تفسير سورة الذاريات

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
قوله تعالى: ﴿وَالذَّارِيَاتِ... (١)﴾
قال ابن عرفة: أكد (وَالذَّارِيَاتِ) بالمصدر ولم يذكر مفعولها، وذكر مفعول الحاملات ولم يؤكدها بالمصدر، فما السر في ذلك؟ قال: والجواب: أن الحمل لما كان حامله محسوسا مشاهدا حصل العلم بمحمول ما بالإطلاق، ولما كانت القرابة في شدة المحمول وقوته، صرح بمفعول يناسبه، وهو العظيم الثقل، فيستلزم قوة حامله، ولما كان لقاء الذاريات صالحا للقوة، والفعل أكده بالمصدر ليفيد أنها بالقوة والفعل.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥)﴾ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ)
أخذ من هنا بعضهم [أن*] اللازم في قول القائل: أنت طالق فأنت طالق فأنت طالق واحدة، وتقريره أن هذه الألفاظ مقتضيات للطلاق، وألفاظ القسم مقتضيات للجواب، والأصل تعدد المقتضي لتعدد المقتضى، فلما اكتفى [بهذا*] القسم هنا بجواب واحد؛ لزم كذلك في الطلاق، قال: والجواب: عن هذا بأن اقتضاء القسم للجواب أمر لغوي لفظي، لأن عند قوله تعالى: (فَالْحَامِلاتِ) [لو لم يأت*] الجواب لما أفاد شيئا.
قال ابن عرفة: [فائدة اقتضاء الطلاق*] لزوال العصمة أمر شرعي، بدليل أنه لو سكت عند قوله أولا أنت طالق لترتب الحكم عليه بالطلاق، ولو سكت عند قوله: (وَالذَّارِيَاتِ) (فَالْحَامِلاتِ) ولم يأت الجواب لما أفاد شيئا.
قال ابن عرفة: وفي هذه الآية رد على من يقول لَا يلزم المجتهد أن يحفظ من القرآن إلا [آيات*] الأحكام لاحتمال استنباط هذه الحكم، أعني لزوم واحدة الطلاق، فهذا الوجه وهو حكم شرعي وعدم حرمة اليمين بغير الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦)﴾
لا شك في وقوع الموعود به للزومية صدق الوعد سمعا، فما السر في التصريح به.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨)﴾.. ولم يقل: إنكم لذو قول مختلف مع أن ذو تدل على اتصاف القائل باختلاف القول حقيقة، فإنما عدل إلى اللفظ في الدال على ظرفية القول للقائل لأنه يلتزم اختلاف القائلين في القول، ويلزم التناقض بقوله: مختلف فهو أبلغ في القرابة، ولذلك أكده باللام [ولو*] أريد مجرد الاختلاف لما كان فيه قرابة؛ لأن مطلق اختلاف القول معلوم عندهم.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢)﴾
ابن عرفة: السؤال على قسمين: سؤال استرشاد، وسؤال لفت واستهزاء، فالأول: يستدعي الجواب، والثاني: لَا يستدعيه وهذه الآية من الثاني، فلذلك عدل عن الجواب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥)﴾
وجمع الجنات وأفردها في سورة التوبة، فقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فالجواب: عن الأول أن آية الطور تقدمها: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، فناسب تعقيبه بنقيضه وهو النعيم، وعن الثاني أنهم باعوا أنفسهم في مرضاة الله تعالى، فأقل ما يصدق عليه جنة، وكان أبلغ في مدحهم فناسب إفرادها، وأما هنا فلما كانوا في غاية [الإتيان*] بالتكاليف ناسب الجمع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦)﴾
هذا تعليل [آخر*]؛ أي المتقون في جنات ذات عيون لتقواهم وإحسانهم، قال ابن عرفة: وكان يمشي لنا سؤالا وهو ما السر في ذكر القبلية مع أن لفظة (كانوا) يدل عليها.
قال: والجواب: إن كان يدل على اقتران الفعل بالجملة في الماضي، وهي ظاهرة في الدوام فيحتمل عدمه، [فلما لم يقبل ذلك*] أفاد أن يكون في كون قبلية سابقة، وإنَّمَا قال: (وَبِالأَسْحَارِ... (١٨).. ولم يقل: وفي الأسحار؛ لأن الفاء تفيد أن الأسحار من وقت تحققها ظرفا للاستغفار، ولا تدل على أن الاستغفار يكون منهم قبلها بيسير، والباء تفيد الإلصاق وأفادتها [للاستغفار*] أبلغ.
قوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)﴾
وقال تعالى في سأل سائل (حَقٌّ مَعْلُومٌ)، قال: والجواب أنه لما صدر في سأل سائل بذم الإنسان في كونه (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا)، وأخرج منهم المسلمين بمدحهم فناسب ذلك الإطناب بذكر المعلومية أو ما تبرئه الذمة، وهنا لم يصدر بمدحهم في كل الأحوال وارتفاع درجتهم حتى كان أموالهم كلها للسائل لم يخص معلوما فكان عدم ذكره أبلغ، فقال: كذا كان يمشي لنا.
قوله تعالى: ﴿مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)﴾
ابن عرفة: كان يمشي لنا ما السر في تخصيص جواب القسم بنطقهم، ولم يقل: مثل ما أنكم تسمعون أو تبصرون أو تعقلون؟ فالجواب: بها ذكر في اللوامع أن النطق الذي هو مشتق من المنطق خلق في الداخل ونطق في الخارج، والداخل كان المراد به الذات وذات كل أحد الشعور بها وإدراكها ضروري بديهي، فصار التشبيه بها في غاية إفادة التحقيق للقسم له بالمقسم عليه، أي هو حق مثل: (مَا أَنَّكُمْ) أنتم بخلاف غيره فإِنه لَا يفيد هذا المعنى.
قوله تعالى: ﴿أَتَاكَ حَدِيثُ... (٢٤)﴾
فيه سؤالان:
الأول: لم قال هنا: (حَدِيثُ)، وفي سورة ص (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ)؟ وجوابه: أن تلك فيها غرابة فناسب التعبير بالنبأ.
الثاني: لم أتى بهذه الجملة غير معطوفة وعطف تلك؟ وجوابه: أن تلك تقدم ذكر بعضها بخلاف هذه.
قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ... (٢٥)﴾
قال السكاكي وغيره من البيانيين: سلام إبراهيم أبلغ لأنه عبر بالاسم المقتضي للثبوت، وسلام الملائكة بالنقل فجرى على أسلوب قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، انتهى، ويعترض هذا التأكيد فإن سلام الملائكة مؤكد بالمصدر المفيد إزالة الشك من الحديث، [فناب*] التأكيد مناب الثبوت الذي زاد به سلام إبراهيم فاستويا فليس أحدها أبلغ من الآخر، وجوابه: أن التأكيد بالمصدر إنما يفيد إزالة الشك عن الحديث في الخبر لأنه غير مشاهد، فإذا قلت: قام زيد، احتمل الحقيقة والمجاز، فأتى بالمصدر لرفع المجاز وتعيين إرادة الحقيقة، وأما الإنشاء فلا يزيد المصدر فيه، وذلك أن الإنسان إذا [قال:*] بعت لزمه البيع، وليس فيه مجاز، وهذه الآية السلام فيها من قبيل الإنشاء لَا من قبيل الخبر، فلم يزد فيها المصدر زيادة؛ فبقى الأمر على ما كان عليه من اقتضاء الفعل التجدد والاسم الثبوت، فسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبلغ من سلام الملائكة، فإن قلت: المصدر إنما يفيد إزالة الشك عن الحديث فهو يفيد تحقيق وقوع السلام منهم على ما هو عليه، وهو مدلول عليه بلفظ الفعل المقتضي للتجدد، فكان قبل المصدر
محتملا؛ لأن يكونوا أرادوا السلام حقيقة، أو معنى آخر يقاربه، وعلى تقدير أن يريدوه فهو سلام لمجرد [... ] فأزال المصدر الاحتمال الأول وبقي الثاني، قلت: التأكيد بالمصدر يزيل الشك عن الحديث فقط، والأمر أن يصيره كلام إبراهيم ويقوم مقام الثبوت فيه، فلما كان أبلغ فلا جواب عنه إلا ما قلنا، وتقدم في سورة هود تمام الكلام في هذا. الفخر في سورة براءة عند قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) في قول الرجل لغيره: (سلام عليك) لطائف، قال: ذكرتها وإن كان لا يناسب ذكرنا هذا الموضع خشية أن تضيع.
قال: قوله: (سَلامٌ) نكرة فيها معنى التعظيم الابتداء به؛ لأن في الكلام حذف صفتها، أي سلام تام كامل والخبر عليكم، أو هو صفة لسلام والخبر مقدر أي [كأئن*]، وقد يترجح حذف الخبر لقصد التهويل والتعظيم، وجوابه وعليكم السلام على عكس الترتيب الأول، وسببه قول سيبويه: إنهم يقدمون الاسم وأيضا فلدلالة على الحصر فيكون الجواب أبلغ، لقوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا)، وأما [مقول الرجل لغيره السلام عَليك معرفا*]، فالسلام لفظ مفرد يحلى بالألف واللام لَا يفيد إلا أصل الماهية ولا إشارة له بالأحوال العارضة لها، فإذًا كان التنكير أبلغ، وكذلك حيث ما جاء لفظ السلام من الله تعالى ورد منكرا، وإنما ورد معرفا من قول [عيسى*] صلى الله على نبينا محمد وعليه وسلم: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ)، وكذا اختار الشافعي في التشهد تنكير السلام، قال: وسبب مشروعية السلام بين المتلاقيين ليحصل به لكل واحد منهما اعتقاد سلامته من الآخر؛ لأن الأصل في طبع الجيران الشر على الصحيح، ودفع الشر أهم وآكد من جلب الخير، قلت: ومنه قول المتنبي:
الظُلْمُ من شيَمِ النّفوسِ فإن تجِدْ... ذا عِفَّةٍ [فلِعلَّةٍ*] لا يظْلِمُ
قال: وقوله: (عليكم) تقتضي مخاطبة جماعة، وذلك أن الإنسان لَا يخلو عن الحفظة من الملائكة وأرواح مجانسة له.
قوله تعالى: ﴿فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦)﴾
يدل على أن هذا العجل كان مشويا [... ] منه أهله، وأنه كان من عادته تهيئة الطعام [**برسم] من يرد عليه، أو أتاهم بما كان معدا لأهله.
قوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً... (٢٨)﴾
ذكر هنا الخوف منه، وقال في موسى: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فلم يذكر صفة الخوف فيه؛ لأن قائلا لَا تخف هنا الملائكة، وهناك الله تعالى فناسب عدم ذكر المخوف منه وعدم الامتثال به.
قوله تعالى: (بِغُلَامٍ عَلِيمٍ).
دليل على شرف العلم، ونقل ابن العربي في سراج المريدين، عن ابن فورك: أنه رأى الملائكة، ونقل أبو نعيم في الحلية، عن سفيان الثوري، أن الملك خاطبه في حكاية الحية، قال كاتبه، وخبر ابن عم والدي وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد أبو فارس عبد العزيز البسيلي: أنه [كان*] حين يقوم إلى صلاته بالليل يرى أن الملائكة تدخل عليه بيته وتسلم عليه في صفة طيور ذوي أجنحة.
قلت: ولما توفي رحمه الله صبيحة يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان عام أربعة وثمانين وسبع مائة رأيت كأني بين السماء والأرض وإذا برقعة هابطة من السماء، فيها مكتوب بخط بين: عبد العزيز البسيلي من أهل الجنة ودفن رحمه الله بمقبرة خالد أبو إسحاق إبراهيم البسيلي.
قال لي شيخنا أبو مهدي عيسى الغبريني: لم أر أحدا في زماننا على طريق السلف الصالح غيره.
قوله تعالى: ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ... (٣١)﴾
قدم المقول للمخاطب على ندائه؛ لأنه المقصود بالذات، ولما فهم من القرائن أنهم نزلوا للعذاب عبر بالخطب، وقال: (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) فعبر بالوصف الأعم فيهم وفي بني آدم، ولم يقل: أيها الملائكة فعبر بالوصف الأخص؛ لأن وصف الرسالة عند الله تعالى فيه تشريف وتعظيم، ولأن فيه إيماء إلى المرسل إليهم.
قوله تعالى: ﴿إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢)﴾
تنكير (قَوْمٍ) إما تعظيما لوصف الإجرام، أو ليفيد عموم تعلق العذاب بكل من اتصف بصفاتهم، لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب في النكرة يفيد قوة الشعور بما به ذلك الوصف للحكم أكثر من إفادته له في المعرفة.
قوله تعالى: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً... (٣٣)﴾
لم يقل: لنرمي عليهم حجارة؛ لاقتضاء مادة الرمي كونه بقصد، وقوة الإرسال تقتضي أن يكون عن غير قصد، فهو إشارة إلى أنهم قوم لَا [يُؤْبَهُ بهم*]، يشهد لهذا التفريق ما ذكره الفقهاء في رمي [الجمار*] وإرسالها.
وفي المدونة قال ابن القاسم: إن وضع الحصاة وضعا أو طرحها لم يجزه.
قوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَيْتٍ... (٣٦)﴾
أتى بدلالة الاقتضاء، ولم يقل: غير أهل بيت تشريفا للبيت، قيل على مذهب أهل السنة: أن الإيمان والإسلام متغايران يلزم أن يكون المخرج غير المخرج منه واللازم باطل فالملزوم مثله، إذ لَا يجوز أن يقول: أخرجنا من فيها من النَّاس فما وجدنا فيها غير البقر، وأجيب: بأنهما متغايران تغاير الأعم والأخص، كقولك: زيد عالم وزيد عليم، فتقول: أخرجت العلماء فما وجدت فيها إلا العليم أو العلامة، قيل: هذا في المثال يصح حيث يخرج شيء ويبقى شيء، وأما هنا فالمخرج منه إذ لم يبق فيها أحد من المؤمنين، أجيب: باحتمال أن يكون فيها بيوت جملة مؤمنين، لكنهم متفاوتون، بعضهم مؤمنون مسلمون، وبعضهم مؤمنون فقط، فأخرجوا في جماعة الأيك، فإِن قلت: لعل المراد أنهم كانوا منقسمين إلى مؤمن وكافر ولم يكن فيهم منافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، بل إنكارهم الكل كانوا متظاهرين بالمخالفة، قلت: هذا بعيد لأن العبرة بالباطن لَا بالظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَفِي مُوسَى... (٣٨)﴾
كررت قصة موسى عليه السلام في القرآن [لتكرار سؤال اليهود*] إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
[قدم*] ذكر فرعون على السلطان المبين؛ لأنه المقصود بالتخويف به.
أبو حيان: وهذا مثل:
علفتها تبناً وماء باردا
أي وسقيتها ماء، انتهى، يريد لأن مدينة قوم لوط تركت بحيرة مالحة يراه النَّاس اليوم على طريق الشام إلى الحجاز فتركت فيها آية، ولم يترك موسى عليه السلام آية بل جعل آية، فجاء التقدير: وجعلنا في موسى آية، مثل وسقيتها ماء.
قوله تعالى: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١)﴾
سلك في أول الآية مسلك التسلية بذكر اسم النبي، وإنما ذكر قومه الذي نزلت بهم العقوبة، وظاهر هذه الآية أن عاد أهلكت، خلاف ما يقتضيه قوله تعالى: في فصلت (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).
قوله تعالى: ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ... (٤٢)﴾
إما على حذف الصفة، أي من شيء منهم ومن أنعامهم، أو عام مخصوص بالمخالفة؛ لأنهم مسلمون.
قوله تعالى: (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ).
إن قلت: هلا قيل: جعلته رميما فهو أبلغ؟ قلت: الرميم هو الحالة التي يؤول إليها العظم والنبات، والمقصود هنا أن الريح أهلكتهم في الحال، لَا أنها صيرتهم إلى [الحال التي تؤول*] بهم إلى الرميم، ولم يقل: جعلته رميما [لاحتمال*] أمرين:
أحدهما حقيقة، وهو أنهم صاروا في الحال رميما.
والثاني: مجاز، وهو أنها أماتتهم فصاروا إلى حالة يؤول أمرهم فيها إلى الرميم، فلما قال: (كَالرَّمِيمِ) أفاد نفي احتمال ذلك المجاز، وأنهم في الحال شبهوا الرميم الذي تفتت من عظم وإنبات بطول القدم والمكث.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى حِينٍ (٤٣)﴾
ما بعد حتى داخل فيما قبلها، فالحين جواز زمنه التمتع.
قوله تعالى: ﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ... (٤٤)﴾
دليل على أن النهي عن الشيء أمر بضده؛ لأنهم كلفوا تكليفا عاما في الأمر والنهي، أو يقال: إن جميع ما كلفوا به نهي وسمي أمرا.
قوله تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ... (٤٦)﴾
إن قلت: لما أخرت قصة نوح عليه السلام مع تقدم زمانه على أزمان أهل القصص المتقدمة؟ قلت: لأن رسالته لما كانت عامة لأهل الأرض حقت به تلك القصص كما حقت النبوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قلت: لم علل هلاك قومه بنسفهم ولم يعلل إهلاك غيرهم؟ قلت: لتطاول زمانه وشدة مقاساته قومه.
فإِن قلت على قراءة حفص: إن كانت الواو للترتيب بطل قول الأصوليين، إن قولك: جاء زيد وعمرو قبله تناقض، وإن لم تكن للترتيب فما أفاد من قبل، قلت: إما أن يقول هي للترتيب في الذكر وإنَّمَا يلزم التناقض، وإن لم تكن للترتيب فما أفاد
(مِنْ قَبْلُ)، قلت: أما إذا كانت ظاهرة فيصح التصريح، بخلاف الظاهر فلا تناقض أو تقول: إنها ليست للترتيب، وذكر القبلية ليعلم إذ لَا يعلم ذلك عقلا والتاريخ فما اشتمل عليه القرآن العظيم.
قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ... (٤٧)﴾
برهان ودليل بعد الوعظ والتخويف، فإن قلت: لم أفرد السماء والمناسب باعتبار الفهم الجمع؛ لأنه إذا كان خلق السماوات بقوة فأحرى السماء الواحدة، قلت: الآية إنما سيقت لبيان أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأن ذلك دليل على كمال اتصافه بالقدرة والقوة الشديدة، فإذا كان خلق السماء الواحدة دليل على اتصافه بالقوة الشديدة، فأحرى أن يدل على ذلك خلق السماوات كلها، وقرئ برفعِ السماء والواو على ذلك [واو*] الحال لَا عاطفة، كما قال سيبويه في قوله تعالى: (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) والمعنى أن قوم نوح أهلكوا حالة وجود الدليل الدال على كمال قدرة الله تعالى وشدة بطشه.
ووقع في كلام القاضي الباقلاني ما يدل على أن السماء [كورية*]، لأنه لما دخل بلاد الروم رسولا عن الملك ناظره بعض النصارى، فقال له: كيف تزعمون أن القمر انشَّق لنبيكم ودخل نصفه تحت الأرض وبقي نصفه في السماء لو كان كذلك لرآه كل أفق؟ فقال له القاضي: يلزمكم هذا في المائدة التي نزلت على نبيكم هل انفردتم برؤيتها أو رآها جميع أهل الأرض، فانقطع الرومي، فقال له القاضي أبو بكر: الجواب: ما قلته أنك كما تشاهد كسوف الشمس والقمر في قطر دون قطر، وفي موضع صلاة الظهر وفي آخر وقت صلاة العصر، وكذلك يتصور اختصاص رؤية انشقاق بقطر دون قطر، انتهى. وهذا إنما يتم له على أن السماء [كورية*] وكذا الأرض، وأقوى أدلة المنجمين على أنها [كورية*] اختلاف أزمان الكسوف في الأقطار، [فتكسف*] الشمس عند باب تونس مثلا في أول النهار وفي أقصى المغرب بعد مضي ساعتين أو ثلاثا، ولو كانت بسيطة لزم استواء الجميع في وقت رؤية الكسوف، والأرض أصلها [كورية*] لكن [تتحدب*] بأشياء وضعت على أجنابها كما تؤخذ الكرة فتصير مثمنة أو مربعة فتتحدب.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ... (٤٩)﴾
المراد بذلك النقيضان كالحركة والسكون، والاجتماع والاقتران، والحياة والموت، والإسلام والكفر، والغَناء والفقر.
فإن قلت: فيه دليل لأهل السنة في أن الكفر مخلوق لله عز وجل ومراد له في كل شيء، قلت: إنما يتم ذلك لو قيل: وكل شيء مخلوق منه زوجان فنحن خلقناه، أو يقال: وكل شيء خلقنا زوجين مخلوقان لله تعالى، والآية إنما دل عمومها على أنه لم يقل شيئا منفردا؛ بل مع زوج مناظر له، فإن قلت: فلم يخلق الإسلام منفردا بل مع الكفر [المناقض*] له؟ قلت: المعتزلي يقول: إن العبد مستقل بفعله فلم يخلق له الإسلام ولا الكفر.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
الزمخشري: [إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه*]، انتهى، هذا اعتزال، فإنهم يقولون: إن الله تعالى أراد من جميع الخلق الإسلام، ونحن نقول: لو أراد ذلك لما وقع منهم كفر، ومعنى التذكر إما لأن التعدد مظنة الافتقار والحاجة في الشاهد فيتذكر أن الله تعالى غني بذاته؛ إذ هو واحد لَا ثاني له، أو لأن التعدد من لوازم الحادث والقديم واحد لَا يتعدد.
قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ... (٥٠)﴾
راجع إلى الإقرار بوجوده (وَلَا تَجْعَلُوا) راجع إلى الإقرار بوحدانيته وهو من باب الإتيان بالنتيجة عقب الدليل.
فإن قلت: يؤخذ منه أن ارتباط الدليل بالمدلول غير عقلي وإلا لما احتيج إلى ذكر ذلك؟ قلت: بل نقول إنه عقلي لكن من النَّاس [من يمعن*] النظر ويستجد القريحة فيصل إلى الوجه الذي منه يدل الدليل، وآخر لَا يفعل ذلك.
وفسر الزمخشري هنا الآية على صريح مذهبه، والآية تدل أن لفظ الإله كلي كما يقوله المنطقيون.
قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).
ليس مدلول ذلك في الموضعين واحدا كما قال بعض المعبرين؛ لأن الأول: إنذار من المعاصي وعذابها غير دائم، والثاني: إنذار من الإشراك وعذابه دائم.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ... (٥٢)﴾
في هذه الآية دليل لمن يقول: إن اتحاد المعلول يوجب اتحاد العلة؛ لأنه جعل إليهم على الكفر معلولا باستوائهم الكل في الطغيان لَا بوصية بعضهم لبعض.
قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ... (٥٥)﴾
احتراس بعد قوله: (فَتَوَلَّ) بمعنى أن توليه إنما هو بمعنى عدم [**التمالك عليهم] لا محض المشاركة بين أن التذكر ينفع لمن حصل له الإيمان بمعنى إقامة حدوده، وطاعاته، وفروع تكاليفه، ويحتمل المراد من سيحصل له الإيمان، والأول أظهر،... (٥٦).. ثم أكد الأمر بالتذكير بكون الجن والإنس خلقوا للعبادة لَا غير، وظاهر الآية مشكل لأنهم خلقوا لغير ذلك عقلا إذ فيهم كثير من العصاة، والدليل الظني السمعي إذا خالف الدليل العقلي يجب تأويله عند المحققين، فاضطر المفسرين إلى تأويل الآية فذكروا [وجوها*].
فإِن قلت: في الآية دليل المعتزلة في تعليل أفعال الله تعالى، قلت: التعليل قسمان، تعليل بمعنى أن الفعل مقصود به الفرض، ولو لم يكن لما حصل ذلك الفرض، فهذا عندنا لَا يجوز في حق الله تعالى لاستلزامه النقص والافتقار، وتعليل بمعنى ربط الأسباب بمسبباتها، ولو شاء أن يقع دونها لوقعت؛ [فهذا*] جائز في حق الله تعالى وهو المراد في الآية.
الزمخشري: فإن قلت: لو أراد العبادة منهم لكانوا كلهم عبادا، قلت: إنما أراد منهم أن [يعبدوه*] مختارين للعبادة لَا مضطرين إليها؛ لأنه خلقهم [ممكنين*] فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، ولو أراد على [القسر*] والإلجاء لوجدت من جميعهم عبادة، انتهى. هذا السؤال مشكل، وجوابه مشكل والعجب من الطيبي كيف لم يتعرض لذلك، لأن هذا السؤال إنما يتوجه على مذهب أهل السنة إذ هو باطل عند المعتزلة والمورد للسؤال إنما يأتي فيه بما هو باطل عنده فيورده على معنى الشبهة على مذهبه.
والزمخشري: لَا يقول أنه لو أراد العبادة لكانوا كلهم عبادا، وإنما يقوله أهل السنة فكيف نورد عين مذهبه بسؤال على مذهبه، وإنما كان نورده أن لو كان مخالفا لمذهبه فيورده شبهة على مذهبه، ثم أجاب الزمخشري: بجواب غير مطابق للسؤال لأن الإرادة عندهم إنما تتعلق بفعل المريد، والعبد عندهم [يخلق*] أفعاله وفعله الاختياري مخلوق له، فهو غير مراد الله؛ بخلاف فعله القسري الإلجائي.
فإِن قلت: لم عدل في الآية عن صريح الحقيقة إلى المجاز، ولم يقل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا) لأكلفهم العبادة؟ قلت: تهييجا على العبادة وعلى الاتصاف بها بالفعل.
ابن العربي في سراج المريدين في اسم العابد خفيت هذه الآية على المبتدعة وأهل السنة، فقال بعض المبتدعة: أراد منهم العبادة ففعلوا ما أرادوا.
وقال أهل السنة: إن كان خلقهم ليعبدوه فقد وجد من لَا يعبده ولا يصح أن يكون في خبره خلف، وأيضا فإِنه غني عن عبادتهم، وظاهر الآية أنه خلقهم لما هو غني عنهم، قال: والمعنى الصحيح في الآية: (لِيَعْبُدُونِ) أي لتجري أفعالهم على مقتضى قضائي فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وقد فهم بعض الصالحين هذا، فقيل له: ما أراد الله من الخلق؟ فقال: ما هم عليه، قال: والغافلون ظنوا أن العبادة في الآية بمعنى الطاعة، ورأوا بعض الخلق عصاة فطلبوا [للآية معنى غير معناها*]، فخلطوا، ولو فهموا معنى السجود، في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا).
قال: كافر يكفر بلسانه وجوارحه كلها مؤمنة، نعم ولسانه الكاذب شاهد لله عليه ما بدله، وقال تعالى (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، فأضافهم إلى نفسه مما وهبهم من الحفظة، وأطال الكلام في ذلك بما هذا حاصله، فإن قلت: هلا قيل: وما أريد منهم إطعاما، كما قال: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِنْ رِزْقٍ)، قلت: قصد التمثيل بحال الخلق في الشاهد لأن الرزق في الشاهد دائم، والإطعام إنما يكون شيئا بعد شيء ووقتا دون وقت، فهو متجدد والرزق دائم.
قوله تعالى: ﴿ذَنُوبًا... (٥٩)﴾
أي [حظًّا*]، وظاهر استعمال الأدباء له أنه خاص بالشر، ويصح أن يكون مشتركا بينه وبين الخير، ومنه حديث الموطأ: " [أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَصُبَّ عَلَى بول الأعرابي*]، وفي البخاري ومسلم في فضائل عمر: "فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ"، ويؤخذ من الآية أن الصحبة تصدق بمطلق المشاركة في الوصف، والمتحدثون مطبقون على منع ذلك وإنما اختلفوا، فمنهم من يطلقها على المشاركة في الزمان ويجعل الصحابي من عاصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن لم يره، ومنهم من يقيد ذلك بالرؤية فإن هذه لغة وذلك اصطلاح، قلت: بل هذا عرف فيصح فيمن اتصف بالكفر والعصيان يقال: هذا صاحب فرعون.
قوله تعالى: ﴿مِنْ يَوْمِهِمُ... (٦٠)﴾
هو واحد بالنوع، فصدق على كل ما فسره به المفسرون، وعبر بالكفر الذي هو أخص ومنعهم؛ لأنه رتب عليه الوعيد الأخص.
* * *
Icon