تفسير سورة الذاريات

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الذاريات

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ قال جماعة المفسرين (١): هي الرياح تذرو التراب وهشيم النبت. أي تفرقه كقوله: ﴿تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾ [الكهف: ٤٥] (٢) وقد مرَّ. وذكر جميعُ أهل اللغة أن ذرت وأذرت بمعنى واحد (٣).
قال أبو إسحاق: ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ مجرور على القسم، المعنى: أحلف بالذاريات وبهذه الأشياء، قال: وقال قوم: المعنى: وربِّ الذاريات، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ (٤)
٢ - قوله: ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ يعني السحاب التي تحمل وقرًا، أي ثقلاً من الماء.
٣ - قوله: ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ يعني السفن تجري ميسرةً في الماء جريًا سهلاً.
(١) وهو المروي عن عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغيرهم. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤١، "جامع البيان" ٢٦/ ١١٦، "فتح الباري" ٨/ ٥٩٨.
(٢) عند تفسيره لآية [الكهف: ٤٥]. ومما قال: الهشم الكسر، والهاشم الذي يهشم الخبز ولكسره في الثريد، وبه سمي هاشمًا. والهشيم ما تكسر وتهشم وتحطم من يبس النبات. وقال المفسرون في الهثيم: إنه الكسير المتفتت.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٥، "تهذيب اللغة" (ذرا).
(٤) من (آية: ٢٣) من هذه السورة" وانظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥١.
٤ - قوله تعالى: ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾. قال الكلي ومقاتل: يعني الملائكة جبريل وميكائل وإسرافيل وملك الموت، يقسمون الأمر بين خلقه في الأرض، وهم المدبرات أمراً.
قال المبرد: يفرقون في الناس ما أمرهم الله به (١).
وقال الفراء: جبريل صاحب الغلظة، وميكائل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت (٢). هؤلاء سموا هذه الأربعة من الملائكة في تفسير المقسمات. وغيرهم ذكروا الملائكة على العموم والإطلاق. قالوا في: ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾ إنهم الملائكة وهذا أولى من تخصيص الأربعة لقوله: ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ﴾ ومعناه: فالجماعات المقسمات، يعني جماعات الملائكة الذين وكلوا بالأمور يقسمونها على ما أمروا به. وتفسير هذه الآيات على ما ذكرنا مروي عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وتبعه المفسرون في ذلك فقالوا بقوله (٣).
وانتصب ﴿يُسْرًا﴾ على تقدير: فالجاريات جريًا يسرًا، فهو نعت مصدر محذوف، وانتصب: ﴿أَمْرًا﴾ في قوله: ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾ بالمقسمات، أي يقسمون أمراً أمروا به (٤).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ أ، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٢، "القرطبي" ١٧/ ٣.
(٢) (ك): (بالرحمة) وانظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٢..
(٣) وهو المروى عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦١٥، "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤١، "جامع البيان" ٢٦/ ١١٦ - ١١٧، "المستدرك" ٢/ ٤٦٧ عن علي بن أبي طالب. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٢٩، "مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٦٨٦.
ويجوز أن يكون المدعي: فالمقسمات بالأمر. أي بأمر الله تعالى أمروا بذلك أمرًا. وأما معني القَسْم بهذه الأشياء، إن قلنا إنه على إضمار الرب كما ذكره الزجاج فهو ظاهر، وإن قلنا إنه أقسم بهذه الأشياء، فوجه ذلك أنه إنما أقسم بالرياح لما فيها من عظيم العبر في هبوبها تارة وسكونها تارة، وما فيها من الحاجة في تنشئة السحاب وتذرية الطعام، واختلافها في العصوف واللين، فهي تقتضي مصرفًا لها، ومسكنًا، ومحركاً، وأقسم بالسحاب لما فيه من الآيات، وهو أنه ينبئ عن مُحَمل حمله الماء وأمسكه من غير عماد وأغاث بمطره العباد، وأحيا البلاد، وصرفه في وقت الغنى عنه بما لو دام لصار الناس إلى الهلال، ولو انقطع أصلاً لأضرّ بهم جميعًا، وأقسم بالسفن لما فيه من الدلائل بتسخير البحر لجريانها، وتقدير الريح لها بما لو زاد لغرق وما في هداية النفوس إلى صنعتها، وما في عظم النفع فيما ينتقل من بلد إلى بلد بها، وأقسم بالملائكة لما فيه من اللطيفة وعظم الفائدة وجلالة المنزلة بتقسيم الأمور بأمر ربها. وقد دل بهذه الأشياء على توحيده في قوله: ﴿الْفُلْكَ تَجْرِي في الْبَحْرِ﴾ الآية [البقرة: ١٦٤].
٥ - ثم ذكر جواب القسم فقال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ قال ابن عباس: يزيد ما توعدون من أمر الساعة لحق. وهو قول كائن يقع بكم في الآخرة (١).
وقال مقاتل: إن الذي توعدون من أمر الساعة لحق. وهو قول مجاهد (٢).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٦، "الوسيط" ٤/ ١٧٣، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ أ، "تفسير مجاهد" ٢/ ٦١٥.
٦ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ قالوا: وإن الجزاء لكائن. وقال أبو إسحاق: إن المجازاة على أعمالكم لواقعة (١):
٧ - ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ معني الحَبْك في اللغة: إجادة النسج. وقال: حبك الثوب، أي أجاد نسخه، وحبل محبوك، إذا كان شديد الفتل، ومنه قول الراجز:
وإن تجعَّرتْ بمَحْبُوكٍ مُمَرّ (٢)
وفرس محبوك الكفل، أي مدمجه.
قال لبيد:
مُدْمَج الحَارِك مَحْبُوك الكَفَلْ (٣)
قال شمر: والمَحبوك في اللغة ما أجيد عمله، ودابة محبوكة إذا كانت مُدْمَجَة الخَلْق (٤). وقال أبو عبيدة والمبرد: الحبُك: الطرائق، واحدتها حِبَاك، وحباك الحمام، طرائق على جناحيه، وطرائق الماء حَبكه (٥) وأنشد
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥١.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٢، "اللسان" ١/ ٤٦٥ (جعر) وغيرهما ولم أجده منسوبًا.
ليس الجعارُ منجيًا من القَدرْ وإن تجعَّرت بمحبوك مُمَرّ
والجعار: الحبل. يشد به وسط الرجل إذا نزل في البئر وطرفه في يد رجل. والحبك: الشد. والممر الحبل الذي أجيد قتله، وكل مفتول ممر. انظر: "اللسان" ٣/ ٤٦٦ (مرر).
(٣) البيت في "ديوان لبيد بن ربيعة" ص ١٤٤، "تهذيب اللغة" ٤/ ٩٧ (حرك) والحارك: أعلى الكاهل. ورواية الديون:
ساهم الوجه شديد أسْرُهُ مُغبَط الحارِكِ مَحبوكُ الكَفلُ
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ١٠٨ (حبك).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٤، "اللسان" ١/ ٥٥٥ (حبك).
428
أبو عبيدة لزهير:
مُكَلَّل بأصُولِ النَّبْتِ تْنَسِجُهُ ريحُ الجنوبِ لِضاحِيِ مائِه حُبُكُ (١)
وأنشد للفرزدق:
وأنت ابن جَبّارَيْ رَبِيعَة حَلَّقَتْ بك الشمْسُ في الخَضْراء ذاتِ الحَبائِكِ (٢)
وقال الفراء: الحبك تكَسُّرٌ بكل شيء كالرملة إذا مرت بها الريح، والماء الدائم إذا مرت به الريح، والدرع إذا كانت من الحديد لها حُبُك أيضًا، والشعرة الجعدة تكسُّرها حبك، وواحد الحُبُك حِبَاك وحَبِيكة، مثل طريقة وطرق، ومثال ومثل (٣).
قال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ يريد الخلق الحسن (٤). وهو قول أبي صالح، وأبي مالك وقتادة، والربيع.
قال الحسن: حُبكتْ بالخلق الحسن (٥). وروي سعيد بن جبير عن ابن عباس في تفسير الحبك قال: حسنها واستواؤها (٦).
وروى معمر عن قتادة: ﴿ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ ذات الخلق الحسن الشديد (٧).
(١) البيت في "ديوانه" ص ١٧٦، "المحتسب" ٢/ ٢٨٧، "اللسان" ١/ ٥٥٥ (حبك). وفي الألفاظ بعض الاختلاف، والشاهد فيه أن النجم هو نبت يمتد على وجه الأرض بلا ساق.
(٢) انظر: "ديوانه" ٢/ ٥٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٢.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٦، "جامع البيان" ٢٦/ ١١٧.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١١٨.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١١٨، "الدر" ٦/ ١١٢.
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٢.
429
وهو قول ابن زيد. قال: ذات (١) الشدة. وقرأ قوله: ﴿سَبْعًا شِدَادًا﴾ [النبأ: ١٢] وهو معنى قول مجاهد: متقنة البنيان (٢).
وقال في رواية الكلبي: ذات الطرائق، ولكنها بعيد عن العباد فلا يرونها كحبك الماء إذا ضربته الريح وكحبك الرمل، وكحبك الشَّعْر الجعد (٣). ونحو هذا قال مقاتل سواء (٤) وهو قول عكرمة، وقال: إن بنيانها كالبرد المسلسل (٥).
وقال عبد الله بن عمرو: هي السماء السابعة (٦). يعني: أنها ذات الطرائق لا التي نراها. والاختيار عند أهل اللغة في تفسير: ﴿ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ ذات الطرائق الحسنة (٧).
٨ - ثم ذكر جواب القسم فقال: ﴿إِنَّكُمْ﴾ يعني أهل مكة {لَفِي قَوْلٍ
(١) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١١٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٢.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦١٦، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩.
(٣) مراد المؤلف من قوله: (وقال في رواية الكلبي) أي ابن عباس، وقد فصل بين الرواية الأولي وهذه بفاصل قد يوهم فوجب التنبيه. انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٦، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ أ.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١١٨، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١١٨، للالجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣١. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء... "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٢. والصفيق جيد النسج.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٢. وقال الشنقيطي -رحمه الله-: ﴿ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ فيه العلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضًا.. والآية تشمل الجميع، فكل الأقوال حق. "أضواء البيان" ٧/ ٦٦٢ - ٦٦٤.
مُخْتَلِفٍ}. قال عطاء عن ابن عباس: يعني في محمد -صلى الله عليه وسلم- بعضكم يقول شاعر، وبعضكم يقول مجنون. وفي (١) القرآن: يؤمن به بعضكم ويكفر به بعضكم (٢).
وقال الكلبي: إنكم بين مصدق ومكذب بمحمد والقرآن (٣).
٩ - ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ﴾ قال أبو عبيدة: يدفع عنه ويحرمه (٤).
وقال الفراء: يَضْرب عنه. والكناية في ﴿عَنْهُ﴾ يجوز أن يكون للقرآن، أو للإيمان (٥) أو لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، كل ذلك قد قيل.
قال ابن عباس: يكذب به من يكذب (٦). والمعنى: يصرف عنه من صُرِفَ حتى يكذب به.
١٠ - قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ قال جماعة المفسرين وأهل المعاني (٧): لعن الكذابون. قال ابن الأنباري: هذا تعليم لنا الدعاء عليهم، معناه: قولوا إذا دعيتم عليهم: قتل الخراصوان. قال: والقتل إذا أخبر عن الله به كان بمعنى اللعنة، إن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك (٨).
(١) في (ك): (يعني في) والصواب ما أثبته.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٧، "الوسيط" ٤/ ١٧٤، "التفسير الكبير" ٢٨/ ١٩٧.
(٣) انظر: "معالم التزيل" ٤/ ٢٢٩، "فتح القدير" ٥/ ٨٣.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٤.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٣.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٧، "الوسيط" ٤/ ١٧٤، "معالم التزيل" ٤/ ٢٢٩.
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٢، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٣، "تفسير غريب القرآن" ٤٢١، "جامع البيان" ٢٦/ ١١٩، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٢، "فتح الباري" ٨/ ٥٩٩.
(٨) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٣، "فتح القدير" ٥/ ٨٤.
431
وأما الخراصون فقال أبو إسحاق: هم الكذابون (١)، يقال: قد تَخَرَّص علىّ فلان بالباطل. قال: ويجوز أن ﴿الَّذِينَ هُمْ في غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ يكون الخراصون الذين يتظنون الشيء لا يُحقُّونه فيعملون بما لا يدرون صحته (٢). الأزهري: وأصل الخْرَصِ التَّظَنِّي فيما لا يستيقنه، ومنه قيل: خرصت النخل والكرم، إذا حزرته، لأن الحزر فيه الظن لا الإحاطة، ثم قيل للكذب خرص لما يدخله من الظنون الكاذبة (٣). واختلفوا في الخراصين هاهنا مَنْ هم؟ فقال (٤): هم رؤساء قريش الذين رموه بما رموه به من السحر، وهو اختيار الفراء. قال: هم الذين قالوا: محمد شاعر، كذاب، مجنون، ساحر، وأشباه ذلك، خرصوا ما لا علم لهم به (٥). وقال ابن عباس: هم المقتسمون (٦). وهو قول مقاتل. قال: وتخرصهم أنهم قالوا للناس: إن محمدًا شاعر، وساحر، ومجنون (٧).
وقال مجاهد: هم الكهنة. وهو اختيار أبي عبيدة (٨).
(١) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٢.
(٢) من قوله: (يقال: قد تخرص) من كلام الزجاج، انظر "معاني القرآن" ٥/ ٥٢.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ١٣ (خرص).
(٤) قوله (فقال) يدل على إسقاط صاحب القول، ونحوه عن ابن عباس، وابن زيد وغيرهما. انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٨، "جامع البيان" ٢٦/ ١١٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٣.
(٦) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٤، ومراده من المقتسمين. أي اقسموا القول في النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من رماه بالسحر، ومنهم من رماه بالشعر، ومنهم من رماه بالكهانة.
(٧) انظر "تفسير مقاتل" ١٢٦ أ.
(٨) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٥، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩، "جامع البيان" ٢٦/ ١١٩، عن ابن عباس.
432
١١ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ في غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ الغمرة ما غمر الشيء فغطاه. يقال: هذا نهر غمر. أي يغمر فيه مَنْ دخله (١) ومنه: ﴿غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ وقد مرَّ (٢).
قال ابن عباس: في عمى وجهالة عن أمر الآخرة ساهون لاهون غافلون (٣). ومعنى السهو في اللغة الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه. يقال: سها يسهو سهوًا وسُهوًّا. ذكر ذلك الليث (٤).
١٢ - قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ قال ابن عباس: متى يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب (٥).
وقال الكلبي، ومقاتل: يسألون النبي يقولون: يا محمد متى الساعة وقيامها، واليوم الذي توعدنا به وتزعم أنا نعذب فيه تكذيبًا منهم بالحساب، واستهزاء (٦).
و ﴿أَيَّانَ﴾ معناه في اللغة متى، وفيه لغتان، فتح الهمزة وكسرها (٧).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٢٨، "اللسان" ٢/ ١٠١٣ (غمر).
(٢) عند تفسيره للآية [الأنعام: ٩٣] قال: الغمرة شدة الموت وما يغشي الإنسان من همومه وسكراته. وغمرة كل شيء كثرته ومعظمة، ومنه غمرة الماء وغمرة الحرب. ويقال: غمره الشيء إذا علاه وغطاه. قال الزجاج: ويقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك. وغمره الدين إذا كثر عليه. هذا هو الأصل ثم يقال للشدائد والمكاره الغمرات.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٨، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٦٦، (سهو)، "اللسان" ٢/ ٢٣. (سها).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٥٢.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ أ، "الوسيط" ٤/ ١٧٤، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٢، "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٤٩ (أيان)، "الكشاف" ٢/ ١٠٧، وقراءة الكسر لعبد الرحمن السلمي، وهي لغة لسُليم.
وكأنه مركب من أي والآوان (١) فجعلتا كلمة واحدة.
١٣ - ثم أخبر الله تعالى عن ذلك اليوم الذي يسألون عنه فقال: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ قال أبو إسحاق: نصب (يوم) على وجهين: أحدهما: على معنى يقع الجزاء يوم هم على النار. والثاني: أن يكون لفظه نصبًا، ومعناه معنى رفع؛ لأنه مضاف إلى جملة، نقول: يعجبني يوم أنت قائم، ويوم تقوم، وإن شئت تحت، وهو في موضع رفع، وهذا كقوله: ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ [هود: ٦٦] ففتح يوم وهو في موضع خفض، لأنك أضفته إلى غير متمكن (٢). وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ (٣) [المائدة: ١١٩]. في قراءة من قرأ بالنصب. ومعنى (يُفْتَنُونَ) يحرقون ويعذبون بالنار، وكذا قال المفسرون.
قال المبرد: يقال: فتنت الدينار، إذا أحرقت عنه ما زيد فيه من الغش (٤). وهذا معنى قول مجاهد: كما يفتن الذهب في النار (٥). وقال عكرمة -في هذه الآية-: ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل فتن (٦).
(١) في (ك): (والألوان) والصواب ما أثبته.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٢ - ٥٣. وفتح (يوم) في [هود: ٦٦] نافع، والسكاكي، وأبو جعفر، والباقون بكسرها. انظر: "حجة القراءات" ص ٣٤٤، "النشر" ٢/ ٢٨٩، "الإتحاف" ص ٢٥٧.
(٣) وفتح (يوم) نافع، والباقون قرأوا بالرفع. انظر: "حجة القراءات" ص ٢٤٢، "النشر" ٢/ ٢٥٦، "الإتحاف" ص ٢٠٤.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٣.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢، "الوسيط" ٤/ ١٧٤.
قال الزجاج: ويقال للحجارة التي كأنها قد أحرقت بالنار الفَتِين (١).
١٤ - قوله: ﴿ذُوقُواْ﴾ أي يقول لهم خزنة النار ذوقوا فتنتكم. قال جاهد والكلبي: حريقكم (٢).
وقال آخرون: عذابكم (٣). وهو معنًى، والتفسير هو الأول.
قوله تعالى: ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ يجوز أن يكون متصلاً بالكلام الأول ويكون هذا إشارة إلى الفتنة وذكر إرادة الإحراق والعذاب (٤). ويجوز أن يكون الكلام قد تم ثم قيل لهم: هذا العذاب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا استهزاء وتكذيبًا به. وهذا مذهب أبي عبيدة (٥).
ولما ذكر الله تعالى أن الجزاء على الأعمال كائن بقوله: ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ ذكر جزاء أهل النار، ثم أعلم ما لأهل الجنة عنده من الجزاء بقوله (٦) تعالى:
١٥، ١٦ - ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ قال ابن عباس، والمفسرون (٧): ما أعطاهم من الخير والكرامة. وانتصابه
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٣.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢١، "الوسيط" ٤/ ١٧٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٥، "اللسان" ٢/ ١١٣٧ (فتن).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢١، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٢٩، وفي "تنوير المقباس" ٥/ ٢٦٨، قال: حرقكم وعذابكم ونضجكم.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٨/ ١٩٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٥، "فتح القدير" ٥/ ٨٤.
(٥) انظر: "مجار القرآن" ٢/ ٢٢٦، "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٣٢.
(٦) (ك): (بقوله قوله).
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "الوسيط" ٤/ ١٧٥، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣.
على الحال، والعامل فيه ما يقدر مع الجار في خبر إن؛ لأن المعنى: يستقرون في جنات (١).
ثم أثنى عليهم فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ يعني في الدنيا. قال مقاتل: كانوا قبل ذلك الثواب محسنين في أعمالهم (٢).
١٧ - ثم ذكر إحسانهم فقال: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ والهجع معناه النوم بالليل دون النهار، ومنه يقال: لقيته بعد هجعة. أي بعد نومه من الليل (٣). وكثر الاختلاف في تقدير هذه الآية. وتفسيرها أن (ما) صلة والمعني كانوا يهجعون قليلاً من الليل. أي: لا ينامون بالليل كله ولا كثيره، بل يصلون أكثر الليل (٤). وعلى هذا التأويل قال عطاء (٥): ذاك إذا أمروا بقيام الليل، فكان أبو ذر يأخذ العصا ويعتمد عليها حتى نزلت الرخصة (٦). ويجوز على هذا التأويل معنى آخر، وهو أن يكون الليل اسم الجنس، والمعنى الذي ينامون فيه قليلاً. وهو معنى قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: كانوا قل ليلة تمر بهم الأصلوا فيها (٧).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٣٣.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "الوسيط" ٤/ ١٧٥.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٩، "اللسان" ٣/ ٧٧٤ (هجع).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٤، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٣.
(٥) في (ك): (وعلى هذا التأويل قال عطاء) مكررة.
(٦) انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة ٢/ ٢٣٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٦، "الدر" ٦/ ١١٣، ونسب تخريجه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن نصر.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٢، "الوسيط" ٤/ ١٧٥، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٣، "المستدرك" ٢/ ٤٦٧ وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
436
وقال مطرف بن الشِّخِّير: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها (١).
وقال مجاهد: كانوا لا ينامون كل الليل (٢). ووجه آخر وهو الوقف علي قوله: (قَلِيلاً) ثم ابتدأ فقال: ﴿مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ وهذا على نفي النوم عنهم البتة. وهو قول مقاتل والضحاك قالا: كانوا قليلاً (٣). وعلى هذا القول عطاء عن ابن عباس: المراد بهؤلاء القليل ثمانون من نصارى نجران والشام. آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقوه فذكرهم الله في غير موضع من القرآن (٤). وذكر وجهان آخران.
أحدهما: أن ﴿مَا﴾ في هذه الآية ما المصدر، ويكون التقدير: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وهذا الوجه ذكره أبو إسحاق والفراء، وكذلك الوجه الأول (٥). واختاره يعقوب ووقف على قوله: ﴿قَلِيلًا﴾ (٦).
(١) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٣، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٢، "المصنف" ٢/ ٢٣٨، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦١٧، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٢، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٣، "المصنف" ١٣/ ٥٦٨.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٣، "المصنف" ٢/ ٢٣٩، "الوسيط" ٤/ ١٧٥، "التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٠٢، وفي "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب قال بقلة نومهم، والله أعلم. وهذا القول رده بعض العلماء لما فيه من تفكيك للنظم، وتقدم معمول العامل المنفي بـ (ما) على عامله لا يجوز عند البصريين. انظر: "الكشاف" ٤/ ٢٨، "البحر المحيط" ٨/ ١٣٥، "فتح القدير" ٥/ ٨٤.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٤، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٣.
(٦) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٦، وما ذكره القرطبي هو نقل يعقوب له لا اختياره. ثم قال: قال ابن الأنباري: وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم، لا على قلة عددهم. قلت: مراد المؤلف - رحمه الله أن يعقوب اختار =
437
والآخر: أن (ما) بمعني الذي والتقدير: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعون. وهذا قول الكلبي. قال: كانوا قليلاً من الليل الذي يناموا (١) ويجوز في هذا التأويل الوجهان اللذان ذكرنا في التأويل الأول، بأن يجعل الذي يهجعون بعض الليلة الواحدة، وبعض الليالي فيجعل الليل اسم الجنس. واختار المبرد أن تكون (ما) صلة. وقال: لو كان (ما) للمصدر أو بمعنى الذي، لكان ما قبلها مرفوعًا فيكون: قليل هجوعهم، أو قليل الذي يهجعون (٢).
١٨ - ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ وأجاز الفراء وأبو إسحاق النصب مع كون (ما) للمصدر (٣). وأقوال المفسرين موافقة للوجوه التي ذكرناها ودالة عليها. فأما قول من قال: كانوا لا ينامون عن العشاء الآخرة. وهو قول أبي العالية. ونحو ذلك قال محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة (٤).
وروي قتادة عن أنس في هذه الآية قال: كانوا يصلون بين المغرب
= الوجه الأول وهو المتقدم على هذا الوجه، حيث قال: ووجه آخر وهو الوقف على قوله ﴿قَلِيلًا﴾. وانظر "القطع والائتناف" ص٦٨٠ - ٦٨١.
(١) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٣، واختار ابن جرير حيث قال: لأن الله تبارك وتعالى وصفهم بذلك مدحًا لهم وأثني عليهم به، فوصفهم بكثرة العمل وسهر الليل ومكابدته فيما يقربهم منه ويرضيه عنهم، أولي وأشبه من وصفهم من قلة العمل وكثرة النوم، مع أن الذي اخترنا في ذلك هو أغلب المعاني على ظاهر التنزيل.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٤، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٣.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٢، "معالم التنزيل" ٤/ ٣٢٠، "الجامع الأحكام القرآن" ١٧/ ٣٦.
والعشاء (١). فهذا يحمل على أن الله تعالى عَدَّ هجوعهم قليلاً في جنب تعظيم الصلاة ومحافظتهم عليها حتى لا يشتغلوا عنها بالنوم. ويدل على أن المراد سهرهم بالليل، وقلة نومهم، قوله تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. قال عطاء، والكلبي، ومقاتل، ومجاهد: يصلون (٢)، ففسروا الاستغفار بالصلاة، على أن صلاتهم بالأسحار طلب منهم مغفرة الله تعالى. وذهب آخرون إلى ظاهر الاستغفار باللسان. وهو قول ابن مسعود والحسن. وقال أنس: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفاراً (٣).
١٩ - ثم ذكر صدقاتهم فقال: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ معنى المحروم في اللغة: الذي حرم الخير حرمانًا. روي أبو عبيد عن الأصمعي: حَرَمْتُ الرجل العطيةَ أَحْرِمه حِرْمَانًا. وزاد أبو نصر (٤): وحَريِمةً. ولغة أخرى: أخْرَمْتُ، وليست بجيدة (٥).
واختلفوا في المحروم هاهنا مَنْ هو؟ فقال ابن عباس: هو المُحارَفُ. وهو قول نافع، وسعيد بن المسيب، ورواية قيس بن كَرْكَم (٦)
(١) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٣، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦١٨، "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٤، "المصنف" ١٣/ ٣٢٧، عن ابن عمر، "الوسيط" ٤/ ١٧٥.
(٣) لم أجده.
(٤) أحمد بن حاتم النحوي: إمام مشهور، كتب: النحو واللغة، وصنف فيهما. قال الأصمعي: لا يُصَدَّق عليَّ إلا أبو نصر. حدث عنه ثعلب، مات سنة (٢٣١ هـ). انظر: "الأعلام" ١/ ١٠٤، "إنباه الرواة" ٦/ ٣٦، "تاريخ بغداد" ٤/ ١١٤، "معجم الأدباء" ٢/ ٢٨٣، "معجم المؤلفين" ١/ ١٨٦.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٥/ ٤٦ (حرم)
(٦) قيس بن كَرْكَم. قال ابن حبان: هو قيس بن شُقَي، روي عن ابن عباس، وعنه أبو =
439
عن ابن عباس. واختيار الفراء (١). وفسر إبراهيم، ومجاهد: المحروم المحارف، فقالوا: هو الذي ليس له في الغنيمة شيء، ولا في الإسلام سهم، ولا يجري عليه من الفيء شيء (٢). يدل على صحة هذا التأويل ما روى الحسن بن محمد بن الحنفية (٣) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث سرية فغنموا فجاء بعدهم قوم لم يشهدوا فنزلت هذه الآية. وقال قتادة، والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل. وذكر الزهري قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكله والأكلتان". قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى ولا يُعْلم بحاجته فيتصدق عليه" (٤).
قال الزهري: فذلك المحروم (٥).
= إسحاق الهمداني، وأبو إسحاق السبيعي، قال الأزدي: ليس بذاك، ولا أحفظ له حديثاً مسندًا. انظر: "لسان الميزان" ٤/ ٤٧٩، "التاريخ الكبير" ٤/ ١/ ١٤٩، "الجرح والتعديل" ٧/ ١٠٣، "الثقات" لابن حبان ٥/ ٣١٢.
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٤، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٤، "الكشف والبيان" ١١/ ١٨٣ ب، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٤.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٥، "القرطبي" ١٧/ ٣٨، المحارف: الذي لا يصيب خيرًا من وجه توجه له. "اللسان" ١/ ٦١٠ (حرف).
(٣) أبو محمد الحسن بن محمد بن الحنيفة: ثقة، فقيه. يقال: إنه أول من تكلم في الإرجاء. مات سنة (١٠٠ هـ) أو قبلها بسنة. انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٥، "الكشف والبيان" ١١/ ١٨٣ ب، "الدر" ٦/ ١١٣.
(٤) حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: قول الله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ ٢/ ١٥٣، وفي ألفاظه اختلاف. ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: المسكين الذي لا يجد غنى.. ٢/ ٧١٩، والنسائي في كتاب: الزكاة، باب: تفسير المسكين ٢/ ٤٥٣، وأحمد في "المسند" ٢/ ٢٦.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٣ "الكشف والبيان" ١١/ ١٨٣ ب، "الوسيط" ٤/ ١٧٥، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣١.
440
وقال عكرمة: هو الذي لا ينمو له مال (١). وهو رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وقال ابن زيد: هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته. وهو قول القرظي. قال: المَحروم صاحب الجائحة. واحتج بقوله: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [القلم: ٢٧] (٢).
وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم في هذا الحق (٣).
وقال ابن سيرين: هو الزكاة (٤). وهو قول مجاهد في رواية منصور، قال: كانوا إذا حصدوا أعطوا الزكاة (٥).
وروى ابن أبي نجيح عنه قال: حق سوى الزكاة (٦).
٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ قال ابن عباس في رواية الكلبي، ومقاتل: يعني ما فيها من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبت عامًا بعام. وزاد الكلبي: وما فيها من آثار الأمم المهلكة، ففي هذا
(١) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٦، "الكشف والبيان" ١١/ ١٨٣ ب، "الدر" ٦/ ١١٣.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٦، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣١ "القرطبي" ١٧/ ٣٩.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٩.
(٤) انظر: "الدر" ٦/ ١١٣، عن ابن عمر، "فتح القدير" ٥/ ٨٤.
(٥) لم أجده.
(٦) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦١٨، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٦، أخرجه عن زيد بن أسلم ثم قال بعد إيراده للأقوال: فلا قول في ذلك أولى بالصواب من أن تعم كما قال جل ثناؤه: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾. وبهذا قال النحاس، وأبو حيان، والشوكاني، وغيرهم. انظر. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٣٤، "البحر المحيط" ٨/ ١٣٦، "فتح القدير" ٥/ ٨٥.
كله عبر وآيات للموقنين بالله يعرفونه بصنعه ويوحدونه (١).
٢١ - ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ﴾ المعنى: وفي الأرض وفي أنفسكم آيات، قاله الفراء (٢).
قال مقاتل: وفي خلق أنفسكم حين كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا ثم لحمًا ثم نفخ فيه الروح (٣). وهذا معنى قول قتادة، وفي خلقه أيضًا إذا فكرت فيه معتبر (٤).
وقال عطاء عن ابن عباس: اختلاف الألسنة والألوان والصور والطبائع (٥). وروي عن ابن الزبير أنه قال: يعني سبيل الخلاء والبول، يأكل ويشرب من مدخل واحد، ويخرج من سبيلين (٦). وهذا معنى ما روى عطاء عن ابن عباس: مدخل الطعام والشراب واحد، ومخرجهما موضعان (٧). قال الفراء: ثم عنفهم فقال: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (٨) قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم الرب، فتعرفوا أنه قادر على أن يبعثكم كما خلقكم (٩).
٢٢ - قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧، "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٩ - ٤٠، "فتح القدير" ٥/ ٨٥.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٤.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٤، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٦.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٦، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣١.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٦، "الوسيط" ٤/ ١٧٦، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣١.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٠.
(٨) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٤.
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب.
ومجاهد: يريد المطر (١).
قوله تعالى: ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ قال عطاء: من الثواب والعقاب (٢). وقال الكلبي: من الخير والشر. وقال مجاهد: الجنة والنار (٣). وقال مقاتل، والربيع، وابن سيرين: وما توعدون من أمر الساعة (٤).
٢٣ - ثم أقسم الرب بنفسه فقال: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ قال الكلبي: يعني هذا الذي قصصت في الكتاب لكائن (٥).
قال أبو إسحاق: يعني أن الذي ذكر من أمر الرزق والآيات وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حق (٦). وقال مقاتل: يعني أن أمر الساعة لكائن (٧) ﴿مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ قرئ ﴿مِثْلَ﴾ رفعًا ونصبًا (٨). فمن قرأ بالرفع جعله من صفه الحق. قاله الفراء، والزجاج (٩). قال أبو علي: وجاز أن يكون (مِّثْلَ) وإن كان
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٧، "الوسيط" ٤/ ١٧٦.
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٦، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣١.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٦، "فتح القدير" ٥/ ٨٥، "الكشف والبيان" ١١/ ١٨٧ أونسبه للضحاك، وروي عن مجاهد قال: يعني الخير والشر، وعن الضحاك: الجنة والنار، والمعاني متقاربة، ولعل من قال: الخير والشر، أقرب إلى الصواب، حيث يشمل الدنيا والآخرة، وما فيمها من خير وشر. والله أعلم. انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦١٨، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٧، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣١.
(٤) انظر: "فتح القدير" ٥/ ٨٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٤، "الوسيط" ٤/ ١٧٦، "فتح القدير" ٥/ ٨٥.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٤.
(٧) انظر: "تفسر مقاتل" ١٢٦ ب، "الوسيط" ٤/ ١٧٦.
(٨) قرأ حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر، ﴿مِثْلَ﴾ بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٧٩، "النشر" ٢/ ٣٧٧ "الإتحاف" ص ٣٩٩.
(٩) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٥، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٤.
443
مضافًا إلى صفة للنكرة، لأن مثلاً لا تختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع التماثل بها، فلما لم تخصه الإضافة ولم يزُل عنه الإيهام والشياع الذي كان فيه قبل الإضافة بقي على تنكيره فقالوا: مررت برجل مثلك، فكذلك في الآية لم يتعرف بالإضافة إلى ﴿أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ وإن كان قوله: ﴿أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ بمنزلة نطقكم (١). وأمَّا في قوله: ﴿مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ﴾ فقال الفراء: العرب تجمعُ بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما كقول الشاعر:
ما إنْ رأيتُ ولا سَمِعْتُ به (٢)
فجمع بين ما وإن وهما (٣) جحدان، أحدهما يجزي عن الآخر (٤)، فعلى هذا القول (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، وكذلك ﴿أَن﴾ فكأنه قيل: مثل نطقكم. وقال المبرد: ﴿مَا﴾ زائدة. وبه قال أبو علي -وأبى أن تكون التي بمنزلة أن مع الفعل فتكون مصدرًا- وقال: لأنه لا فعل معها، والتي تكون مع الفعل بمنزلة اسم المصدر تكون مقرونة مع الفعل كقوله: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: ٥١] (٥) والمعنى: فاليوم ننساهم نسيانًا كنسيان يومهم هذا، ولكونهم
(١) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢١٦.
(٢) البيت لدريد بن الصمة يصف الخنساء، وقد رآها تهنأ بعيرًا أجرب وتمام البيت:
كاليوم طالي أيْنقُ جُرْب
انظر: "ديوان دريد بن الصمة" ص ٣٤، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٩٥٥، "شرح المفصل" ٥/ ٨٢، "مغني اللبيب" ص ٦٧٩.
(٣) (ك): (وإنهما).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٥.
(٥) انظر: "المسائل المشكلة المعروفة بالبغداديات" ص ٣٣٤.
444
جاحدين بآياتنا. قال: ومثل زيادة (ما) هنا زيادتها في قوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾ [نوح: ٢٥] وقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ [آل عمران: ١٥٩] و ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنون: ٤٠]. وأما منتصب ﴿مِثْلَ﴾ فقال أبو إسحاق: هو في موضع رفع إلا أنه لما أضيفت إلى ﴿أَن﴾ فتح (١).
وشرحه أبو علي فقال: من نصب (مثل) فإنه لما أضاف مثل إلى مبنيٍّ وهو قوله: ﴿أَنَّكُمْ﴾ بناه كما بُنَى (يومئذ) في قوله: ﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ﴾ [المعارج: ١١] و ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ [هود: ٦٦] و:
عَلى حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبَا (٢)
وقوله:
لم يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرُ أن نَطَقَتْ (٣)
فغير في موضع رفع بأنه فاعل، (يمنع) وإنما بنيت هذه الأسماء المبهمة نحو مثل، ويوم، وحين، وغير، إذا أضيفت إلى المبنيِّ لأنها تكتسي منه البناء، لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه ما فيه من التعريف
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٤.
(٢) البيت للنابغة الذبياني، وتمامه:
وقلت ألمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وازع
انظر: "ديوانه" ص ١٦٣، "الكتاب" لسيبويه ٢/ ٣٣٢، "الكامل" ١/ ١٥٨، "الخزانة" ٢/ ٤٥٦، "المصنف" ١/ ٥٨، "ارتشاف الضرب" ٢/ ٥٢٠.
(٣) صدر بيت لأبي قيس بن الأسلت، وتمامه:
حمامة في غصون ذات أوقال
انظر: "الكتاب" ١/ ٣٦٩، "أمالي" بن الشجري ١/ ٦٩، "الإنصاف" ص ٢٨٧، "الخزانة" ٣/ ٤٠٦، والأوقال: هي الثمار، مفردها وَقْل. "اللسان" ٣/ ٩٧١ (وقيل).
445
والتنكير والجزاء والاستفهام. تقول: هذا غلام زيد، وصاحب القاضي. فيتعرف الاسم بالإضافة إلى المعرفة، وتقول: غلام (١) مَنْ تضرب؟ فيكون استفهامًا كما تقول: صاحب مَنْ تضرب؟ فيكون جزاءً، فمن بني هذه المبهمة إذا أضافها إلى مبني جعل البناء أحد ما تكتسبه من المضاف إليه، ولا يجوز على هذا: جاءني صاحب خمسة عشر، ولا غلام هذا؛ لأن هذين من الأسماء غير المبهمة، والمبهمة في إبهامها (٢) وبعدها من الاختصاص (٣) كالحروف التي تدل على أمور مبهمة، فلما أضيفت إلى المبنية جاز ذلك فيها. ثم ذكر قولين آخرين في نصب ﴿مِثْلِ مَا﴾: أحدهما: أن تجعل (ما) مع مثل بمنزلة شيء واحد بنيته على الفتح، وإن كانت ما زائدة، وهذا قول أبي عثمان وأنشد في ذلك:
وَتَدَاعَى مَنْخِرَاهُ بِدَمٍ مِثْلَ ما أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ (٤)
فذهب إلى أن (مثل ما) بمنزلة شيء واحد، ويدل على جواز بناء مثل مع (ما) وكونه معه بمنزله شيء واحد قول حميد بن ثور:
ووَيَحْا لِمنْ لم يَدْرِ ما هُنَّ وْيحَمَا (٥)
(١) (ك): (علا).
(٢) (ك): (أيامها).
(٣) (ك): (الاختصان).
(٤) البيت للنابغة الجعدي، والحمَّاض بقلة برية تنبت أيام الربيع في مسايل الماء ولها ثمرة حمراء. انظر: "ديوانه" ص ٨٧، "أمالي" ابن الشجري ٢/ ٦٠٤، "شرح المفصل" لابن يعيش ٨/ ١٣٥، "اللسان" ١/ ٧١٩ (حمض)، "رصف المباني" ٣٧٩.
(٥) صدر البيت:
ألاَ هَيَّمًا مِمَّا لَقِيْتُ وَهَيَّمَا
وانظر: "ديوانه" ص ٦، "اللسان" ٣/ ٩٩٦، (ويح) "الخصائص" ٢/ ١٨١، ونسبه لحميد بن الأرقط "ديوان ابن الأرقط" ص ٧: "الحجة" ٦/ ٢١٩.
446
فبنى ويحًا مع (ما) ولم يلحقه التنوين.
ومثله ما أنشده أحمد بن يحيى:
أثَوْرَ ما أصِيدُكُمْ أمْ ثَوْرَيْنْ (١)
أراد أثوراً أصيدكم؟ فبني الثور على الفتح وجعله مع (ما) شيئًا واحداً.
القول الثاني: أن ينتصب على الحال من النكرة الذي هو (حق) في قوله: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ والعامل في الحال هو الحق؛ لأنه مصدر. وإلى هذا ذهب أبو عمر الجرمي. وقد حمل أبو الحسن (٢) قوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْرًا﴾ [الدخان: ٤ - ٥] على الحال، وذو الحال قوله: ﴿أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْرًا﴾ وهو نكرة (٣). وذكر المبرد أيضًا هذا الوجه فقال: يجوز أن يجعل حالاً للنكرة كقوله: هذا رجل قائمًا (٤) وذكر الفراء والزجاج وجهًا آخر. في انتصاب (مثل ما).
قال الفراء: من نصب (مثل ما) جعله في مذهب مصدر كقولك: إنه لَحَقُّ حقًا (٥).
وقال الزجاج: يجوز أن يكون منصوبًا على التوكيد على معنى: إنه
(١) من الرجز، والآخر:
أمْ تِيكُم الجَمَّاءَ ذَات القَرْنَيْنْ
وهو للنضر بن سلمة، كما في "الخصائص" ٢/ ١٨، "اللسان" ١/ ٣٨٦ (ثور)، "التصريح بمضمون التوضيح" ١/ ٢٤، "الحجة" ٦/ ٢٢٠.
(٢) هو الأخفش، وتقدمت ترجمته.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٤٨، ٣٥١، ٦/ ٢٢٢ - ٢١٧.
(٤) انظر: "البحر المحيط" ٨/ ١٣٧.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٥.
447
لَحَقُّ حقًّا، مثل نطقكم (١). هذا كلامهما. ومعناه أنه نصب لأنه نعت مصدر محذوف. هذا هو الكلام في الإعراب.
وأما المعنى؛ فقال أبو عبيدة: مجازه كما أنكم تنطقون (٢). وهوقول ابن عباس قال: يريد كما أنكم تنطقون (٣).
قال الفراء: إنه لحق كما أن الآدمي ناطق، وللآدمي نطق لا لغيره (٤). وقال الزجاج: هذا كما تقول في الكلام: إن هذا لحق كما أنك هاهنا، وإن هذا لحق كما أنك متكلم (٥). هذا قول هؤلاء وبيانه: أن الله تعالى شبه تحقق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، والواحد منا يعرف أنه ناطق ضرورة، فإذا نطق لم يحتج إلى استدلال على نطقه، وعلى أنه ناطق لا يتخالجه في ذلك شك، فكذلك ما أخبر الله تعالى عنه هو في صدقه ووجوده كالذي نعرفه ضرورةً من غير استدلال بشيء.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ قصة ضيف إبراهيم قد سبق في سورة هود والحجر (٦).
قال ابن عباس ومقاتل: يريد قد أتاك (٧).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٤.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٦.
(٣) لم أجده.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٤.
(٦) من [هود: ٦٩ إلى ٧٦]، ومن [الحجر: ٥١ إلى ٦٠].
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "الوسيط" ٤/ ١٧٧.
وقال الكلبي: لم يكن ذلك أتاه حدثيهم في القرآن (١).
قال الفراء: لم يكن علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أنزله عليه (٢).
وقوله: ﴿الْمُكْرَمِينَ﴾ يعني عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما قال في صفة الملائكة: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦] وعلى هذا دل كلام ابن عباس؛ لأنه ذكر أسماءهم فقال: يريد إسرافيل وجبرائيل وميكائيل (٣). وهو قول عبد العزيز بن يحيى. وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إكرامهم خدمته إياهم بنفسه (٤). ونحو هذا قال مقاتل: أكرمهم إبراهيم فأحسن عليهم القيام، وكان لا يقوم على رأس ضيف، فلما رأى هيأتهم حسنة قام هو وامرأته سارة لخدمتهم (٥). وروي عن مجاهد أيضًا أنه قال: أكرمهم بالعجل (٦) وهو قول الكلبي (٧).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ الكلام في إعراب هذه الآية والقراءات فيها قد مر مستوفى في سورة هود (٨).
(١) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٧، ولم ينسبه لقائل.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٦.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧١، "الوسيط" ٤/ ١٧٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٤٤.
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٤٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب، "فتح القدير" ٥/ ٨٧.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٤٥.
(٧) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٧، "فتح القدير" ٥/ ٨٧.
(٨) عن تفسيره [هود: ٦٩] ومما قال: (سلام) التقدير فيه سلام عليكم فحذف الخبر كما حذف من قوله: (فصبر جميل) أي صبر جميل أمثل، أو يكون المعني سلام، وشأني كما أن قوله: (فصبر جميل) يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ. ومثل ذلك قوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ على حذف الخبر أو المبتدأ الذي سلام =
قوله تعالى: ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾. قال الفراء والزجاج: رفعه على معنى: أنتم قوم منكرون (١).
وقال ابن عباس: قال في نفسه قوم منكرون (٢). وعلى هذا يكون: هؤلاء قوم منكرون. وهو الوجه؛ لأن الظاهر أنه لم يخاطبهم بهذا، ولو خاطبهم لأجابوه ولم يذكر جوابهم عن إنكاره إياهم، وأيضًا فإنه لم تجر عادة الكرام بإنكار ضيفهم من كان، وإخباره بأنه منكرهم. ومعنى ﴿مُنْكَرُونَ﴾ غير معروفين. واختلفوا لم أنكرهم إبراهيم -عليه السلام-؟ فقال مقاتل: ظن أنهم من الإنس. أي ظنهم إنسًا ولم يعرفهم، فلذلك أنكرهم (٣). ونحو هذا قال الكلبي وغيره، وهو أنه رأى قومًا طيبي الريح حسان الوجوه فظنهم غُرباً من الآدميين، وحينئذٍ تهيأ لضيافتهم (٤). وهو قوله:
٢٦ - ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ قال ابن عباس: فمضى إلى منزل سارة (٥).
وقال مقاتل: فعمد إلى أهله (٦). وقال أبو عبيدة: فعدل إلى أهله (٧).
= خبره. اهـ. وفي قوله (سلام) قرأ حمزة والكسائي (سِلْمُ) بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف. وقرأ الباقون (سلام) بفتح السين واللام وألف بعدها. انظر: "حجة القراءات" ٣٤٦، "النشر" ٢/ ٢٩٠، "الإتحاف" ص ٢٥٨، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٦٠، "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٥٩.
(١) انظر: "معاني القرآن للزجاج" ٣/ ٨٦، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٤.
(٢) "الوسيط" ٤/ ١٧٨، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب.
(٤) انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٥/ ٢٧٢.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٢، ولفظه: (فرجع إبراهيم إلى أهله).
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٦ ب.
(٧) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٦.
ومعنى راغ في اللغة: عدل ومال. قال الفراء: فرجع إلى أهله. والروغ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه مُخْفيًا لذهابه ومجيئه. ألا ترى أنك لا تقول: قد راغ أهل مكة، وأنت تريد رجعوا وصدروا (١). ونحو هذا قال أبو إسحاق: عدل إليهم من حيث لا يعلمون (٢).
وقال المبرد: راغ إليه، أي مال وعدل إليه. ولو قلت: راغ عنه، كان معناه مال عنه وتباعد (٣).
٢٧ - ٢٩ - وقوله تعالى: ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ قال أبو إسحاق: المعنى فقربه إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا. فقال على النكير لحالهم ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ أي: أمركم في ترك الأكل مما أنكره (٤). وما بعد هذا مفسر فيما سبق إلى قوله: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ﴾ (٥).
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء٣/ ٨٦.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٤.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٨٦، "اللسان" ١/ ١٢٥٧ (روغ).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٥.
(٥) عند تفسير للآيات [هود: ٦٩ - ٧٠] ومما قال: المراد بالرسل هاهنا الملائكة الذين أتوا على سورة الآدميين وظنهم أضيافاً. قال ابن عباس: وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. والبشري هي البشارة بالولد. والحنيذ اشتواء اللحم بالحجارة المسخنة. وقيل النضيج... وأوجس أي أضمر منهم خوفًا قاله أبو عبيدة والزجاج وابن قتيبة.. وقال عامة المفسرين لما رآهم إبراهيم شبانًا أقوياء ولم يتحرموا بطعامه لم يأمن أن يكونوا جاءوا ليلاً أن سُنتهم كانت في ذلك الدهر إذا ورد عليهم القوم فأتوا بالطعام فلم يمسوه ظنوا أنهم عدو ولوصوص فهناك أوجس في نفسه فزعًا ورأوا علامة ذلك في وجهه فقالوا: لا تخف.
451
قال الفراء: لم تقبل من موضع إلى موضع، إنما هو كقولك: أقبل يشتمني. أي: أخذ في شتمي (١).
وروي عن ابن عباس أنه قال: إقبالها في الصرة، أخذها فيها (٢)، ومعنى الصرة في اللغة: الصحية. قال أبو عبيدة: يقال: أقبل يصطر (٣). وقال المبرد: القوم في سورة واحدة، إذا ارتفعت أصواتهم وأنشد قول مهلهل (٤):
فلولا الرِّيحُ أسْمعَ أَهْل حَجْرٍ صَرِيرَ البَيْضِ يُقْرَعُ بالذُّكورِ (٥)
قال المفسرون: في ضجَّةٍ وصيحة. قال الفراء: وذكروا أن تلك الصحية أوَّه بوزن: عَوّه (٦)، وقال بعضهم: كانت بقوله: يا ويلتا (٧). قوله تعالى: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ قال ابن عباس: وضعت أصابعها على وجهها (٨). وقال الكلبي، ومقاتل: جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبًا (٩). ومعنى الصك: ضرب الشيء بالشيء العريض (١٠).
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٧.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٤، "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٩.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٧، وتمام كلامه: أي يصوتوا صوتًا شديدًا.
(٤) هو مهلهل بن ربيعة الثعلبي، تقدمت ترجمته.
(٥) البيت ورد في (ديوانه) ص ٤١، "الأصمعيات" ص ١٥٥.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٧، "اللسان" ٢/ ٤٢٨ (صرر).
(٧) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٨، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٢.
(٨) لم أجده، والذي ذكره المفسرون هو المروي عن الكلبي، ومقاتل، وعند الطبري عن سفيان قال: وضعت يدها على جبهتها تعجبًا. "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٩. انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٤، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٢، "الجامع لأحكام القرآن " ١٧/ ٤٧.
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ أ، "الوسيط" ٧/ ١٧٨، "فتح القدير" ٥/ ٨٨.
(١٠) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٤٢٨، "اللسان" ٢/ ٤٥٩ (صكك).
452
قوله: ﴿عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ قال الفراء: رفعها بضمير تلد عجوز عقيم (١). وقال أبو إسحاق: المعنى: وقالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد، كما قال في موضع آخر: ﴿يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ﴾ (٢). قال الكلبي: قالت من أين الولد لعجوز عقيم لا تلد (٣)؟
٣٠ - ﴿قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ أي: كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلامًا أي: إنما نخبرك عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
٣١ - ٣٤ - وما بعد هذا مفسر فيما مضى (٤).
إلى قوله: ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ قال ابن عباس، ومقاتل: للمشركين، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها (٥).
٣٥ - ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا﴾ يعني في قرى قوم لوط ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وذلك قوله: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ [الحجر: ٦٥] وهو أن الله تعالى أمر لوطًا بأن يخرج هو ومن معه من المؤمنين، لئلا يصيبهم العذاب.
٣٦ - ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ قال مجاهد، ومقاتل والمفسرون: يعني: لوطًا وبنتيه (٦). وهذا مذكور في مواضع من التنزيل كقوله: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ [الأعراف: ٨٣] وقوله: {لَنُنَجِّيَنَّهُ
(١) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٧.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٥.
(٣) لم أجده عند الكلبي والمعنى ظاهر، ونحوه روي عن عامة المفسرين. انظر: "جامع البيان" ٢٦/ ١٢٩، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٦.
(٤) عند "تفسيره" للآيات [الحجر: ٧٤ - ٧٥].
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٥، "تفسير مقاتل" ١٢٧ أ، "المصنف" ١١/ ٥٢٣ عن مجاهد، "الوسيط" ٤/ ١٧٨، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٢.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٣٣، "اللسان" ١/ ٢٩٢ (بيت).
وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: ٢] وقوله: ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾ [القمر: ٣٤] الآيات. والتقدير في الآية: غير أهل بيت، وكثر استعمال هذا حتى انطلق البيت على أهله، فيقال: بيت شريف، يراد به الأهل (١). وسَمّاهم في الآية الأولى: مؤمنين، وفي الثانية: مسلمين؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم، وقد يكون مسلمًا ولا يكون مؤمنًا كما قال تعالى ذكره: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤].
٣٧ - قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ قال أبو إسحاق: تركنا في مدينة قوم لوط علامة للخائفين تدلهم على أن الله أهلكهم فينكل غيرهم عن فعلهم (٢). هذا قول المفسرين. وقال الفراء: معناه وتركناها آية، وأنت قائل للسماء فيها آية، وأنت تريد هي الآية بعينها (٣).
٣٨ - قوله: ﴿وَفِي مُوسَى﴾ ذكر صاحب النظم أن هذا عطف على قوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾. ﴿وَفِي مُوسَى﴾ أي وفي شأنه وقصته آية. وهو ما ذكر بعد من غرق فرعون (٤).
قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون عطفًا على قوله: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً﴾ (٥). فيكون المعنى: وتركنا في قصة موسى آية.
(١) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٨، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٦، "فتح القدير" ٥/ ٨٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٧.
(٤) وهو قول الزجاج، والزمخشري، وابن عطة، ونسبه القرطبي للفراء. انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٦، "الكشاف" ٤/ ٣٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٤٩، "فتح القدير" ٥/ ٩٠، وقال أبو حيان: وهذا بعيد جدًّا ينزه القرآن عن مثله.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٦.
٣٩ - وقوله: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾ قال ابن عباس، ومقاتل: أي بجمعه وجنده ورهطه (١). وعلى هذا سمى جمعه ركنًا له، لأنه يتقوي بهم كالبنيان يتقوي بركنه. والباء يكون في ﴿بِرُكْنِهِ﴾ للتعدية، أي جعلهم يتولون (٢). ويجوز أن يكون المعنى: تولى هو بسبب جنده. أي بقوتهم وشوكتهم، كما تقول: فعلت هذا بقوة فلان.
وقال الفراء: أعرض بقوته في نفسه (٣). وعلى هذا ركنه قوته. وهذا راجع إلى الأول، لأن قوته بجنده، وقال أبو عبيدة: فتولى بركنه، وبجانبه سواء، إنما هي ناحيته (٤). وهو اختيار ابن قتيبة. قال: فتولى بركنه ونأى بجانبه سواء (٥). وعلى هذا ركنه نفسه. وهو قول المؤرج قال: بركنه بجانبه (٦).
٤١ - قوله: ﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾، قال جماعة المفسرين (٧): هي التي لا تلقح شجرًا ولا تثير سحابًا ولا تحمل مطرًا ولا خير فيها ولا بركة ولا منفعة ولا رحمة، ولا ينزل بها غيث، إنما هي ريح الإهلاك، وهي عذاب على من أرسلت عليه.
(١) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣، "الوسيط" ٤/ ١٧٩، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٣، وبه قال ابن زيد، ومجاهد.
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٧.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٧.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" ٤٢٢
(٦) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥
(٧) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٢، "تفسير مقاتل" ١٢٧ أ، "جامع البيان" ٢٧/ ٤، "فتح القدير" ٨/ ٩٠.
455
قال سعيد بن المسيب: هي الجنوب (١).
وقال مقاتل: هي الدبور (٢).
وروى عكرمة عن ابن عباس: هي النكباء (٣).
وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة، وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور (٤). ويقال للتي لا تلد من النساء عقيمًا، وكذلك للذي لا يولد له: يقال له: رجل عقيم، وفحل عقيم إذا كان لا يلقح، وكما وصفت
(١) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤، "الدر" ٦/ ١١٥. والجنوب: ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة، وهي رياح حارة ومهبها ما بين مهبي الصبا والدبور، وقيل غير ذلك. "اللسان" ١/ ٥٠٧ (جنب).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ أ، وهو المروي عن ابن عباس وغيره، انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٦ وهذا هو الثابت في الحديث المتفق عليه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". صحيح البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب ما جاء في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ ٤/ ١٣٢، كتاب: الاستسقاء، باب: (نصرت بالصبا) ٢/ ٤٠. صحيح مسلم، كتاب: الاستسقاء: باب في ريح الصبا والدبور ٢/ ٦١٧، "المسند" ١/ ٢٢٣ - ٢٢٨ والدبور: ريح تأتي من دبر الكعبة مما يذهب نحو الشرق. "اللسان" ١/ ٩٤٠ (دبر).
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥، "الدر" ٦/ ١١٥، عن علي بن أبي طالب. والنكباء: كل ريح من الرياح الأربع انحرفت ووقعت بين ريحين، وهي تهلك المال وتحبس القطر. "اللسان" ٣/ ٧١٢ (نكب).
(٤) لم أجده. وفي العظمة ٤/ ١٣٣٣: عن عطاء بن يسار -رضي الله عنه- قال: قلت لكعب رحمه الله تعالى: من ساكن الأرض الثانية؟ قال: الريح العقيم، لما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يهلك قوم عاد أوحي إلى خزنتها أن افتحوا منها بابًا قالوا: يا ربنا مثل منخر الثور؟ قال: إذًا تكفي الأرض بمن عليها. فقال: افتحوا منها مثل حلقة الخاتم. قال والأقرب أن يكون موقوفًا على عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- من زاملتيه اللتين أصابهما يوم اليرموك والله أعلم.
456
الرياح باللقاح في قوله: ﴿الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر: ٢٢] وسميت بالعقيم هاهنا حين لم تلقح الشجر ولم تحمل المطر، ثم وصف تلك الريح فقال:
٤٢ - ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ﴾ قال مقاتل: من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم (١) ﴿إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ كالشيء الهالك البالي. وذكر تفسير الرميم عند قوله: ﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ (٢) قال الفراء: الرميم نبات الأرض إذا يبس وديس (٣).
وقال أبو إسحاق: هو الورق الجاف المتحطم (٤).
٤٣ - وقوله: ﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ أي وفي ثمود أيضًا آية: ﴿إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا﴾ قال صالح لهم ذلك فعقروها، فقال تمتعوا. أي: عيشوا، وقد مر (٥).
قوله تعالى: ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ قال عطاء، والكلبي: يعني ثلاثة أيام (٦). والمعنى إلى.
٤٤ - ﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ حين يأتيكم العذاب فأتاهم يوم الرابع. وقد قال في سورة هود {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا في
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٣.
(٢) عند تفسيره لآية [الحجر: ٧٨] ومما قال: قال أبو عبيدة: الرميم مثل الرمة. يقال رم العظيم وهو يرم رمًّا وهو رميم. وقال ابن الأعرابي: رمت عظامه وأرمت إذا بليت. وقال أبو عبيدة: الروم الرفات.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٨.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٧
(٥) عند ذكره سبحانه لقصتهم في سورة هود.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٥، "الوسيط" ٤/ ١٧٩، "التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٢٣.
457
دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: ٦٥].
قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد الموت، والصاعقة الموت (١).
وقال مقاتل: يعني العذاب (٢). وتفسير الصاعقة كل عذاب مهلك، وقد تقدم القول فيها (٣).
وقرأ الكسائي (الصَّعْقَةُ) (٤). قال المبرد: وهي مصدر مثل الضربة. قال: والصعقة إنما هي مثل الزجرة، وهي الصوت الذي يكون عن الصاعقة. والصاعقة هي النازلة بعينها، وأنشد لعويف القوافي (٥) فقال:
لاحَ سَحَابٌ فرأَيْنَا بَرْقَه ثم تَدَانَى فسَمِعْنَا صعْقَه
وقوله: ﴿وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ أي يرون ذلك.
والمعنى: أخذتهم الصاعقة عيانًا (٦). وهو معنى قول عطاء: قد رأوا
(١) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٩، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٤.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب، "الوسيط" ٤/ ١٧٩.
(٣) عند تفسيره لآية ١٩ من البقرة، ومما قال: الصاعقة والصعقة الصحية. يغشي منها على من سمعها أو يموت.. ويقال لها الصواعق الشديد من الرعد يسقط معها قطعة نار. وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٧٧٧، "اللسان" ٢/ ٤٤٢ (صعق).
(٤) قرأ الكسائي (الصَّعْقَةُ) بإسكان العين من غير ألف. وقرأ الباقون (الصاعقة) بالألف وكسر العين. انظر: "حجة القراءات" ٦٨٠ "النشر" ٢/ ٣٧٧، "الإتحاف" ٣٩٩.
(٥) عويف بن معاوية بن عتيبة، شاعر أموي مقل، مدح الوليد، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، سمي عويف القوافي لقوله:
سأكذب من قد كان يزعم أنني إذا قلت شعرًا لا أجيد القوافيا
انظر: "ألقاب الشعر" ص ٣٠٩، "الأغاني" ١٩/ ١٨٤، "الخزانة" ٦/ ٣٨٤، والبيت في "اللسان" ٢/ ٤٤٢ (صعق)، "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٢٢.
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٧٩، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٤، "فتح القدير" ٥/ ٩١.
458
العذاب (١).
وقال مجاهد: فجأة (٢) وعلى هذا معنى (ينظرون)، وذلك أن صالحًا قد ضرب لهم الأجل للعذاب ثلاثة أيام، وجعل لنزول العذاب بهم علامات في تلك الأيام، وظهرت تلك العلامات فانتظروا العذاب في اليوم الرابع (٣). وهذا هو الصحيح؛ لأنه قد ذكر في قصتهم أنهم تحنطوا في اليوم الرابع ولبسوا الأكفان، وكانت أكفانهم الأنطاع، وحنوطهم الصبر (٤).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ أي ما أطاقوا عذاب الله ولم يقوموا له حين أتاهم، كما تقول: فلان لا يقوم بهذا الأمر ولا يقاومه، أي لا يطيق ولا يحتمله (٥). وهو معنى قول مقاتل: أي: لم يقوموا للعذاب حين غشيهم (٦).
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب (٧).
والقيام على هذا يراد به النهوض. والمعنى أنهم لم ينهضوا من تلك
(١) لم أجده، وهو بمعنى الأول.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٢٠، "جامع البيان" ٢٧/ ٥.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٥، "الوسيط" ٤/ ١٧٩.
(٤) الأنطاع: جمع نطع بالكسر من الأدَمِ والصَبرِ: شجر ورقه كقرب السكاكين طوال غلاظ، في خضرتها غُبْرة، وكُمْدَة مُقشَعرَّة المنظر. انظر: "اللسان" ٢/ ٤٠٣ (صبر) ٣/ ١١٧ (قطع).
(٥) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٢.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب
(٧) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٢.
الصرعة ولم يستقلوا بعد تلك النكبة. وهذا معنى قول قتادة: من نهوض (١).
وقال الكلبي: فما استطاعوا أن يقوموا فيردوا العذاب حين غشيهم (٢). وعلى هذا المعنى (٣) ما استطاعوا قيامًا لدفع العذاب عنهم حين أتاهم. ﴿وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ قال مقاتل: يعني ممتنعين من العذاب حين أهلكوا (٤). أي: ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من عذاب الله.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ قرئ بالنصب والخفض (٥). فالخفض ظاهر بالحمل على قوله: (وَفِي مُوسَى) ومن نصب حمل على المعنى وهو أن قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ يدل على أهلكناهم، فكأنه قال: أهلكناهم وأهلكنا قوم نوح. وهذا قول الفراء، والزجاج (٦). قال: ويجوز أن يحمل على معنى قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ﴾ ألا ترى أن هذا الكلام يدل على أغرقناهم، فكأنه قال: أغرقناهم وأغرقنا قوم نوح (٧).
قال المبرد: والنصب أحسن لتراخيه عن عامل الجر، والعرب إذا تراخى المجرور عن عامل الجر حملته على المعنى، والدليل على حسن النصب أن الجار ذكر في قصص الأمم وهو في ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ لم يلحق معهم
(١) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٥، "جامع البيان" ٢٧/ ٥.
(٢) لم أجده عن الكلبي، وتقدم مثله عن مقاتل.
(٣) في (ك): (معنى) ولعل الصواب ما أثبته.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٢.
(٥) قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف (وقوم) بالكسر وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٨٠، "النشر" ٢/ ٣٧٧، "الإتحاف" ص ٤٠٠.
(٦) انظر "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٨٨ - ٨٩.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٧. "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٢٣.
حرف الجر فعمل النصب (١). واختار أبو عبيد النصب أيضًا. قال: لأن من خفض أراد: وفي قوم نوح، كما قال: ﴿وَفِي عَادٍ﴾ ﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ وأولئك قوم قص الله، النصب على أنه أشركهم فيما فُعِل بالأمم من العقوبة إذ لم يخبرنا عنهم بخبر خاص (٢).
٤٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ يقال: أوسع الرجل، إذا صار ذا وسع وَسَعَة، وهو الغنى والجدة، والموسع المليء ومنه قوله: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦]. واختلفت العبارات في تفسير: ﴿لَمُوسِعُونَ﴾ هاهنا فقال (٣) عن ابن عباس: ﴿لَمُوسِعُونَ﴾ لخلقي (٤). قال الكلبي: يعني سعة الرزق (٥).
قال الفراء: لذو سَعَة لخلقنا (٦). وقال الحسن: قادرون على رزقهم لا نعجز عنه، ولهذا قال مقاتل في تفسيره: لقادرون (٧).
وقال الحسن: مطيعون (٨). وهذا يعود إلى أنه يقدر على رزقهم ويطيق ذلك، فهو موسع لخلقه في أرزاقهم.
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٤٢ - ٢٤٣.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٤٣، "التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٢٥.
(٣) كذا العبارة في (ك) وفيها سقط ظاهر.
(٤) لم أجده بهذا اللفظ، وعنه قال: (لموسعون بالرزق) "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٧.
(٥) لم أجده، انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٢.
(٦) في (ك): (حلقنا). انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٨٩.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب
(٨) انظر: "الكشف والبيان" ١١/ ١٩٠ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٢.
وقال مجاهد: لقادرون أن نخلق سماء مثلها (١)، يعني أنه لما ذكر قدرته على خلق السماء ذكر أنه موسع لخلق مثلها. أي مطيق قادر.
وقال أبو إسحاق: جعلنا بين السماء والأرض سعة (٢).
قال الأزهري: جعل أبو إسحاق أوسع بمعنى وسع (٣). وعلى هذا يجوز أيضًا أن يعود التوسع إلى الرزق، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: إنا لموسعون الرزق على خلقنا (٤).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ قال ابن عباس: فنعم ما وطأت لعبادي (٥). وأوسعت عليهم، يعني الأرض.
قال أبو إسحاق: المعنى: فنعم الماهدون نحن، ولكن اللفظ بقوله: ﴿فَرَشْنَاهَا﴾ يدل على المضمر المَحذوف (٦).
٤٩ - قوله: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ أي صنفين ونوعين، فالزوجان في الحيوان الذكر والأنثى، وفي غير الحيوان المختلفان باللون والطعم. فيدخل في هذا الأبيض والأسود والمر والحلو.
قال مقاتل: يعني الليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والصيف والشتاء، والبرد والحر، والسهل والجبل، والنور والظلمة (٧).
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٢٧.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٧.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٩٦ (وسع).
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١١/ ١٩٠ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٢.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٨٠، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٤.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٥/ ٥٧.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب، وهو قول مجاهد أيضًا. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٦، "تفسير القاسمي" ١٥/ ٥٥٣٥.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي: تذكرون أنه ليس فيما خلق له عدل ولا مثل. قاله مقاتل (١). وقال غيره: تذكرون أن خالق الأزواج فرد (٢).
٥٠ - قوله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ قال ابن عباس: يريد بالتوبة من ذنوبكم (٣).
والمعنى على هذا فروا من العصيان والكفران إلى الطاعة والإيمان. يدل على هذا قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أي: أنذركم عقابه على الكفر والمعصية. وكذلك الآية التي نهى عن الشرك، وهو قوله:
٥١ - ﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ﴾ الآية. وجميع المفسرين على أنه أمر محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يقول هذا للناس (٤). والكناية في قوله: ﴿مِنْهُ﴾ تعود على اسم الله. والنذير هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو الظاهر.
وروى عطاء عن ابن عباس على الضد من ذلك، فجعل الآية خطابًا من الله تعالى للخلق. يقول: لا تجعلوا مع الله إلهًا آخر ﴿إِنِّي لَكُمْ﴾ يعني نفسه تعالى وعز، ﴿مِنْهُ﴾ من محمد وسيوفه. ﴿نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أي: أنذرتكم بأسه وسيفه إن أشركتم بي (٥).
٥٢ - قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ قال أبو إسحاق: المعنى: الأمر كذلك. أي: كما فعل من قبلهم من الأمم في تكذيب الرسل (٦). وهو قوله: {مَا أَتَى الَّذِينَ
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب، وهو قول مجاهد أيضًا. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٦، "تفسير القاسمي" ١٥/ ٥٥٣٥.
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٤.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٨٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٣.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٣، "فتح القدير" ٥/ ٩١.
(٥) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٤.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٨.
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ} أي: هو ساحر ﴿أَوْ مَجْنُونٌ﴾ قال مقاتل: يعني كقول كفار مكة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-. يقول الله تعالى:
٥٣ - ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ أي بهذا القول.
قال مقاتل: يعني أوصى الأول الآخر يقول ذلك لرسوله (١).
وقال قتادة: أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب (٢).
قال الزجاج: والألف فيه للتوبيخ (٣).
قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ يعني أهل مكة طاغون.
قال ابن عباس: حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك (٤). والمعنى ما أوصى أولهم بذلك، ولكنهم قوم خارجون عن الحد في العصيان.
٥٤، ٥٥ - قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ يقول: فأعرض عن هؤلاء المشركين فقد بلغت وأنذرت، وهو قوله: ﴿فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ أي لا لوم عليك إذ أديت الرسالة. قال ابن عباس: فحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت هذه الآية مخافة أن تنزل بقومه العذاب. ونحو هذا قال مقاتل، وقتادة، وغيرهما. قالوا: واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قوإنقطع، أي: العذاب حضر، فأنزل الله قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ﴾ (٥) أي عظ بالقرآن. وفي هذا قولان:
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب.
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٥، "جامع البيان" ٢٧/ ٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٨، ونصه: (وهذه ألف التوبيخ وألف الاستفهام).
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٨٠، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب، "جامع البيان" ٢٧/ ٧، "الكشف والبيان" ١١/ ١٩٠ ب، "الدر" ٦/ ١١٦.
أحدهما: أنه أمر بالتولي عن الكفار ووعظ المؤمنين. يدل على هذا قوله: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفعهم (١).
القول الثاني: أنه أمر أن يُذكر ويعظ الكفار. وهو قول مقاتل. يقول: عظ كفار مكة بوعيد القرآن، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، يعني من في علم الله أن يؤمن منهم (٢). وهذا القول أشد موافقة لما ذكرنا في الآية الأولى.
٥٦ - قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ تعلقت القدرية بهذه الآية وقالوا: دلت الآية على أن الله تعالى خلق كل مكلف لعبادته وأراد منهم العبادة. ولا حجة لهم في هذه الآية إذا تدبرت قول العلماء فيها ومذاهبهم في تفسيرها (٣). والآية فيها مذاهب للمفسرين.
أحدهما: التخصيص، وهو أن المراد بالجن والإنس مؤمنو الفريقين. وهو قول الكلبي، والضحاك، والفراء، وعبد الله بن مسلم. قال الكلبي: هذا خاص لأهل طاعته. يعني: ما خلقت مؤمني الجن والإنس إلا ليعبدون (٤). وقال الضحاك: هذا خاص في أهل عبادة الله وطاعته. يدل عليه قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [الأعراف: ١٧٩] والذين ذرأهم للنار لا يكونون ممن ذرأهم لعبادته. وهذه الآية التي نحن
(١) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٨١، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥، "فتح القدير" ٥/ ٩٢.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٨، "دقائق التفسير" لابن تيمية ٤/ ٥٢٧، "فتح القدير" ٥/ ٩٢.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١١/ ١٩٠ ب، "الوسيط" ٤/ ١٨١، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥.
465
فيها مطلقة، وآية الذرء مقيدة، والمطلق يحمل على المقيد، وإذا جمعنا بين الآيتين علمنا أن الذين خلقوا للعبادة غير أولئك (١).
وقال الفراء: هذه الآية خاصة. يقول:وقال عبد الله بن مسلم: يعني المؤمنين (٣). واحتج (٤) هؤلاء لمذهبهم بقراءة ابن عباس... (٥) (الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون) (٦) معناه:
وما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليوحدوني (٢) لأهل القدر حجة وقد فُسِّر.
إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها. وهو قول أمير المؤمنين (٧) -رضي الله عنه-، ومقاتل، واختيار الزجاج.
قال مقاتل: يعني إلا لآمرهم بالعبادة، ولو أنهم خلقوا للعبادة ما عصو..... (٨).
(١) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٥، "فتح القدير" ٥/ ٩٢.
(٢) في (ك): بياض. وتمام العبارة في "معاني القرآن" ٣/ ٨٩، (وقال بعضهم: خلقهم ليفعلوا ففعل بعضهم وترك بعض وليس فيه).
(٣) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٢٢.
(٤) كذا في (ك). ولعل في العبارة سقطاً، حيث لم يذكر من قال بهذا القول وهو القول الثاني، وقد فسروا قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي لأدعوهم إلى عبادتي.
(٥) (ك): كلمة لم تظهر ولعلها (وما خلقت).
(٦) وبها قرأ ابن مسعود، وأبى. انظر: "الكشف والبيان" ١١/ ١٩١ أ، "الوسيط" ٤/ ١٨١، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٥، "روح المعاني" ٢٧/ ٢٢.
(٧) في (ك): كلمة لم تقرأ وهي (علي) وانظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٥.
(٨) في (ك): كلمة لم تقرأ وهي (طرفة عين) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٧ ب.
466
وقال الزجاج: المعنى: وما خلقت الجن والإنس إلا لأدعوهم إلى عبادتي (١). هذا كلامهم وتفسيرهم. قالوا.... (٢) العبادة غير الدعاء إليها والأمر بها، والله تعالى قال: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وأنتم تقولون إلا لآمرهم بذلك. قيل: قد يقال... (٣) هذا إذا لم يشتبه ودلت الحال عليه، ما تقول لإنسان أكرمته وأحسنت إليه لتأمره يصنع لك شيئًا: ما أكرمتك إلا لتصنع هذا. وأنت تريد: إلا لآمرك بذلك. وأكثرة من لا يعبد الله من الكفار يدل على أنه لم يخلقهم لعبادته (٤).
واختار صاحب النظم هذا المذهب، واستشهد بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا﴾ [الزخرف: ١٢، ١٣] (٥). قال: معناه: ليأمركم إذا استويتم على ظهوره أن تذكروه، ولو كان على ظاهره لوجب أن يكون ذلك عامًا في الإتيان به.
المذهب الثالث: أن المفسرين قالوا في قوله: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ إلا ليوحدوني، والمؤمنون يوحدون الله تعالى طوعًا في الشدة والرخاء، الكفار يوحدونه في الشدة والبلاء وعند العباس. وهذا معنى رواية حبان عن الكلبي (٦) هذا جملة أقوال المفسرين.
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٨.
(٢) في (ك): الكلمة غير واضحة، لعلها (وتفسير).
(٣) كذا في (ك). والعبارة مستقيمة ولعل الكلمة الساقطة (مثل).
(٤) انظر: "البحر المحيط" ٨/ ١٤٣، "روح المعاني" ٢٧/ ٢٠ - ٢١.
(٥) ورجح الشنقيطي في تفسيره ٧/ ٦٧٣ هذا القول لدلالة آيات القرآن عليه.
(٦) انظر: "الكشف والبيان" ١١/ ١٩٢ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٥٦.
467
وأما أهل المعاني فلهم أيضًا أقوال سديدة في معنى الآية:
أحدها: أن المعنى قوله: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ إلا ليخضعوا لي ويتذللوا. وهذا معنى العبادة في اللغة، وكل أحد من مؤمن وكافر، وبر وفاجر، فهو خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته، خَلَقه على ما أراد، ورزقه كما قضى، لا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق عليه، فقد حصل هذا الخضوع والتذلل من كل أحد (١).
القول الثاني: أن معنى الخلق في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ﴾ خلق التكليف والاختيار، لا خلق الجبلة والطبيعة (٢)، فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها، ومن خذله وطرده حرمها وعمل ما خلق له (٣). وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بقوله: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (٤).
٥٧ - قوله تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: ما أريد أن يرزقوا من خلقي أحدًا، ونحوه قال مقاتل، والزجاج. وقال الكلبي: ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾ أن يرزقوا أنفسهم. ونحوه قال
(١) انظر: "الكشف والبيان" ١١/ ١٩١ ب، ١٩٢ أ، "الوسيط" ٤/ ١٨١، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥، "فتح القدير" ٥/ ٩٢. وهو اختيار ابن جرير أيضًا "جامع البيان" ٢٧/ ٨.
(٢) انظر: "دقائق التفسير" ٤/ ٥٢٩، "فتح القدير" ٨/ ٦٠٠.
(٣) في (ك): (لها).
(٤) حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير سورة ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ ٦/ ٢١٢، كتاب: القدر، باب: جف القلم على علم الله ٨/ ١٥٣، ومسلم في كتاب: القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي ٤/ ٢٠٤١. وأخرجه أحمد في "المسند" ١/ ٨٢، ١٢٩، انظر: "شرح الطحاوية" ٣١٨ وما ذكره المؤلف هنا جزء من الحديث. اقتصر على مكان الشاهد منه.
الفراء (١).
وقوله: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ قال ابن عباس: أن يطعموا لي عبدًا. وهو قول الفراء والزجاج. قالا: أن يطعموا أحدًا من خلقي (٢).
والآخرون قالوا: أن يرزقوني. ومرادهم أن يرزقوا عبادي؛ لأن الله تعالى غير مرتزق ولا طاعم، ويستحيل في وصفه الاستطعام وسؤال الرزق، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأن الخلق عيال الله فمن أطعم عيال رجل ورزقهم فقد أطعمه ورزقه (٣). وهذا كما قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يخبر به عن ربه أن الله تعالى يقول: "عبدي استطعمتك فلم تطعمني" (٤)، والمعنى: لم تطعم عبدي. والآية محمولة على أنه ما أوجب ذلك على عباده، ولم يكلفهم القيام برزق الخلق والإطعام، وإن كان قد ندب إلى إطعام الجائع وذي الحاجة إلى الطعام.
٥٨ - ثم بين أن الرزاق هو لا غيره. فقال: ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ قال ابن عباس: الرزاق لجميع خلقه. ﴿ذُو الْقُوَّة﴾ على جميع ما خلق (٥). وقال مقاتل: يعني: ذو البطش (٦).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٨ أ، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٠، "جامع البيان" للطبري ٢٧/ ٨، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٥، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٥٩.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٨١، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٥، "فتح القدير" ٥/ ٩٢.
(٤) جزء من الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في كتاب: البر، باب: فضل عيادة المريض ٤/ ١٩٩١.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٨٢، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٦.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٨ أ
وقوله: ﴿الْمَتِينُ﴾ معناه في صفة الله القوي (١). وقد مَتُنَ شأنه، إذا قوي (٢)، ثم ذكر أن لمشركي مكة من العذاب مثل ما لغيرهم من الأمم الكافرة وهو قوله:
٥٩ - ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قال مقاتل: يعني مشركي مكة (٣). ﴿ذَنُوبًا﴾ الذَّنوب في كلام العرب: الدلو العظيم.
أنشد الفراء:
إنَّا إذا نَازَعَنَا سَرَيْت لنا ذَنُوبٌ من نَدَاك ذنوب (٤)
وأنشد المبرد لعلقمة بن عبدة:
وفي كلِّ حَيٍّ قد خَبَطْتَ بنِعْمَةٍ فحُقَّ لِشَأسٍ من نَداك ذَنُوبُ (٥)
قال ابن قتيبة: كانوا يستقون فيكون لكل واحد ذنوب، فحمل الذنوب مكان الحظ والنصيب (٦)، وبهذا جاء التفسير. قال أبو إسحاق: يعني: نصيباً من العذاب، مثل نصيب أصحابهم الذين أهلكوا نحو قوم نوح،
(١) انظر: "روح المعاني" ٢٧/ ٢٣.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٠٥، "اللسان" ٣/ ٤٣٤ (متن).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٨ أ.
(٤) البيت لرؤبة. انظر: "ديوانه" ص ١٣٢، "أمالي ابن الشجري" ٢/ ١٨١، "شرح المفصل" ٥/ ٤٨، "المفضليات" ٦٩٦، "تهذيب اللغة" ١٤/ ٤٣٨، "اللسان" ١/ ١٠٧٩ (ذنب).
(٥) البيت في "ديوان علقمة" ص ٤٨، الكتاب ٤/ ٤٧١، "شرح المفصل" ٥/ ٤٨، "المفضليات" ص ٣٩٦، "المذكر والمؤنث" ص ٣٣٧، "الإيضاح في شرح المفصل" ٢/ ٥١٦، "المصنف" ٢/ ٣٣٢، وشأس هو أخو علقمة. والبيت من قصيدة يمدح بها الحارث بن شمر الغساني.
(٦) انظر: "تأويل المشكل" ١٥٠، "تفسير غريب القرآن" ٤٢٣.
وعاد، وثمود (١). وعبارة المفسرين مختلفة في تفسير الذنوب، والأصل ما ذكرنا، قال قتادة، ومقاتل، وأبو العالية: عذابًا مثل عذاب أصحابهم (٢).
وقال مجاهد: سجلاً. وقال إبراهيم: طرفًا (٣).
قوله تعالى: ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ أي بالعذاب، يعني أنهم أخِّروا إلى يوم القيامة، يدل على ذلك قوله:
٦٠ - ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ قال الكلبي، وعطاء، ومقاتل: يعني يوم القيامة (٤).
(١) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٥٩.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٨ أ، "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٥. وهو المروي عن ابن عباس. انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٧٩، "جامع البيان" ٢٧/ ٩.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٩.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٢٨ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٢٣٦، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٣٨.
471
سورة الطور
473
Icon