تفسير سورة الرحمن

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الرحمن
وسميت في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا عروس القرآن ورواه موسى ابن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه لأظهار كذلك ( وهي مكية ) في قول الجمهور وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله تعالى عنهم وابن النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة وحكى ذلك عن مقاتل وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا وحكى أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى :( يسأله من في السماوات والأرض ) الآية وحكى الأستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعنيه وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي وسبع وسبعون في الحجازي وست وسبعون في البصري ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي : أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وامر ) ثم وصف عز وجل حال المجرمين ( في سقر ) وحال المتقين ( في جنات ونهر ) فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة والإشارة إلى شدتها ثم وصف النار وأهلها ولذا قال سبحانه :( يعرف المجرمون بسيماهم ) ولم يقل الكافرون أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك :( إن المجرمين ) ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم :( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) وذلك هو عين التقوى ولم يقل آمن أو أطاع أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها وقال أبو حيان في ذلك : أنه تعالى لما ذك هناك مقر المجرمين في سعر ومقر المتقين ( في جنات ونهر عند مليك مقتدر ) وذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثاره القدرة ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان هناك على جهة الأختصار ولما أبرز قوله تعالى :( عند مليك مقتدر ) بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين فقيل :( الرحمن ) الخ والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز وجل وبين عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعي عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة النام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم إثر كل فنمنها إخلالهم بمواجب شكرها وهذا التكرار أحلى من السكر إذا تكرر وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضي التكرار في سورة ( الرحمن ) إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب واشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا :
على أن ليس عدلا من كليب إذاما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا رجف العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبأة من الخدور
على أن ليسعد لا من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب غداة تأثل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جاش المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولو لا خوف الملل لأوردتها ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله وقسم في الأتفاق التكرار إلى أقسام وذكر أن منه ما هو لتعدد بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ثم قال : وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى :( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) فإنهما وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله : إن التأكيد الخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمنع وإن لزم منه التأكيد فافهم

كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا رجف العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب غداة تأثل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جأش المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ثم قال: وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من سورة الرحمن فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله: إن التأكيد إلخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم، وبدأ سبحانه من النعم بتعليم القرآن فقال عز قائلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه
97
ومناطه، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه، ونصبه على أنه مفعول ثان- لعلم- ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه- أي علم الإنسان القرآن- وهذا المفعول هو الذي كان فاعلا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال: علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، ويمكن أن يقال:
أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه، وقيل: المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام، وقيل: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى القولين يتضمن ذلك الاشارة إلى أن القرآن كلام الله عز وجل، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد ما بناء على ما في الإتقان نقلا عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثني منه جبريل عليه السلام، وقيل: عَلَّمَ من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر، أو علامة للنبوة ومعجزة، وهذا على ما قيل: يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: ١] وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة.
وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم، والمراد بتعليم القرآن قيل:
إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتدّ به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئا فيه.
أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعا «إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصّر عما بين لنا في القرآن، وقال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى: وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠] وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى، والرَّحْمنُ مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر، وإسناد تعليمه إلى اسم الرَّحْمنُ للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه، وقيل: الرَّحْمنُ خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل: لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله
98
في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإن كان الأمر بالعكس خارجا، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة، ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم الْبَيانَ فقال سبحانه: عَلَّمَهُ الْبَيانَ لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
والمراد بتعليمه نحو ما مر، وفي الإرشاد أن قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ تعيين للمتعلم، وقوله سبحانه: عَلَّمَهُ الْبَيانَ تبيين لكيفية التعليم، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن. وقيل إنه بناء على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين:
إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعا فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: ٧٧- ٧٩] وفي النظم الجليل عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضا وقال الضحاك: الْبَيانَ الخير والشر، وقال ابن جريج: سبيل الهدى وسبيل الضلالة، وقال يمان: الكتابة والكل كما ترى، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بيانا في قوله سبحانه: هذا بَيانٌ [آل عمران: ١٣٨] وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد وقال قتادة:
الْإِنْسانَ آدم، والْبَيانَ علم الدنيا والآخرة، وقيل: الْبَيانَ أسماء الأشياء كلها. وقيل: التكلم بلغات كثيرة، وقيل: الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن كيسان: الْإِنْسانَ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه قيل: المراد بالبيان بيان المنزل. والكشف عن المراد به كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:
٤٤] أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مرادا به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا، وهذه أقوال بين يديك، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا. ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة عَلَّمَ الْقُرْآنَ وكذا قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كائن أو مستقر بِحُسْبانٍ أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب- كما قال قتادة وغيره- أي هما يجريان بِحُسْبانٍ مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب، وقال الضحاك وأبو عبيدة: هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما، وقال مجاهد: الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة، وعليه فالباء للظرفية، والجار والمجرور في موضع الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم، والمراد كل من الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في فلك، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه.
وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا، وأن القمر يجري على الأرض، والأرض تجري على الشمس، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا
99
يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدا مثل حالهم بالأمس، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع، ومثل هذه الجملة قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فإن المعطوف على الخبر خبر، والمراد- بالنجم- النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له، وبالشجر النبات الذي له ساق، وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير وأبي رزين والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا، شبه جريهما على مقتضى طبيعتيهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له. ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية، وقال مجاهد وقتادة والحسن- النجم- نجم السماء وسجوده بالغروب ونحوه وسجود الشجر بالظل واستدارته عند مجاهد والحسن وفي رواية أخرى عن مجاهد أن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يريد سبحانه بهما طبعا، والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولا قبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه، وإن كان تقدم الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة، وإخلاء الجمل الثانية والثالثة والرابعة عن العاطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلا مما تضمنته نعمة مستقلة تقتضي الشكر، وقد قصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة.
وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ علويان وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ سفليان، ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عز وجل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بتسخير غيره تعالى، ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ له كذا قالوه، وفي الكشف: تبيينا لما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثّرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا، ثم يأخذ في أخرى ولو جيء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك في شيء، ولما قضي الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق، وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور.
وجملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليست من أخبار المبتدأ، والزمخشري إنما سأل عن وجه الربط، وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذ يعد عليه أصول النعم ليثبت على ما طلب منه من الشكر، وهذا كما تقول في المثال السابق بعد قولك: فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكته ولم يخرج أحد من حياطة عدله ونصفته، فلا يشك ذو أرب أنها جمل منقطعة عن الأولى إعرابا متصلة بها اتصالا معنويا أورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لأخر، وقريب من هذا الاتصال اتصال قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: ٦] الآية بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: ٣] الآية انتهى.
100
وقد أبعد المغزى فيما أرى إلا أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كونه قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ من الأخبار فتأمل وَالسَّماءَ رَفَعَها أي خلقها مرفوعة ابتداء لا أنها كانت مخفوضة ورفعها، والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز وجل، وقرأ أبو السمال «والسماء» بالرفع على الابتداء، ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه اسمية معطوفة على مثلها، وإنما الإشكال في النصب لأنه بفعل مضمر على شريطة التفسير أي ورفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة- والنجم والشجر يسجدان- الكبرى لزم تخالف الجملتين لمعطوفة والمعطوف عليها بالاسمية والفعلية وهو خلاف الأولى، وإن عطفت على جملة يَسْجُدانِ الصغرى لزم أن تكون خبرا- للنجم والشجر- مثلها، وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما، وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وأجاب أبو علي باختيار الثاني، وقال: لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء، وتلا باب قولهم متقلدا سيفا ورمحا، وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذا تضمن نكتة، وقال الطيبي:
الظاهر أن يعطف على جملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين، ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل في كتب النحو وَوَضَعَ الْمِيزانَ أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما
قال عليه الصلاة والسلام: «بالعدل قامت السماوات والأرض»
أي بقيتا على أبلغ نظام وأتقن إحكام، وقال بعضهم: المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لولا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا، وأما الملأ الأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل، فذكرهم للمبالغة، والذي اختاره أن المراد بالسماوات والأرض العالم جميعه ولا شك أنه لولا العدل لم يكن العالم منتظما. ومنشأ ما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل في الحكم لفصل الخصومات ونحوه وليس كما ظن بل المراد به عدل الله عز وجل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه. وتفسير الميزان بما ذكر هو المروي عن مجاهد والطبري والأكثرين، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المراد به ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما، فالمعنى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم، والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق، وقيل: هو حقيقة فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان، والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى أذهانهم من لفظ الْمِيزانَ سواه، وقيل: المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام.
ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشدّ ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل، وقد قرأ عبد الله- وخفض الميزان- والأول بأنه أتم فائدة فزن ذلك بميزان ذهنك أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن (أن) ناصبة و (لا) نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى:
وَضَعَ الْمِيزانَ وجوز ابن عطية والزمخشري كون (أن) تفسيرية و (لا) ناهية.
واعترضه أبو حيان بأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل (أن) مفسرة، وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهم والسلام، وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع
101
الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه، وفيه ما لا يخفى وفي البحر قرأ إبراهيم «ووضع الميزان» بإسكان الضاد، وخفض الميزان على أن وَضَعَ مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل وَضَعَ مرفوع أو منصوب، فإن كان مرفوعا فالظاهر أنه مبتدأ وأَلَّا تَطْغَوْا بتقدير الجار في موضع الخبر. وإن كان منصوبا فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل «وضع الميزان» أو ووضع وضع الميزان أَلَّا تَطْغَوْا إلخ، وقرأ عبد الله- لا تطغوا- بغير (أن) على إرادة القول أي قائلا، أو نحوه لا قل- كما قيل- و (لا) ناهية بدليل الجزم.
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ قوموا وزنكم بالعدل، وقال الراغب هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال، وعن مجاهد أن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذ والإعطاء، وقال سفيان بن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب، والظاهر أن الجملة عطف على الجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية، وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب، وجعل بعضهم لا في الاولى مطلقا ناهية حرصا على التوافق وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه وكرر لفظ الْمِيزانَ بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديدا للتوصية وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه، بل في الجمل الثلاث تكرار ما معنى لذلك، وقرىء «ولا تخسروا» بفتح التاء وضم السين، وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين.
وحكى ابن جني وصاحب اللوامح عن بلال أنه قرأ بفتحهما، وخرّج ذلك الزمخشري على أن الأصل- ولا تخسروا في الميزان- فحذف الجار، وأوصل الفعل بناء على أنه لم يجىء إلا لازما، وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعديا كقوله تعالى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام: ١٢] وغيرها وخَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الحج: ١١] فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال، وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعديا هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذف المفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسريها يوم القيامة بسبب الميزان بأن لا تراعوا ما ينبغي فيه، والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال: إن قوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه، ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرا فيكون ممن قال سبحانه فيه: مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [الأعراف: ٩، المؤمنين: ١٠٣، القارعة: ٨] وكلا المعنيين متلازمان، وقيل: المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان، أو جعل الميزان مجازا عن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل وَالْأَرْضَ وَضَعَها خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد، وقال الراغب: الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر، وقيل: أي خفضها مدحوّة على الماء، والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها لم تخلق مدحوّة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس، ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز وجل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبده لِلْأَنامِ قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والشعبي ومجاهد على ما في مجمع البحرين: الحيوان كله، وقال الحسن: الإنس والجن.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس هم بنو آدم فقط ولم أر هذا التخصيص لغيره رضي الله تعالى عنه، ففي القاموس الأنام الخلق أو الجن والإنس، أو جميع ما على وجه الأرض، ويحتمل أنه أراد أن المراد به هنا ذلك بناء على أن اللام للانتفاع وأنه محمول على الانتفاع التام وهو للإنس أتم منه لغيرهم، والأولى عندي ما حكي عنه أولا، وقرأ أبو السمال «والأرض» بالرفع- وقوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ إلخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض
102
موضوعة لنفع الأنام، وقيل: حال مقدرة من الأرض، أو من ضميرها، فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور، وفاكِهَةٌ رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع- كم- بكسر الكاف وقد تضم، وهذا في- كم- الثمر، وأما- كم- القميص فهو بالضم لا غير، أو كل ما يكم ويغطى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلا، واختاره من اختاره، ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف وَالْحَبُّ هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير ذُو الْعَصْفِ قيل: هو ورق الزرع، وقيده بعضهم باليابس، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب وعن السدي والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ما ينبت، وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضا، واختار جمع ما روي عنه أولا، وفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف وَالرَّيْحانُ هو كل مشموم طيب الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وأخرج عن الحسن أنه قال: هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف: وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس:
كما أخرج هو أيضا عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق، وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر، وعليه قول بعض الأعراب، وقد قيل له: إلى أين أطلب من ريحان الله فإنه أراد من رزقه عز وجل، ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له، وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو «والريحان» بالجر عطفا على الْعَصْفِ إذ يبعد عليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل: والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم، وذو اللب الذي هو رزق لكم، وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفا على فاكهة كما في قراءة الرفع، والجر للمجاورة وهو كما ترى، والزمخشري بعد أن فسر الْأَكْمامِ بما ذكرناه ثانيا فيها وَالرَّيْحانُ باللب قال: أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه: والجامع بين التغذي والتلذذ- وهو ثمر النخل- وما يتغذى به- وهو الحب- وهو على ما في الكشف بيان لإظهار وجه الامتنان وأنه مستوعب لأقسام ما يتناول في حال الرفاهية لأنه إما للتلذذ الخالص وهو الفاكهة، أو له وللتغذي أيضا وهو ثمر النخل، أو للتغذي وحده وهو الحب، ولما كان الأخيران أدخل في الامتنان شفع كلا بعلاوة فيها منة أيضا، وأن تعلم أنه إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ملائكته وجبريل كما قيل في قوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: ٦٨] وإذا كان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفرى، فالعطف ليس على ذلك، وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير الْأَكْمامِ بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا، ثم قال: ولا ينافي جعله منه في قوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ إلخ نظرا إلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل.
وقرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة- والحب ذا العصف والريحان- بنصب الجميع، وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب إلخ، وقيل: يجوز تقدير أخص، وفيه دغدغة، وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف والأصل وذو أو وذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والرَّيْحانُ فيعلان من الروح. فأصله ريوحان قبلت الواو ياء لاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياء فصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل: ريحان كما قيل: ميت وهين بسكون الياء.
وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياء للتخفيف وللفرق بينه
103
وبين الروحان بمعنى ما له روح فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين لأنهما داخلان في الأنام على ما اخترناه، أو لأن الأنام عبارة عنهما على ما روي عن الحسن، وسينطق بهما في قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: ٣١] وفي الاخبار كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ما يؤيده، وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم، وأبعد أكثر منه من قال: إنه خطاب على حد أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: ٢٤] ويا شرطي اضربا عنقه، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونه منه عز وجل مع عدم الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه منه تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا صريحا، أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر وشهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فَبِأَيِّ فرد من أفراد نعم مالككما ومربيكما بتلك النعم تُكَذِّبانِ مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد،
فقد أخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الافراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ سورة «الرحمن» على أصحابه فسكتوا فقال: ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ما أتيت على قول الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد».
وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر بن عبد الله نحوه
، وقرىء «فبأي» بالتنوين في جميع السورة كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه آلاءِ رَبِّكُما بدل معرفة من نكرة.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين، والمراد بالإنسان آدم عند الجمهور. وقيل: الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، وأصله- كما قال الراغب- تردد الصوت من الشيء اليابس ومنه قيل: صل المسمار، وقيل: هو المنتن من الطين من قولهم: صل اللحم، وكأن أصله صلال فقلبت إحدى اللامين صادا ويبعد ذلك قوله سبحانه: كَالْفَخَّارِ وهو الخزف أعني ما أحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر، وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين وَخَلَقَ الْجَانَّ هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن، وقال مجاهد: هو أبو الجن وليس بإبليس، وقيل: هو اسم جنس شامل للجن كلهم مِنْ مارِجٍ من لهب خالص لا دخان فيه- كما هو رواية عن ابن عباس- وقيل: هو اللهب المختلط بسواد النار، أو بخضرة وصفرة وحمرة- كما روي عن مجاهد- من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط، ومِنْ لابتداء الغاية، وقوله تعالى: مِنْ نارٍ بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل: خلق من نار خالصة، أو مختلطة على التفسيرين، وجوز جعل مِنْ فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة، وأيا ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالنسبة إلى الإنسان، وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما أفاض عليكما في تضاعيف
104
خلقكما من سوابغ النعم رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب إلخ، أو الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة- رب مشرقي الشمس صيفا وشتاء ومغربيها- كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرقا الشتاء ومشرق الصيف، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكر الشمس، وقيل: المشرقان مشرقا الشمس والقمر، والمغربان مغرباهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الفجر ومشرق الشفق، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشمس ومغرب الشفق، وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا، وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلع الشمس والمعول ما عليه الأكثرون من مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات، وقيل: رَبُّ مبتدأ والخبر قوله تعالى: مَرَجَ إلخ، وليس بذاك.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ربّ» بالجر على أنه بدل من ربكما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته.
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما وأجراهما من- مرجت- الدابة- في المرعى- أرسلتها فيه، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب يَلْتَقِيانِ أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين، وقيل:
أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه، وروي هذا عن قتادة لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الفرقان: ٥٣] والقرآن يفسر بعضه بعضا، وعليه قيل: جملة يَلْتَقِيانِ حال مقدرة إن كان المراد- إرسالهما إلى المحيط، أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة الله تعالى، أو من أجرام الأرض كما قال قتادة لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية بالكلية بناء على الوجه الأول فيما سبق، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما بناء على الوجه الثاني، وروي هذا عن قتادة أيضا، وفي معناه ما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن لا يَبْغِيانِ عليكم فيغرقانكم، وقيل: المعنى لا يطلبان حالا غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما لكما في ذلك من المنافع
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ صغار الدر وَالْمَرْجانُ كباره كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه
ومجاهد، وأخرجه عبد عن الربيع وجماعة منهم المذكوران وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: اللُّؤْلُؤُ ما عظم منه وَالْمَرْجانُ اللؤلؤ الصغار.
وأخرج هو وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه، وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن مجاهد، وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانيا فيهما. وأخرج عبد الرزاق الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبري عن ابن مسعود أنه قال:- المرجان- الخرز الأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف، واللُّؤْلُؤُ عليه شامل للكبار والصغار. ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل: لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة هو، والجؤجؤ الصدر وقرية بالبحرين، والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين أو ثمان وتسع وعشرين أو ثلاث ليال من آخره، والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل والسيد الظريف ورأس المكحلة وإنسان العين ووسط الشيء، واليؤيؤ بالياء آخر الحروف طائر كالباشق، ورأيت في كتب اللغة على هذا البناء غيرها وهو الضؤضؤ الأضل للطائر. والنؤنؤ بالنون المكثر تقليب الحدقة والعاجز الجبان، ومن ذلك شؤشؤ دعاء الحمار إلى الماء وزجر الغنم والحمار للمضي. أو هو دعاء للغنم لتأكل، أو تشرب وأما
105
المرجان فقد ذكره صاحب القاموس في مادة- مرج- ولم يذكر ما يفهم منه أنه معرب، وقال أبو حيان في البحر: هو اسم أعجمي معرب. وقال ابن دريد: لم أسمع فيه بفعل متصرف.
وقرأ طلحة- اللؤلئ- بكسر اللام الأخيرة. وقرىء اللؤلي بقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة. وقرأ نافع وأبو عمرو «يخرج» مبنيا للمفعول من الإخراج، وقرىء «يخرج» مبنيا للفاعل منه ونصب «اللّؤلؤ والمرجان» أي يخرج الله تعالى. واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذب والملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ من أحدهما وهو الملح فكيف قال سبحانه: مِنْهُمَا؟ وأجيب بأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه، وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقد ينسب إلى الاثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. ومثله ما في الانتصاف عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وعلى ما نقل عن الزجاج سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: ١٥، ١٦]، وقيل: إنهما لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح ويرده المشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولا آخر بل ذكره لتقوية الاتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى.
وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من ذلك. وهو عندي تقدير معنى لا تقدير إعراب. وقال الرماني: العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والأنثى أي بواسطتهما، وقال ابن عباس، وعكرمة: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواهها فتتكون منه، ولذا تقل في الجدب، وجعل عليه ضمير مِنْهُمَا للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناء على ما أخرجه ابن جرير عنه أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض.
وأخرج هو وابن المنذر عن ابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناء على تفسير بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ ترددا وإن قالوا: إنه يتكون في نيسان، وقال بعض الأئمة: ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام الناس، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح، ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر الله تعالى من الماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذا بالملوحة كما تلتذ المتوحمة بها في أوائل حملها حتى إذا خرج لم يمكنه العود، وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم، والله تعالى أعلم ومن غريب التفسير ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج عن إياس بن مالك (١) نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ
، وذكر الطبرسي من الإمامية في تفسيره مجمع البيان الأول بعينه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري، والذي أراه أن هذا إن صح ليس من التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات، وكل من عليّ وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علما وفضلا، وكذا كل من الحسنين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب
(١) هكذا بالأصل ولعله انس بن مالك فدخله التصحيف.
106
جاوزت حدّ الحسبان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الأطباء أن اللُّؤْلُؤُ يمنع الخفقان والبحر وضعف الكبد والكلى والحصى وحرقة البول والسدد واليرقان وأمراض القلب والسموم والوسواس والجنون والتوحش والربو شربا والجذام والبرص والبهق والآثار مطلقا بالطلي إلى غير ذلك، وأن المرجان أعني بالبسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقا ونفث الدم والطحال شربا والدمعة والبياض والسلاق والجرب كحلا إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وَلَهُ الْجَوارِ السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السماوات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم هم منشئيها لا يخرجها من ملكه عز وجل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منه عز وجل، وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «الجوار» بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله:
لها ثنايا أربع حسان... وأربع فكلها ثمان
الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات الشرع- كما قال مجاهد- من أنشأه بمعنى رفعه، وقيل: المرفوعات على الماء وليس بذاك، وكذا ما قيل المصنوعات، وقرأ الأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر بخلاف عنه «المنشآت» بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو اللاتي ينشئن السير إقبالا وإدبار، وفي الكل مجاز، وشدد الشين ابن أبي عبلة، وقرأ الحسن «المنشآت» وحد الصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: ٢٥، آل عمران: ١٥، النساء: ٥٧] وقلب الهمزة ألفا على حد قوله:
إن السباع لتهدأ في مرابضها يريد لتهدأ والتاء لتأنيث الصفة كتبت تاء على لفظها في الأصل فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات ومَنْ للتغليب أو للثقلين فانٍ هالك وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته عز وجل، والمراد هو سبحانه وتعالى، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس، وهو مجاز شائع، وقيل: أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ.
والظاهر أن الخطاب في- ربك- للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته، وفي الآية عند المؤولين كلام كثير منه ما سمعت، ومنه ما قيل:
الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه، وأقرب منه ما قيل: وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في كُلُّ مَنْ عَلَيْها وقيل: وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حدّ ذاته فإنه فان في كل وقت، وقيل: المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعالى، والاضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حدّ ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غير مرتبط
107
بعلته أعني الوجود الحق كان معدوما لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا، وقول العلامة البيضاوي: لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف، فمنهم من يجعل قوله: لو استقريت إلخ تتمة لتفسيره الأول، ومنهم من يجعله وجها آخر، وهو على الأول أخذ بالحاصل، وعلى الثاني قيل: يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافا حقيقيا بأن يكون الوجود زائدا عليها قائما بها، وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين، وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائما بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره- فالله نور السماوات والأرض- والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: ٩١] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين.
ووجه التطبيق على الأول أن يقال: المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن- وإن كان موجودا حقيقة عند الجمهور- لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلولية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن الوجوب الذاتي المنافية له، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبا وإن كان بالغير، ولذا يعقبه فيضان الوجود، ولذا تسمعهم يقولون: الممكن ما لم يجب لو يوجد.
ووجه التطبيق على الثاني أن يقال: الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازا، فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرا له سبحانه، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال: المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى.
فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز وجل، وهو كونه شأنا من شؤونه واعتبارا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينا بالله عز وجل.
ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي يجعله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ما له سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه: ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم، وفسر
108
بعض المحققين الْجَلالِ بالاستغناء المطلق وَالْإِكْرامِ بالفضل التام وهذا ظاهر، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها، ثم ألحق بالحقيقة، ولذا قال الجوهري: عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير، وقال الكرماني: إنه تعالى له صفات عدمية مثل لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: ١٦٣] وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجلّ عن كذا جل عن كذا وصفات وجوديه- كالحياة والعلم- وتسمى صفات الإكرام، وفيه تأمل.
والظاهر أن ذُو صفة للوجه، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء مَنْ عَلَيْها لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق، والاشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفا وكأن من يقول بذلك يقول: ذُو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له، ثم قطعت عن التبعية، ويؤيده قراءة أبيّ وعبد الله- ذي الجلال- بالياء على أنه صفة تابعة للرب، وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره، فهو من أجلّ أوصافه سبحانه، ويشهد له ما
رواه الترمذي عن أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام»
أي الزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم،
وروى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس «أنه كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه: أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال:
والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى»
.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء، والحياة الأبدية، والإثابة بالنعمة السرمدية، وقال الطيبي: المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجلّ النعم، ولذلك خص الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب، والتحذير من مثل ذلك نعمة، فلذا رتب عليها بالفاء قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ إلخ، وليس بذاك.
109
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثا وبقاء وفي سائر أحوالهم سؤالا مستمرا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا فهم في كل آن سائلون.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ الرحمة، ومن في- الأرض- المغفرة والرزق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج يَسْئَلُهُ الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة.
وأهل الأرض يسألونهما جميعا وما تقدم أولى. ولا دليل على التخصيص.
والظاهر أن الجملة استئناف. وقيل: هي حال من- الوجه- والعامل فيها يَبْقى أي هو سبحانه دائم في هذه الحال، ولا يخفى حاله على ذي تمييز كُلَّ يَوْمٍ كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات.
هُوَ فِي شَأْنٍ من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصا، ويفني آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة،
وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجه ابن حيان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين» زاد البزار «ويجيب داعيا»
، وقيل: إن لله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر: عسكر من الأصلاب إلى الأرحام، وعسكر من الأرحام إلى الدنيا، وعسكر من الدنيا إلى القبور. والظاهر أن المراد بيان كثرة شؤونه تعالى في الدنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا.
وقال ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان: أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والاحياء. وثانيهما اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب، وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئا فرد عز وجل عليهم بذلك، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، وانتصب كُلَّ يَوْمٍ على الظرف، والعامل فيه هو العامل في قوله تعالى فِي شَأْنٍ، وهُوَ ثابت المحذوف: فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينا فحينا سَنَفْرُغُ لَكُمْ الفراغ في اللغة يقتضي سابقة شغل.
والفراغ للشيء يقتضي لا حقيقته أيضا، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن فجعل انتهاء الشؤون المشار إليها بقوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغا لهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال: فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء- وأخذه تعالى في جزائهم فحسب- بحال من فرغ له، وجازت الاستعارة التصريحية التبعية في سَنَفْرُغُ بأن يكون المراد سنأخذ في جزائكم فقط الاشتراك الأخذ في الجزاء فقط، والفراغ عن جميع المهام إلى واحد في أن المعنى به ذلك الواحد، وقيل: المراد التوفر في الانتقام والنكاية، وذلك أن الفراغ للشيء يستعمل في التهديد كثيرا كأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبق له شغل غيره فيدل
110
على التوفر المذكور، وهو كناية فيمن يصح عليه، ومجاز في غيره كالذي نحن فيه، ولعل مراد ابن عباس والضحاك بقولهما- كما أخرج ابن جرير عنهما- هذا وعيد من الله تعالى لعباده ما ذكر، والخطاب عليه قيل: للمجرمين، وتعقب بأن النداء الآتي يأباه، نعم المقصود بالتهديد هم، وقيل: لا مانع من تهديد الجميع، ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يوم القيامة، وقول ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك توعدا بعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه، وقيل:
إن فرغ يكون بمعنى قصد، واستدل عليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير:
ألان وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت لهم عذابا
أي قصدت، وأنشد النحاس:
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث «لأتفرغن لك يا خبيث»
قاله صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبا به أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك، ونقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء، والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك، فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقا تنجيزيا بجزائهم، وقرأ حمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي- سيفرغ- بياء الغيبة، وقرأ قتادة والأعرج «سنفرغ» بنون العظمة وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها- وهو لغة تميم- كما أن سَنَفْرُغُ في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز، وقرأ أبو السمال وعيسى «سنفرغ» بكسر النون وفتح الراء وهي- على ما قال أبو حاتم- لغة سفلى مضر، وقرأ الأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما وابن أبي عبلة والزعفراني «سيفرع» بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول وقرأ عيسى أيضا «سنفرع» بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضا- سيفرغ- بفتح الياء والراء وهي لغة، وقرىء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده، وقرأ أبيّ «سنفرغ» إليكم عداه بإلى فقيل: للحمل على القصد، أو لتضمينه معناه أي سَنَفْرُغُ قاصدين إليكم أَيُّهَ الثَّقَلانِ هما الإنس والجن من ثقل الدابة وهو ما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والإنس والجن ثقلاها، وما سواهما على هذا كالعلاوة، وقال غير واحد: سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شأنهما. ويقال لكل عظيم القدر مما يتنافس فيه: ثقل، ومنه
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي»
وقيل: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف، وعن الحسن لثقلهما بالذنوب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنه لما ذكر سبحانه أنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز وجل ذلك ببيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده فقال سبحانه: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إن قدرتم، وأصل الاستطاعة طلب طواعية الفعل وتأتيه.
أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله تعالى فارّين من قضائه سبحانه فَانْفُذُوا فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل، والأمر للتعجيز لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل، روي أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، وقيل: هذا أمر يكون في الدنيا، قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة، وقيل: المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا، وقيل: المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السماوات والأرض فنفذوا لتعلموا لكن لا
111
تَنْفُذُونَ
ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم، وروي ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: ٩] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة، وقيل: على الوجه الأخير فيما تقدم أي مما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السماوات العلا يُرْسَلُ عَلَيْكُما استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما شُواظٌ هو اللهب الخالص كما روي عن ابن عباس، وأنشد عليه أبو حيان قول حسان:
هجوتك فاختضعت لنا بذل بقافية تأجج كالشواظ
وقيل: اللهب المختلط بالدخان، وقال مجاهد: اللهب الأحمر المنقطع، وقيل: اللهب الأخضر، وقال الضحاك: الدخان الذي يخرج من اللهب، وقيل: هو النار والدخان جميعا، وقرأ عيسى وابن كثير وشبل «شواظ» بكسر الشين مِنْ نارٍ متعلق- بيرسل- أو بمضمر هو صفة- لشواظ- و «من» ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم وَنُحاسٌ هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشد له قول الأعشى، أو النابغة الجعدي:
تضيء كضوء السراج السلي ط لم يجعل الله فيه نحاسا
وروي عنه أيضا، وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤوسكما صفر مذاب، والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال: وذلك لشبهه في اللون بالنحاس، وقرأ ابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو «ونحاس» بالجر على أنه عطف على نار، وقيل: على شُواظٌ وجر للجوار فلا تغفل.
وقرأ الكلبي وطلحة ومجاهد بالجر أيضا لكنهم كسروا النون وهو لغة فيه، وقرأ ابن جبير- ونحس- كما تقول يوم نحس، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضا «ونحس» مضارعا، وماضيه حسه أي قتله أي ونقتل بالعذاب، وعن ابن أبي إسحاق أيضا- ونحس- بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير وحنظلة بن عثمان- ونحس- بفتح النون وكسر السين، والحسن وإسماعيل- ونحس- بضمتين والكسر، وهو جمع- نحاس- كلحاف ولحف، وقرأ زيد بن علي- نرسل- بالنون- شواظا- بالنصب- ونحاسا- كذلك عطفا على شواظا فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان وهذا عند الضحاك في الدنيا أيضا.
أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية: تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القردة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا، وقال في البحر: المراد تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار من عداد الآلاء فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انصدعت يوم القيامة، وحديث امتناع الخرق حديث خرافة، ومثله ما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الانشقاق فيها على زعمهم أيضا متصور فَكانَتْ وَرْدَةً أي كالوردة في الحمرة، والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج وقتادة، وقال ابن عباس وأبو صالح: كانت مثل لون الفرس الورد، والظاهر أن مرادهما كانت حمراء.
112
وقال الفراء: أريد لون الفرس الورد يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحمرة، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل، وروي هذا عن الكلبي أيضا، وقال أبو الجوزاء: وَرْدَةً صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة، ونصب وَرْدَةً على أنه خبر- كان- وفي الكلام تشبيه بليغ، وقرأ عبيد بن عمير «وردة» بالرفع على أن- كان- تامة أي فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها، أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة:
فلئن بقيت لأرحلن بغزوة نحو المغانم أو يموت كريم
حيث عنى بالكريم نفسه، وقوله تعالى: كَالدِّهانِ خبر ثان لكانت- أو نعت- لوردة- أو حال من اسم- كانت- على رأي من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى: كَالْمُهْلِ [الكهف: ٢٩، الدخان: ٤٥، المعارج:
٨] وهو دردي الزيت، وهو ما جمع دهن كقرط وقراط، أو اسم لما يدهن به كالحزام والأدام، وعليه قوله في وصف عينين كثيرتي التذارف:
كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تدهنا بدهان
وهو الدهن أيضا إلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء، ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على وقيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة، وقيل: اللمعان، وقال الحسن: أي كالدهان المختلفة لأنها تتلون ألوانا وقال ابن عباس:
الدهان الأديم الأحمر ومنه قول الأعشى:
وأجرد من كرام الخيل طرف كأن على شواكله دهانا
وهو مفرد، أو جمع، واستدل للثاني بقوله:
تبعن الدهان الحمر كل عشية بموسم بدر أو بسوق عكاظ
وإذا شرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان، أو وجدت أمرا هائلا، أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا، ولهذا كان مفرعا ومسببا عما قبله لأن في إرسال الشواظ ما هو سبب لحدوث أمر هائل، أو رؤيته في ذلك الوقت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أيّ لطف ونعمة أيّ نعمة فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر.
لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف، وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢] في موقف آخر قاله عكرمة وقتادة، وموقف السؤال على ما قيل: عند الحساب، وترك السؤال عند الخروج من القبور، وقال ابن عباس: حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير، وحيث نفي فهو استخبار فحض عن الذنب، وقيل: المنفي هو السؤال عن الذنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه، وأنت تعلم أن في الآيات ما يدل على السؤال عن نفس الذنب.
وحكى الطبرسي عن الرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه، ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك، وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى، وضمير ذنبه للإنس وهو متقدم رتبة لأنه نائب عن الفاعل، وإفراده باعتبار اللفظ، وقيل: لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد- ولا جأن- بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان على حدّه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما سمعت في سباقه
113
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال، والْمُجْرِمُونَ قيل: من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهم المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: ٧٨]، وسيماهم- على ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون، وقيل: ما يعلوهم من الكآبة والحزن، وجوز أن تكون أمورا أخر- كالعمى. والبكم. والصمم..
وقرأ حماد بن سليمان بسيمائهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي جمع ناصية وهي مقدم الرأس وَالْأَقْدامِ جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة، والجار والمجرور نائب الفاعل وقال أبو حيان: إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدى بها أي فيسحب بالنواصي إلخ، وفيه بحث وظاهر كلام غير واحد أن- أل- عوض عن المضاف إليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم، ونص عليه أبو حيان فقال:- أل- فيهما عوض عن الضمير على مذهب الكوفيين، والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم، وأنت تعلم أن الخلاف بين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضمير للربط ولا احتياج إليه هنا، نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ثم يكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية وبعضهم سحبا بالقدم، وقيل: تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذ النواصي وتارة بأخذ الأقدام، فالواو بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر، وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين، وقيل: للرمز إلى عظمته
فقد أخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والأقدام»
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ مقول قول مقدر معطوف على قوله تعالى: (يؤخذ) إلخ أي ويقال هذه إلخ أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع، أو حال من أصحاب النواصي بناء على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم، وما في البين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ التي كذبتم بها فعدل عنه لما ذكر للدلالة على استمرار ذلك وبيان لوجه توبيخهم وعلته.
يَطُوفُونَ بَيْنَها أي يترددون بين نارها وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها، قال قتادة: الحميم يغلي منذ خلق الله تعالى جهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم، وقيل:
يحرقون في النار ويصب على رؤوسهم الحميم، وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم، وقيل: يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقا جديدا، وعن الحسن أنه قال: حَمِيمٍ آنٍ النحاس انتهى حره، وقيل: آنٍ حاضر.
وقرأ السلمي يطافون، والأعمش وطلحة وابن مقسم يَطُوفُونَ بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، وقرىء «يطّوفون» أي يتطوفون فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هو أيضا كما تقدم وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ إلخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة، ومَقامَ مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي وَلِمَنْ خافَ قيام ربه وكونه مهيمنا عليه مراقبا له حافظا لأحواله، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى:
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: ٣٣] وهذا مروي عن مجاهد وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز
114
وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: ٦] منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء، وقيل: المعنى وَلِمَنْ خافَ مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه، وإضافته للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم: شاة رقود الحلب، وهي بمعنى- عند- عند الكوفيين أي رقود عند الحلب، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضا، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى، وجوز أن يكون مقحما على سبيل الكناية، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ، ومثله قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونقيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين (١)
وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين: جَنَّتانِ فقيل:
إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته، وأي هذا ممن يطوف بين النار، وبين حميم آن؟؟.
وجوز أن يقال: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية.
وقال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم، وقيل: المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، وهذا عندي خلاف الظاهر، وفي الآثار ما يبعده، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد عمر رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشي عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: لك جنتان لك جنتان.
والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته.
وقول مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم، وقد يقال: إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفا من عقابه تعالى عليه، وأيد ذلك بما
أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي شيبة وجماعة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه الآية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق
(١) ضمير «هـ» و «عنه» راجع الى الماء في البيت قبله وماء قد وردت لوصل أروى عليه الطير كالورق اللجين وهو من قصيدة للشماخ مدح بها عرابة بن أوس الخزرجي والشاهد في قوله: «مقام الذئب».
115
يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الثانية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟
فقال الثالثة: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء»
وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال: سمعت محمد بن سعد يقرأ- ولمن خاف مقام ربه جنتان وإن زنى وإن سرق- فقلت: ليس فيه وإن زنى وإن سرق فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل. وجاء في شأن هاتين الجنتين من
حديث عياض بن غنم مرفوعا «إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام»
والآية على ما روي عن ابن الزبير وابن شوذب نزلت في أبي بكر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثار الكواكب فقال: وددت أني كنت خضرا من هذه الخضر تأتي عليّ بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيها على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدر أي هما ذواتا، وأيا ما كان فهو تثنية- ذات- بمعنى صاحبة فإنه إذا ثنى فيه لغتان ذاتا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا، والأخرى ذَواتا برده إلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها، وقد قالوا:
أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفا وفرقا بين الواحد والجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنية الجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل، والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير والضحاك وعليه قول الشاعر:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
وإما جمع فنن وهو ما دق ولان من الأغصان كما قال ابن الجوزي، وقد يفسر بالغصن، وحمل على التسامح وتخصيصها بالذكر مع أنها ذواتا قصب وأوراق وثمار أيضا لأنها هي التي تورق وتثمر. فمنها تمتد الظلال ومنها تجنى الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل: ذَواتا ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية هو أخصر وأبلغ، وتفسيره بالأغصان على أنه جمع فنن مروي عن ابن عباس أيضا، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد قال أبو حيان: وهو أولى لأن أفعالا في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين كفن، ويجمع هو على فنون.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأ المقدر أي في كل منهما عين تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسنيم، والأخرى بالسلسبيل، وروي هذا عن الحسن، وقال عطية العوفي: عَيْنانِ إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: عَيْنانِ من الماء تَجْرِيانِ حيث شاء صاحبهما من الأعالي والأسافل من جبل من مسك، وعن ابن عباس عَيْنانِ مثل الدنيا أضعافا مضاعفة تَجْرِيانِ بالزيادة والكرامة على أهل الجنة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان معروف وغريب لم يعرفوه في الدنيا، أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال ابن عباس في هذه الآية: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، ونقل هذا
116
في البحر عن ابن عباس أيضا إلا أنه حلو، والجملة كالجملة التي قبلها.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ حال من قوله تعالى:- ولمن خاف- وجمع رعاية للمعنى بعد الإفراد رعاية اللفظ، وقيل: العامل محذوف أي يتنعمون متكئين، وقيل: مفعول به بتقدير أعني، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، والمعنى متكئين في منازلهم عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين قال ابن مسعود- كما رواه عنه جمع وصححه الحاكم- أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر، وقيل: ظهائرها من سندس، عن ابن جبير من نور جامد،
وفي حديث من نور يتلألأ
وهو إن صح وقف عنده.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قيل له: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فماذا الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧] وقال الحسن: البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة، وقال الفراء: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأن كلا منهما يكون وجها والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء، والحق أن البطائن هنا مقابل الظهائر على الوجه المعروف، وقرأ أبو حيوة «فرش» بسكون الراء، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: قرأ عبد الله على «سرر. وفرش بطائنها من إستبرق» وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي ما يجنى ويؤخذ من أشجارهما من الثمار، فجنى اسم أو صفة مشبهة بمعنى المجني دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله تعالى إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، وقرأ عيسى «وجني» بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:
٥٥] وقرىء «وجني» بكسر الجيم وهو لغة فيه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدر اعتبار الجمعية في قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ وقال الفراء: الضمير لجنتان، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعد ما سمعت، وقيل: الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر، وقيل: يعود على الفرش، قال أبو حيان: وهذا قول حسن قريب المأخذ، وتعقب بأن المناسب للفرش- على- وأجيب بأنه شبه تمكنهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثار للإشعار بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها، ويجوز أن يقال: الظرفية للإشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه، وقيل:
الضمير للآلاء المعدودة من- الجنتين. والعينين. والفاكهة والفرش. والجني والمراد معهن قاصِراتُ الطَّرْفِ أي نساء يقصرن أبصارهم على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن، قال ابن رشيق في قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا
أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبي:
117
انتهى فلا تغفل، والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي.
أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك «لا ينظرن إلا إلى أزواجهن»
ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها:
وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي، والطَّرْفِ في الأصل مصدر فلذلك وحد لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال ابن عباس: لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، وفيه إشارة إلى أن ضمير قبلهن للأزواج، ويدل عليه قاصِراتُ الطَّرْفِ وفي البحر هو عائد على من عاد عليه الضمير في مُتَّكِئِينَ، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، وقيل: ثم عمم لكل جماع، وهو المروي هنا عن عكرمة، وإلى الأول ذهب الكثير، وقيل: إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدن أبكارا كلما جومعن، ونفي طمثهن عن الإنس ظاهر، وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن: قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهم إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعال فنفى هنا جميع المجامعين وقيل:
لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم، ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن هاهنا رجلا من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام، ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعا حقيقيا مع أزواجهم إذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء، وقوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء: ٦٤] غير نص في المراد كما لا يخفى، وقال ضمرة بن حبيب: الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فالمعنى لم يطمث الإنسيات أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور.
ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الإنسيات، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات، وحورا للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحدا ويعطى الجني منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الإنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجني لم يطمثها جني قبله وبهذا فسر البلخي الآية، وقال الشعبي والكلبي: تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطى غيرها من نسائها المؤمنات أيضا، ويبعد أن يعطى الجني من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة.
والذي يغلب على الظن أن الإنسي يعطي من الإنسيات والحور والجني يعطى من الجنيات والحور ولا يعطى إنسي جنية، ولا جني إنسية وما يعطاه المؤمن إنسيا كان أو جنيا من الحور شيء يليق به وتشتهيه نفسه، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال، واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي. وعليه الأكثر- كما ذكره العيني في شرح البخاري- من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون
118
على المعصية، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة، وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الاولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا كسائر الحيوانات، الثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها، الثالثة التوقف قال الكردري: وهو في أكثر الروايات، وفي فتاوى أبي إسحاق ابن الصفار أن الإمام يقول: لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم الله تعالى.
ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة، وقيل: هم أصحاب الأعراف، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل:
نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا، وإليه ذهب الحارث المحاسبي، وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل: إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحاق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله، وقرأ طلحة وعيسى وأصحاب عبد الله «يطمثهن» بضم الميم هنا وفيما بعد، وقرأ أناس بضمه في الاول وكسره في الثاني. وناس بالعكس وناس بالتخيير، والجحدري بفتح الميم فيهما، والجملة صفة- لقاصرات الطرف- لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ إما صفة لقاصرات الطرف، أو حال منها كالتي قيل أي مشبهات بالياقوت والمرجان، وقول النحاس: إن الكاف في موضع رفع على الابتداء ليس بشيء كما لا يخفى، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ، وعن الحسن نحوه، وفي البحر عن قتادة في صفاء الياقوت. وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف وقيل: مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها وتخصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضا من الكبار، وقيل، يحسن هنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: ٤٩] فلا تغفل.
وأخرج أحمد وابن حيان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ إلخ قال: ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك.
وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ استئناف مقرر لمضمون ما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب، وقيل: المراد ما جزاء التوحيد إلا
119
الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار،
أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفروس وابن النجار في تاريخه عن أنس قال: «قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فقال: وهل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة»
وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا بلفظ «قال الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه»
إلخ ووراء ذلك أقوال تقرب من مائة قول، واختير العموم ويدخل التوحيد دخولا أوليا، والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما
في الحديث «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
قالوا: فهو اسم يجمع أبواب الحقائق، وقرأ ابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان، قال ابن زيد والأكثرون الأوليان للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين،
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: ٤٦] وقوله سبحانه: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال: «جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين»
وقال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين، وروي موقوفا وصححه الحاكم عن أبي موسى، وزعم بعضهم أن الأوليين للخائفين والأخريين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجد له مستندا من الآثار، وحكي في البحر عن ابن عباس أنه قال: وَمِنْ دُونِهِما في القرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين، وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: مُدْهامَّتانِ صفة لجنتان وسط بينها الاعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر بها عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذا لم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون، ويقال: ادهام ادهيماما فهو مدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته، وفسرها هنا ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء ابن أبي رباح وجماعة بخضراوان، بل
أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: «سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ فقال عليه الصلاة والسلام:
خضراوان»

والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس وابن الزبير وأبي صالح قيل: إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارا بأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن في وصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بأنها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالاقتصار في كل منهما على أحد الأمرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لا والجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلى من الجنة القليلة الظلال والثمار، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونه أغلب من وصف الأشجار به فكثيرا ما تسمع الناس يقولون إذا مدحوا بستانا أشجاره خضر يانعة وهو أظهر في مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان، وهو يشعر أيضا بكثر مائه والاعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوارتان بالماء على ما هو الظاهر، وفي البحر
120
النضخ فوران الماء، وفي الكشاف وغيره النضج أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري، فالمدح به دون المدح به، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاختين، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس ضَّاخَتانِ
بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهدضَّاخَتانِ
بالخير، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانا لفضلهما، وقيل: إنهما في الدنيا لما لم يخلصا للتفكه فإن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء عدا جنسا آخر فعطفا على الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص، ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث، وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه.
أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع. وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا قال عليه الصلاة والسلام: «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب»
وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى في الجنتين السابقتين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: ٥٢] ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينة المقام نظير ما قيل في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤] فيكون في قوة فيها كل فاكِهَةٌ ويزيد ما في النظم الجليل على ما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها، وقال الإمام الرازي: إن (ما) هنا كقوله تعالى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وذلك لأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخل وغيرها من الشجريات فقال تعالى: مُدْهامَّتانِ لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية، وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين: الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض، وأحدهما حار والآخر بارد، وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة، وأحدهما أشجاره تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الاشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: ١٧] انتهى، ولعل الأول أولى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ صفة أخرى لجنتان، أو خبر بعد خبر للمبتدأ المحذوف كالجملة التي قبلها، ويجوز أن تكون مستأنفة والكلام في ضمير الجمع هنا كالكلام فيه في قوله تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن:
٥٦] وخَيْراتٌ قال أبو حيان: جمع خيرة وصف بني على فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة، وقال الزمخشري: أصله «خيّرات» بالتشديد فخفف
كقوله عليه الصلاة والسلام: «هينون لينون»
وليس جمع خير بمعنى أخير
121
فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات، ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصا إذا نكر، وقرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم «خيّرات» بتشديد الياء وهو يؤيد أن أصله كذلك، وروي عن أبي عمرو «خيرات» بفتح الياء كأنه جمع خائرة جمع على فعلة حِسانٌ قيل: أي حسان الخلق والخلق.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: خَيْراتٌ الأخلاق حِسانٌ الوجوه، وأخرج ذلك ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: حُورٌ بدل من خَيْراتٌ وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور،
والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
وقال ابن الأثير: الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها، وفي القاموس الحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد، أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها. وإذا صح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ أي مخدرات يقال: امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق، قال كثير عزة:
وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا
وأنت التي حبّبت كل قصيرة إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر
والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتغفل عن أبياتهن فتعذر
وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس والحسن والضحاك وهو رواية عن مجاهد، وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عنه أنه قال: مَقْصُوراتٌ قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن، والأول أظهر، وفِي الْخِيامِ عليه متعلق بمقصورات، وعلى الثاني يحتمل ذلك، ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل، والخيام جمع خيمة- وهي على ما في البحر- بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش، وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقال له خيمة وقال غير واحد: هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضا على خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب- والخيام هنا بيوت من لؤلؤ- أخرج ابن أبي شيبة وجماعة عن ابن عباس أنه قال: الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال: الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا من در،
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن
، إلى ذلك من الاخبار، وقوله سبحانه: فِيهِنَّ إلخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عز وجل: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٥٨] في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في مَقْصُوراتٌ على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر، وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم، أو يجعل قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل:
122
جوهرة أحقاقها الخدور ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: هذا أمدح لعموم خَيْراتٌ حِسانٌ الصفات الحسنة خلقا وخلقا ويدخل في ذلك قصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان، والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن، وقاصِراتُ الطَّرْفِ ربما يوهم أن القصر باختيارهن فمتى شئن قصرن ومتى لم يشأن لم يقصرن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ الكلام فيه كالكلام في نظيره فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله سبحانه: مُتَّكِئِينَ قيل: بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين، والضمير لأهل الجنتين المدلول عليهم بذكرهما عَلى رَفْرَفٍ اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة، وعلى الوجهين يصح وصفه بقوله تعالى: خُضْرٍ وجعله بعضهم جمعا لهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل،
وفسره في الآية علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه
، وقال الجوهري: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس واشتقاقه من رف إذا ارتفع، وقال الحسن- فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه- هي البسط.
وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد، وروي ذلك عن الحسن أيضا وابن كيسان وقال الجبائي: الفرش المرتفعة، وقيل: ما تدلى من الأسرّة من غالي الثياب، وقال الراغب: ضرب من الثياب مشبهة بالرياض، وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: الرفرف رياض الجنة، وأخرج عن عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس وهو عليه- كما في البحر- من رف النبت نعم وحسن، ويقال الرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد، وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء وَعَبْقَرِيٍّ هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر، ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه، ولتناسي تلك النسبة قيل: إنه ليس بمنسوب بل هو مثل كرسي وبختي كما نقل عن قطرب، والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع وهو قوله تعالى: حِسانٍ حملا على المعنى، وقيل: هو اسم جمع أو جمع واحده عبقرية، وفسره الأكثرون بعتاق الزرابي وعن أبي عبيدة هو ما كله وشي من البسط.
وروى غير واحد عن مجاهد أنه الديباج الغليظ، وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف.
وقرأ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ونصر بن عاصم الجحدري ومالك بن دينار وابن محيصن وزهير الفرقبي وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف «خضر» بسكون الضاد، «وعباقري» بكسر القاف وفتح الياء مشددة، وعنهم أيضا ضم الضاد، وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح ثم قال أما منع الصرف من عباقري فلمجاورته لرفارف يعني للمشاكلة وإلا فلا وجه لمنع الصرف مع ياءي النسب إلا في ضرورة الشعر انتهى.
وقال ابن خالويه قرأ- على رفارف خضر وعباقري- النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، الجحدري وابن
123
محيصن، وقد روي عمن ذكرنا- على رفارف خضر وعباقري- بالصرف، وكذلك روي عن مالك بن دينار، وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويا- على رفارف خضار- بوزن فعال، وقال صاحب الكامل: قرأ رفارف بالجمع ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني وهو الاختيار لقوله تعالى:
خُضْرٍ، و «عباقريّ» بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم وابن محيصن، وروي عنهما التنوين.
وقال ابن عطية: قرأ زهير القرقبي (١) رفارف بالجمع وترك الصرف، وأبو طعمة المدني وعاصم فيما روي عنه رفارف بالصرف وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك، وعباقري بالجمع والصرف، وعنه وعباقري بفتح القاف والياء على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف، والصحيح فيه عبقر، وقال الزمخشري: قرىء عباقري كمدائني.
وروى أبو حاتم عباقري بفتح القاف ومنع الصرف وهذا لا وجه لصحته، وقال الزجاج: هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت: عباقرة نحو مهلبي ومهالبة ولا تقول مهالبي.
وقال ابن جني: أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس ولا يستنكر شذوذه مع استعماله، وقال ابن هشام: كونه من النسبة إلى الجمع كمدائني باطل فإن من قرأ بذلك قرأ رفارف خضر بقصد المجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفه كمدايني وقد صحت الرواية بمنعه الصرف عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو من باب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنها خالفت القياس في زيادة ما بعد الألف على المعروف كما ذكره السهيلي، وقال صاحب الكشف فتح القاف لا وجه له بوجه والمذكور في المنتقى عن النبي صلّى الله عليه وسلم الكسر.
وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حد: يذهبن في نجد وغورا.
وإضافته إلى حِسانٍ مثل إضافة حور إلى عين في قراءة عكرمة كأنه قيل: عباقري مفارش، أو نمارق حسان فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحد الوصفين قائم مقام الموصوف، ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى، فأحط بجوانب الكلام ولا تغفل، وقرأ ابن هرمز خضر بضم الضاد وهي لغة قليلة ومن ذلك قول طرفة:
أيها القينات في مجلسنا جرّدوا منها ورادا وشقر
وقول الآخر:
وما انتميت إلى خود ولا كشف ولا لئام غداة الروع أوزاع
فشقر جمع أشقر، وكشف جمع أكشف وهو من ينهزم في الحرب، هذا والوصف بقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ إلخ دون الوصف بقوله سبحانه: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: ٥٤] عند القائل بتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر مما يعجز عنها الوصف. ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرح عليها الرفرف مذكورة فيجوز أن يكون ترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول، ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري، أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينه الإمام يشير إلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات، وقد يقال غير ذلك فتأمل، وينبغي على القول بتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خاف أن لا يفسر من
(١) هكذا بقافين وقد مر بالفاء بعد الراء قاف، وفي البحر العرقبي بالعين المهملة.
124
خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم. أو يقال: إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أيضا جَنَّتانِ صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين، وعليه قيل:
جَنَّتانِ عطف على جَنَّتانِ قبله وَمِنْ دُونِهِما في موضع الحال، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عز وجل فله يوم القيامة أربع جنان.
قال الطبرسي: والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالا ظاهرا لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا- إذ حكم مثله حكم المرفوع- لم يكن لنا العدول عما يقتضيه، وقد روي عنه أيضا حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس.
وأخرج عنه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم أنه قال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنه عدن»
والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان، ومعنى قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ إلخ عليه مما لا يخفى، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدرا وأحسن منظرا من الحور المقصورات في الخيام بناء على أنهن النساء المخلوقات في الجنة.
فقد جاء من حديث أم سلمة «قلت يا رسول الله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قلت: يا رسول الله وبم ذاك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا»
إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عز وجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارا ظاهرا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين، وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه، وإذا قلنا: إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع، وقال الإمام في ذلك: إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عز وجل قال في أهل الجنة: مُتَّكِؤُنَ قيل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا، ثم ذكر في ذلك وجها ثانيا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله عز وجل: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأيام،- فتبارك- بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي، وقد ورد في
125
الأحاديث «تعالى اسمه» أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرَّحْمنُ المنبئ عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟؟.
وقيل: الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها، وقيل: هو مقحم كما في قول من قال: ثم اسم السلام عليكما، وقيل: هو بمعنى المسمى، وزعم بعضهم أن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة هو تعدد الآلاء والنعم تفسير تَبارَكَ بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان، وقوله سبحانه: ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير، وقرأ ابن عامر وأهل الشام- ذو- بالرفع على أنه وصف للاسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح.
هذا «ومن باب الإشارة» في بعض الآيات الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عز وجل على عرش الرحمانية خَلَقَ الْإِنْسانَ الكامل الجامع عَلَّمَهُ الْبَيانَ وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة: ١٨، ١٩] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات، والنَّجْمُ القوى السفلية وَالشَّجَرُ الاستعدادات العلوية يَسْجُدانِ يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه وَالسَّماءَ سماء القوى الإلهية القدسية رَفَعَها فوق أرض البشرية وَوَضَعَ الْمِيزانَ القوة المميزة أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية.
وجوز أن يكون الْمِيزانِ الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص وَالْأَرْضَ أرض البشرية وَضَعَها بسطها وفرشها لِلْأَنامِ للقوى الإنسانية فِيها فاكِهَةٌ من فواكه معرفة الصفات الفعلية وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر وَالْحَبُّ هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل ذُو الْعَصْفِ أوراق المكاشفات وَالرَّيْحانُ ريحان المشاهدة رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز القلب يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ما شم رائحة الوجود وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الجهة التي تليه سبحانه وهي شؤوناته عز وجل ذُو الْجَلالِ أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر وَالْإِكْرامِ الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها، وإليه الاشارة بقوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ، واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه:
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ على شرف التلون، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين، وعلى هذا الطراز ما قيل في الآيات بعد، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قد ذكر إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة
126
فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من الله تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة والله تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.
127
سورة الواقعة
«مكية» كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير، واستثنى بعضهم قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: ٣٩، ٤٠] كما حكاه في الإتقان وكذا استثني قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ إلى تُكَذِّبُونَ [الواقعة: ٧٥، ٨٢] لما أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى، وفي مجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: ٨٢] عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي، وسبع وتسعون في البصري، وست وتسعون في الكوفي، وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله، وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار، وقال في البحر: مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة: ١٠] بقوله سبحانه: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ [الرحمن: ٣٧] وأنه اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء، وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول تلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وهذه ابتداؤها بذكر القيامة، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر، وجاء في فضلها آثار.
أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: «سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا»
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا، وأخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «سورة الواقعة سورة الغنى فاقرؤوها وعلموها أولادكم».
وأخرج الديلمي عنه مرفوعا «علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى»
128
Icon