ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١، ٢ - ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾: قال و (١) مقاتل: لما نزل قوله: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء: ١١] قال كفار مكة: ما نعرف إلا مسيلمة، رحمان اليمامة، وهو قوله تعالى إخبارًا عنهم ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٦٠] فأنكروه، فأخبر الله عن نفسه، وذكر صنعه ليعرف فيوحد فقال: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ (٢) قال صاحب النظم: قوله (علَّم) يقتضي مفعولين ولم يجيء هاهنا إلا واحد. وهذا كما يقال في الكلام: زيد أطعم الطعام، فقد يعلم أن الإطعام لا يقع إلا على من يأكل، فكذلك قوله عز وجل ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ واقع على من يلقن التعليم (٣)، وهذا معنى قول الكلبي: علم القرآن محمدًا وعلمه محمد -صلى الله عليه وسلم- أمته (٤).قال أبو إسحق: ومعنى ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ يسَّره لأن يُذكر (٥).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٣، و"تفسير مقاتل" ١٣٤ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٥٢.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٨٤.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٣، و"الوسيط" ٤/ ٢١٧، و"فتح القدير" ٥/ ١٣١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٩٥.
والآيتان بهذا التفسير تأكيد لما قبلهما، وهذا قول ابن كيسان في الإنسان أنه محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه قال في البيان أنه بيان ما كان وما يكون؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينبئ عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين (٢).
وقال الكلبي وقتادة: الإنسان آدم -عليه السلام- علمه أسماء كل شيء، وهذا قول مقاتل (٣).
وقال آخرون: الإنسان اسم لجنس الناس جميعًا، ومعنى ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ النطق والتمييز، والكتابة والخط، والفهم والإفهام، حتى عرف ما يقول وما يقال له، وعلم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به، وجعله مميزًا حتى انفصل الإنسان من جميع الحيوان، وهذا قول أبي العالية، ومرة، وابن زيد (٤)، والحسن، والقرظي، والسدي، ويمان بن رباب. (٥)
٥ - وقوله تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ ذكرنا معنى الحسبان
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٣٣ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٦٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٥٢، و"فتح القدير" ٥/ ١٣١.
(٣) انظر: "نفسير مقاتل" ١٣٤ ب، و"جامع البيان" ٢٣/ ٦٧، والثعلبي ١٢/ ٣٣ ب.
(٤) (ك): (وبرة بن زيد) وهو خطأ.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٣٣ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٦٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٥٢ - ١٥٣، ورجحه الرازي والألوسي وغيرهما، انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٨٥، و"روح المعاني" ٢٧/ ٣٩.
وروى السدي عن أبي مالك في هذه الآية قال: لهما حساب وأجل أجل الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا (٤)، وعلى هذا معنى الحساب حساب أيام جريهما إلى الإنقضاء، والقول هو الأول. (٥)
٦ - قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ قال عامة أهل اللغة والمفسرين: النجم: النبت على الأرض ليس له ساق، والشجر: ما كان على ساق، يبقى شتاء والنجم لا يبقى على الشتاء (٦).
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٦٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٣ ب، أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٦٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٥.
(٤) أخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر. انظر: "الدرر" ٦/ ١٤٠، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٣٤ أ، والقرطبي في "تفسيره" أيضًا ١٧/ ١٥٣.
(٥) وهو اختيار ابن جرير، والمعتمد عند ابن كثير. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٦٨، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧، و"تفسير القاسمي" ١٥/ ٥٦١٣.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٢، و"مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٦٨، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٦.
أَخُصْيَيْ حِمارٍ ظَلَّ يَكْدِمُ نَجْمةً | أَتُؤْكَلُ جاراتي وجارُك سالمُ (٣) |
وأنشد الليث:
مُوزَرٌ بعميم النَّجْم تنسجهُ | ريحُ الخريف لضاحي مائه حُبُكُ (٥) |
وقوله: ﴿يَسْجُدَانِ﴾ قال الفراء والكسائي: العرب إذا جمعت جمعين من غير الناس مثل السدر والنخل جعلوا فعليهما واحدًا، فتقول: السدر والنخل تنبت، والإبل والغنم مقبلة، ويجوز ينبتان ومقبلتان، والأول كلامهم، وذكر في الآية على لفظ التثنية لوفاق الفواصل (٦)، هذا
(٢) أبو ليلى. محمد بن مرة بن ذبيان، تقدمت ترجمته.
(٣) ورد البيت منسوبًا في "المفضيات" ص ٣١٣، و"اللسان" ٣/ ٥٩ (نجم)، و"المنصف" ٢/ ١٣١.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ١٢٩ (نجم).
(٥) البيت لزهير بن أبي سلمى. كما في "ديوانه" ص ١٧٦، و"المحتسب" ٢/ ٢١٧، و"اللسان" ٣/ ٥٩ (خبك) وفي الألفاظ بعض الاختلاف والشاهد فيه أن النجم هو نبت يمتد على وجه الأرض بلا ساق.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٢.
وقد ذكرنا ذلك في قوله: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ (٢).
وقال مجاهد في قوله: ﴿وَالنَّجْمُ﴾ قال نجوم السماء ﴿وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ بكرة وعشيًا: وهو قول قتادة في النجم (٣).
قال أبو إسحاق (٤): وهذا جائز أن يكون الله أعلمنا أن النجم يسجد كما قال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ﴾ إلى قوله ﴿وَالنُّجُومُ﴾ [النحل: ١٢].
٧ - قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ قال مقاتل وغيره: رفعها فوق الأرض مسيرة خمسمائة عام وأمسكها أن تقع على الأرض (٥).
﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ تفسير الميزان: الآلة التي يوزن بها، وفي معناه هاهنا قولان، أحدهما: أنه أريد به الميزان الذي نعرفه بيننا.
قال مقاتل: يعني الذي يزن به الناس وضعه عدلًا بينهم لينتصف بعض الناس من بعض، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك (٦)، قالوا: هو الذي يوزن به ليوصل به إلى الإنصاف والانتصاف.
(٢) عند تفسيره الآية (٤٨) من سورة النحل.
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٣٩، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٩٦.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٤ ب.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ أ، و"جامع البيان" ٦٩/ ٢٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٤ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٦٧.
القول الثاني: أن المراد بالميزان العدل، وعبر عنه بالميزان؛ لأنه آلته.
قال عطاء عن ابن عباس: يعني العدل في الأرض بين الناس، وهو قول مجاهد (١).
قال أبو إسحق: الميزان هاهنا العدل؛ لأن المعادلة موازنة الأشياء (٢). قال صاحب النظم: على هذا القول: تأويله أمر بالعدل يدل هذا قوله تعالى:
٨ - ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ أي لا تجاوزوا العدل.
و (أن لا تطغوا) يحتمل وجهين، أحدهما: لئلا تطغوا كقوله ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦]، والثاني: أن معنى (أن) التفسير، فيكون المعنى أن لا تطغوا كقوله تعالى: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦] (٣) وقد مر.
وعلى القول الأول يكون (تطغوا) في محل النصب بأن، وعلى القول الثاني يكون تطغوا جزمًا على النهي. ذكر ذلك الفراء والزجاج (٤)، قال الفراء: والنهي أحب إلى؛ لقوله:
٩ - ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ (٥)، وهذا أيضًا يدل على أن المراد
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٩٦.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٩، و"القرطبي" ١٧/ ١٥٤، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٧.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٦.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٣.
ومعنى ﴿لا تطغوا﴾ لا تظلموا ولا تنقصوا ولا تجاوزوا القدر، قاله أبو عبيدة والزجاج (٢).
وقال أهل المعاني (٣): إنما قيل لا تطغوا؛ لأن ما لا يضبط في الوزن موضوع عنهم ما لم يتعمدوا البخس فإذا تعمدوا فقد طغوا، وإنما قال: ﴿لا تطغوا في الميزان﴾ ولم يقل فيه بالكناية وقد سبق ذكره لكي يكون قائمًا بنفسه في النهي عنه، ولا يكون الثاني متضمنًا بالأول.
قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ قال المفسرون: أقيموا لسان الميزان بالقسط، أي: بالعدل، وهو قول مجاهد والكلبي ومقاتل (٤).
والأحسن إذا وزن أن يقيم اللسان بالقسط كما أمر الله تعالى ثم يرجح إن أراد ذلك وتبرع به، وقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه مر على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح فكفأ الميزان ثم قال: أقم الوزن بالقسط ثم أرجح بعد ذلك ما شئت (٥).
وقوله: ﴿وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: لا تنقصوا
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٦.
(٣) انظر: "الكشاف" ٤/ ٥.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٤، و"تفسير مقاتل" ١٣٥ أ، و"الدر" ٦/ ١٤١.
(٥) لم أقف عليه عن علي، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي المغيرة عن ابن عباس نحوه. انظر: "فتح الباري" ٨/ ٦٢١.
١٠ - قوله: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ قال الكلبي: بسطها على الماء للأمام (٥). قال الليث: الأنام ما ظهر على الأرض من جميع الخلق ويجوز في الشعر الأنيم (٦).
واختلف المفسرون في تفسير الأنام، فروى عكرمة عن ابن عباس ﴿لِلْأَنَامِ﴾ للناس (٧)، وعن مجاهد وقتادة والضحاك: للخلق والخلائق، وعن عطاء: لجميع الخلق.
وقال الكلبي: للخلق كلهم الذين بثهم فيها، وهذه الأقوال تدل على
(٢) هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قاضي البصرة، مقل، مات سنة نسِف وعشرين ومائة. انظر: "تقريب التهذيب" ١/ ١٩.
(٣) انظر: "مختصر ابن خالوية" ص ١٤٩، و"الكشف والبيان" ٣٤/ ١٢ ب، و"الكشاف" ٤/ ٥، و"البحر المحيط" ٨/ ١٨٩.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ١٦٢، و"اللسان" ١/ ٨٢٩ (خسر).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٤.
قال الألوسي: ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه -عز وجل- خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبدة. "روح المعاني" ٢٧/ ١٣.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٧٥ (أنم).
(٧) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٥٥، و"الدر" ٦/ ١٤١.
قوله: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ أي في الأرض فاكهة، يعني كل ما يتفكه من ألوان الثمار. وذكر ابن عباس منها العنب والتين والخوخ والتفاح (٤).
﴿وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ معنى الكم في اللغة ما ستر شيئًا وغطاه، ومنه كم القميص، ويقال للقلنسوة كمة، وأكمام الزرع: غلفها، وذكرنا ذلك عند قوله ﴿وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا﴾ (٥) قال ابن عباس: يريد الطلع (٦)، قال الكلبي: ﴿ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾ ذات الغلف، وثمرها في غلف الكُفُرَّاه: ما لم تنشق وهي كمه (٧)، فإذا انشقت منها الكفراه فليست أكمامها. وقال الحسن وقتادة: أكمامها ليفها (٨).
(٢) انظر: ، جامع البيان" ٢٧/ ٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٤ ب، و"الدر" ٦/ ١٤١.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٩٧، قلت: ولعل الصواب أن المراد بالأنام جمع ذوات الأرواح من الجن والإنس وغيرهم، فقد روى البخاري في "صحيحه"، كتاب بدء الخلق، باب في النجوم، قال: قال ابن عباس: ﴿الأنام﴾ الخلق، وأخرجه ابن جرير في "جامعه" ٧/ ١٧، من طريق علي بن أبي طلحة.
(٤) لم أجده.
(٥) عند تفسيره للآية (٤٧) من سورة فصلت. وانظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٦٥، و"اللسان" ٣/ ١٩٦ (كمم)
(٦) انظر: "جامع البيان" ٧/ ٢٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٦٧، عن ابن زيد.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٤، والكافور: وعاء الطلح قبل أن ينشق. وهو الكَفَرُ، والكُفُرَّي، والكِفِوى، والكَفَرَّى، والكُفَرَّي.
(٨) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧، و"الثعلبي" ١٢/ ٣٥ أ.
والمفسرون على أن الأكمام أوعية الثمر كما ذكرنا، قال الليث: ولكل شجرة مثمرة كم، وهو برعومه (٢).
قوله: ﴿وَالْحَبُّ﴾ قال عطاء: يريد القمح (٣)، وقال مقاتل والضحاك: يعني الشعير والحنطة (٤)، وقال الكلبي: هو الحبوب كلها مما يحرث في الأرض من الحنطة والشعير وغير ذلك (٥).
والوجه الرفع في قوله:
١٢ - ﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ نسقًا على قوله: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ﴾ وقرأ ابن عامر ﴿والحب ذا العصف﴾ نصبًا (٦)، حمله على قوله ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا﴾ مثل خلقها للأنام، وخلق الحب ذا العصف.
واختلفوا في تفسير العصف، فقال الليث: العصف ما على حب الحنطة ونحوها من قشور التبن، قال: والعصف أيضًا ما على ساق الزرع من الورق الذي يبس فيتفتت، كل ذلك من العصف (٧).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٦٦ (كمم).
(٣) لم أجده.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧١.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٤.
(٦) قرأ ابن عامر: ﴿والحبَّ ذا العصف﴾ بالنصب وقرأ الباقون ﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩، و"النشر" ٢/ ٣٨، و"الإتحاف" ص ٤٥.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ٤١، و"اللسان" ٢/ ٧٩٦ (عصف).
وقال النضر: يقال: عصفنا الزرع نعصفه، أي: جززنا ورقه ليكون أخف للزرع، وإن لم يفعل مال بالزرع. (٢)
وقال ابن عباس: العصف والعصيفة ورق السنبل. (٣)
وقال أبو إسحق: العصف ورق الزرع، ويقال للتبن عصف وعصيفة، وأنشد أبو عبيدة:
يُسقي مذانبَ قد مالتْ عَصيفَتُها | حدودها من أتيّ الماء مطموم (٤) |
قال مجاهد: هو ورق الزرع، وهو قول مقاتل، وابن عباس في رواية الكلبي والعوفي (٥).
وقال قتادة: ﴿الْعَصْفِ﴾ التبن، وهو قول الضحاك، ورواية علي بن
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ٤١ (عصف).
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٥٧ ونسبه للهروي.
(٤) البيت لعلقمة بن عبدة، والمذانب الجداول التي يسيل فيها الماء، وطَمَّ الماء يَطِمُّ طَمًّا وطُمُومًا. علا وغمر، وكل ما كَثُرَ وعَلا حتى غَلَب فقد طَمَّ يَطِمُّ.
انظر: "ديوان علقمة" ص ١١٧، و"مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٢، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٧، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧١، و"اللسان" ١/ ١٨ (ذنب)، ٢/ ٦١٥ (طم)، ٢/ ٧٩٦ (عصف).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٤، و"تفسير مقاتل" ١٣٥ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧١.
وروى السدي عن أبي (٢) مالك قال: هو أول ما ينبت (٣).
قال ابن كيسان: العصف: ورق كل شيء خرج منه الحب يبدو أولًا ورقًا، ثم يكون سوقًا، ثم يحدث الله فيه أكمامًا، ثم يحدث في الأكمام الحب (٤).
قوله تعالى: ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ قال أبو زيد: الريحان كل بقلة طيبة الريح، يقال للطاقة منها ريحانة، سميت ريحانة: لأن الإنسان يراح له رائحة طيبة إذا مسها، أي يدركها. قال: رحت الشيء أراح إذا أردت رائحته وهو فَعْلان من الرائحة والريح، وأصل الياء فيه واو قلبوها ياء فرقًا بينه وبين الروحان، وهو شيء له روح، ويقال: شيء ريحاني وروحاني، حكاهما ابن الأعرابي، وما يتركب من الراء والواو والحاء كثير، والأصل في ذلك الحركة والاهتزاز فالرائحة فاعلة من راحت الريح تروح روحانًا إذا تحركت، ذكر هذا كله أبو القاسم الزجاجي.
وقال أبو علي: ويجوز أن يكون الريحان فَيْعِلانا، والعين محذوفة كأنه كان في الأصل ريوحان فلما اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما
(٢) في (ك): (ابن).
(٣) انظر: "صحيح البخاري"، كتاب التفسير، سورة الرحمن، ٦/ ١٨. ، قال: وقال أبو مالك: العصف أول ما ينبت. قال ابن حجر: وليس له -أي لابن مالك- في البخاري إلا هذا الموضع. "فتح الباري" ٨/ ٦٢١، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧١، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢١٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٦٨، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٢.
قال أبو القاسم: وسمت العرب الرزق ريحانا؛ لأن الإنسان يرتاح له (٢) ويقوى به روحه، واللغة العرفية في الريحان أنه يطلق على ما له رائحة من الأنوار، وقال أبو عبيدة: الريحان الحب الذي يؤكل، ومنه يقال: سبحانك وريحانك، أي: رزقك، وأنشد للنمر بن تولب:
سلام الإله وريحانُه | ورحمتُه وسماءٌ دِرَرْ (٣) |
وقال أبو إسحق: والعرب تقول: سبحان الله وريحانه.
قال أهل اللغة: واسترزاقه، وأنشد بيت النمر، قال: معنى ريحانه: رزقه (٥).
قال مجاهد: الريحان الرزق. وهو رواية عكرمة والكلبي عن ابن عباس (٦).
(٢) كذا في (ك)، ولم تتبين ليّ.
(٣) انظر: "المنصف" ٢/ ١١، و"مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٣، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٣٧، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٧، و"اللسان" ١/ ١٢٤٧ (روح).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٣ - ١١٤.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٧.
(٦) اظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧١، و"الكشف والبيان"
١٢/ ٣٥ أ، و"صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، سورة الرحمن ٦/ ٧٣، قال: وقال مجاهد: العصف ورق الحنطة، والريحان الرزق.
وقال الحسن وابن زيد: هو ريحانكم الذي يشم (٢).
واختلفوا في إعراب (الريحان) فقرأ الأكثرون بالرفع على معنى: وفيها الحب والريحان، وقرأ حمزة والكسائي بالخفض حملًا على (ذو) كأنه والحب ذو العصف وذو الريحان، أي: من الحب الرزق، وأريد بالريحان الرزق إذا خرج وخلص من لفائفه وهو رزق للناس، والعصف رزق للدواب، فذكر قوت الناس والأنعام كما قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ [طه: ٥٣] وقال: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [النازعات: ٧٣، عبس: ٣٢] فكذلك العصف يختص بأنه رزق الأنعام، والريحان يعم الأناسي وغيرهم، ولا يجوز على هذه القراءة أن يكون الريحان المشموم (٣)، واختار أبو عبيد هذه القراءة. قال: لأن الريحان في التفسير الرزق، والعصف الورق فيكون المعنى أن الحب ذو ورق ورزق، ومن رَفع الريحان على الابتداء صار التأويل في الحب أنه ذو ورق لا غير، ولا أحب هذا المعني.
قال المبرد: الذي قال أبو عبيد يجوز، ولكن فيه بعد؛ لأن الحب هو الرزق نفسه ليس غيره فيبعد أن يقال للرزق ذو الرزق، إلا أن يحمل على ما قال مقاتل أن الريحان الرزق بلغة حمير، وهو ما يخرج من الحب من دقيق
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٧١، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٥ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٦٨.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٤٥ - ٢٤٦.
قال: والظاهر أن الريحان في هذا الموضع هو الذي يشم؛ لأن الريحان إذا جاء مطلقًا وقع على ما يشم، وهذا هو الأحسن في التفسير، لأنه لما قيل: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ كان ذلك جامعًا لأكثر المأكولات ثم ذكر بعدها ما يشم مما يخرج من الأرض؛ لأن النعمة على الناس عظيمة جليلة في المأكول والمشموم، والريحان إذا جاء بلا دليل انطلق على المشموم لأنه اسمه الخاص، وإذا عني بالريحان الرزق احتيج إلى أن يكون في الكلام ما يدل عليه كما قال سيبويه، يقال: سبحان الله وريحانه. تقديره: تسبيحًا واسترزاقًا (١).
وقرأ ابن عامر: (والريحانَ) نصبًا اتباعًا لقوله: ﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ﴾ على قراءته (٢).
قال أبو علي: وانتصب ريحان فيما حكاه سيبويه انتصاب المصادر، وذكرنا في وزنه قولين، فإن قلنا وزنه فيعلان كان هذا اسمًا موضوعًا موضع المصدر؛ لأنه ليس في أبنية المصادر شيء على هذا الوزن فيكون كقولهم: تربا وجندلًا، ونحو ذلك مما وضع موضع المصادر، أو يجعله
(٢) قرأ ابن عامر ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ بالنصب، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾ في بخفض النون. وقرأ الباقون برفع النون ﴿وَالرَّيْحَانُ﴾. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩، و"النشر" ٢/ ٣٨، و"الإتحاف" ص ٤٥.
قال أبو إسحق: وقد ذكر الله -عز وجل- في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليم البيان ومن خلق الشمس والقمر والسماء والأرض.
ثم خاطب الجن والإنس فقال:
١٣ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها مُنعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم والوصلة إلى حياتكم (٣). وتقدم الكلام في تفسير الآلاء في سورة الأعراف (٤)، قال الكلبي: فبأي آلاء ربكما يريد الإنس والجن (٥).
فإن قيل: على هذا إنما تقدم ذكر الإنس في قوله ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ ولم يجر للجن ذكر حتى يدخل في الخطاب، والجواب عن هذا ما ذكره الفراء قال: العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين فيقال: ارجلاها وازجراها (٦) وقد ذكرنا هذا عند قوله ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ وهذا الوجه اختيار ابن
(٢) تقدم توثيقها، وانظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٤٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٩٨.
(٤) عند تفسيره الآية (٦٩) من سورة الأعراف وآلاء: النعم، واحدها أَلىّ بالفتح، وإليٌّ، وإلى. "اللسان" (ألا).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٤
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١١٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦.
وقال صاحب النظم: خاطب الجن مع الإنس، وإن لم يجر لهم ذكر كما أن يكنى عن الشيء، وإن لم يجر له ذكر كقوله تعالى ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ (١).
وذكر الأزهري قولين آخرين: أحدهما: أنه قد جرى ذكر الأنام وهحناه الجن والإنس، والثاني: أن الله تعالى خاطبهما قبل ذكرهما ثم ذكرهما معا بعقب الخطاب، وهو قوله: ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ كما قال المثقب العبدي (٢):
وما أدري إذا يممت أرضا | أريد الخير أيهما يليني |
أألخير الذي أنا أبتغيه | أم الشر الذي هو يبتغيني |
وهذا الوجه معنى قول أبي عبيدة والكسائي (٤).
وأما معنى تكرير هذه الآية في هذه السورة فقال أصحاب المعاني: معنى التكرير التقرير بالنعمة عند ذكرها على التفصيل نعمة نعمة، كأنه قيل: بأي هذه الآلاء تكذبان، ثم ذكرت آلاء أخر، واقتضت من التقرير بها ما اقتضت الأولى ليتأمل كل واحدة في نفسها وفيما تقتضيه صفتها وحقيقتها التي تنفصل بها من غيرها.
(٢) هو عائذ بن محصن بن ثعلبة، أبو عَدِيّ الملقب المثقَّب. من بني نُكْرَة. تقدمت ترجمته. والأبيات وردت في "مغني اللبيب" وشرح شواهده للسيوطي / ٦٩، و"شرح المفصل" ٩/ ١٣٨، و"المفضليات" ص ٢٩٢، و"شرح شواهد الشافعية" ص ١٨٨.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٨ (نأم).
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٣.
وقال صاحب النظم: إن من عادة العرب الإيجاز والاختصار في بعض الأماكن والإشباع والتوكيد في بعض، والتكرير والإعادة إذا أرادوا الإبلاغ بحسب العناية بالأمر كما قال الحارث بن عباد (٢):
قربا مربط النعامة مني | لقحت حرب وائل من حيال |
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى | تقول نساؤهم هذا فتى |
(٢) الحارث بن عباد البكري، كان من حكام ربيعة وفرسانها المعدودين، ولد له عقب. توفي سنة ٥٥ م. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٢٦٢، و"الكامل" ٢/ ٢٣١، و"الأغاني" ٥/ ٤، و"الخزانة" ١/ ٢٢٥، و"الأعلام" ٢/ ١٥٦، والبيت ورد في "الحيوان" ١/ ٢٢، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٧، و"المنصف" ٣/ ٥٩.
(٣) مرثد بن أبي حمران الجعفي، ولكنى أبا حمران. شاعر جاهلي. انظر: "الاشتقاق" ص ٢٤٣، و"المؤتلف" ص ٤٧، البيت ورد في "الأصمعيات" ص ١٤٢، ولفظه: وكتيبة وجهتها لكتبه حتى نقول سرائهم هذا الفتى.
كم نعمة كانت لكم... كم كم وكم (١)
فكرر كم في بيت واحد أربع مرات تأكيدًا لفرط العناية بهذه الكلمة، فكذلك قوله -عز وجل- ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾، وقوله في ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (٢)، وقوله ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ (٣) جاء هذا كله في التكرير والإعادة في الإبلاغ والتوكيد؛ لأنها كلها تحرير وتذكير وتنبيه (٤).
١٤ - قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ تقدم تفسيره في سورة الحجر (٥).
قال أبو إسحاق: اختلفت الألفاظ فيما بدأ منه خلق آدم فقيل في موضع: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩]، وفي آخر ﴿مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾ [الصافات: ١١]، وفي آخر ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦]، وفي آخر من صلصال، وهذه الألفاظ راجعة في المعنى إلى أصل واحد، وهو التراب الذي هو أصل الطين، أعلم الله -عز وجل- أنه خلق آدم من تراب جعل طينًا، ثم
(٢) [القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠، ٥١].
(٣) [المرسلات: ١٥، ١٩، ٢٤، ٢٨، ٣٤، ٣٧، ٤٠، ٤٥، ٤٧، ٤٩].
(٤) قلت: كلام الجرجاني هذا توضيح وبيان لما قاله أهل المعاني، وشرحه ابن قتيبة. وانظر: "روح المعاني" ٢٧/ ٩٧.
(٥) عند تفسيره الآية (٢٦) من سورة الحجر. والصلصال من الطين ما لم يجعل خزفاً، سمي به لتصلصله. والصلصال الطين اليابس الذي لم تصبه النار، فإذا مسته النار فهو حينئذٍ فخار. "اللسان" ٢/ ٤٦٧ (صلل).
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ تفسير الجان قد سبق في سورة الحجر (٤)، قال أبو عبيدة: مارج من خلط (٥) من نار.
وقال الليث: المارج من النار: الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد (٦).
واختلف المفسرون في المارج فذكر الكلبي أنه نار لا دخان لها، منها تكون الصواعق (٧)، والأكثرون قالوا إنه الصافي من لهب النار، وهو قول ابن عباس ومقاتل وعكرمة ومجاهد، قالوا: إنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر (٨).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٣.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٢، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٣.
(٤) عند تفسيره لآية (٢٧) من سورة الحجر. وجَنَّ الشي يجنه جناً ستره. وكل شيء ستر عنك فقد جن عنه، والجّانُّ: أبو الجن، خلق من نار ثم خلق منه نسله.
والجانُّ: الجنُّ. وهو اسم جمع كالجامل والباقر. انظر: "اللسان" ١/ ٥١٧ (جنن).
(٥) (ك): (خالص) وانظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٣.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٧١، و"اللسان" ٣/ ٤٦١ (مرج).
(٧) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٥.
(٨) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤، و"تفسير مقاتل" ١٣٥ أ، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٣٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٤، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٦ أ.
والمارج معناه في اللغة: المرسل والمختلط (٣)، وكلاهما يحسن في صفة لهب النار وهو فاعل بمعنى مفعول كقوله -عز وجل- ﴿مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] و ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١، القارعة: ٧] والمعنى: ذو مرج (٤).
١٧ - قوله تعالى ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ إجماع القراء على الرفع في رب المشرقين، قال أبو عبيد (٥): لولا إجماعهم على الرفع لكان الخفض أحب إلى على النعت للاسم قبله.
قال المبرد: الرفع على الاستئناف على قولك: هو رب المشرقين، وهو أحسن من البدل لأن أكثر الكلام إذا تكرر المنعوت الرفع على الابتداء كقوله: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ﴾ [إبراهيم: ١، ٢] وكان ينبغي لأبي عبيد أن يعلم أن اجتماعهم على الرفع قد دل على اختياره.
قال المفسرون: يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وهما مشرقان، مشرق الأيام الطوال ومشرق الأيام القصار، وكذلك المغرب.
١٩ - قوله تعالى ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾ تفسير هذه الآية والتي بعدها قد
(٢) عند تفشره الآية (٥٣) من سورة الفرقان.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٧١، و"اللسان" ٣/ ٤٦١، (مرج).
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦١.
(٥) في (ك): (أبو عبيدة) والصواب ما أثبته.
والمعنى أن الله تعالى ذكر عظيم قدرته حيث خلى البحرين العذب والملح يلتقيان، أي: يلتقيين كما تقول: تركت زيدًا وعمرا يقتتلان - ثم لم يختلط أحدهما بالآخر، وهو قوله:
٢٠ - ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ أي حاجز من قدرة الله تعالى، فلا ينبغي الملح على العذب فيفسده ولا يبغي على الملح فيختلط به. والمعنى لا يطلبان أن يخرجا مما حد لهما، هذا قول مقاتل وأكثر المفسرين (٢).
وقال الحسن وقتادة: (برزخ) يعني الأرض التي بينهما وهي الحجاز ﴿لَا يَبْغِيَانِ﴾ لا يطمان على الناس بالغرق (٣)، والقول هو الأول؛ لقوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ هو أكثر القراء (٤) (يُخْرَج) بضم الياء وفتح الراء من الإخراج، لأنه يخرج ولا يخرج بنفسه، ومن قرأ يَخرج فهو اتساع، وذلك أنه إذا أخرج خرج (٥).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٥ - ٧٦، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٦ ب.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٣، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ١٦٩.
(٤) في (ك): (القراءة).
(٥) قرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر، ويعقوب ﴿يَخْرُجُ﴾ بضم الياء وفتح الراء. وقرأ الباقون ﴿يَخْرُجُ﴾ فتح الياء وضم الراء.
انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩١، و"الحجة للقراء السبعه" ٦/ ٢٤٧، و"النشر". ٢/ ٣٨، و"الإتحاف" ص ٤٥.
وقال مقاتل: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا﴾ أي من الماءين جميعًا العذب والملح (٣)، وهذا القول ذكره الأخفش فقال: زعم قوم أنه يخرج من العذب أيضًا (٤).
وقال أبو علي: هذا على حذف المضاف كما قلنا في قوله ﴿عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ﴾ [الزخرف: ٣١].
وأما تفسير اللؤلؤ والمرجان فقال الفراء: اللؤلؤ: العظام، والمرجان: ما صغر (٥)، وهو قول جميع أهل اللغة في المرجان أنه الصغار من اللؤلؤ.
قال الأزهري: ولا أدري أرباعي هو أم ثلاثي.
وقال أبو الهيثم: اختلفوا في المرجان، فقال بعضهم: هو صغار
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ ب.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٣، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٤.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١١٥.
٢٤ - قوله: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ﴾ يعني السفن، واحدتها جارية، كقوله ﴿حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: ١١].
﴿الْمُنْشَآتُ﴾ قال أبو عبيدة: المرفوعات المجريات (٥) - ففسر المنشأت تفسيرين، أحدهما: المرفوعات، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض، وركب حتى ارتفعت وطالت وتمت، والمعنى أنشأ صنعتها وعليها (٦)، الثاني: أنشأ إجراءها.
والقراءة المعروفة فتح الشين، وقرأ حمزة بكسر الشين (٧)، والوجه الفتح؛ لأنها أنشئت وأجريت، أي: فعل بها الإنشاء ولم تفعل ذلك
(٢) كذا في (ك) وعلها (ابن زيد).
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٦، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٣، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٧. ولم أجد من نسب قوله (إن الجن تطرحه في البحر) لأحد، وإنما ذكره الأزهري دون نسبة، ولعله لا يصح ولا يستقيم.
(٤) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤١، و"تفسير مقاتل" ١٣٥ ب، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٦.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٤.
(٦) كذا في (ك) ولم أتبين معناها.
(٧) قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم ﴿المنشِآت﴾ بكسر الشين. وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "حجة الفراءات" ٦٩١ - ٦٩٢، و"النشر" ٢/ ٣٨١" و"الإتحاف" ص ٤٦.
وإضافة السير إليها اتساع أيضًا؛ لأن سيرها إنما يكون في الحقيقة بهبوب الريح أو دفع الصواري (١).
قوله تعالى: ﴿كَالْأَعْلَامِ﴾ أي: كالجبال، والعَلَم الجبل، قال الفراء: وكل جبل طال فهو علم (٢).
قال جرير:
إذا قطعنا علمًا بدا علم (٣)
وقالت الخنساء:
وإن صخرًا (٤) لتأتم الهداة به | كأنه علم في رأسه نار |
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أن قلوع السفينة إذا رفعت كانت
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١١٥.
(٣) انظر: "ديوان جرير" ص ٥٢، و"مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٤، و "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١.
(٤) هو صخر بن عمرو السلمي، شاعر جاهلي، كان حليمًا جوادًا بارًا بأخته الخنساء، أصيب بطعنة مات على أثرها.
انظر: "المعارف" ص ٨٥، و"الأغاني" ١٥/ ٧٦، و"الإصابة" (في ترجمة الخنساء) ٧/ ٦١٤، و "جمهرة أنساب العرب" ص ٢٦١، وبيت الخنساء في "ديوانها" ص ٤٩، و"معنى اللبيب وشواهده" ص ٥٦٦.
(٥) لم أجده.
وقال مجاهد: ما رفع قِلْعُه من السفن فهي منشأة، وما لم يرفع قِلْعُها فليست منشأة (٢)، واختار أبو عبيد فتح الشين وقال إن تفسيرهما التي رُفِع قلعها (٣)، قال الزجاج: المنشآت المرفوعات الشُّرُع (٤)، وهذا القول تفسير ثالث للمنشآت سوى الذين ذكرناهما.
٢٦ - قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾ أي على الأرض، وقد سبق ذكرها في قوله ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا﴾، والمعنى أن كل من دب ودرج على أرض من حيوان فهو (فانٍ) هالك، قال الكلبي ومقاتل: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فلما نزل ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] أيقنت الملائكة بالهلاك (٥).
قال الشعبي: إذا قرأت ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ فلا تسكت حتى تقول: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (٦).
وذكر أهل المعاني في الوجه هاهنا قولين: أحدهما: أن المعنى ويبقى ربك الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه، فالوجه على هذا عبارة عن الظهور.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤١، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٨.
(٣) انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ ب، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٨ أ، عن ابن عباس، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٥، عن ابن عباس ومقاتل، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٦٢.
(٦) انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٢ - ٢٧٣.
قال أبو علي: قد جاء الجلال في غير الله سبحانه وأنشد:
فلا ذا جلالٍ هبنه لجلال | ولا ذا ضياع هُنَّ يتركن للفقر (٣) |
ويجوز أن يكون البيت جاهليًّا، والأصمعي يقول: لا يقال ذلك بعد الإسلام، أي: لا يستحقه إلا الله سبحانه (٤).
قلت: المراد بالوجه عند أهل السنة والجماعة في هذه الآية وما يماثلها (الذات) أي: تبقى ذاته -سبحانه وتعالى-. انظر: "مجموع الفتاوى" ٢/ ٤٣٤، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٩٧٣، و"روح المعاني" ٢٧/ ١٨.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٨٨، و"اللسان" ١/ ٤٨٧ (جلل).
(٣) البيت لهدبة بن خشرم العذري يصف المنايا وعمومها للخلق.
وقد ورد في "شواهد سيبويه" ١/ ٧٢، و"المفصل" ٢/ ٣٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٥٤.
(٤) قلت: تفسير كلام الأصمعي بقول المؤلف: أي لا يستحقه إلا الله سبحانه هو الصواب إن شاء الله.
وأما البيت فهو لهدبة بن خشرم وهو شاعر إسلامى قتل ابن عمه زيادة بن زيد =
٢٩ - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ قال أبو صالح: يسأله من في السموات الرحمة، ويسأله من في الأرض المغفرة والرزق (٣).
وقال مقاتل وابن جريج: يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة، وتسأله الملائكة لهم أيضًا الرزق والمغفرة (٤) يدل على هذا قوله ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: ٥].
والوقف على (الأرض) حسن، لأن قوله ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ كلام
(١) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٢١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧.
(٢) لم أقف عليه
(٣) وهو المروي عن ابن عباس أيضًا.
انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٨ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٢١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٦.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧، و"البحر المحيط" ٨/ ١٩٣.
وقال الأخفش: لا يحسن الوقف على (الأرض) لاتصال معنى الآية وذلك أنه أخبر في النصف الأول من الآية من سؤال الخلق إياه، والسؤال (٢) مختلف؛ لأن كل أحد يسأل ما يهمه، ثم أخبر في آخر الآية أنه في شأن من إعطاء سؤلهم، وقضاء حوائجهم، وكفاية أشغالهم على ما يرى التدبير في ذلك.
وكل يوم ينتصب بالظرف؛ لقوله ﴿فِي شَأْنٍ﴾ وقال يعقوب: انتصب ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ بالسؤال، والمعنى: "سأله من في السموات والأرض كل يوم" وهاهنا الوقف، ثم قال ﴿هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ أي ربنا في شأن على ما يذكر من تفسير ذلك الشأن، وهذا قول غير بعيد.
قال أبو جعفر النحاس: وقال يعقوب ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ فهذا الوقف التام، ثم قال النحاس: أما قول يعقوب فمخالف لقول الذين شاهدوا التنزيل (٣).
والذي يوافق ما ذكره المفسرون أن يكون ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ ظرفًا لقوله ﴿هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ لأنهم قالوا: من شأنه أن يحيى ويميت، ويرزق ويمنع، وينصر ويعز ويذل، ويفك عانيا ويشفي مريضا، ويجيب داعيًا ويعطي سائلًا، ويتوب على قوم، ويكشف كربًا، ويغفر ذنبًا، إلى ما لا يحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء.
ذكر ذلك مجاهد، والكلبي، وعبيد بن عمير، وأبو ميسرة، وعطاء عن
(٢) في (ك): (وسؤال).
(٣) انظر: "القطع والائتناف" ص ٦٩٧ - ٦٩٨.
وانظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٧٨، و"العظمة" ٢/ ٤٧٩ - ٤٨٨، ونحو هذا روى أبو الدرداء عن النبي في -صلى الله عليه وسلم- قال الألباني بعد ذكره لطرق الحديث: حديث صحيح، ورجاله موثقون، وفي هشام كلام، لكنه توبع. انظر: "تخريج السنة" ١/ ١٣.
وذكر ابن كثير الرواية عن أبي ميسرة وعن غيره، ثم قال: دخل الكلام بعضهم في بعض وإسناد المؤلف -يعني أبا الشيخ- إلى أبي ميسرة صحيح. انظر: "تفسبر القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٣.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٥ ب، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٨ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧.
(٣) عبد الله بن منيب؛ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ٥/ ١٥٢، وذكره ابن حجر في "الإصابة" ٣/ ٣٧٤، ونقل عنه ابن السكن أنه قال: عبد الله والد منيب له صحبة.
(٤) أخرجه الطبراني، والبزار، وابن أبي حاتم، قال البزار: لا أعلم أسند عبد الله بن منيب إلا هذا الحديث. "تخريجات الكشاف" ٤/ ١٦٢.
وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد" ٧/ ١١٧.
واستشهد به الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٦٢٣، لحديث أبي الدرداء. وتعقبه الألباني بقوله: عمرو بن بكر السكسكي متروك كما في "التقريب" ٢/ ٦٦. قلت: فيتعجب منه كيف اعتبره شاهدًا مع هذا الضعف الشديد. "ظلال الجنة في تخريج السنة" ١/ ١٣ فالحديث ضعيف جدًّا؛ لأن عمرو بن بكر متروك وفيه عدة مجاهيل. "العظة" بتحقيق المباركفوري ٢/ ٤٨٣.
ومعنى الشأن في اللغة: خطب له عِظَم، وجمعه شؤون.
قال أبو الجوزاء (٢) في هذه الآية: ولا يشغله شأن عن شأن (٣)،
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ٧٩، وأبو الشيخ في "العظمة" ٢/ ٤٩٢، ٤٩٦، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ٢/ ٢٦٤، ٤٢٦، موقوفاً على ابن عباس، كلهم عن أبي حمزة الثمالي، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" بسنده برقم (١٢٥١١) وبرقم ٥٠٦ موقوفاً على ابن عباس، ص ٢٩٣.
قال الألباني في تعليقه على الطحاوية: (إسناده يحتمل التحسين، فإن رجاله كلهم ثقات غير بكير بن شهاب، وهو الكوفي، قال فيه أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات" ٢/ ٣٢، وفي كتاب "العظمة" قال محققه بعد ذكره لطرق الحديث: وإذا ضم إلى هذا الطريق -أي طريق أبي الشيخ- الطرق التي أوردناها وفيها ما يحتمل التحسين يرتفع عنه الضعف ويصل درجة الحسن، و"العظمة" ٢/ ٤٩٤.
وفي موقع آخر قال: ولكن للحديث طريق أخرى تجعل إسناده حسنًا موقوفًا من كلام ابن عباس ٢/ ٤٩٧ وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقاته على "الطحاوية" ٢/ ٣٤٤، بعد ذكره لتخريج الطبراني له: وسنده حسن. وانظر: "مجمع الزوائد" ٧/ ١٩١.
(٢) في (ك): (الجزاء) وانظر. "الدر المنثور" ٦/ ١٤٣ - ١٤٤، ونسب إخراجه إلى عبد بن حميد
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٤١٥، و"اللسان" ٢/ ٢٥٨ (شأن).
ولما ذكر أنه كل يوم هو في شأن ذكر فراغه من ذلك بمعنى تركه فعله فقال:
٣١ - ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ قال أبو عبيدة: سنحاسبكم، سنجمعكم ولم يشغله شيء تبارك وتعالى (٣)، فذكر أبو عبيدة في تفسير الفراغ المحاسبة والجمع؛ لأن المعنى سنترك ذلك الشأن إلى هذا، وإنما حسن لفظ الفراغ لسبق ذكر الشأن، هذا وجه في معنى الفراغ في صفة الله تعالى، وهذا معنى قول الكلبي: سنحاسبكم (٤).
قال الفراء: وهذا من الله وعيد؛ لأنه لا يشغله شيء عن شيء، وأنت قائل للرجل الذي لا شغل له: قد فرغت لي، قد فرغت لشتمي، أي: أخذت فيه وأقبلت عليه، هذا كلامه (٥)، ومعناه أنه وعيد بالمحاسبة
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٣٩ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٦، ونسبه للكلبي.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٤، وفيه (سنحاسبكم، لم يشغله) ولم يذكر الجمع.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٧.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٦.
وقال أبو إسحاق: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما: الفراغ من الشغل، والآخر: القصد للشيء، تقول: سأتفرغ لفلان، أي سأجعل قصدي إليه، ومعنى ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ سنقصد لحسابكم (١)، وهذا قول ابن الأعرابي في الآية (٢)، واختيار أبي علي، قال: وليس الفراغ هاهنا فراغًا من شغل، ولكن تأويله القصد، كما قال جرير:
الآن فَقَد فرغت إلى نمير | فهذا حينَ صِرتُ لهم عَذَابا (٣) |
وقال ابن قتيبة: الفراغ يكون من الناس بعد شغل، ثم قد ينتقل فيصير في معنى القصد للشيء، وذلك أنه إنما يقصد الشيء إذا فرغ مما يقطعه فيسمى القصد إلى الشيء فراغًا له كما كان يحصل عن فراغ من موانعه، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن فقوله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ أي سنقصد لكم بعد طول الترك والإمهال، وهذا معنى قول قتادة في هذه الآية: قد دنا من الله فراغ لخلقه (٤)، أي: قصد لمحاسبتهم، يريد أن الساعة قد أزفت.
وأما التفسير فأكثر المفسرين ذهبوا في تفسير هذا اللفظ إلى أنه وعيد
(٢) في (ك) من قوله: (وهذا قريب) إلى هنا مكرر. وانظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١١١ (فرغ).
(٣) ليس البيت في "ديوان جرير". وانظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٤٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٨، و"اللسان" ١/ ١٤٦ (أين).
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٤، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٣.
وذهب قوم إلى أن المعنى سنوفر عليكم ما وعدناكم من الحساب والجزاء بالثواب والعقاب وننجزه لكم، وهذا قول الحسن، وابن زيد، وابن كيسان (٢).
ويقال: فَرّغَ يَفْرَغُ وَيفْرُغُ وفَرغَ يَفْرَغُ. كل ذلك مروي عن أهل اللغة (٣).
وقراءة العامة (سنفرغ) بالنون. وقرئ بالياء على الغيبة (٤) لتقدم قوله: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ﴾ وقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾.
وقوله: ﴿أَيُّهَ الثَّقَلَانِ﴾ يريد الجن والإنس في قول الجميع.
قال أهل المعاني: وإنما وصف الجنس والإنس بأنهما ثقلان لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما، فهما أثقل وزنًا لعظم الشأن بالعقل والتمكين والتكليف لأداء الواجب في الحقوق (٥).
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: العرب تقول لكل شيء نفيس مصون: ثَقَل، وأصله من بيض النعام المصون، قال ثعلبة بن صُعير
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٠ أ، ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧١، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٦.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٩، و"اللسان" ٢/ ١٨٤ (فرغ).
(٤) (ك): من قوله (وقراءة العامة) إلى هنا مكرر. وقرأ حمزة، والنسائي، وخلف ﴿سيفرغ﴾ بفتح الياء وضم الراء. وقرأ الباقون ﴿سَنَفْرُغُ﴾ بالنون. انظر: "حجة القراءات" ٦٩٢، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٤٨ - ٢٤٩، و"النشر" ٢/ ٣٨١، و"الإتحاف" ص ٤٦.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٧١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٩.
فتَذَكَّرا ثقلًا رَثيدا بَعْدَما | أَلْقَتْ ذُكاءُ يمنيها في كافِر (٢) |
(٢) ورد البيت منسوبًا في "المحتسب" ٢/ ٢٣٤، و"المفضليات" ص ٢٥٧، و"تهذيب اللغة" ٩/ ٧٨ (ثقل)، و"اللسان" ١/ ٣٦٦ (ثقل)، وأماكن أخرى من الكتاب وهي المذكورة لاحقًا.
والظليم: الذكر من النعام، والجمع أظلمةُ وظُلمان وظِلمانُ، اللسان ٢/ ٦٥٢ (ظلم). والرثد: بالتحريك متاع البيت، و"اللسان" ١/ ١١٢٢ (رثد). وذُكاءُ (بالضم): اسم الشمس معرفة لا ينصرف ولا تدخلها الألف واللام، و"اللسان" ١/ ١٠٧٣ (ذكا). والكافر هنا هو المغيب، ويحتمل أن يكون أراد الليل، "اللسان" ٣/ ٢٧٤ (كفر).
(٣) عترته في تحديدها خلاف، والمشهور المعروف أنهم أهل بيته، وهم الذين حرمت طيهم الزكاة والصدقة المفروضة، وهم ذوو القربى الذين لهم خمس الخمس المذكور في سورة الأنفال. "اللسان" ٢/ ٦٧٧ (عتر).
(٤) رواه الترمذي في "سننه"، باب مناقب آل البيت، وقال. هذا حديث حسن غريب.
أبعد ابن عمرو من آل الشريد | حلت به الأرض أثقالها (١) |
وروي عن الصادق أنه قال: سُميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب (٣) ويدل على أن المراد بالثقلين الجن والإنس أن الله تعالى خاطبهما بعد هذا فقال:
٣٣ - ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ ولم يقل إن استطعتما؛ لأنهما إذا جمعا جمع (٤) واحد كما قال ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾ [الحج: ١٩] وكقوله ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ [النحل: ٤٥] ولو قيل: إن استطعتم كان صوابًا كما قال ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا﴾ ذكر ذلك الفراء والكسائي (٥).
قوله ﴿أَنْ تَنْفُذُوا﴾ يقال: نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه كالسهم ينفذ من الرمية نفوذا أو نفاذا، ونفذ من الشيء خرج منه، والنفذ المخرج، يقال: لهذا الطريق نفذ إلى مكان كذا، أي: مخرج، والنفاذ: الجواز، وهذا يستعمل بالباء يقال: نفذ بالشيء كما يقال: مر بالشيء (٦).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٣٨، و"اللسان" ١/ ٣٦٦ (ثقل).
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٠/ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٣١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٩، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٧.
(٤) ظاهر العبارة غير مستقيم، وفي "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٠/ ب (ولم يقل إن استطعتما لأنهما فريقان في حال الجمع).
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٦٩.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ٤٣٦، و"اللسان" ٣/ ٦٨٦، و"المفردات" ص ٥٠٠ (نفذ).
وفي تفسير هذه الآية قولان، أحدهما: أن المعنى: إن استطعتم أن تهربوا من الموت بأن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها، والمعنى أنكم حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء: ٧٨] ولن تستطيعوا أن تهربوا من بالخروج من أقطار السموات والأرض، وهذا قول ابن مسعود ومقاتل، قال: إن استطعتم أن تنفذوا من أطراف السموات والأرض هرابًا من الموت فانفذوا ﴿لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ يقول: إلا بملكي حيث توجهتم فثم ملكي وأنا آخذكم بالموت (٢)، وهذا إخبار عن عجزهم عن النفوذ من الأقطار، وأنهم في قبضة الجبار الذي لا يفوته مطلوب أين ما كان.
ومعنى (السلطان) القوة التي يتسلط بها على الأمر، ثم الملك والقدرة والحجة كلها سلطان، يدل على أنه واحد.
القول الثاني: أن الله تعالى يأمر الملائكة يوم القيامة فتحف بأطراف السموات والأرض فيكونون على أطرافها وتحضر جهنم فيسمع الجن والإنس زفيرها فيندون فيقال لهم: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ الآية، فلا يستطيع شيطان ولا إنس ولا جن يخرج من أقطارها، والمعنى أن تنفذوا
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧١، وأورده الطبري في "تفسيره" ٢٧/ ٨٠، وغيره عن الضحاك.
٣٥ - ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ﴾ " (٢).
قال أبو عبيدة: الشواظ النار التي تأجج لا دخان فيها، وأنشد لرؤبة فقال:
إن لهم من وقعنا أقياظا | نارَ حرب تُشعر الشواظا (٣) |
هجرتك فاختضعت بذل نفسي | بقافية تأجج كالشواظ (٤) |
قال ابن شميل: ويقال لحر النار شواظ، يقال: أصابني شواظ من
(٢) كذا أورده الثعلبي بدون سند، انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤١ أ.
(٣) لم أجد البيت في "ديوانه"، وانظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٤، و"جامع البيان" ٢٧/ ٨١، و"اللسان" ٢/ ٣٨٢، (شوظ) وأقياظ جمع: قيظ، وهو حميم الصيف، وهو من طلوع النجم إلى طلوع سهيل، والمراد بالنجم هنا الثريا.
"اللسان" ٣/ ٢٠٢، (قيظ).
(٤) انظر: "ديوان حسان" ١/ ١٩٣، وروايته:
مُجَلَّلَة تُغَمّمكمْ سناراً | مضرمةً تأجج كالشواظ |
وقرأ ابن كثير (وشِواظ) بكسر الشين؛ وهي قراءة الحسن (٣).
قال الفراء والمبرد: وهما لغتان، كما قالوا لجماعة البقر صُوار وصِوار (٤).
قال أبو الحسن: وأهل مكة يكسرون الشواظ (٥)، قال ابن عباس: يريد اللهب الذي لا دخان فيه، وهو قول المفسرين (٦)، وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار (٧).
وقوله ﴿وَنُحَاسٌ﴾ قال أبو عبيدة: النحاس الدخان وأنشد للجعدي:
يضيئ كضوء سراج السَّليط | لم يجعل الله فيه نحاسا (٨) |
(٢) كذا في (ك)، ولعلها (الفيح) وهو سطوع الحر وهيجانه.
(٣) قرأ الجمهور ﴿شُوَاظٌ﴾ بضم الشين، وقرأ ابن كثير والحسن، وابن محيصن، والأعمش بكسر الشين.
انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٢، و"النشر" ٢/ ٣٨١، و"الإتحاف" ص ٤٠٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٧، و"اللسان" ٢/ ٣٨٢ (شوظ)، ٢/ ٤٩٢ (حور).
(٥) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٤٩.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣١٨، و"الكشف والبيان" ٤١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧١.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨١، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٤.
(٨) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٤.
والبيت في "ديوان النابغة" ٧٥، و"شواهد الكشاف" ص ١٥٧، و"اللسان" ٣/ ٥٩٦ (نحس).
والسَّلِيطُ عند عامة العرب الزيت، وعند أهل اليمن دُهْنُ السمسم. ورجح ابن منظور أنه الزيت.
انظر: "اللسان" ٢/ ١٨٢ (سلط).
وقال مجاهد، وقتادة: النحاس الصفر المذاب يصب على رؤوسهم. (٢)
قال مقاتل: يعني الصفر الذائب، وهي خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار (٣)، وهذا القول في النحاس هو رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول ابن مسعود. قال: النحاس المهل، ونحو ذلك قال الربيع: هو القطر (٤).
وأكثر القراءة الرفع في قوله ﴿نحاس﴾ بالعطف على قوله (شواظ) والمعنى: يرسل عليكما شواظ ويرسل نحاس، أي: يرسل هذا مرة وهذا مرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (ونحاسٍ) كسرًا (٥). وهو ضعيف، لأن معنى الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه على ما ذكره أهل اللغة، والمفسرون فكيف يكون شواظ من نحاس، وإن جعلنا النحاس الصفر المذاب فهو
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٢، عن مجاهد وقتادة وسفيان، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤١ ب، وزاد نسبته لقتادة، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ أ، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤١ ب.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٩ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٢، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٢.
(٥) قرأ الجمهور "ونحاسٌ" بالرفع، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وروح "ونحاسٍ". انظر: "النشر" ٢/ ٣٨١، و"الإتحاف" ص ٤٠٦.
قال أبو علي: وهو يجوز من وجه على أن تقدره يرسل عليكما شواظ من نار وشيء من نحاس، يحذف الموصوف ويقيم الصفة مقامه، كقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ [الروم: ٢٤] و ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ [النساء: ٤٦٠] ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ [النساء: ١٥٩] ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ [التوبة: ١٠] وحذف الموصوف من هذا كله، كذلك في الآية، وقد جاء في الشعر:
وما راعنا إلا يَسيرُ بشرطةٍ | وعهدي به قينا يفش بكير (٢) |
على من تَنْزِلُ أنْزِلْ
وكما أنشد أبو زيد:
فأصبح من أسماء قيسٌ كقابض | على الماء لا يدري بما هو قابض (٣) |
(٢) البيت لمعاوية الأسدي كما في "الخصائص" ٢/ ٤٣٤، و"شرح المفصل" ٤/ ٢٧، و"التصريح بمضمون التوضيح" ١/ ٢٦٨، و"شرح شواهد الألفية" للعيني ٤/ ٤٠٠. وفش الكبير هو نفخه، والكير هو زق أو جلد غليظ ذو حافات.
انظر: "اللسان" ٢/ ١٠٩٧ (فشش)، ٣/ ٣٢١ (كير).
(٣) البيت للعجاج. انظر: "ديوانه" ١/ ١٢.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾ قال ابن عباس: يريد لا ناصر لكم من الله تعالى، وقال مقاتل (٢): فلا تمتنعان من ذلك (٣).
٣٧ - وقوله ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً﴾ قال أبو عبيدة: لونها كلون الورد (٤).
وقال الفراء: أراد بالوردة الفرس الورد، يكون في الربيع وردة إلى الصفرة فإذا استد البرد كانت حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغُبرة (٥). قال ابن دريد: الوردة شقرة تعلوها صفرة، يقال: فرس ورد، والجمع وارد، وسمي الذي يسمى وردًا لحمرته، قال أبو القاسم الزجاجي: أصل الواو والراء مع الدال على هذا النظام موضوع في كلامهم للمجيء والإتيان، يقال: وردت أرد ورودًا، ووردت الماشية الماء ترد. ثم
وانظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٥٠ - ٢٥٢.
قلت: وما قاله أبو علي كلام حسن، وفيه رد على من ضعف قراءة ابن كثير وأبي عمرو -رحمهما الله- وبيان لوجهها من الناحية اللغوية، وإذا صحت القراءة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما هنا فلن تعدم من يحتج لها من أهل العربية ولعل القصور في قواعد اللغة وليس في القراءة. والله أعلم.
(٢) في (ك): (مقاتلا).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٢.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٧.
كسيد الغضا نبهته المتورد
هو المتقدم على فرسته الذي لا يدفعه شيء، ثم شبه لون هذا المتورد بلون الأسد لأن الغالب عليه الشقرة فسمي وردًا، هذا قول ابن درستويه النحوي (١)، وليس بمرتضى؛ لأنهم سموا الفرس الذي هو بين الكميت الأحمر وبين الأشقر ويضرب إلى الصفرة وردًا، والكلام على هذا من طريق التحقيق أن الورد عند العرب من الألوان لون أبيض ورد عليه لون الحمرة والصفرة، هذا قول أبي إسحاق الزجاج (٢)، يقال: وردت المرأة خدها إذا أوردت عليه لونًا غير اللون الأصلي، قال: ونظير ذلك أنهم يسمون الظليم (٣) أخرج، والنعامة خرجاء إذا كان لونها يجمع السواد والبياض كأن لونًا خرج إلى لون آخر، ورماد أخرج وبرمة خرجاء فيها حجارة سود وبيض، وهذا استعمل فيه معنى الخروج من شيء إلى شيء كما استعمل في الأول معنى الورود.
قوله: ﴿كَالدِّهَانِ﴾ قال أبو عبيدة: جماعة دُهْن، وهو قول الفراء والمبرد والزجاج (٤).
وفي تفسير الآية قولان، أحدهما: وهو الذي عليه الأكثر أنه شبه
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠١.
(٣) الظليم هو ذكر النعام، وقد تقدم.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٧، و"مجاز القرآن" ٢/ ٤٣٩، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠١.
وقال الحسن: تلون ألوانًا (٢)، ثم شبه هذا الفرس الذي يتلون بالدهان بقوله ﴿كَالدِّهَانِ﴾ قال الفراء: شبه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه (٣)، وهذا قول الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع وأبي العالية وأكثر أهل التفسير (٤)، واختلاف (٥) الفراء والزجاج واحتج بقوله ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ [المعارج: ٥] أي كالزيت الذي قد أغلي، وذكر مقاتل السبب في تلون السماء. قال يعني فصارت من الخوف وردة (٦).
قال أبو إسحاق: تتلون من الفزع الأكبر كما يتلون الدهان (٧)، وعلى هذا يجب أن يكون الله تعالى ركب فيها عقلًا حتى يصح خوفها.
القول الثاني: أن المراد بالوردة هاهنا الحمرة والعرب تقول: عشية وردة إذا احمر أفقها عند غروب الشمس. وذلك علامة الجدب، ومنه قول زهير:
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٣، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٨.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٧.
(٤) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٨٢، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤٢ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٢.
(٥) كذا في (ك)، ولم يظهر لي معناها.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ أ.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠١.
عَلَونَ بأنماط عِتَاقٍ وَكلَّةٍ | ورادٍ حَوَاشيها مُشاكِهَةِ الدَّم (١) |
ومعنى الآية أن الله تعالى أخبر أن السماء تحمر حتى تفسير كالأديم الأحمر، وهذا القول اختيار قطرب وابن الأعرابي.
وذكر بعض أهل المعاني قولًا آخر، فقال: إن السماء تذوب يوم القيامة من حر نار جهنم فتصير حمراء ذائبة كالدهن وعلى هذا وقع التشبيه بالدهن في الذوبان والسيلان (٣).
٣٩ - وقوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ﴾ الآية، يعني: لا يسأل ليعرف ذلك بالمسألة، وليعرف المذنب من غيره، فلا يسأل سؤال إستفهام ولكن يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وهذا معنى قول مقاتل: لا يسأل لأن الله قد أحصى عمله (٤)، ومعنى قول الحسن قد حفظ الله عليهم أعمالهم، وهو قول قتادة، ورواية العوفي عن ابن عباس، قالوا: لا يسألون ليعرف ذلك من جهتهم، لأن الملائكة قد كتبت عليهم أعمالهم، ولا يسألون هل عملتم
والمعنى: أنه وصف الثياب الملقاة على الهودج بأنها حمر الحواشي، يشبه الوانها الدم في شجة الحمرة.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٣٩، و"اللسان" ٣/ ٩٠٨ (ورد).
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٢ أ، ونسبه لابن جريج، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ أ.
وقال مجاهد: لا يسألون ليعرف المجرمون فإنهم يعرفون بسيماهم (٢)، دليله قوله: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ﴾ الآية.
وقال عكرمة: إنها مواقف يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها (٣).
وقال الكلبي: هذا الفراغ من الحساب (٤)، واختار ابن قتيبة هذا القول وشرحه فقال: إن يوم القيامة كما قال الله -عز وجل- ﴿مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤] ففي هذا اليوم يسألون، وفيه لا يسألون، لأنهم حين يعرضون يوقفون على الذنوب ويحاسبون فإذا انتهت المسألة وخبت الحجة انشقت السماء فكانت وردة كالدهان وانقطع الكلام، وذهب الخصام، واسودت وجوه قوم وابيضت وجوه آخرين، وعرف الفريقان بسيماهم.
وقد حصل في هذا أربعة أقوال:
أحدها: لا يسألون سؤال استفهام عن ذنوبهم، وهو اختيار الزجاج (٥).
والثاني: لا يسألون ليعفروا بذنوبهم وهو اختيار الفراء (٦).
والآخر: لا يسألون في بعض المواقف.
والرابع: لا يسألون بعد الفراغ من الحساب.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٤.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٢ ب، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٥.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٤، و"فتح القدير" ٥/ ١٣٨.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠١.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٧.
والجان هاهنا واحد الجن، قال ثعلب، عن عمرو، عن أبيه: الجان من الجن وجمعه جنان (٢)، ويدل على صحة قول مجاهد في هذه الآية.
٤١ - قوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ قال جماعة المفسرين: يعرف بسواد الوجوه وزرقة الأعين (٣)، ودليل ذلك قوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] وقوله: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢].
قال عطاء عن ابن عباس في تفسير المجرمين في هذه الآية: يريد أبا جهل والأسود والوليد والنضر.
قوله تعالى ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾ قال الكلبي: تأخذهم الملائكة وهم على الصراط بنواصيهم فيصرعونهم في النار (٤).
وروى الأعمش عن رجل عن ابن عباس قال يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ويطرح في التنور (٥).
وقال أبو إسحاق نجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ويلقون في النار وذلك أشد لعذابهم والتشويه بهم (٦)، ويقال لهم:
٤٣ - ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ قال الكلبي: تقول الملائكة
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤٩٣، و"اللسان" ١/ ٥١٦ (جنن).
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٥، و"جامع البيان" ٢٧/ ٨٣.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٠، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٣.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "البعث والنشور"، و"الدر" ٦/ ١٤٥، وفي "تفسير ابن كثير" ٤/ ٢٧٥، عن الأعمش عن ابن عباس وذكره.
(٦) انظر: "معاني القران" ٥/ ١٠١ - ١٠٢.
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال:
٤٤ - ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ قال أبو عبيدة: (آن) بلغ إناه في شدة الحر وكل مدركٍ آن (٢).
وقال الفراء: هو الذي قد انتهى شدة حره (٣).
قال الزجاج: أني يأني فهو آنٍ إذا انتها في النضج والحرارة (٤).
قال عطاء: يريد قد انتهى غليانه كقوله ﴿مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ [الغاشية: ٥] يريد حارة (٥)، وقال الحسن: قد بلغ منتهى حره، وهذا قول الجماعة (٦).
ومعنى الآية أنهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم فإذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل، وهو قوله: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا﴾ [الكهف: ٢٩] الآية، نستجير بالله برحمته منهما (٧).
قال أهل المعاني (٨): وكل ما ذكر من قوله ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا﴾ إلى هنا مواعظ ومزاجر وتهدد ووعيد وزجر وتخويف وهي كلها نعمة من الله تعالى بالانزجار
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٨.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٠٢.
(٥) لم أجده عن عطاء، وعن ابن عباس قال: يقول: غلي حتى انتهى عليه، ومثله عن الضحاك.
انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٤.
(٦) قال ابن كثير: وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والحسن، والثوري، والسدي.
انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٦
(٧) في (ك): (قوله تعالى) زيادة لا فائدة منها.
(٨) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٢٥، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ١٢١.
٤٦ - ثم أعلم -عز وجل- ما لمن اتقاه وخافه، قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ وقد ذكرنا أن المقام يجوز أن يكون مصدرًا وموضعًا عند قوله ﴿خَيْرٌ مَقَامًا﴾ [مريم: ٧٣] وهاهنا أيضا يجوز المعنيان (١) فإن جعلته موضعًا كان المعنى مقامه بين يدي ربه للحساب، أي: المقام الذي يوقفه فيه ربه وإن جعلته مصدرًا جاز فيه وجهان، أحدهما:
قيامه لربه يدل عليه قوله ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: ٦]، والآخر: قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه بالعلم، ويدل عليه قوله ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ﴾ [الرعد: ٣٣] الآية.
والمفسرون على القول الأول في المقام، قال ابن عباس: يريد مقامه بين يدي ربه، خاف ذلك المقام فترك المعصية والشهوة (٢)
وقال مجاهد: إذا هم بمعصية فذكر مقام الله عليه في الدنيا فتركها (٣). وعلى هذا المقام مصدر.
قوله تعالى: ﴿جَنَّتَانِ﴾ كلام بعض المفسرين يدل على أن كل من ترك المعصية خوفًا من الله فله جنتان على حدته لا يشاركه فيهما غيره، وكلام بعضهم يدل على أنها جنتان لكل من خاف الله تبارك وتعالى بترك المعصية على المشاركة فيهما (٤) وهذا معنى قول مقاتل يعني جنة عدن وجنة
والمُقامة (بالضم): الإقامة. والمَقامة (بالفتح): المجلس والجماعة من الناس.
وأما المَقامُ والمُقامُ فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة "اللسان" ٣/ ١٩١، (قوم).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٠، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٣.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٥، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٣٤ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٦.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢/ ١٢٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٧.
قال الفراء: وقد يكون في العربية جنة واحدة فثنيت لرؤوس الآي كما قال (٣):
ومَهْمَهَيِنْ فذفين مَرَّتَيْنِ | قَطَعَّته بالأمَّ لا بالسمتين |
وأنكر ابن قتيبة ذلك أشد إنكار، وقال: نعوذ بالله أن نجيز على الله الزيادة والنقصان في الكلام لرأس آية كيف يكون هذا وهو يصفهما صفات الاثنين في قوله: ذواتا، وفيهما.
ولو أن قائلًا قال في خزنة النار إنهم عشرون وإنما جعلهم تسعة عشر
(٢) أخرج ابن مردويه عن عياض بن تميم أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا | وذكر نحو هذا وزيادة، وذكره القرطبي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه. |
(٣) البيت لخطام المجاشعي، وقيل لهيمان بن قحافة. وانظر: "الكتاب" ١/ ٢٤١، و"اللسان" ٢/ ١٩٧، وفيه (بالأم) بدلا من (بالسَّمْتِ)، و"الخزانة" ١/ ٣٦٧، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٠، وفي ألفاظه اختلاف.
والمعنى في البيت أنه قطع المفازة على طريق وحجة لا على طريقين، وقال: قطعته، ولم يقل: قطعتهما. والسمت: السير على طريق ما لظن، وقيل: هو السير بالحدس والظن على غير الطريق. والأَمّ: القصد على طريق مستقيم.
اللسان ٢/ ١٩٧ (سمت)، ٣/ ٥٤٤ (مهمه) ١/ ١٠١ (أمم).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٨.
نحن بني أم البنين الأربعة
وهم خمسة فجلهم للقافية أربعة ما كان في هذا القول إلا كالفراء (٢).
ثم وصفهما فقال:
٤٨ - ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ قال أبو عبيدة: الأفنان: الأغصان واحدها فَنَن وهو الغصن المستقيم طولًا، ويقال لخصل الشعر أفنان تشبيها لها بالأغصان.
ومنه قول حميد:
يَنْقُضْنَ أفنانَ السَّبيبِ والعُذُرْ (٣)
يصف الخيل ويقصد خصل شعر نواصيها وعرفها، وقال المرار:
أعلاقةً أمَّ الوُلَيدِ بعدَما | أفْنانُ رأسِك كالثغام المُخْلِسِ (٤) |
ونحن خير عامر بن صعصعه
وانظر: "ديوانه" ص ٣٤٠، و"الأغاني" ١٤/ ٩١، و"الكتاب مع شرح شواهده" للأعلم ١/ ٣٢٧، و"الخزانة" ٤/ ١٧١.
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٣٩ - ٤٤١.
وقال النحاس: وهذا القول -أي قول الفراء- من أعظم الغلط على كتاب الله -عز وجل-، يقول الله -عز وجل- ﴿جنتان﴾ ويصفهما بقوله ﴿فِيهِمَا﴾ فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٧.
(٣) "اللسان" ٢/ ١١٣٨ ولم ينسبه.
والسبيب: من الفرس شعر الذنب والعرف والناصية. "اللسان" ٢/ ٧٩ (سبب).
والعُذُرُ: جمع عذار وهو ما وقع منه على خدي الدابة. وقيل: عذَارُ اللجام السيران اللذان يجتمعان عند القفا. "اللسان" ٢/ ٧١٨ (عذر).
(٤) ورد البيت منسوبًا في "الكتاب مع شرح شواهده" للأعلم ١/ ٦٠، و"المقتضب" ٢/ ٥٤، و"تهذيب اللغة" ١٥/ ٤٦٦ (فنن)، و"أمالي الشجري" ٢/ ٢٤٢، و"الخزانة" ٤/ ٤٩٣.
وقال أبو إسحاق: الأفنان: الألوان (٢)، فقال أبو الهيثم: فسره بعضهم ذواتا أغصان وبعضهم ذواتا ألوان واحدتها حينئذ فن وفنن، كما قالوا: سن وسنن، وعن وعنن، قال الأزهري: واحد الأفنان إذا أردت بها الألوان فن، وإذا أردت بها الأغصان فنن، والفن الضرب من كل منها، وجمعه فنون وأفنان.
وأنشد الليث (٣):
قد لَبِسْتُ الدَّهْر من أفنْانِه | كل فنّ ناعمٍ منه حَبِرْ |
وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة، وهو قول سعيد بن جبير (٥). وجمع عطاء بين القولين فقال: يريد في كل غصن فنون من الفاكهة قال والفنون أصناف (٦).
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٢.
(٣) البيت للمرار بن منقذ العدوي كما ذكر في "المفضليات" ص ٨٢، و"تهذيب اللغة" ٥/ ٣٤، (حبر) والحبر: النعم. وقال شمر: الحبر صفرة تركب إنسان وهي الحِبْرَةُ. وانظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" ٢/ ١١٣٧ (فنن).
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٦، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤٣ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٢٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٤.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٤.
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٢٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٤.
وقال الحسن: تجريان بالماء الزلال إحداهما السلسبيل والأخرى النسيم (٢).
٥٢ - قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ أي ضربان وصنفان ونوعان، كل هذا من ألفاظهم، والمعنى أن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبًا ويابسًا، لا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، ولا رطبه عن يابسه في العدم (٣) كما يكون في الدنيا، وقيل: ضربان: ضرب معروف، وضرب من شكله غريب (٤).
قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا﴾ قال صاحب النظم: (متكئين) حال للذين ذكروا في قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾ (٥) و (من) ينبئ عن الجميع.
وقوله: ﴿بَطَائِنُهَا﴾ جمع بطانة، وهي التي تحت الطهارة، وذكرنا تفسيرها عند قوله: ﴿بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٨].
قال أبو إسحاق: وهي ما يلي الأرض (٦).
(١) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٨ - ١٧٩.
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٣ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٤.
(٣) كذا في (ك)، والوسيط ولم أتبين معناها.
(٤) "جامع البيان" ٢٧/ ٨٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٤.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣١٣، و"البحر المحيط" ٨/ ١٩٧.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٤، و"فتح القدير" ٥/ ١٤١.
وحكي عن ابن الزبير أنه ذكر قتلة عثمان فقال: قتلهم الله شر قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب، يعني: هربوا ليلًا فجعل ظهور الكواكب بطونا (١)، وهذا قول مقاتل قال: يعني ظواهرها (٢). ونحو ذلك قال المؤرج، قال: وهو بلغة القبط، وأنكر ذلك ابن قتيبة وقال: هذا من عجيب التفسير، كيف تكون البطانة ظهارة والطهارة بطانة، والبطانة ما بطن من الثوب وكان من شأن الناس إخفاؤه، والظهارة ما ظهر وكان من شأن الناس إبداؤه، وإنما يجوز ما قاله الفراء في ذي الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قومًا كحائط يلي أحد صفحيه قومًا والصفح الآخر قومًا أخرى فكل وجه من الحائط ظهر لمن يليه وكل واحد من الوجهين ظهر وبطن وكذلك وجها الجبل وما شاكله، ويجوز أن يجعل ما يليهما من وجه السماء والكواكب ظهرًا وبطنًا وكذلك سقوف البيت، فأما الثوب فلا يجوز أن يكون بطانته ظهارة، وظهارته بطانة، ولا يجوز لأحد أن يقول لوجه المصلى هذا بطانته ولما ولي الأرض ظهارته، وإنما أراد الله تعالى أن يعرفنا من حيث نفهم فضل هذه الفرش، وإنما ولي الأرض منها استبرق وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف (٣).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ ب، وذكره القرطبي ١٧/ ١٨ عن الحسن.
(٣) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٤١ - ٤٤٢.
وقال أبو هريرة: هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر (٢)، وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق فما الظواهر، فقال: هذا مما قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧]، وقال أيضًا: الظواهر من نور جامد (٣)، وقال ابن عباس: وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر (٤).
وقوله: ﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ قال المفسرون يعني: ما غلظ من الديباج، وذكرنا الكلام فيه في سورة الكهف (٥).
قوله تعالى: ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ الجنى: ما يجتنى من الثمار، قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدًا وإن شاء مضطجعًا (٦)، وقال قتادة: لا يرد يده بُعدٌ ولا شوك (٧).
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٤ أ، و"زاد المسير" ٨/ ١٢١، و"الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ١٧٩.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٦، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤٤ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٧٩.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٤، و"زاد المسير" ٨/ ١٢١.
(٥) عند تفسيره الآية (٣١) من سورة الكهف.
وانظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١١٨، و"اللسان" ١/ ١٩٧ (برق).
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٤/ ٣٢١، و"الوسيط" ٤/ ٢٢٧، و"ابن كثير" ٤/ ٢٧٧.
(٧) انظر: "تفسير عبدالرزاق" ٢/ ٢٦٥، و"جامع البيان" ٢٧/ ٨٧.
قوله تعالى: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾، قال مقاتل: يعني في الجنتين اللتين ذكرتا بعد في قوله ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ قال: وهي جنة عدن، وجنة النعيم، وجنة الفردوس، وجنة المأوى (٢) فقال أبو إسحاق: قوله (فيهن) وإنما ذكر جنتين يعني في هاتين الجنتين، وما أعد لصاحب هذه القصة غير هاتين الجنتين (٣).
وقال غيره من أهل المعاني (٤): الضمير يعود على الفرش وهي أولى بالعود عليها من الجنان لتقدم ذكرها، قال: ويجوز أن يرجع إلى الجنان لأنها معلومة فصارت كأنها قد ذكرت.
٥٦ - وقوله ﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ أي حور ونساء قاصرات الطرف، وقد تقدم تفسيرها عند قوله ﴿وَعِندَهُم قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ (٥).
قال ابن عباس: قصرت طرفها على زوجها فلا ترى أن خلقًا أكرم على الله منه ولا أجمل ولا أحسن (٦)، وقال ابن زيد: إنها لتقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئًا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك
(٢) انظر: "تفسر مقاتل" ١٣٦ ب.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٨.
(٤) قال الزمخشري: ﴿فِيهِنَّ﴾ في هذه الآلاء المعهودة من الجنين والعينين والفاكهة والفرش والجني، أو في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس. "الكشاف" ٤/ ٥٤.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤٤ ب، و"البغوي" ٤/ ٢٧٥.
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٧.
قوله تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ قال أبو عبيدة: لم يمسهن، يقال: ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه.
ونحو ذلك أخبرني العروضي (١) عن الأزهري قال: أخبرني المنذري، عن ابن فهم، عن محمد بن سلام، أنه سأل يونس عن قوله: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ فقال: تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي لم يمسه (٢).
وروى سلمة عن الفراء قال: الطمث الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية، والطمث هو الدم، وفيه لغتان: طَمَثَ يَطْمُثُ ويَطْمِثُ (٣). وقال الليث: طمثت الجارية إذا افترعتها، والطامث في اللغة هي الحائض، قال أبو الهيثم: يقال للمرأة طمثت تطمث أي أدميت بالافتضاض، وطَمَثَتْ على فعلت تطمث، إذا حاضت أول ما تحيض وهي طامث، وقال في قول الفرزدق (٤):
خرجن إليّ لم يطمثن قبلي | وهن أصحُّ من بيض النعامِ |
قال المفسرون: لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن، هذه ألفاظهم (٦)، وهم مختلفون في هؤلاء فبعضهم يقول: هن اللواتي أنشئن في الجنة من
(٢) انظر: "اللسان" ٢/ ٦١٢ (طمث) ذكر المعنى ولم يورد الرواية، ولم أقف عيها في "تهذيب اللغة".
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١١٩، و"اللسان" ٢/ ٦١٢ (طمث).
(٤) انظر: "ديوان الفرزدق".
(٥) انظر: "اللسان" ٢/ ٦١٢ (طمث).
(٦) وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس وعكرمة وابن زيد والكلبي وغيرهم. =
قال الشعبي: نساء من نساء الدنيا لم يمسسن منذ أنشئن خلقًا (١).
وقال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة (٢).
وقال عطاء عن ابن عباس: هن الآدميات اللاتي متن أبكارًا (٣).
وقال الكلبي: لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان (٤).
قال أبو إسحاق: وفي هذه الآية دليل أن الجني يغشى كما أن الإنسي يغشى (٥)، وهذا مذهب ضمرة بن حبيب (٦) سئل: هل للجن من ثواب؟ فقال: نعم، وقرأ هذه الآية. ثم قال: الإنسيات للإنس، والجنيات للجن (٧).
وقال مجاهد في هذه الآية: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان
(١) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر.
انظر: "الدر" ٦/ ١٤٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٥.
(٢) قاله مقاتل ومجاهد. انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٨١.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٢٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٥، و"روح المعاني" ٢٧/ ١١٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٣.
(٦) هو ضمرة بن حبيب بن صهيب الزُبيدي، أبو عتبة الحمصي، ثقة، مات سنة ثلاثين ومائة، أخرج له الجماعة. انظر: "طبقات ابن سعد" ٧/ ٤٦٤، و"تقريب التهذيب" ١/ ٣٧٤، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٥٩.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٨، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤٥ أ، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٨، و"الدر" ٦/ ١٤٨.
والضمير في قوله: ﴿قَبْلَهُمْ﴾ للمعنيين بقوله ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ وهم أزواج هؤلاء النسوة.
٥٨ - قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ قال عامة المفسرين (٢): أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان، شبههن في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان، يدل على هذا ما قال عبد الله: إن المرأة من نساء أهل المجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير فيرى بياض ساقيها من ورائهن، ذلك بان الله يقول: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ ألا وإن الياقوت حجر لو جعلت فيه سلكًا ثم استصفيته نظرت إلى السلك من وراء الحجر (٣).
٦٠ - قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ هذا استفهام معناه النفي، أي: ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في
(٢) وممن قال بهذا عمرو بن ميمون، والحسن، وقتادة، وابن زيد، والسدي، ومقاتل. انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ أ، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٥، و"جامع البيان" ٢٧/ ٨٨، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٨.
(٣) أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب في صفة نساء أهل الجنة، وابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ٨٨، وابن أبي حاتم، كما ذكر ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٢٧٨، وغيرهم، عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم من طريق عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب، وأخرجه الترمذي وابن جرير من طرق أخرى، وفيها عطاء بن السائب موقوفاً. وقال الترمذي: هو أصح، وعطاء بن السائب اختلط في آخر عمره. وذكر الطحاوي أن حديثه الذي كان منه قبل تغيره يؤخذ من أربعة لا من سواهم وهم شعبة وسفيان الثوري وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد. انظر: "الكواكب النيرات" ص ٣٢٥.
وهذا الحديث ليس من طريق هؤلاء، وهو ضعيف بهذا الإسناد. وفي معناه ورد =
قال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا الجنة (٢)، وقال مقاتل: هل جزاء التوحيد إلا الجنة (٣).
وقال السدي: هل جزاء الذين أطاعوني في الدنيا إلا الكرامة في الجنة (٤).
هذا معنى قول الجميع (٥)، وروي هذا المعنى مرفوعًا رواه ابن عمرو وابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "يقول الله تعالى: هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحضرة قدسي برحمتي" (٦).
(١) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٣.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٥، و"الوسيط" ٤/ ٢٢٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٦.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٦ ب.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٦ أ.
(٥) قال الرازي: وفيه -أي الآية- وجوه كثيرة حتى قيل: إن في القرآن ثلاث آيات في كل آية منها مائة قول. ومنها هذه الآية.
انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ١٣١.
(٦) رواه ابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ٨٩، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٨/ ١٢٣، والبغوي في "معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٦، قال محقق "زاد المسير": رواه البغوي في تفسيره وفي إسناده ضعف. وقال السيوطي في "الدر" ٦/ ١٤٨: أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... وانظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٧٨، والألفاظ تختلف عما ذكره المؤلف. وطريقته كما هو معلوم الرواة بالمعنى، ولكثرتها لم أتطرق إلى ذكر الاختلاف فيها، والله أعلم.
وذهب الضحاك إلى ضد ما ذكر هؤلاء فقال: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة، والآخريان من ياقوت وزمرد، وهما أفضل من الأوليين (٥).
وعلى هذا قوله: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا﴾ أي ومن أمامهما وقبلهما وهو قول الكسائي وذكرنا معاني (دون) عند قوله: ﴿شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣].
٦٤ - ثم نعتهما فقال: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ قال أبو عبيدة: من خضرتهما قد اسودتا من الري (٦). قال أبو إسحاق: وكل نبت اخضر، فتمام خضرته وريّه أن يضرب إلى السواد (٧).
ومعنى الدَّهْمَةَ في كلام العرب السواد، يقال: أدهم بيّن الدهمة
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٦ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٨٣.
(٣) انظر: "نفسير مقاتل" ١٣٧ أ.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨٩، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٤٦ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٦.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٨٤.
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٦.
(٧) انظر: "معانى القرآن" ٥/ ١٠٣.
قال ابن عباس: شديد الخضرة إلى السواد (٢).
وقال الكلبي: خضراوان قد علاهما سواد من شدة الخضرة والري (٣)، وهذا معنى قول الجميع، والأصل في ذلك أن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، وسميت العرب الأخضر أسود والأسود أخضر، قال ابن الأعرابي: الخضرة عند العرب سواد، وأنشد القطامي:
يا ناق خُبِي خَبَبَاَ زِوَرَّا | عارضي الليلَ إذا ما اخْضَرَّا |
في ظِلّ أخضر يَدْعُو هامَة البُومُ (٤)
ومن هذا يقال أباد الله خضراءهم أي سوادهم هذا في الأسود الذي وصف بالخضر، وأما الأخضر الذي وصف بالسواد فهو قول ذي الرمة أنشده ابن قتيبة في تفسير هذه الآية يصف غيثًا:
كسا الأكم بهمى غَضَّةَ حَبَشِيَّةً | توامًا ونُقعانُ الظَّهورِ الأقارعِ (٥) |
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٨٤.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٦.
(٤) وصدره:
قد أعْسِفً النازحَ المجهولَ مَعْسِفُهُ
وانظر: "الديوان" ١/ ٤٠١، و"الحيوان" ٦/ ١٧٥، و"تهذيب اللغة" (خضر).
والعسف: ركوب الأمر بلا تدبير ولا روية ٧/ ٩٩ ورواية الديوان:
في ظل أعصف يدعو هامهُ اليوم
(٥) البيت في "ديوانه"، و"اللسان" ٣/ ٦٦ (قزع).
والبُهمى: نبت تجد به الغنم وجدًا شديدًا ما دام أخضر، والقعان: جمع (نقع) وهو مجتمع الماء. والظهور القوارع: الأراضي المرتفعة الشديدة الصلبة.
حواء قرحاء أَشْرَاطِيَّةُ وكفت | فيها الذَهابُ وَحَفَّتْها البراَعِيمُ (٢) |
قال أبو علي: وعلى ضد هذا وصف الجدب البياض فقيل سنة شهداء من ذلك قول أوس:
علي دبر الشهر الحرام بأرضنا | وما حولها جدب سنون تلمع (٣) |
٦٦ - وقوله تعالى: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ قال أبو عبيدة: فوارتان. قال الليث: النضخ فور الماء من العين (٤). وقال المبردت النضاخة الرفاعة بالماء.
واختلفوا في الذي تنضخ به العينان، فقال عطاء عن ابن عباس وابن مسعود وأنس: تنضخ على أولياء الله المسك والعنبر والكافور، وفي دور أهل الجنة كما ينضخ طش المطر (٥)، وقال الحسن وعطاء الخراساني: تنبعان ثم تجريان (٦)، وهو قول سعيد بن جبير، وزاد فقال: نضاختان
(٢) انظر: "الكامل" ٣/ ٣٦.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ١١١ (نضخ).
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٦ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٨٥.
(٦) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤٦ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٨٥.
وقال الكلبي: نضاختان بالخير والبركة على أهل الجنة، وهو قول قتادة ومقاتل والضحاك (٢).
٦٨ - قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ قال المفسرون: يعني ألوان الفاكهة وألوان الرمان.
قال ابن عباس: والرمانة مثل جلد البعير المقتب (٣)، وثمر النخلة والرمان من جملة الفاكهة غير أنهما ذكرا على التفصيل للتفضيل فأخرجا من الجملة بالذكر كقوله ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] فأعاد الوسطى بعد أن ذكرها في الجملة تشديدًا لها. كذلك أعيد النخل والرمان ترغيبًا لأهل الجنة هذا قول الفراء (٤).
وقال أبو إسحاق: قال يونس النحوي -وهو يتلو الخليل في القدم
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٥، و"تفسير مقاتل" ١٣٧ أ، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٦، واختار الطبري قول من قال بأن المراد تنضخان بالماء؛ لأنه المعروف بالعيون إذ كانت عيون ماء. "جامع البيان" ٢٧/ ٩١، وأخرج البخاري عن ابن عباس في قوله ﴿نَضَّاخَتَانِ﴾ قال فياضتان. "صحح البخاري"، كتاب: التفسير، سورة الرحمن ٦/ ١٨١. قلت: ولا تعارض بين ما رواه البخاري، وما رجحه ابن جرير؛ لأن الماء هو مصدر الخير كله والله أعلم.
(٣) رواه الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٤٧ أ، من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو هارون اسمه عمارة بن حديث، ضعيف جدًّا، و"تخريجات العراقي لإحياء علوم الدين" ٤/ ٥٤٢، وذكره القرطبي ١٧/ ١٨٦، وابن كثير في ٤/ ٢٧٩، من حديث أبي سعيد الخدري يرفعه، ونسبا تخريجه لابن أبي حاتم.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١١٩.
وغلط أهل العراق حين لم يجعلوا الحالف أن لا يأكل الفاكهة حانثا بأكل الرمان والتمر وظنوا أنهما لما ذكرا بعد الفاكهة ليسا من الفاكهة (٢) وهو خلاف قول جميع أهل اللغة ولا حجة لهم في الآية.
قال الأزهري: ما علمت أحدًا من العرب قال في النخيل والكُروم وثمارها إنها ليست من الفاكهة، وإنما قال من قال ذلك لقلة علمه بكلام العرب وعلم اللغة وتأويل القرآن العربي المبين، والعرب تذكر أشياء جملة ثم تخص شيئًا منها بالتسمية تنبيهًا على فضل فيه، قال الله -عز وجل-: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ﴾ إلى قوله ﴿وَمِيكَالَ﴾ فمن قال إنهما ليسا من الملائكة لإفراد الله إياهما بالتسمية فهو كافر، ومن قال: إن ثمر النخل والرمان ليس من الفاكهة لإفراد الله إياهما بالتسمية بعد ذكر الفاكهة فهو جاهل، هذا كلامه (٣).
(٢) قال أبو حنيفة وأبو ثور: وحجتهم أن المعطوف يغاير المعطوف عليه، وخالفهم في ذلك الجمهور من الفقهاء وأهل اللغة. انظر: "المغني" ١٣/ ٥٩١ - ٥٩٢.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٥ (فكه).
قلت: غفر الله للأزهري في كلامه هذا، إن كان ينبغي له وهو أهل فضل وعلم أن يعرف لأهل الفضل فضلهم فأصحاب هذا القول -رحمهم الله- وإن جانبهم الصواب فيه، فلهم من السبق والرسوخ ما يرفع من قدرهم ومكانتهم عند من جاء بعدهم، عفا الله عن الجميع وجمعنا وإياهم في جنته.
وخيرات جمع خَيْرة، وهي في الأصل بالتشديد ثم خفف، كما قيل: هَيْنٌ وليْنٌ، وذكر الفراء فيها ثلاث لغات: خَيْرَة وخِيْرَةٌ وخَيِّرة (٢) وكذلك في الجمع.
وقال المبرد: الخيرة الفاضلة المقدمة ولقال رجل خَيِّرٌ وامرأة خَيِّرةٌ (٣) وأنشد أبو عبيدة: (٤)
ولقد طَعَمْتُ بجامع الرَّبلات | رَبَلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ المَلِكاتِ |
تأبري يا خيرة النسيل
وفرق الليث بين الخَيِّرة والخَيْرَة، قال: خَيِّرَةٌ صالحة وخَيْرَةٌ في جمالها ومَيسَمِها (٥). قال الأزهري: ولا فرق عندي بينهما في المخففة من
وقال الشوكاني: قيل: وهذه الصفة عائدة إلى الجنان الأربع، ولا وجه لهذا فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهن قاصرات الطرف كأنهن الياقوت والمرجان، وبين الصفتين بنون بعيد. "فتح القدير" ٥/ ١٤٣.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٢.
(٣) يقال: رجل خَيْرٌ وخَيِّرٌ، مشدد ومخفف. وامرأة خَيْرَةٌ وخَيِّرَةٌ. انظر: "اللسان" ١/ (٩٢٦) (خير).
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٦. والبيت لرجل من بني عَدِي تيم، تميمي جاهلي. انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٥٤٦، و"اللسان" ١/ ٩٢٦ (خير).
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٥٤٦، (خار).
قال جماعة المفسرين (٢) يعني خيرات الأخلاق حسان الوجوه، وهو تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روت عنه أم سلمة (٣).
٧٢ - قوله تعالى: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ تقدم تفسير الحور (٤)، والمقصورات المحبوسات، ويجوز أن يكون محبوسات في الخيام، وهو معنى قول أبي عبيدة: خدرن (٥) في الخيام، ونحوه قال مقاتل: محبوسات في الخيام (٦)، ويجوز أن يكون محبوسات على أزواجهن، ولا يرون غيرهم وهن في الخيام، وهذا معنى قول المفسرين: قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، ولا يطمحن إلى سواهم، ذكره الفراء (٧).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ٥٤٦ (خار) وعبارته (عند أهل المعرفة باللغة) بدلاً من قول المؤلف (عندي).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩١، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨.
(٣) والحديث رواه ابن جرير ٢٧/ ٩٢، والثعلبي ١٢/ ٤٧ ب، والبغوي ٤/ ٢٧٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٨/ ١١٦. وقال محقق "زاد المسير": رواه ابن جرير الطبري، وفي سنده ضعف.
(٤) عند تفسيره الآية (٥٤) من سورة الدخان. والحَوَرُ: أن يشتد بياض العين وسواد سوادها، وتستدير حدقتها، وترق جفونها ويبيض ما حواليها. وإنما قيل للنساء حور العين؛ لأنهن شبههن بالظباء والبقر. "اللسان" ١/ ٧٥٠ (حور).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٦، ومعناه: سترن في الخيام. والخدرُ سِتْرٌ يمد للجارية في ناحية البيت. "اللسان" ١/ ٧٣٦ (خدر).
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٧ أ.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٢٠.
والخيام جمع خَيم وخيم: جمع خيمة، وهي أعواد تنصب وتظلل بالثياب في القيظ فيكون أبرد من الأخبية (٢)، ذكره ابن السكيت.
وقال ابن الأعرابي: الخيمة لا تكون إلا أربعة أعواد ثم تسقف بالثُّمام ولا تكون من ثياب (٣)، ومنه قول النابغة:
فلم يبقَ إلا آلُ خَيْمٍ منصدٍ وسُفْعٌ | على آسٍ وَنُؤْيٌ مُعَثْلِبُ |
وَضَعْنَ عِصِى الحَاضِرِ المتَخَيَّمِ
هذا معنى الخيام في اللغة، قال أبو عبيدة (٥): والهوادج أيضًا خيام وأنشد للبيد فقال:
شاقتك ظعن الحي يوم تحمَّلوا | فتكنَّسُوا قطنًا تَصرُّ خِيامُها (٦) |
(٢) انظر: "اللسان" ١/ ٩٣٣ (خيم)، و"فتح القدير" ٥/ ١٤٣.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ٦٠٧، و"اللسان" ١/ ٩٣٣ (خيم).
والثُّمامُ: شجر واحدته ثمامة وثمة، وهو نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص. "اللسان" ١/ ٣٧٥ (ثمم).
(٤) وصدر البيت:
فلما وردن الماء زرقاً جمامه
انظر: "الديوان" ٧٨، و"اللسان" ١/ ٩٩٣ (خيم).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٦.
(٦) البيت ورد في معلقة لبيد. انظر: "شرح المعلقات السبع" للزوزني ٧٥.
وروى قتادة عن ابن عباس قال: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب (٢).
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "والخيمة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون" (٣).
قوله: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ قال صاحب النظم: قال الله تعالى: ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّنَانِ﴾ ولم يذكر لهما أهلًا كما ذكره لما قبلهما من الجنتين فلما قال (متكئين) دل أنه أراد أهلهما، وإنما كف عن ذكر أهلها اقتصارًا على ذكر أهل الجنتين اللتين قبلهما، واكتفاء بالذكر الأول عن الثاني، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥]. قال في فصل آخر متصل بهذا الفصل ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [الإسراء: ٧]، والتأويل: بعثناهم ليسوؤا فكف عن ذكره اكتفاء بالأول (٤).
وأما الرفرف فقال الليث: الرفرف ضرب من الثياب خضر تبسط،
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٦٧، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وأبي الأحوص. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٨.
(٣) "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب: حور مقصورات في الخيام، ٦/ ١٨٢، و"صحيح مسلم"، كتاب: الجنة، باب (٣٣). "مسند أحمد" ٣/ ١٠٣.
(٤) انتهى كلام صاحب النظم ولم أجده فيما اطلعت عليه، وكتابه مفقود كما تقدم بيانه.
وإنا لنزالون تغشى فعالنا | سواقط من أصناف ربط ورفزف (٣) |
قال ابن الأعرابي: الرفرف هاهنا طرف الفسطاط (٦)، فشبه ما فضل من المجالس عما تحته بطرف الفسطاط فسمى رفرفًا يؤكد هذا ما روى هارون بن عنترة، عن أبيه (٧)، عن ابن عباس، قال في قوله:
٧٦ - ﴿رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ فضول المجالس، والبسط والفرش (٨) وهو قول
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ١٧١، و"اللسان" ١/ ١٢ (رفف).
(٣) لم أجده عند أبي عبيدة. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٠٥.
(٥) انظر: " النهاية في غريب الحديث والأثر" ٢/ ٢٤٢) رفرف).
(٦) انظر: "تهذيب اللغة"، و"اللسان" ١/ ١٢٠٠ (رف، رفف).
(٧) هو عنترة بن عبد الرحمن الكوفي، ثقة، وهم من زعم أن له صحبة. انظر: "تقريب التهذيب" ٢/ ٨٩.
(٨) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩.
والمحبس: المقرمة: يعني الستر، وهي التي تبسط على وجه الفراش للنوم، و"اللسان" ١/ ٥٥١ (حبس).
قال الحسن: كان أهل الجاهلية يقولون هي البسط (٢).
قال سعيد بن جبير: وهي الرياض، وهو قول الكلبي. (٣)
وقوله: ﴿وَعَبْقَرِيٍّ﴾ قال أبو عبيدة: كل وشى من البسط عبقري قال ويروى أنها أرض يَوشى فيها (٤).
وقال الليث: عبقر موضع بالبادية كثير الجن يقال في المثل: كأنهم جن عبقر، وقال أبو عبيدة في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما ذكر عمر "فلم أر عبقريًّا يفري فريه" (٥).
قال أبو عبيدة: وإنما أصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى عبقر، وهي أرض يسكنها الجن فصارت مثلًا لكل منسوب إلى شيء رفيع، وأنشد لزهير (٦):
يخيل عليها جِنّةٌ عَبْقَرّيةٌ | جَدِيرون يوما أن ينالوا فيستعلوا |
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٥، وفيه: هي البسط. أهل المدينة يقولون: هي البسط.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٧، و"جامع البيان" ٢٧/ ٩٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٩٧٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٦. وقوله: (أرض يوشَّى فيها) هو ما ذكر أن عَبْقَر قرية تسكنها الجن فيما زعموا فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريباً. قالوا: عبقري. ومنه عبقري للبسط التي فيها الأصباغ والنقوش وشيت بها. اللسان (عبقر).
(٥) جزء من حديث أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه منها، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، ٥/ ١٣، ومسلم في "صحيحه"، كتاب: فضائل الصحابة (١٩)، وأحمد في "المسند" ٢/ ٢٨، ٣٩.
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٤٦، و"تهذيب اللغة"، و"اللسان" ٢/ ٦٧٢ (عبقر). والبجت في "ديوان زهير" ص ١٠٣، و"المحتسب" ٢/ ٣٠٦.
جِنُّ الْبَدِيٍّ رواسيًا أقدامُها
وقال آخر يصف المرأة:
جنية أو لها جن يعلِّمُها | رمي القلوب بقوس ما لها وتر |
وروى سلمة عن الفراء قال: العبقري السيد من الرجال، وهو الفاخر من الحيوان والجوهر (٣).
فلو كانت عبقر مخصوصة بالوشي لما نسب إليها غير الموشى، وإنما نسب إليها البسط الموشاة العجيبة الصنعة لما ذكرنا نسب إليها كلما بولغ في وصفه.
غُلِبَ تَشَذو بالذَّخُولِ كانَّها
ومعناه: أنهم رجال غلاظ الأعناق كالأسود يهدد بعضهم بعضًا بسبب الأحقاد التي بينهم. ثم شبههم بجن هذا الموضع (البدّي) في ثباتهم في الخصام والجدل. وانظر: "ديوانه" ص ١٧٧، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ص ٩٠، و"الإنصاف" ص ٧٧٢، و"الخزانة" ٤/ ١٥٧.
(٢) انظر: "اللسان" ٢/ ٦٧٢، (عبقر)، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ١٩٢.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٨، و"المفردات" (عبقر)، و"اللسان" ٢/ ٦٧٢ (عبقر).
وقال قتادة: هي عتاق الزرابي (٣)، وهو قول سعيد بن جبير (٤).
وقال مجاهد: الديباج الغليظ (٥).
وعبقري هاهنا: جمع، واحده عبقرية، لذلك قال: ﴿حِسَانٍ﴾ فجمع وأما قراءة من قرأ عباقري حسان وهي تروى عن عاصم الجحدري (٦) ورويت أيضًا مرفوعة (٧)، قال أبو عبيدة: وهذا وجه لا إسناد له ولا أراه محفوظًا ولو كان له أصل لكان على ترك الإجراء؛ لأنه وجه الإعراب (٨).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٢٣.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٧٨.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٥، و"تفسير مجاهد" ٢/ ٦٤٤، ومعنى "عتاق الزرابي" أي كرام الوسائد.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩٢.
(٦) هو عاصم بن أبي الصباح الجحدري الضري، أخذ القراءة عرضًا عن سليمان بن قثه عن ابن عباس، وقرأ أيضًا على نصر بن عاصم، والحسن، ويحيى بن يعمر، وقراءته في الكامل والإفصاح فيها مناكير، ولا يثبت سندها، والسند إليه صحيح في قراءة يعقوب من قراءة على سلام عنه، مات قبل الثلاثين ومائة. انظر: "غاية الرواية" ١/ ٣٤٩.
(٧) انظر: "المحتسب" ٢/ ٣٠٥ "مختصر ابن خالويه" ص ١٥، و"الكشاف" ٤/ ٥٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٩١، و"البحر المحيط" ٨/ ١٩٩.
(٨) قال النحاس: (وإسنادها ليس بالصحيح، وزعم أبو عبيد أنها لو صحت لكانت وعَبَقريَّ بغير إجراء، وزعم أنه هكذا يجب في العربية، وهذا غلط بين عند جميع النحويين؛ لأنهم قد أجمعوا جميعًا أنه يقال: رجل مَدَائني، بالصرف.
انظر: "إعراب القرآن" ٣/ ٣١٧، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٩.
وقال المبرد: أخطأ القاسم في "عباقري" أنه لو كان له وجه لكان ترك الإجراء وجه الإعراب، لأن ياء النسب تجعله كالواحد كقولك مدائني فينصرف؛ لأنه يصير إلى الواحد ويزول عنه بناء الجمع، ومن نسب إلى عباقر وهو جمع لم يجز إلا عبقري كالنسب إلى مساجد مسجدي، وإلى الفرائض فرضي، وإن كان اسما لواحد قلت عباقري فتصرفه، كما تقول في كلاب (٣)، وفي المدائني مدائني لأنه اسم لواحد، ولو نسب إلى جماعة الكلاب قيل كلبي.
ثم ختم السورة بما ينبغي أن يمجد به ويعظم فقال، قوله -عَزَّ وَجَلَّ-:
٧٨ - ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ تقدم تفسير الجلال والإكرام في هذه السورة.
وقرأ ابن عامر: ذو الجلال (٤) والإكرام بالرفع إجراء على الاسم وذلك دليل ظاهر على أن الاسم هو المسمى؛ لأن ذو الجلال من صفة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا من صفة التسمية.
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٥/ ١٠٤ - ١٠٥.
(٣) كذا في (ك)، ولعلها (كلاب كلابي).
(٤) قرأ ابن عامر "ذو الجلال" صفة للاسم، والباقون "ذي الجلال" صفة للرب.
انظر: "حجة القراءات" ص ٦٩٤، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٥٣، و"النشر" ٢/ ٣٨٢، و"الإتحاف" ص ٤٠٧.