تفسير سورة الذاريات

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة الذاريات
مكية وآياتها ٦٠ نزلت بعد الأحقاف

سورة الذاريات
مكية وآياتها ٦٠ نزلت بعد الأحقاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الذاريات) وَالذَّارِياتِ ذَرْواً هي الرياح تذرو التراب وغيره، ومنه قوله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الكهف: ٤٥] وانتصب ذروا على المصدرية فَالْحامِلاتِ وِقْراً هي السحاب تحمل المطر، والوقر: الحمل وهو مفعول به فَالْجارِياتِ يُسْراً هي السفن تجري في البحر، وإعراب يسرا صفة لمصدر محذوف ومعناه بسهولة فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة تقسم أمر الملكوت من الأرزاق والآجال وغير ذلك، وأمرا مفعول به، وقيل: إن الحاملات وقرا: السفن، وقيل: جميع الحيوان الحامل، وقيل: إن الجاريات يسرا:
السحاب، وقيل: الجواري من الكواكب والأول أشهر، وهو قول علي بن أبي طالب إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ هذا جواب القسم ويحتمل: توعدون أن يكون من الوعد أو من الوعيد، والأظهر أنه يراد به البعث في الآخرة وهو يشمل الوعد والوعيد وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ الدين هنا الجزاء، وقيل: الحساب وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي ذات الطرائق، مثل الطرائق التي تكون في الماء إذا هبت عليه الرياح، وكذلك حبك الزرع، وهي الطرائق التي فيه. وقيل:
الحبك: النجوم. وقيل: زينة السماء وقيل: حسن خلقتها وواحد الحبك حباك أو حبيكة.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس، لأنهم اختلفوا فمنهم مؤمن ومنهم كافر، ويحتمل أن يكون خطابا للكفار خاصة، لأنهم اختلفوا فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: كاهن وقال بعضهم: شاعر يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ معنى يؤفك: يصرف، والضمير في عنه يحتمل أربعة أوجه أحدها: أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو للقرآن أو للإسلام والمعنى: يصرف عن الإيمان به من صرف، أي من سبق في علم الله أنه مصروف. الثاني: أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين، والمعنى يصرف عن الإيمان به من صرف. الثالث: أن يكون الضمير للقول المختلف، والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام من قضى الله بسعادته، وهذا القول حسن، إلا أن عرف الاستعمال
في أفك ويؤفك إنما هو في العرف من خير إلى شر، وهذا من شر إلى خير. الرابع: أن يكون الضمير للقول المختلف، وتكون عن سببية والمعنى: يصرف بسبب ذلك القول من صرف عن الإيمان
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم كقولهم: قاتلك الله، وقيل: قتل بمعنى لعن، قال ابن عطية: واللفظ لا يقتضي ذلك وقال الزمخشري: أصله الدعاء بالقتل، ثم جرى مجرى لعن وقبح، والخراصون الكذابون، وأصل الخرص: التخمين والقول بالظن والإشارة إلى الكفار، وقيل: إلى الكهان والأول أظهر الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ الغمرة ما يغطي عقل الإنسان، وأصله من غمرة الماء، والمراد به هنا الجهالة والغفلة عن النظر يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون: متى يوم الدين على وجه الاستبعاد والاستخفاف يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ هذا جواب عن سؤالهم، ومعنى يفتنون: يحرقون ويعذبون، ومنه قيل للحرّة: فتين لأن الشمس أحرقت حجارتها، ويحتمل أن يكون يومهم معربا والعامل فيه مضمر تقديره: يقع ذلك يوم هم على النار يفتنون، وأن يكون مبنيا لإضافته إلى مبني، وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا، أو في موضع رفع والتقدير هو: يوم هم على النار يفتنون ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي يقال لهم: ذوقوا حرقتكم.
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يعنى يأخذون في الجنة ما أعطاهم ربهم من الخيرات والنعيم، وقيل: المعنى آخذين في الدنيا ما آتاهم ربهم من شرعه، والأول أظهر وأرجح لدلالة الكلام عليه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ الهجوع النوم. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: وهو الصحيح: أنهم كانوا ينامون قليلا من الليل، ويقطعون أكثر الليل بالسهر في الصلاة والتضرع والدعاء، والآخر: أنهم كانوا لا ينامون بالليل قليلا ولا كثيرا، ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه: الأول أن يكون قليلا خبر كانوا وما يهجعون فاعل بقليلا، لأن قليلا صفة مشبهة باسم الفاعل، وتكون ما مصدرية، والتقدير: كانوا قليلا هجوعهم من الليل، والثاني: مثل هذا إلا أن ما موصولة والتقدير: كانوا قليلا الذي يهجعون فيه من الليل، والثالث: أن تكون ما زائدة، وقليلا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا يهجعون وقتا قليلا من الليل، والرابع مثل هذا إلا أن قليلا صفة لمصدر محذوف، والتقدير: كانوا يهجعون هجوعا قليلا، وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان: أحدهما أن تكون ما نافية، وقليلا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا ما يهجعون قليلا من الليل، والآخر أن تكون ما نافية، وقليلا خبر كان، والمعنى كانوا قليلا في الناس، ثم ابتدأ بقوله من الليل ما يهجعون وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية، لأن ما نافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فظهر ضعف هذا المعنى لبطلان إعرابه.
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يطلبون من الله مغفرة ذنوبهم، والأسحار آخر الليل، وقد جاء في الحديث أن الله تعالى يقول في الثلث الآخر من الليل: من يستغفرني فأغفر له «١»، وقيل: معنى يستغفرون: يصلون وهذا بعيد من اللفظ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ الحق هنا نوافل الصدقات، وقيل: المراد الزكاة وهذا بعيد لأن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، وقيل: إن الآية منسوخة بالزكاة، وهذا لا يحتاج إليه لأن النسخ إنما يكون مع التعارض، ولا تعارض بين الزكاة والنوافل. وتسمية النوافل بالحق كقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ٢٣٦] وإن كان غير واجب، وقال بعض العلماء:
حق سوى الزكاة. ورجحه ابن عطية. واختلف الناس في المحروم حتى قال الشعبي:
أعياني أن أعلم ما المحروم، وقيل: المحروم الذي ليس له في بيت المال سهم، وقيل الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: الذي ماتت ماشيته، والمعنى الجامع لها أن المحروم هو الفقير المستور الحال وَفِي أَنْفُسِكُمْ إشارة إلى ما في خلقة الإنسان من الآيات والعبر، ولقد قال بعض العلماء فيه: إن فيه خمسة آلاف حكمة، وقال بعضهم: الإنسان نسخة مختصرة من العالم وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ معنى: في السماء رزقكم: المطر، وقيل: القضاء والقدر، ويحتمل أن يكون ما توعدون من الوعد والوعيد والكل في السماء، ولذلك قيل: يعني الجنة والنار. وقيل: الخير والشر إِنَّهُ لَحَقٌّ هذا جواب القسم، والضمير لما تقدم من الآيات أو الرزق أو لما توعدون مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي حق مثل نطقكم لا يمكن الشك فيه، وما زائدة: وقرئ مثل بالنصب والرفع «٢» فالرفع صفة لحق، والنصب على الحال من حق أو من الضمير المستتر فيه، أو صفة لحق وبني لإضافته إلى مبني، أو لتركيبه مع ما فيصير نحو أينما وكلما.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ المراد بالاستفهام في مثل هذا التفخيم والتهويل، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين جاءوا ليبشروه بالولد وبإهلاك قوم لوط، ووصفهم بالمكرمين لأنهم مكرمون عند الله، ولأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم، لأنه خدمهم بنفسه وعجل لهم الضيافة، والعامل في إذ دخلوا على هذا: المكرمين، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره: اذكر فَقالُوا سَلاماً نصب هذا لأنه في معنى الطلب
(١). هو جزء من حديث النزول وهو من الصحيح المتفق عليه رواه أبو هريرة وأوله: ينزل الله تعالى كل ليلة... إلخ راجع البخاري ج ٢ كتاب التجهد باب: ١٤ ص ٤٧.
(٢). قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: لحق مثل بالضم والباقون: مثل بالفتح.
وهو مفعول بفعل مضمر، ورفع الثاني لأنه خبر تقديره: أمري سلام، وهذا على أن يكون السلام بمعنى السلامة، وإن كان بمعنى التحية فإنما رفع الثاني ليدل على إثبات السلام، فيكون قد حياهم بأكثر مما حيوه، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية تقديره:
سلمنا عليك سلاما، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره: سلام عليكم قوم منكرون أي لم يعرفهم
قالَ أَلا تَأْكُلُونَ يحتمل أن يكون ألا حضا على الأكل، أو تكون الهمزة للإنكار دخلت على لا النافية فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً إنما خاف منهم لما لم يأكلوا.
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ هو إسحاق عليه السلام لقوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: ٧١] فِي صَرَّةٍ أي صيحة، وذلك قولها: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [هود: ٧٢] وهو من صرّ القلم وغيره إذا صوّت، وقيل: معناه في جماعة في النساء فَصَكَّتْ وَجْهَها أي ضربته حياء منهم وتعجبا من ولادتها وهي عجوز وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ تقديره: قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو تقديره: أتلد عجوز عقيم؟ قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي ما شأنكم وخبركم، والخطب أكثر ما يقال في الشدائد قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم سيدنا لوط، وقد ذكرنا الحجارة ومسومة في هود فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الضمير المجرور لقرية قوم سيدنا لوط، لأن الكلام يدل عليها وإن لم يتقدم ذكرها، والمراد بالمؤمنين لوط وأهله: أمرهم الله بالخروج من القرية لينجو من العذاب الذي أصاب أهلها، ووصفهم بالمؤمنين وبالمسلمين لأنهم جمعوا الوصفين وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان في الأحزاب وَفِي مُوسى معطوف على قوله وفي الأرض آيات للموقنين أو على قوله:
وتركنا فيها آية فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ معنى تولى أعرض عن الإيمان، وركنه سلطانه وقوته قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي قالوا إن موسى ساحر أو مجنون: فأو للشك أو للتقسيم، وقيل: بمعنى الواو وهذا ضعيف ولا يستقيم هنا هُوَ مُلِيمٌ
أي فعل ما يلام عليه يعني فرعون الرِّيحَ الْعَقِيمَ وصفها بالعقم، لأنها لا بركة فيها من إنشاء المطر أو إلقاح الشجر كَالرَّمِيمِ أي الفاني المنقطع، والعموم هنا يراد به الخصوص فيما أذن للريح أن تهلكه وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فيه قولان: أحدهما أن الحين هي الثلاثة الأيام
بعد عقرهم الناقة والآخر أن الحين من بعد ما بعث صالح عليه السلام إلى حين هلاكهم، وعلى هذا يكون: فعتوا مترتبا بعد تمتعهم، وأما على الأول فيكن إخبارا عن حالهم غير مرتب على ما قبله
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني الصيحة التي صاحها جبريل وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يعاينونها لأنها كانت بالنهار.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة، وانتصاب السماء بفعل مضمر وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن معناه قادرون فهو من الوسع وهو الطاقة، ومنه عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
[البقرة: ٢٣٦] أي القوي على الإنفاق، والآخر جعلنا السماء واسعة، أو جعلنا بينها وبين الأرض سعة، والثالث أوسعنا الأرزاق بمطر السماء فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الماهد الموطئ للموضع وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي نوعين مختلفين كالليل والنهار، والسواد والبياض، والصحة والمرض وغير ذلك فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أمر بالرجوع إليه بالتوبة والطاعة وفي اللفظ تحذير وترهيب أَتَواصَوْا بِهِ توقيف [سؤال] وتعجيب أي هم بمثابة من أوصى بعضهم بعضا أن يقول ذلك فَتَوَلَّ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي قد بلغت الرسالة فلا لوم عليك وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قيل: معناه خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي، وقيل ليتذللوا لي: فإن جميع الإنس والجن متذلل ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي لا أريد أن يطعمون، لأني منزه عن الأكل وعن صفات البشر، وأنا غني عن العالمين، وقيل: المعنى ما أريد أن يطعموا عبيدي، فحذف المضاف تجوزا، وقيل: معناه ما أريد أن ينفعوني لأني غنيّ عنهم، وعبّر عن النفع العام بالإطعام، والأول أظهر الْمَتِينُ أي الشديد القوة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً الذنوب النصيب، ويريد به هنا نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب الدلو، والمراد بالذين ظلموا كفار قريش، وبأصحابهم من تقدم من الكفار فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يحتمل أن يريد يوم القيامة أو يوم هلاكهم ببدر، والأول أرجح لقوله في المعارج ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [٤٤] يعني يوم القيامة.
Icon