وغيرهما أن هؤلاء ممن يجب أن يدعا عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين أو بعذاب من عند الله.
7075
قال ابن عباس: عني به الكهانة.
أي: هم في غمرة الضلالة، وغلبتها متمادون، وعن الحق ساهون لاهون.
قال مجاهد: ﴿فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾: قلوبهم في أكنة.
وقال أهل اللغة معناه: في تغطية الباطل والجهل غافلون.
أي: يسألون متى يوم الجزاء والحساب على طريق الإنكار له، يعني به هؤلاء الخراصين الذين تقدمت صفتهم.
أي: يعذبون.
قال الزجاج: " يوم هم " منصوب بإضمار فعل التقدير، يقع الجزاء في يوم هم على النار يعذبون. وعلى " بمعنى " في "، أي: في النار يعذبون، وحسن ذلك كما وقعت في " بمعنى " على " في قوله: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١] أي: على جذوع
النخل وقيل " يوم هم " (في موضع رفع على البدل) من يوم الأول، لكنه بني على الفتح لأنه أضيف إضافة غير محضة.
وقيل بني لأنه أضيف إلى شيئين.
وقال سيبويه والخليل: ظروف الزمان غير متمكنة، فإذا أضيفت إلى غير معرب أو إلى جملة بنيت على الفتح.
أي: يقال لهم: ذوقوا عذابكم هذا الذي كنتم به في الدنيا تستعجلون إنكاراً واستهزاء.
قال قتادة: يفتنون: ينضجون بالنار.
وقال سفيان: يحرقون.
قال المبرد: هو من فَتَنْتَ الذَّهَب والفِضَّة إذا أحْرَقْتَهُما لتَخْتَبرهما وتُخَلِّصهما. فالتقدير عند من قال هذا: يوم هم على النار يفتنون: يختبرون فيقال
ما سلككم في سقر.
وعن ابن عباس: فتنتكم؛ أي: تكذيبكم، أي: عقاب تكذيبكم.
أي: إن الذين اتقوا ربهم بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا في بساتين وعيون ماء في الآخرة.
قال: ﴿آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي: آخذين في الدنيا، وعاملين بما أفترضه عليهم ربهم من فرائضه وطاعته.
قال ابن عباس: آخذين ما أتاهم ربهم، قال: الفرائض.
وقيل معناه آخذين ما أتاهم ربهم في الجنة، وهو حال من المتقين في القولين جميعاً إلا أنك إذا جعلته في الجنة، كانت حالاً مقدرة.
ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ أي: كانوا في الدنيا قبل دخولهم الجنة محسنين في أعمالهم الصالحة لأنفسهم.
وقال ابن عباس: ﴿قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ أي: قبل أن تفترض عليهم الفرائض.
قوله ﴿كَانُواْ قَلِيلاً﴾.
قال قتادة: معناه: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون: أي: قليلاً الوقت الذي لا يرقدون فيه (فما) بمعنى (لا).
قال قتادة: كانوا يتيقظون فيصلون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء.
قال قطرب: معناه ما مِنْ ليلة أتت عليهم إلا صلوا فيها.
7079
وقال ابن عباس: معناه أنه لم تكن (تمضي عليهم ليلة) لا يأخذون منها، ولو شيئاً.
وقال أبو العالية: معناه كانوا لا ينامون بين (المغرب والعشاء)، وعنه كانوا يصيبون في الليلة حظاً.
وقال الحسن: معناه أنهم (كابدوا) قيام الليل، فلا ينامون منه إلا قليلاً، وقاله (الأحنف بن قيس).
وروى ابن وهب أنه يراد بها ما بين المغرب والعشاء. قال: كانت الأنصار يصلون المغرب وينصرفون إلى قباء فبدا لهم، فأقاموا حتى صلوا العشاء، فنزلت الآية
7080
فيهم. وقوله: ﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: إنهم يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي ﷺ.
وقال الضحاك: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً﴾ مردود على ما قبله، وهو تمام الكلام، فالمعنى / أنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلاً، أي: كان المحسنون قليلا من الناس.
ثم ابتدأ ﴿مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ " فما " نافية على هذا القول، " وما " على القوال الأول مع الفعل مصدر.
وقال النخعي: معناه: كانوا قليلاً ينامون، فيحتمل أن تكون " ما " زائدة على هذا القول، وأن تكون والفعل مصدراً.
والهجوع في اللغة: النوم، وهو قول ابن عباس والنخعي والضحاك وابن زيد.
7081
وروى ابن وهب عن مجاهد أنه قال في معنى الآية: كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا أصابوا منها خيراً.
وروى ابن وهب أيضاً في جامعه عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن ناساً كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار من أول الليل [ثم يهجعون قليلاً ثم يصلون آخر ذلك قال الله تعالى: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾] يعني: في نضحهم.
7082
ثم قال: ﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فكأنه تعالى مدحهم أنهم لم يشغلهم في أول الليل، وتعبهم في النضح حتى قاموا يصلون في آخر الليل.
ثم قال: ﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، قال الضحاك: معناه يقومون فيصلون، أي: كانوا يقومون وينامون، وهو قول مجاهد.
وقال الحسن: (مدوا الصلاة وبسطوا) حتى كان الاستغفار في السحر، يعني الاستغفار من الذنوب.
قال ابن زيد: هو الاستغفار، قال وبلغنا أن نبي الله يعقوب ﷺ حين سأله بنوه أن يستغفر لهم، فقالوا: ﴿قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ﴾ [يوسف: ٩٨] قال: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي﴾ [يوسف: ٩٨]، أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر.
قال: وقال بعض أهل العلم أن الساعة التي تفتح فيها أبواب الجنة هي في السحر.
قال ابن زيد: السحر: السدس الآخر من الليل.
7083
وروى حماد بن سلمة عن الجريري أن داود عليه السلام سأل جبريل عليه السلام أي: ساعة من الليل أسمع، قال: لا أدري إلا أن العرش يهتز في السحر.
قال الجريري: فذكرت هذا لسعيد بن أبي الحسن، فقال: أما ترى أن ريح الرياحين يفوح في السحر.
أي: وفي أموال المتقين المحسنين الذين تقدمت صفتهم أنهم في جنات وعيون حق لسائلهم المحتاج إلى ما في
7084
أيديهم والمحروم. وهذه الآية محكمة. في قول الحسن والنخعي، قالا في المال / حق سوى الزكاة.
وقال الضحاك وغيره: هذه الآية منسوخة بالزكاة.
قال الضحاك نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن.
وللعلماء في المحروم ثمانية أقوال:
قال ابن عباس: السائل: الذي يسأل، والمحروم: الذي لا يبقى له مال وعنه أيضاً أنه قال: المحروم: المحارف.
وقال محمد بن الحنفية المحروم: الذي لم يشهد الحرب، فيكون له سهم في الغنيمة.
7085
وقال زيد بن أسلم: المحروم الذي لحقته جائحة فأتلفت زرعه.
وقال الزهري: المحروم: الذي لا يسأل الناس إلحافاً.
وروى عنه ابن وهب أنه قال: المحروم: المتعفف الذي لا يسأل إلحافا، ولا يعرفون مكانه ليتصدقوا عليه، وتصديق قول الزهري ما روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه [قيل] له: " من المسكين يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له فيعطى، ولا يسأل الناس " ".
وقال عكرمة: المحروم الذي لا ينمى له شيء.
والقول الثامن: يروى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهـ أنه قال:
7086
المحروم: الكلب.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: المحروم: الفقير الذي يحرم الرزق.
والوقف عند يعقوب في الآية ﴿كَانُواْ قَلِيلاً﴾ على قول الضحاك، وتفسيره أي: كان الناس الذين هم محسنون قليلاً.
وكذلك روي عن نافع، وقد تقدم ذكر ذلك.
قوله: ﴿وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾.
أي: وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين بالله إذا ساروا فيها.
قال قتادة: في الأرض معتبر لمن اعتبر.
وقال ابن جبير: إذا ساروا في الأرض رأوا عبراً، وآيات عظاماً. ثم قال: ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾.
7087
قال ابن الزبير: معناه وفي سبيل الخلاء، يعني سبيل الغائط [والبول] من أنفسكم أفلا تبصرون، أي: في خلق ذلك وتدبيره وتيسيره عبرة لمن اعتبر.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين أفلا تبصرون.
وقيل: هو على الحذف / لدلالة الأول عليه تقديره وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون.
وقال قتادة: معناه أن يتفكر الإنسان في نفسه فيعرف أنه إنما لينت مفاصله للعبادة.
وقال ابن زيد: معناه: وفي خلقكم من تراب وجعله لكم السمع والبصر والفؤاد وغير ذلك [عبرة] لمن أعتبر، وهو مثل قوله ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم: ٢٠].
7088
وقيل: معناه: وتأكلون وتشربون في مدخل واحد ويخرج من موضعين.
يعني: المطر الذي يخرج به النبات قاله الضحاك وسفيان ابن عيينة وغيرهما.
وقال الثوري: معناه ومن عند الله الذي في السماء رزقكم.
وقيل: معناه: وفي السماء تقدير رزقكم، أي: فيها مكتوب يرزق فلان كذا وفلان كذا.
وقال مجاهد: معنى: ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [يعني من خير وشر.
وقال الضحاك معناه: وما توعدون] من الجنة والنار في السماء هو.
وقال سفيان [بن عيينة]: ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾: يعني الجنة.
قال: ﴿فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ هذا قسم الله جل ذكره بنفسه، أن الذي أخبرهم به من أن رزقهم في السماء وفيها ما يوعدون حق، كما أنهم ينطقون حق.
قال الحسن: بلغني أن النبي ﷺ قال: " قاتل الله تعالى أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه " ومن نصب " مثل " فهو عند سيبويه مبني لما أضيف إلى غير متمكن ونظيره ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ [هود: ٦٥] في قراءة من فتح.
وقال الكسائي: هو نصب على القطع، ونصبه الفراء على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره إنه (لحق كمثل ذلك حقاً) مثل نطقكم، وأجاز أن يكون أنتصب على حذف الكاف، والتقدير عنده " أنه لحق كمثل ما أنكم "، فلما حذف الكاف نصب، وأجاز زيد مثلك بالنصب على تقدير حذف الكاف، ويلزمه على هذا أن يجيز " عبد الله الأسد " بالنصب على تقدير " كالأسد "، فينصبه إذا حُذف الكاف، وهذا لا
يجيزه أحد.
وقد امتنع من إجازته الفراء وغيره، واعتذر في جوازه مع " مثل " أن الكاف تقوم مقام " مثل " فأما من رفعه، فإنه جعله نعتاً لحق.
هذه الآية تنبيه للنبي ﷺ أنه يحل بقومه إن تمادوا على غيهم ما أحل بقوم لوط، ومذكر قريشاً لما فعل بالأمم قبلهم، إذ كفروا وعصوا ليزدجروا ويتعظوا، وإنما قيل لهم " المكرمين " لأن إبراهيم وسارة خدماهم بأنفسهما على جلالة قدرهما.
وقال مجاهد: أكرمهم إبراهيم وأمر أهله لهم بالعجل.
وقيل إنما وصفوا [بذلك] لأن الله أكرمهم واختارهم إذ أرسلهم إلى إبراهيم وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل (صلوات الله عليهم).
قال: ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ أي: حين دخلوا على إبراهيم: ﴿فَقَالُواْ سَلاَماً﴾ أي: سلَّموا سلاماً.
وقال المبرد: معناه / سلمنا سلاماً، فهو مصدر عنده.
وأبو حاتم يرى أن " سلاماً " وقف كاف، قال سلاماً كاف أيضاً.
قوله: ﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ أي: قال لهم إبراهيم سلام عليكم. ومن قرأ سلام فمعناه قال لهم إبراهيم: أنتم سلام ﴿قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ أي: ننكركم ولا نعرفكم.
قال: ﴿فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ﴾ أي: عدل إليهم، ورجع في خفية.
﴿فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ جاء أضيافه بعجل مشوي سمين، وكان عامة مال إبراهيم ﷺ البقر.
في هذا الكلام حذف، والتقدير: فقربه إليهم فأمسكوا عن الأكل، فقال: ألا تأكلون؟
﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ أي: أضمر في نفسه منهم خوفاً حين امتنعوا من الأكل.
﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ﴾ أي: عليم إذا كبر.
قال مجاهد: هو إسماعيل، وقال غيره هو إسحاق.
ومذهب الطبري. وهو الصواب إن شاء الله أنها: سارة الحرة، وأم إسماعيل إنما كانت أمة اسمها هاجر.
ويدل على أنه إسحاق قوله في موضع آخر ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾، فهذا نص ظاهر لا يحتاج إلى تأويل.
﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ﴾.
المعنى: فأقبلت امرأته سارة في صرة أي: في صيحة.
ومعنى أقبلت: أخذت في فعل الأمر، وليس هو بإقبال / نقلة من مكان.
7093
وهو كقول القائل (أقبل فلان يشتمني، أي: أخذ في ذلك).
وقال قتادة: في صرة: في رنة.
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: في صرة: في صيحة.
وقال بعضهم تلك الصيحة هو قوله: " فصكت وجهها ".
قال ابن عباس: لطمته.
وقال السدي: لما بشر جبريل عليه السلام سارة بإسحاق ضربت وجهها تعجباً.
وقال مجاهد: ضربت جبهتها تعجباً.
وقال سفيان: وضعت يدها على جبهتها تعجباً.
وقيل: إنما ضربت وجهها بأصابعها.
ثم قال: ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ أي: أنا عجوز عقيم فكيف ألد، والعقيم
7094
التي لا تلد.
﴿قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ أي: قالت لها الرسل هكذا قال ربك، أي: كما أخبرناك وقلنا لك.
﴿إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم﴾ أي: الحكيم في تدبيره خلقه، العليم بمصالحهم، وبما كان وبما كائن.
قال: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون﴾ أي: قال إبراهيم للرسل: ما شأنكم أيها الرسل وما نبأكم، قالوا: إنا أرسلنا ربنا إلى قوم مجرمين، أي: كافرين.
﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ﴾ أي: من السماء نرسلها عليهم. ومعنى ﴿مِّن طِينٍ﴾ من أجر مسومة عند ربك: أي: معلمة.
وقيل: معناه: مرسلة. من سومت الإبل: إذا أرسلتها.
وقال ابن عباس مسومة: مختوم عليها، يكون الحجر أبيض عليه نقطة سوداء، ويكون أسود عليه نقطة بيضاء. ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ أي: للمعتدين حدود الله تعالى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ لنرسل عليهم حجارة من طين ﴾ [ ٣٣ ] أي : من السماء نرسلها عليهم. ومعنى ﴿ من طين ﴾ من أجر مسومة عند ربك : أي : معلمة١.
وقيل : معناه : مرسلة. من سومت٢ الإبل : إذا أرسلتها٣.
وقال ابن عباس مسومة : مختوم عليها، يكون٤ الحجر أبيض عليه نقطة سوداء، ويكون أسود عليه نقطة بيضاء٥. ﴿ للمسرفين ﴾ أي : للمعتدين حدود الله عز وجل٦.
وعن ابن عباس في " مسومة " أنها المعلمة٧ بعلامة تعرف بها الملائكة أنها للمسرفين في المعاصي٨.
وقيل : إنه كان مكتوب على كل حجر اسم من يهلك به٩.
١ ساقط من ع..
٢ ع: "مرسومة" وهو تحريف..
٣ انظر: الصحاح ٥/١٩٥٥، ومفردات الراغب ٢٥١، واللسان ٢/٢٤٥..
٤ ع: "يكون"..
٥ انظر: جامع البيان ٢/٢٧..
٦ ساقط من ع..
٧ ع: "العلمة"..
٨ انظر: البحر المحيط ٨/١٤٠..
٩ انظر: البحر المحيط ٨/٤٠..

وعن ابن عباس في " مسومة " أنها المعلمة بعلامة تعرف بها الملائكة أنها للمسرفين في المعاصي.
وقيل: إنه كان مكتوب على كل حجر أسم من يهلك به.
قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين (*) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ أي: من كان في قرية لوط وهي " سدوم " وهم لوط وابنتهاه، أنجاهم الله مع لوط. وجاز إضمار القرية ولم يجر لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم. وقيل الهاء في " فيها " للجماعة. ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا﴾ أي: في القرية ﴿غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ وهو بيت لوط.
قال ابن زيد: ما كان مع لوط مؤمن واحد، وعرض عليهم أن ينكحوا بناته رجاء أن يكون له منهم عضد يعينه (ويدفع عنه)، ﴿قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ يريد النكاح فأبوا عليه.
قال قتادة: لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم الله ليعلموا أن الإيمان عند الله محفوظ فلا ضيعة على أهله.
أي: أبقينا في قرية لوط عبرة وعظة لمن خاف عذاب الله؛ لأنها انقلبت بأهلها، فصار أعلاها أسفلها، وأرسلت الحجارة على من غاب منهم عن القرية.
والمعنى عند الفراء: وتركناها آية، " وفي " زائدة.
قوله: ﴿وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ﴾.
أي: وفي موسى آية أيضاً إذ أرسلناه إلى فرعون بمصر.
﴿بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي: بحجة تبيّن لمن رآها حجة لموسى ﷺ على صحة ما يدعو إليه، فهو معطوف على " وفي الأرض " (ومثله " وفي ثمود " كله معطوف بعضه على بعض مع الاعتراضات بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك " وقوم
نوح " على قراءة من خفضه هو معطوف أيضاً على " وفي الأرض ").
قال: ﴿فتولى بِرُكْنِهِ﴾ أي: فأدبر فرعون بجنوده وقومه عن الإيمان لما أتته الآيات البينات.
قال مجاهد: بركنه: بجنده وبأصحابه.
وقال قتادة: بركنه: بقوته.
وقال ابن زيد: بركنه: بجموعه التي معه.
وقرأ: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: ٧٩] أي: لو أن لي قوة من الناس، أو آوي إلى ركن / أجاهدكم به.
قال الفراء بركنه: بنفسه.
وحقيقة بركنه في اللغة، بجانبه الذي يتقوى به.
ثم قال: ﴿وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ أي: قال ذلك فرعون في موسى.
قال أبو عبيدة: إن " أو " بمعنى الواو و " أو " على بابها عند البصريين، ومعناها أنهم قالوا: هو ساحر يسحر عيون الناس أو هو مجنون به جنة.
قال: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم﴾ أي: أخذنا فرعون وجنوده بالغضب فألقيناهم في البحر فغرقناهم. وقوله: ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ معناه: وفرعون مسلم؛ أي: أتى ما يلام عليه.
قال: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح﴾ [أي: وفي عاد عبرة أيضاً وعناية لكم حين أرسلنا عليهم الريح] التي قد عقمت عن الخير، لا رحمة فيها ولا تلقح / نباتاً ولا تثير سحاباً.
7099
وروى ابن أبي الدنيا أن الريح كانت تمر بالمرأة في هودجها فتحملها [وبالقوم من عاد فتحملهم وبالإبل والغنم فتحملها]، وتمر بالعادي الواحد بين القوم فتحمله من بينهم والناس ينظرون، (ولا) تحمل إلا عادياً.
قال ابن المسيب: هي الجنوب.
7100
وكان النبي ﷺ يقول: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور.
وقال علي بن أبي طالب: هي النكباء.
وقال عبيد بن عمير: الريح العقيم تحت الأرض الرابعة، وإنما أرسل منها في بلاد عاد بقدر منخر الثور.
وقوله: ﴿كالرميم﴾ معناه كالنبت إذا يبس ودرس، وأصل الرميم: العظم البالي المتقادم.
وقال ابن عباس: كالرميم: كالشيء الهالك، وقال مجاهد: وقال قتادة:
7101
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:ثم قال :﴿ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح ١ [ ٤١ ] أي : وفي عاد عبرة أيضا وعناية لكم حين أرسلنا عليهم الريح ٢ ] التي قد عقمت عن الخير، لا رحمة فيها ولا تلقح/ نباتا ولا تثير سحابا ٣.
وروى ابن أبي ٤ الدنيا أن الريح كانت تمر بالمرأة في هودجها ٥ فتحملها [ وبالقوم من عاد فتحملهم وبالإبل والغنم فتحملها ٦ ]، وتمر بالعادي ٧ الواحد بين ٨ القوم فتحمله من بينهم والناس ينظرون، ( ولا ٩ ) تحمل إلا عاديا ١٠.
قال ابن المسيب ١١ : هي الجنوب ١٢.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ١٣.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هي النكباء ١٤.
وقال عبيد بن ١٥ عمير : الربح العقيم تحت الأرض الرابعة، وإنما أرسل منها في بلاد عاد بقدر منخر الثور ١٦.
وقوله :﴿ كالرميم ﴾ معناه كالنبت إذا يبس ودرس، وأصل الرميم : العظم البالي ١٧ المتقادم ١٨.
وقال ابن عباس : كالرميم ١٩ : كالشيء الهالك، وقال مجاهد :٢٠ وقال قتادة : كالرميم رميم الشجر ٢١.
١ ع: "الريح العقيم"..
٢ ساقط من ح..
٣ انظر: العمدة ٢٨٢، وزاد المسير ٨/٣٩..
٤ هو عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن أبي الدنيا القرشي الأموي مولاهم البغدادي أبو بكر: حافظ للحديث، مكثر من التصنيف، له مصنفات بلغت ١٦٤ كتابا، وكان من الوعاظ العارفين بأساليب الكلام. وما يلائم طبائع الناس، مولده ببغداد، سمع من المشايخ، وروى عنه جماعة وآخر من روى حديثه بعلو فخر الدين ابن البخاري (ت ٢٨١ هـ).
انظر: تهذيب التهذيب ٦/١٢، وتذكرة الحفاظ ٢/٦٧٧، وفوات الوفيات ٢/٢٢٨، وفهرست ابن النديم ٢٧٦، وفهرست بن خير ٢٨٢، وتاريخ بغداد ١٠/٨١..

٥ ع: "هدجها" وهو تحريف..
٦ ساقط من ح..
٧ ع: "العاد"..
٨ ع: "من بين"..
٩ ساقط من ع..
١٠ انظر: البحر المحيط ٨/١٤١..
١١ هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر وأقضيته حتى سمي راوية عمر، وقد أسند عن عثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وآخرون (ت ٩٤ هـ).
انظر: طبقات ابن سعد ٩/١١٩، وحلية الأولياء ٢/١٦١، وصفة الصفوة ٢/٤٤. ووفيات الأعيان ٢/٣٧٥..

١٢ انظر: العمدة ٢٨٢ وجامع البيان ٤/٢٧..
١٣ أخرجه البخاري في كتاب: الاستسقاء، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا ٢/٢٢، وفي كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى ﴿وهو الذي يرسل الرياح نشر بين يدي رحمته﴾ ٤/٧٦، وفي الأنبياء: باب: قول الله عز وجل ﴿وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر﴾، وفي المغازي، باب: غزوة الخندق ٥/٤٧ ومسلم في كتاب: الصلاة، باب: في ريح الصبا والدبور ٦/١٩٧.
وأخرجه البغوي في شرح السنة، باب: الخوف من الريح ٤/٣٨٧. والسيوطي في الجامع الصغير ٢/٦٧٤..

١٤ انظر: الدر المنثور ٧/٦٢٢..
١٥ هو عبيد بن عمر بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قاله مسلم، وعده غيره في كبار التابعين، وكان قاض أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر (ت ٩٤ هـ). انظر: عنه حلية الأولياء ٣/٥٤٤، وتذكرة الحفاظ ١/٥٠، وطبقات القراء ١/٤٩٦، وتقريب التهذيب ١/٥٤٤، والاستيعاب ٣/١٠١٨..
١٦ انظر: تفسير القرطبي ١٧/٥٠..
١٧ ساقط من ع..
١٨ انظر: الصحاح مادة رمم ٥/١٩٣٨، واللسان ١/١١٢٩، و القاموس المحيط ٤/١٢٢..
١٩ ع: "كالرميم معناه كالشيء"..
٢٠ انظر: تفسير مجاهد ٦٢٠، وجامع البيان ٢٧/٥، وتفسير القرطبي ١٧/٥٠، والدر المنثور ٧/٦٢٢..
٢١ انظر: جامع البيان ٢٧/٥، والدر المنثور ٧/٦٢٢..

كالرميم رميم الشجر.
قال: ﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ عبرة وعظة. ﴿إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ﴾ إلى ثلاثة أيام.
﴿فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾ وقيل معناه: تمتعوا إلى وقت فناء آجالكم. أي قال: ﴿فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ أي: تكبروا عن طاعة ربهم.
قال مجاهد: عتوا: علوا. وقال ابن زيد العاتي: العاصي التارك لأمر الله.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة﴾ أي: صاعقة العذاب.
﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ أي: فجأة، ومعنى ينظرون أي ينتظرون، لأنهم وعدوا بالعذاب قبل نزوله بثلاثة أيام، وجعل لنزوله علامات. فظهرت العلامات في الثلاثة الأيام، فأصبحوا في اليوم الرابع موقنين بالعذاب ينتظرون حلوله.
قال: ﴿فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ﴾ أي: فما استطاعوا من دافع لما نزل لهم من عذاب الله، ولا قدروا على نهوض به.
ثم قال: ﴿وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ﴾ أي: وما كانوا يقدرون على أن يستقيدوا ممن عاقبهم.
قال قتادة: معناه: وما كانت لهم قوة يمتنعون بها من العقوبة.
من نصب " قوماً " عطفه على الهاء، والميم في فأخذتهم الصاعقة أي: أخذتهم وأخذت قوم نوح.
وقيل التقدير: وأهلكت قوم نوح.
وقيل التقدير: وأذكر قوم نوح.
وقيل هو معطوف على الهاء في قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ﴾ أي: أخذنا فرعون وجنوده وأخذنا قوم نوح؛ لأن الفريقين ماتوا بالغرق.
ومن خفض عطفه على عاد، وفي عاد، وفي قوم نوح، والتقدير على
الخفض: وفي قوم نوح أيضاً عبرة وعظة لكم إذا أهلكناهم من قبل ثمود لما كفروا وكذبوا نوحاً.
﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ أي: خارجين عن الحق مخالفين لأمر الله، فكله معطوف على ﴿وَفِي الأرض آيَاتٌ﴾.
قوله: ﴿والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ﴾.
نصب السماء على فعل مضمر تقديره: " وبنينا السماء بنيناها بأيد " أي: بقوة وقدرة، أي: والسماء رفعنا سقفها بقوة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسفيان وغيرهم.
﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ أي: لذوو سعة بخلقها وخلق ما شئنا أن نخلقه.
أي: والأرض جعلناها فراشاً للخلق ومهاداً، فنعم الماهدون نحن لهم.
قال: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ التقدير: ومن كل شيء خلقناه زوجين، أي: جنسين ذكراً وأنثى وحلواً وحامضاً، قاله ابن زيد والفراء.
وقيل معناه: خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة، والهدى والضلالة والإيمان والكفر، والليل والنهار، والسماء والأرض، والإنس والجن. قاله مجاهد.
وقال الحسن: هو مثل الشمس والقمر.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي: فعلنا ذلك لعلكم تعتبرون فتعلمون أن القادر على ذلك مستوجب للعبادة / والطاعة.
قال: ﴿ففروا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ﴾ أي: فاهربوا من عذاب الله إلى الله بالإعمال الصالحات.
﴿إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: أنذركم عقابه، وأبين لكم النذارة. (وقيل معناه: فروا إلى الله من أمر الله). س
قال: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي: لا تعبدوا إلهاً آخر، إنما هو
الله واحد، إني لكم منه نذير مبين كالأول. فالأول تخويف من الله لمن عصاه من الموحدين، والثاني تخويف لمن عبد معه غيره من المشركين، " وكذلك " تمام عند أبي حاتم وأحمد ابن موسى وعند غيرهما " مبين " الثاني، والكاف من " كذلك " إن وقفت عليها في موضع رفع، أي: الأمر / كذلك، ومن ابتدأ بها، فهي في موضع نصب.
أي: فعل قريش مثل فعل من كان قبلهم في قولهم للرسول ساحر أو مجنون، والتقدير كما كذبت قريش محمداً كذلك كذبت الأمم من قبلها رسلهم، وكما قالت في محمد قريش، كذلك قالت الأمم (قبلها، كأنهم تواصوا على ذلك).
أي: كما فعلت قريش بمحمد ﷺ وكذلك فعلت الأمم قبلها.
قال: ﴿أَتَوَاصَوْاْ بِهِ﴾ أي: أوصى بذلك بعضهم بعضاً.
قال قتادة: معناه: كأن الأول أوصى الآخر بالتكذيب.
ثم قال: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أي: لم يتواصوا بذلك لكنهم اتفقوا في الطغيان والعصيان فركبوا طريقة واحدة في التكذيب لرسلهم، والكفر بالله سبحانه.
قال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ أي: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين حتى يأتيك أمر الله فيهم.
﴿فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ أي: لا يلومك ربك على إعراضك عنهم.
وقال ابن زيد: معناه: بلغت ما أرسلناك به فلست بملوم.
قال قتادة: ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية اشتد على أصحاب النبي ﷺ، وظنوا أن الوحي قد أنقطع، وأن العذاب قد حضر فأنزل الله بعد ذلك ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾.
وقال الضحاك: التوالي منسوخ؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم، والموعظة لهم، والمعنى وذكِّر يا محمد من أرسلت إليه، فإن العظة تنفع أهل الإيمان بالله.
وقيل: المعنى: وذكَّرهم بالعقوبة والهلاك وبأيام الله.
وليس قوله ﴿فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ بوقف؛ لأنه لم يؤمر بالتولي فقط، بل أمر معه
بالتذكير. والتمام ﴿تَنفَعُ المؤمنين﴾.
يعني: من المؤمنين المتقدم ذكرهم، لم يخلق المؤمن من الجن والإنس إلا للعبادة.
يعني: من علم منهم أنه يؤمن، فخلقه لما علم منه، وهو الإيمان.
وقيل معنى الآية: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفوني، فكل الخلق مقر بالله عارف به كما قال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥].
وقيل المعنى: وما خلقت الجن والإنس إلا لأستعبدهم واختبرهم، فقد استعبد الجميع وأمرهم ونهاهم، فكفر فريق، وآمن فريق على ما علم منهم قبل خلقه لهم.
ويدل على أن الآية ليست على العموم كثرة من يموت قبل وجوب العبادة عليه، نحو الأطفال، وكثرة من يعيش معتوهاً لا تجب عليه عبادة، فدل ذلك على أن الآية خصوص فيمن علم منه العبادة والطاعة من الجن والإنس خلقه (له) ليعبده
7108
كما علم منه ذلك؛ فيجازيه على ذلك، لأن علمه بطاعتهم لا يجازون عليها حتى يخلقهم ويعملون، فخلقهم ليعملوا فتقع المجازات على ما ظهر من طاعتهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك، فإنما عني أنه خلق المؤمنين من الجن والإنس الذين تنفعهم الذكرى لعبادته فكانوا كذلك كما قال: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: ٢٩].
وقد قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ [الإنسان: ٥].
ثم قال: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ [الإنسان: ٦] يعني الأبرار خاصة المذكورين ليس يريد كل عباد الله، فهذا مثل ذلك، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ في الآية. معناها: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي اختياراً. (وقيل معناه: ما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليوحدون).
وقال ابن عباس: إلا ليعبدون؛ أي: من خلقت منهم لعبادتي خصوصاً يعني المؤمنين منهم.
7109
وقال زيد بن أسلم: إلا ليعبدون: هو ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة.
وقال سفيان، معناه: من خلق للعبادة منهم لم يخلق إلا لها.
وقال ابن عباس: لم يخلق الفريقين إلا ليقروا بالعبادة طوعاً وكرهاً، فيكون عاماً وعلى الأقوال الأول يكون مخصوصاً.
وقيل: المعنى ما خلقهم إلا ليأمرهم بالعبادة، فمن تقدم له منهم في علم الله الطاعة أطاع أمره، ومن تقدم له في علم الله المعصية عصى أمره.
قال ابن عباس: معناه: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل المعنى ما أريد أن يرزقوا أنفسهم، وما أريد
أن يطعموا عبادي /.
أي: إن الله هو الرزاق خلقه، المتكفل بأقواتهم. ذو القوة المتين: أي: ذو القوة الشديدة.
قال ابن عباس: المتين: الشديد.
قال: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ أي: فإن للذين أشركوا بالله من قريش نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الأمم الماضية التي أشركت كما أشركوا، وكذبت كما كذبوا.
وأصل الذَّنُوب: الدَّلْوُ العظيمة، وهي السجل كانوا يقتسمونها على الماء فيستسقى هذا حظه ونصيبه، وهذا حظه ونصيبه، فسمي الحظ والنصيب الذَّنُوب على الاستعارة.
وقوله: ﴿فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ﴾ [أي: فلا يستعجلوا] العذاب فإنه آتيهم كما أتى الأمم الماضية الكافرة مثلهم.
وقال ابن جبير معناه: فإن للذين ظلموا من قريش سجلاً من العذاب مثل سجل أصحابهم من الأمم الماضية، فلا يستعجلوا ذلك وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد.
أي: فقبوح لهم من يومهم.
وقيل المعنى: فالواد السائل في جهنم من قيح وصديد لهم في يوم القيامة.
Icon