تفسير سورة القمر

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة القمر من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)﴾ سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الشيخان، والحاكم، واللفظ له عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقًّا شقين بمكة قبل مخرج النبيّ - ﷺ - فقالوا: سحر القمر، فنزلت ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)﴾.
وأخرج الترمذي عن أنس قال: سأل أهل مكة النبي - ﷺ - آيةً، فانشق القمر بمكة مرتين. فنزلت: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)﴾ إلى قوله: ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾؛ أي: (٢) دنت القيامة، وقرب قيامها ووقوعها؛ لأنه ما بقي من الدنيا إلا قليل، كما قال - ﷺ -: "إنَّ الله جعل الدنيا كلها قليلًا، فما بقي منها قليل من قليل، ومثل ما بقي مثل الثغب - أي: الغدير - شرب صفوه، وبقي كدره". فالاقتراب يدل على مضي الأكثر، ويمضي الأقل كما مضى الأكثر.
والساعة جزء من أجزاء الزمان، عبر بها عن القيامة تشبيهًا لها بذلك لسرعة حسابها، أو لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنَّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم، أو لغير ذلك. والحكمة في ذكر اقتراب الساعة تحذير المكلف، وحثه على الطاعة تنبيهًا لعباده على أن الساعة من أعظم الأمور الكونية على خلقه من أهل السموات والأرض. وأما تعيين وقت الساعة: فقد انفرد الحق سبحانه بعلمه، وأخفاه عن عباده؛ لأنه أصلح لهم، ولذا كان كل نبي قد أنذر أمته الدجال.
يقول الفقير: فإن قلت: فكم عمر الدنيا بأسرها، وما قول العلماء فيه؟
قلت: اتفقوا على حدوث الدنيا، وما قطعوا بشيء في مدتها.
﴿وَ﴾ قد ﴿انْشَقَّ الْقَمَرُ﴾؛ أي: انفصل بعضه من بعض معجزة له - ﷺ -. ودلت
(١) لباب النقول.
(٢) روح البيان.
196
صيغة الماضي على تحقق الانشقاق في زمن النبي - ﷺ -. ويدل عليه قراءة حذيفة رضي الله عنه ﴿وقد انشق القمر﴾؛ أي: اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق، وقد خطب حذيفة بالمدائن، ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم - ﷺ -. وحذيفة بن اليمان صاحب سرّ رسول الله - ﷺ - كابن مسعود رضي الله عنهما. وعلى هذا القول عامّة الصحابة ومن بعدهم، وبه أخذ أكثر المفسّرين. فلا عبرة بقول من قال: إنه سينشق يوم القيامة. كما قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾. والتعبير بالماضي للدلالة على تحققه، على أنا نقول: يجوز أن يكون انشقاقه مرتين: مرة في زمانه - ﷺ - إشارة إلى قرب الساعة، ومرة يوم القيامة، حين انشقاق السماء. قال الواحديّ: وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر؛ لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد - ﷺ - ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.
قال ابن كيسان: في الكلام تقديم وتأخير، أي: انشق القمر، واقتربت الساعة. وقال جمع من المفسرين: إن هذا الانشقاق حدثٌ قد حصل، وأن القمر صار فرقتين على عهد رسول الله - ﷺ - قبل الهجرة بخمس سنين. فقد صح من رواية الشيخين، وابن جرير عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله - ﷺ - أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء - جبل بمكة - بينهما.
وفي "الصحيحين"، وغيرهما من حديث ابن مسعود: "وانشق القمر على عهد رسول الله - ﷺ - فرقتين، فرقة على الجبل، وفرقة دونه. فقال رسول الله - ﷺ -: اشهدوا". وجاء عنه أيضًا: "انشق القمر على عهد رسول الله - ﷺ -، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس، فجاء السفار، فأخبروهم بذلك" رواه أبو داود، والطيالسي. وفي رواية البيهقي: فسألوا السفار، وقد قدموا من كل وجه، فقالوا: رأيناه، فأنزل الله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)﴾.
والحاصل (١): أنَّا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه قد انشق، ولم يخبرنا بأنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة رسول الله - ﷺ - فقد ثبت في الصحيح وغيره
(١) الشوكاني.
197
من طريق متواترة: أنه قد كان ذلك في أيام النبوة، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم.. فقد اتفقوا على هذا، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، واستبعاد من استبعد.
وقال قوم - منهم عثمان بن عطاء -: المراد: انشقاقه يوم القيامة، والمعنى عليه (١): اقتربت الساعة، وسينشق القمر، وينفصل بعضه عن بعض، حين يختل نظام هذا العالم، وتبدل الأرض غير الأرض. ونحو هذا قوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾، وقوله: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢)﴾؛ وكثير غيرهما من الآيات الدالة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم، وقرب قام الساعة، والذي يدل على أن هذا إخبار عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماض أمورٌ:
١ - أن الإخبار (٢) بالانشقاق أتى إثر الكلام على قرب مجيء الساعة. والظاهر: تجانس الخبرين، وأنهما خبران عن مستقبل لا عن ماضٍ.
٢ - أن انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت.. لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم، ولبلغ حدًّا لا يمكن أحدًا أن ينكره، وصار من المحسوسات التي لا تدفع، ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلمًا ولا غيره إنكارها.
٣ - ما ادّعى أحدٌ من المسلمين إلا من شذ أن هذه معجزة بلغت حد التواتر، ولو كان قد حصل ذلك.. ما كان رواته آحادًا، بل كانوا لا يعدّون كثرة.
٤ - أنَّ حذيفة بن اليمان، وهو الصحابي الجيل خطب الناس يوم الجمعة في المدائن حين فتح الله فارس. فقال: ألا إنّ الله تبارك وتعالى يقول:
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)﴾، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإنّ القمر قد انشقّ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدًا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة. فهذا الكلام من حذيفة في معرض قرب مجيء الساعة، وتوقع أحداثها لا في كلام عن أحداث قد حصلت تأييدًا للرسول، وإثباتًا لنبوتّه، لأنَّ ذلك كان في معرض العظة والاعتبار.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
198
وقيل (١): معنى ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَر﴾: وضح الأمر، وظهر. وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه، وطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقًا لانفلاق الظلمة عنه.
٢ - وبعد أن ذكر قرب مجيء الساعة، وكان ذلك مما يستدعي انتباههم من غفلتهم والتفكير في مصيرهم، والنظر فيما جاءهم به الرسول من الأدلّة المثبتة لنبوته، والمؤيّدة لصدقه، لكنهم مع كل هذا ما التفتوا إلى الداعي لهم إلى الرشاد، والهادي لهم إلى سواء السيل، بل أعرضوا، وتولوا مستكبرين كما قال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا﴾؛أي: وإن ير هؤلاء المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوتك، وترشدهم إلى صدق ما جئت به من عند ربك كانشقاق القمر، ونظائره. ووجه تسمية ما جاءت به الأنبياء معجزة هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها. وقرىء (٢) ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا﴾ مبنيًا للمفعول؛ أي: من شأنهم ومن حالهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول - ﷺ - من الآيات الباهرة ﴿يُعْرِضُوا﴾ عن التأمل فيها ليقفوا على حققتها، وعلو طبقتها، فيؤمنوا، ويتولّوا مكذّبين بها منكرين أن يكون ذلك حقًّا.
﴿وَيَقُولُوا﴾ تكذيبًا منهم بها هذا الذي ظهر على يد محمد - ﷺ - ﴿سِحْرٌ﴾ سحرنا به، وخيال غشّنا به. ﴿مُسْتَمِرٌّ﴾؛ أي: (٣) مطرد دائم يأتي به على ممرّ الزمان، لا يكاد يختلف بحال كسائر أنواع السحر. فالاستمرار بمعني الاطراد، يقال: اطّرد الشيء تبع بعضه بعضًا، وجرى. وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، حتى قالوا ذلك. وفيه تأييد أن انشقاق القمر قد وقع، لا أنه سينشق يوم القيامة، كما قاله بعضهم. وذلك لأنه لو لم يكن الانشقاق من جنس الآيات.. لم يكن ذكر هذا القول مناسبًا للمقام. أو مطّردًا بالنسبة إلى جميع الأشخاص والبلاد، حيث رأوه منشقًّا. وقال الكسائي والفراء، واختاره النحاس (٤): إنَّ المراد بالمستمر: الذاهب الزائل عن قرب. إذ هم قد عللوا أنفسهم، ومنوها بالأماني الفارغة. وكأنهم قالوا: إنَّ حاله - ﷺ -، وما ظهر من معجزاته إن هي إلا سحابة صيف عن قريب تقشع، ولكن هيهات هيهات.. فقد غرتهم الأماني. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢)}.
٣ - ثم أكد ما سبق بقوله: ﴿وَكَذَّبُوا﴾؛ أي: بالنبي - ﷺ -، وما عاينوه من المعجزات التي أظهرها الله على يده. ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾؛ أي: شهواتهم التي زيّنها الشيطان لهم من رد الحق بعد ظهوره. أو كذبوا الآية التي هي انشقاق القمر، واتبعوا أهواءهم، وقالوا: سحر القمر أو سحر أعيننا، والقمر بحاله، ولم يصبه شيء، أو إنه خسوف في القمر، وظهور شيء من جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر. فهذه أهواؤهم الباطلة اتبعوها لجهلهم وسخف عقولهم.
والخلاصة: أنهم كذّبوا النبي - ﷺ -، وتركوا حججه، وقالوا: هو كاهن، يقول عن النجوم، ويختار الأوقات للأفعال، وساحر يسترهب الناس بسحره إلى أشباه هذا من مقالاتهم التي تدل على العناد، وعدم قبول الحق. وذكرهما (١) بلفظ الماضي؛ أي: بعد "يعرضوا، ويقولوا" بلفظ المستقبل للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة.
ثم سلى رسوله، وهدد المشركين بقوله: ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ﴾ من الأمور ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾؛ أي: منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة. ومن جملتها: أمر النبي - ﷺ -، فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيقته، وعلو شأنه. وإبهام المستقر عليه للتنبيه على كمال ظهور الحال، وعدم الحاجة إلى التصريح به. أو كل أمر من أمرهم، وأمره - ﷺ - مستقر؛ أي: سيثبت، ويستقر على حالة خذلان، أو نصرة في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة. فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر، يعني: أن الاستقرار كناية عن ملزومه. وهو الانتهاء إلى الغاية. فإن عنده يتبين حقيقة كل شيء من الخير والشر، والحق والباطل، والهوى، والحجة. وينكشف جلية الحال، ويضمحل الشبه والالتباس؛ فإنّ الحقائق إنما تظهر عند العواقب. فهذا وعيد للمشركين، ووعد وبشارة للرسول والمؤمنين. ونظيره قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)﴾؛ أي: كل نبأ وإن طالت مدته فلا بد أن ينتهي إلى غايته، وتنكشف حقيقته من حق أو باطل. وفي عين المعاني: وكل أمر وعدهم الله تعالى كائن في وقته، لأنه مستقر لا يزول.
(١) روح البيان.
والخلاصة (١): أي وكل شيء ينتهي إلى غاية تشاكله، فأمرهم سينتهي إلى الخذلان في الدنيا، والعذاب الدائم في الآخرة. وأمرك سينتهي إلى النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. وهذه قاعدة عامّة تنضوي تحتها حركات الكواكب، والأفلاك، ونظم العمران، وأعمال الأفراد والأمم.
وقصارى ذلك: أن أمر محمد - ﷺ - سيصل إلى غاية يتبين عندها أنه الحق، وأنَّ ما سواه هو الباطل. فقد جرت سنة الله بأن الحق يثبت والباطل يزهق بحسب ما وضعه، في نظم الخليقة: البقاء للأصلح.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾ بكسر القاف. وهو مرتفع على أنه خبر المبتدأ. وهو كل. وقرأ أبو جعفر. وزيد بن علي بجر ﴿مُسْتَقِرٍ﴾ على أنه صفة للأمر. وقرأ شيبة بفتح القاف، ورويت هذه القراءة عن نافع. قال أبو حاتم: ولا وجه لها. وقيل: لها وجه بتقدير مضاف محذوف؛ أي: وكل أمر ذو استقرار أو ذو زمان استقرار، أو ذو مكان استقرار على أنه مصدر أو ظرف زمان، أو ظرف مكان.
٤ - ثمّ ذكر أنهم في ضلال بعيد. فإنَّ ما جاء في القرآن من أخبار الماضين قد كان فيه مزدجر لهم لو كانوا يعقلون، فقال: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ﴾؛ أي: وعزّتي وجلالي.. لقد جاء أهل مكة، أو الكفار على العموم في القرآن ﴿مِنَ الْأَنْبَاءِ﴾؛ أي: من أنباء القرون الخالية، أو أنباء الآخرة، وما وصف من عذاب الكفّار. فالألف واللام (٣) عوض عن المضاف إليه، و ﴿من﴾ للتبعيض. وهو حال مما بعده.
﴿مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾؛ أي: ازدجار وارتداع من تعذيب إن أريد بالأنباء: أنباء القرون الخالية، أو وعيد إن أريد أنباء الآخرة على أنه مصدر ميمي. ويجوز أن يكون اسم مكان؛ أي: جاءهم ما فيه موضع ازدجارٌ على أنّ ﴿في﴾ تجريدية؛ أي: أنه في نفسه موضع ازدجار، ومظنّة له كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾؛ أي: هو في نفسه أسوة حسنة. وقرىء (٤) ﴿مزّجر﴾ بإبدال تاء الافتعال زايًا وإدغام الزاي فيها. وقرأ زيد بن عليّ ﴿مزجر﴾ اسم فاعل من أزجر؛
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
أي: صار ذا زجر، كأعشب؛ أي: صار ذا عشب.
والمعنى: أي ولقد جاء هؤلاء المشركين الذين كذبوا بك، واتبعوا أهواءهم من الأخبار عن الماضين الذين كذبوا الرسل، فأحلَّ الله بهم من العقوبات ما قصه في كتابه ما يردعهم، ويزجرهم عما هم فيه من القبائح؛ إذ أبادهم في الدنيا، وسيعذبهم يوم الدين جاء وفاقًا لما دنسوا به أنفسهم من الشرك بربهم، وعصيان رسله، واجتراحهم للسيئات.
٥ - ثم بين الذي جاءهم به، فقال: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾؛ أي: هذه الأنباء حكمة بالغة غايتها متناهية في كونها حكمة، لا خلل ولا نقص فيها. أو قد بلغت الغاية في الإنذار، والنهي، والموعظة، والإرشاد إلى طريق الحق، لمن اتبع عقله وعصى هواه. وهو بدل من ﴿ما﴾، أو خبر لمحذوف.
وقرأ الجمهور (١): ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ برفعهما، وجوزوا أن تكون ﴿حِكْمَةٌ﴾ بدلًا من ﴿مُزْدَجَرٌ﴾، أو من ﴿مَا﴾، أو خبر مبتدأ محذوف. وقرأ اليماني ﴿حكمةً بالغةً﴾ بالنصب فيهما حالًا من ﴿مَا﴾، سواء كانت موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة.
﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ نفى للإعتداء (٢). فمفعول ﴿تُغْنِ﴾ محذوف؛ أي: لم تغن النذر شيئًا. أو استفهام إنكار فما مخصوبة على أنها مفعول مقدم لتغني، أي: فأي إغناء تغني النذر إذ خالفوا أو كذبوا؛ أي: لا تنفع. كقوله: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١)﴾. والنذر: جمع نذير بمعني المنذر أو مصدر بمعني الإنذار. والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة.
أي: إنَّ النذر والرسل (٣) لم يبعثوا ليلجئوا الناس إلى قبول الحق، وإنما أرسلوا مبلغين فحسب. فليس عليك، ولا على الأنبياء قبلك الإغناء والإلجاء إلى اتباع سبيل الهدى. فإذا بلغت.. فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها في نحو قوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ وتول عنهم بعدئذٍ.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾.
٦ - ثم أمر رسوله أن لا يجادلهم، ولا يناظرهم. فإن ذلك لا يجدي نفعًا فقال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين المكذّبين بك، ولا تحاجهم فإنهم قد بلغوا حدًّا لا يقنعون معه بحجة ولا برهان، فأحرى بك أن لا تلتفت إلى نصحهم وإرشادهم. فقد عييت بأمرهم، وبرمت بعنادهم. وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
والظرف في قوله (١): ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ متعلق بـ ﴿يَخْرُجُونَ﴾ أو باذكر محذوفًا أو بقوله: ﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ ويكون ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ اعتراضًا أو بقوله: ﴿يَقُولُ الْكَافِرُونَ﴾ أو بقوله: ﴿خُشَّعًا﴾. وهو يوم القيامة. والداعي إسرافيل عليه السلام، ينفخ في الصور قائمًا على صخرة بيت المقدس، ويدعو الأموات، وينادي قائلًا: أيتها العظام البالية، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، أو إنَّ إسرافيل وجبريل يدعو وينادي بذلك. وعلى كلا القولين فالدعا على حقيقته. وقال بعضهم: هو مجاز كالأمر في قوله تعالى: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾. يعني: أنَّ الدعاء في البعث والإعادة مثل: "كن" في التكوين والابتداء بأن لا يكون ثمة داع إسرافيل أو غيره، بل يكون الدعاء عبارة عن نفاذ مشيئته، وعدم تخلف مراده عن إرادته كما لا يتخلف إجابة دعاء الداعي المطاع.
يقول الفقير: الأولى بقاؤه على حقيقته؛ لأنَّ إسرافيل مظهر الحياة، وبيده الصور، والله تعالى ربط الأسياء بعضها ببعض، وإن كان الكل بإرادته ومشيئتة، انتهى. وأصل ﴿يَدْعُ الدَّاعِ﴾: يدعو الداعي بالواو والياء، ولما حذفت الواو من ﴿يدعو﴾ في التلفظ لاجتماع الساكنين حذفت في الخط أيضًا تباعًا للفظ، وأسقطت الياء من الداعي للاكتفاء بالكسرة تخفيفًا. قال بعضهم: حذفت الياء من الداعي مبالغة في التخفيف إجراء لأل مجرى ما عاقبها. وهو التنوين. فكما يحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبه.
﴿إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ بضمّتين، صفة على فعل، وقرىء (٢) بسكون الكاف
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
وكلاهما بمعني المنكر؛ أي: إلى شيء منكر فظيع، تنكره النفوس لعدم العهد بمثله. وهو هول يوم القيامة. ومنه: منكر ونكير لفتاني القبر؛ لأنه لم يعهد عند الميت مثلهما.
وقد جرت العادة أن من ينصح شخصًا لا يؤثر فيه النصح أن يعرض عنه، ويقول لغيره ما فيه نصح للمعرض عنه، وهدايته، وإرشاده لو أراد. وقرأ الجمهور (١) ﴿نُكُرٍ﴾ بضم الكاف. وهو صفة على فعل. وهو قليل في الصفات. ومنه: رجل شلل أي: خفيف في الحاجة، وناقة أحد، ومشية سجح، وروضة أنف. وقرأ الحسن، وابن كثير، وشبل بإسكان الكاف، كما قالوا: شغل وشغل، وعسر وعسر. وقرأ مجاهد، وأبو قلابة، والجحدري، وزيد بن عليّ ﴿نُكِرَ﴾ فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول؛ أي: جهل فنكر.
٧ - ثم ذكر حال الكافرين في ذلك اليوم، فقال: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ﴾ حال من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾ والتقديم؛ لأن العامل فعل متصرف. وفيه دليل عى بطلان مذهب الجرمي؛ لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل، وإن كان متصرفًا. ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ جمع جدث، محركًا. هو القبر، أي: يخرجون من قبورهم حال كونهم أذلة أبصارهم من شدة الهول، خاضعة عند رؤية العذاب. والخشوع (٢): الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح. والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب. كما روي: إذا ضرع القلب.. خشعت الجوارح. وخصَّ الأبصار بالخشوع؛ لأنّه فيها أظهر منه في سائر الجوارح وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿خُشَّعًا﴾ جمع تكسير. وابن عباس، وابن جبير، ومجاهد والجحدري، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي ﴿خاشعًا﴾ بالإفراد. وقرأ أبي، وابن مسعود "خاشعة". وجحع التكسير أكثر في كلام العرب. وقال الفراء، وأبو عبيدة: كله جائز، انتهى. وقرىء "خُشَّعٌ أبصارُهم" وهي جملة في موضع الحال و"خشع" خبر مقدم.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
﴿كَأَنَّهُمْ﴾ لكثرتهم، واختلاط بعضهم ببعض ﴿جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾؛ أي: منبث في الأقطار، متفرق فيها، مختلط بعضه ببعض؛ أي: يخرجون من قبورهم ذليلة أبصارهم من هول ما يرون كأنهم في انتشارهم، وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد قد انتشر في الآفاق.
وجاء (١) تشبيههم في الآية الأخرى بالفراش في قوله: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤)﴾. وهم يكونون أوّلًا كالفراش، حين يخرجون فزعين، لا يهتدون أين يتوجهون؛ لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم يكونون كالجراد المنتشر إذا توجهوا للحشر. فهما تشبيهان باعتبار وقتين. حكي ذلك عن مكي بن أبي طالب.
٨ - وقوله: ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ﴾ حال أيضًا من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾؛ أي: يخرجون من الأجداث حال كونهم مسرعين إلى جهة الداعي والمنادي. وهو إسرافيل، مادي أعناقهم أو ناظرين إليه، لا يقلعون أبصارهم عنه.
وجملة قوله: ﴿يَقُولُ الْكَافِرُونَ﴾ منهم إما حال من ضمير ﴿مُهْطِعِينَ﴾ أو من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾، والرابط مقدر كما قدرناه آنفًا، أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال مقدر نشأ من وصف اليوم بالأهوال، وأهله بسوء الحال. كأنه قيل: فماذا يكون حينئذٍ؟ فقيل: يقول الكافرون ﴿هَذَا﴾ اليوم ﴿يَوْمٌ عَسِر﴾؛ أي: صعب شديد علينا. فيمكثون بعد الخروج من القبور واقفين أربعين سنة كما روي، يقولون: أرحنا من هذا ولو إلى النار. ثم يؤمرون بالحساب. وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأن المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدة، بل ذلك اليوم يوم يسير لهم ببركة إيمانهم، وأعمالهم الصالحة؛ أي: مسرعين إلى الداعي، لا يخالفون، ولا يتأخّرون، ويقولون: هذا يوم شديد الهول سيء المنقلب. ونحو الآية قوله: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)﴾ وفي هذا إيماء إلى أنّه هين على المؤمن، لا عسر فيه، ولا مشقة.
(١) المراغي.
قصص قوم نوح عليه السلام
٩ - ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدم من الأنباء المجملة، فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل قومك يا محمد ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوحًا. فالمفعول محذوف. وهذا شروع في تعداد بعض الأنباء الموجبة للازدجار، وتسلية لرسول الله - ﷺ - ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ نوحًا عليه السلام. وهذا تفسير لذلك التكذيب المبهم أوّلًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ...﴾ إلخ. فالمكذب في المقامين واحد. والفاء تفسيرية، تفصيلية، تعقيبية في الذكر. فإن التفصيل يعقب الإجمال. وفيه مزيد تقرير وتأكيد. وقيل: المعنى: كذبت قوم نوح الرسل، فكذبوا عبدنا نوحًا بتكذيبهم للرسل. فإنه منهم.
وفي "فتح الرحمن": إن قلت: ما فائدة إعادة التكذيب فيه؟
تلف: فائدته حكايه الواقع، وهو أنهم كذبوا تكذيبًا بعد تكذيب، أو الأوّل تكذيبهم بالتوحيد، والثاني: بالرسالة، أو الأول تكذيبهم بالله، والثاني: برسول الله.
وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه الصلاة والسلام، ورفع لمحله، وزيادة تشنيع لمكذبيه. فإن تكذيب عبد السلطان أشنع من تكذيب عبد غيره. وفيه إشارة إلى أنه لا شيء أشرف من العبودية. فإن الذلة الحقيقية التي يقابلها مقام الربوبية مختصة بالله تعالى، فكذا العبودية مختصة بالعبد. وهي المرادة بالتواضع. وهي غير التملق. فإن التملق لا عبرة به.
﴿وَقَالُوا﴾ في حقه هو ﴿مَجْنُونٌ﴾ أو قالوا له: إنك مجنون. أي: لم يقتصروا على مجرد الكذيب، بل نسبوه إلى الجنون، واختلال العقل. وهو مبالغة في التكذيب. لأنَّ من الكاذبين من يخبر بما يوافق العقل، ويقبله. والمجنون لا يقول إلا ما لا يقبله العقل، ويأباه.
﴿وَازْدُجِرَ﴾ عطف (١) على ﴿قالوا﴾. فهو من كلام الله تعالى. أي: وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية. مئل الشتم، والضرب، والخنق، والوعيد بالرجم. قال الراغب: ﴿وَازْدُجِر﴾؛ أي: طرد. واستعمال الزجر فيه لصياحهم بالمطرود، نحو أن
(١) روح البيان.
يقال: أغرب عنّي، وتنح، ووراءك.
وقيل: هو من جملة ما قالوه؛ أي؛ هو مجنون، وقد ازدجرته الجن، وتخبطته؛ أي: أفسدته، وتصرفت فيه، وذهبت بلبه، وطارت بقلبه. والأول أولى. وفيه إشارة إلى أن كل داعي حق لا بد وأن يكذب لكثرة أهل البطلان، وغلبة أهل البدع والأهواء والطغيان. وذلك في كل عصر وزمان؛ أي: فكذبوا عبدنا نوحًا، ونسبوه إلى الجنون، وزجروه، وتوعدوه لئن لم ينته.. ليكونن من المرجومين.
١٠ - ثم بين أنه عيل بهم صبرًا، وضاق بهم ذرعًا، فقال: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾؛ أي: لما زجروا نوحًا عند الدعوة، وبلغ مدة التبليغ تسع مئة وخمسين سنة دعا ربه ﴿أَنِّي﴾؛ أي: بأني ﴿مَغْلُوبٌ﴾ من جهة قومي، ما لي قدرة على الانتقام منهم ﴿فَانْتَصِر﴾؛ أي: فانتقم لي منهم. وذلك بعد تقرّر يأسه منهم.
فقد روي: أنَّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه، حتى يخر مغشيًا، فيفيق، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". فلما أذن الله له في الدعاء للإهلاك دعا. فأجيب كما قال في الصافات: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَنِّي﴾ بفتح الهمزة؛ أي: بأنّي. وقرأ ابن أبي إسحاق، والأعمش بكسرة الهمزة، ورويت هذه القراءة عن عاصم بتقدير إضمار القول؛ أي: فقال إنيّ.
والمعنى (٢): أي فدعا نوح ربه قائلًا: إن قومي قد غلبوني لتمردهم وعتوهم، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.
وقصارى ذلك: انتصر لك ولدينك، فإني قد غلبت، وعجزت عن الانتصار لهما.
١١ - ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه، وعاقبهم بقوله: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: طرق السماء ﴿بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾؛ أي: بماء كثير منصب انصبابًا شديدًا يقال: انهمر الماء إذا انسكب، وسال؛ أي: منصب انصبابًا شديدًا كما ينصب من أفواه القرب لم ينقطع أربعين يومًا. وكان مثل الثلج بياضًا وبردًا. وهو تمثيل لكثرة الأمطار،
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
وشدة انصبابها سواء جعلت الباء في قوله: ﴿بِمَاءٍ﴾ للاستعانة وجعل الماء كالآلة لفتح أبواب السماء، وهو ظاهر، أو للملابسة، قرأ الجمهور (١) ﴿فتحنا﴾ مخففًا. وقرأ ابن عامر، ويعقوب بالتشديد.
١٢ - ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾؛ أي: جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة؛ أي: جارية. وكان ماء الأرض مثل الحميم حرارة. وأصل الكلام. وفجرنا عيون الأرض. فغير عن المفعولية إلى التمييز قضاء لحقّ المقام من المبالغة؛ لأنّ قولنا: فجرنا عيون الأرض يكفي في صحة تفجر ما فيها من العيون، ولا مبالغة فيه، بخلاف فجرنا الأرض عيونًا فإنّ معناه: فجرنا أجزاء الأرض كلها بجعلها عيون الماء. ولا شك في أنه أبلغ. وقرأ الجمهور (٢) ﴿وَفَجَّرْنَا﴾ بتشديد الجيم. وعبد الله، وأصحابه، وأبو حيوة، والمفضل عن عاصم بالتخفيف. قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها، فتفجرت بالعيون.
﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ﴾؛ أي: ماء السماء، وماء الأرض، وارتفع على أعلى جبل في الأرض ثمانين ذراعًا. والإفراد حيث لم يقل: الماءان لتحقيق أنَّ التقاء الماءين.. لم يكن بطريق المجاورة والتقارب، بل بطريق الالتقاء والاتحاد.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ﴾. وهو اسم جنس. وقرأ عليّ بن أبي طالب، والحسن، ومحمد بن كعب، والجحدري ﴿الماءان﴾. وقرأ الحسن أيضًا ﴿الماءان﴾. وقال الزمخشري: وقرأ الحسن ﴿ماوان﴾ بقلب الهمزة واوًا، كقوله: علباوان، انتهى. شبه الهمزة الذي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علباء. وعن الحسن أيضًا ﴿المايان﴾ بقلب الهمزة ياء. وفي كلتا القرائتين شذوذ.
حالة كون الماء كائنًا ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾؛ أي: على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل. وقيل: على مقادير قد رتبت وقت التقائه. فروي: أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعًا، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعًا. وقيل: كان ماء الأرض أكثر. وقيل: كانا متساويين نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وقيل: على أمرٍ قد قدر في اللوح المحفوظ أنه يكون. وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان. وهذا هو الراجح؛ لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها. فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ فكلمة ﴿عَلَى﴾ هذا للتعليل؛ أي: التقى الماء لأجل أمر قد قدره الله في الأزل. وهو هلاكهم بالطوفان.
يقول الفقير: إنما وقع (١) العذاب بالطوفان العام؛ لأنَّ الماء إشارة إلى العلم، فلما لم ينتفعوا بعلم نوح عليه السلام في المدة الطويلة، ولم تغرق أرواحهم فيه أخذوا بالماء، حتى غرقت أجسادهم. وتأئير الطوفان يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة، لكن على الخفة. فيقع مطر كثير، ويغرق بعض القرى، والبيوت من السيل. وقرأ أبو حيوة ﴿قُدِرَ﴾ بتشديد الدال، والجمهور بتخفيفها.
والخلاصة (٢): أنّ الله أرسل ماء السحاب مدرارًا، وأخرج من الأرض ماء ثجاجًا، فالتقى الماءان، فأحدثا طوفانًا على وجه الأرض، فأغرق به قوم نوح، ونجا نوحًا بركوب سفينته التي بناها، كما أشار إلى ذلك في هود بالتفصيل.
١٣ - وأشار إليه هنا بقوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ﴾؛ أي: نوحًا ومن آمن معه ﴿عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ﴾؛ أي: على سفينة صاحبة أخشاب عريضة. فإن الألواح جمع لوح. وهو كل صحيفة عريضة خشبًا أو عظمًا. وكانت سفينة نوح من ساج. وهو شجر عظيم ينبت في أرض الهند.
﴿وَدُسُرٍ﴾؛ أي: ومسامير. جمع دسار (٣)، من الدسر. وهو الدفع الشديد، سمي به المسمار؛ لأنه يدسر به منفذها؛ أي: يدفع. قال في "عين المعاني": دسرت بها السفينة؛ أي: شدت، أو لأنّها تدسر أي: تدفع بالدقّ. فقوله: ﴿ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ صفة للسفينة، أقيمت مقامها بأن يكنى بها عنها كما يكنى عن الإنسان بقولهم: هو مستوي القامة عريض الأظفار.
أي: وأنقذناه من الطوفان، فحملناه على سفينة ذات خشب ومسامير. وفي
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
سورة العنكبوت: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾. وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى يوجد الأسباب لتحقيق ما يريد من المسببات بحسب السنن التي وضعها في الخليقة، وأنه يمهل الظالمين ولا يهملهم كما جاء في الحديث: "إن ربك لا يهمل، ولكن يمهل".
١٤ - ثم أشار إلى أنه كان محروسًا بعناية الله، وكلاءته فقال: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: تجري السفينة، وتسير بمرأى منا؛ أي: محفوظة بحفظنا. وقيل: محفوظة بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها. وقيل: تجري بأعيننا؛ أي: بأمرنا، وقدرتنا. وقيل: تجري بأعيننا النابعة من الأرض. وقرأ الجمهور (١) ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ بالفكّ. وقرأ زبد بن علي، وأبو السمّال ﴿بِأَعْيُنَّا﴾ بالإدغام.
وقوله: ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ مفعول له لما ذكر من فتح أبواب السماء وما بعده؛ أي: (٢) فعلنا ذلك المذكور أجرًا وثوابًا لنوح؛ لأنه كان نعمة كفروها. فإن كل نبي نعمة من الله على أمته أي نعمة، ورحمة أي رحمة. وكان نوح نعمة مكفورة.
ومن هذا المعنى ما حكي: أنَّ رجلًا قال لهارون الرشيد: الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ فقال: أنت نِعَمٌ حمدت الله عليها. وقال الفراء: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه، وإغراقهم ثوابًا لمن كان كفر به، وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام، فإنه كان لهم نعمة كفروها، فانتصاب ﴿جَزَاءً﴾ على العلة. وقيل: على المصدرية بفعل مقدر؛ أي: جازيناهم جزاء.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿كُفِرَ﴾ مبنيًا للمفعول. والمراد به: نوح، وقيل: هو الله سبحانه، وقرأ مسلمة بن محارب بإسكان ﴿الفاء﴾ خفف فعل، كما قال الشاعر:
لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْبَا نُ وَالْمِسْكُ انْعَصَرْ
يريد لو عصر. وقرأ زيد بن رومان، وقتادة، وعيسى، ومجاهد، وحميد ﴿كُفِرَ﴾ بفتح الكاف والفاء مبنيًا للفاعل. فـ ﴿من﴾ يراد به: قوم نوح؛ أي: إنّ ما
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء، وتفجير عيون الأرض، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه السلام كان جزاء لهم على كفرهم.
والمعنى: أي تجري محفوظة بحراستنا، فقد كانت بمرأى منّا، فنحن نكلؤها ونرعاها كما يرعى المرء ما يراه بعينه، ويقع تحت سمعه وبصره. ويقول القائل إذا وصى آخر بأمر، وشدد عليه: اجعله نصب عينيك؛ أي: اهتم به، ولا تهمله. ثم بين أن هذا هو الجزاء العادل على سوء صنيعهم، وكفرهم بربهم، فقال: ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾؛ أي: فعلنا ذلك بهم جزاء كفرهم بآياتنا، وجحودهم بنعمائنا، وتكذيبهم برسولنا.
١٥ - ثم ذكر أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم على كر الدهور والأعوام، فقال: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي.. لقد تركنا، وصيرنا هذه السفينة ﴿آيَةً﴾ وعبرة لمن يعتبر بها ممن يقف على خبرها. وقال قتادة: أبقيناها دهرًا طويلًا حالة كونها آية، وعبرة لمن يعتبر بها. أبقاها بباقردى من بلاد الجزيرة. وقيل: على الجودي دهرًا طويلًا، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمّة. وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمادًا.
وفي "تفسير أبى الليث": قال بعضهم: يعني: أنَّ تلك السفينة كانت باقية على الجبل قريبًا من خروج النبيّ - ﷺ -. وقيل: بقيت خشبة من سفينة نوح هي في الكعبة الآن. وهي ساجة غرست، حتى ترعرت أربعين سنة، ثم قطعت، فتركت حتى يبست أربعين سنة. وقيل: بقي بعض خشبها على الجودي إلى هذه الأوقات.
يقول الفقير: لعل بقاء بعض خشبها لكونها آية وعبرة، وإلا فهو ليس بأفضل من أخشاب منبر نبيّنا محمد - ﷺ - في المدينة. وقد احترقت، أو أكلتها الأرضة، فاتخذت مشطًا، ونحوه مما يتبرك به، ألا ترى أن مقام إبراهيم عليه السلام مع كونه حجرًا صلدًا لم يبق أثره بكثرة مسح الأيدي، ثم لم يبق نفسه أيضًا على ما هو الأصح والمعروف بالمقام الآن هو مقام ذلك المقام، فاعرف.
وقال بعضهم: جنس السفينة صارت عبرة؛ لأنَّ الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة واتخذوا السفن بعد ذلك في البحر، فلذلك كانت آية للناس. يقول الفقير: كيف يعرفونها؟ ولم يكن في الدنيا قبل الطوفان إلا البحر المحيط. وذلك أن الله
تعالى أمر الأرض بعد الطوفان فابتلعت ماءها، وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض. فهذه البحور على وجه الأرض منها، وأما البحر المحيط، فغير ذلك، بل هو جرز عن الأرض، حين خلق الله الأرض من زبده.. وإليه الإشارة بقوله - ﷺ -: "وكان عرشه على الماء"؛ أي؛ العذب. والبحور سبعة. منها: البحر المحيط. وبعضهم لم يعد منها البحر المحيط، بل هو غير السبعة. وكان نوح عليه السلام نجارًا، فجاء جبريل، وعلمه صنعة السفينة.
﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾؛ أي: من معتبر بتلك الآية الحقيقة بالاعتبار، فيخاف من الله، ويترك المعصية. وأصله: مذتكر بوزن مفتعل، كما سيأتي في مبحث التصريف؛ أي: فهل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها.
والمعنى (١): أي ولقد جعلنا السَّفينة التي حملنا فيها نوحًا ومن معه عبرة لمن بعده من الأمم ليدبروا، ويتعظوا، ويرعووا أن يسلكوا مسلكهم، وينهجوا منهجهم في الكفر بالله، وتكذيب رسله. فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة. وقد رووا أنَّ الله حفظها آمادًا طويلة بأرض الجزيرة على جبل الجودي، كما مر. فهل من معتبر بتلك الآية الحرية بالاعتبار، الجديرة بطويل التفكير والتأمل في عواقب المكذبين برمل الله، الجاحدين بوحدانيته المتخذين له الأنداد والأوثان.
١٦ - ثم بين سبحانه شديد نكاله، وعقابه فقال: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي﴾ الذي عذبتهم به. ﴿وَنُذُرِ﴾؛ أي: وكيف كان عاقبة إنذاري إياهم على لسان رسولي نوح عليه السلام؟ أي: كانا على كيفية هائلة، وحكمة بالغة، لا يحيط بها الوصف. والاستفهام فيه للتعظيم، والتهويل، والتعجيب. والنذر: جمع نذير بمعنى إنذار، كالنكر جمع نكير بمعنى إنكار. وأصله: نذري بالياء، حذفت اكتفاء عنها بالكسرة رعاية للفاصلة، ووحَّد (٢) العذاب وجمع الإنذارات إشارة إلى غلبة الرحمة على العذاب؛ لأنَّ الإنذار إشفاق ورحمة، فقال: فكيف إنذارتي التي هي نعم ورحمة تواترت عليهم. فلما لم تنفع تلك الإنذارات وقع العذاب عليهم وقعة واحدة، فكانت كثيرة، والنقمة واحدة.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
وقيل المعنى (١): فانظر يا محمد كيف كان عذابي عليهم؟ وكيف كان حال منذري لمن أنذرهم نوح فلم يؤمنوا. ثم إنه تعالى لما أجاب دعوة نوح بأن أغرقهم أجمعين قال استعظامًا لذلك العقاب، وإيعادًا لمشركي مكة: فكيف كان عذابي الذي عذبتهم به، وكيف كان عاقبة إنذاري، اهـ زاده.
والمعنى: أي ما أشد ما أنزلته بهم من البوار والهلاك، وما أفظع إنذاري لهم بما أحللته بهم من النقمة بعد النعمة، وهكذا عاقبة كل مكذب جبار. ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد، وعظيم التهديد لكل باغ عنيد ساخط على الرسل، مكذب بربه.
والخلاصه: انظر كيف كان عذابي لمن كفر بي، وكذب رسلي؟ وكيف انتصرت منهم لهم، وأخذت أعدائهم بما يستحقون.
١٧ - ثم ذكر أن هذا القصص، وأمثاله إنما ذكر للعبرة، لا ليكون قصصًا تاريخيًا يتلى، فقال: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ﴾ إلخ، جملة قسمية، وردت في أواخر القصص الأربع تنبيهًا على أن كل قصة منها مستقبلة بإيجاب الإدّكار، كافية في الازدجار، ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنذلناه على لغتهم، كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾ ووشحنا فيه بأنواع المواعظ والعبر، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد. ﴿لِلذِّكْر﴾؛ أي: للتذكير والاتعاظ. وعن الحسن عن النبي - ﷺ -: "لولا قول الله: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ لما أطاقت الألسن أن تتكلم به". وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عَزَّ وَجَلَّ.
أي: ولقد سهلنا لفظه، ويسرنا معناه، وملأناه بأنواع العبر والمواعظ ليتعظ به من شاء، ويتدبر من أراد. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)﴾.
﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾؛ أي: فهل من متعظ به مزدجر عن معاصيه، أي: ما أقل من تذكر به، واتعظ بأمره ونهيه. فهو استفهام إنكار، ونفي للمتعظ على أبلغ وجه
(١) تنوير المقباس.
وآكده. قال أبو بكر الوراق: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه. وفيه (١) الحث على تعليم القرآن، والاشتغال به، لأنه قد يسره الله، وسهله على من شاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي، وغيرهم.
قال في "برهان القرآن": قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦)﴾ إلخ، ختم به قصة نوح، وعاد، وثمود، ولوط لما في كل واحدة منها من التخويف، والتحذير، وما حل بهم ليتعظ به حافظ القرآن وتاليه، ويعظ غيره، انتهى.
وفي "الفتوحات": وفائدة تكرير هاتين الآيتين مع كل قصة أن يجددوا عند سماع كل نبأ اتعاظهم. وهذا حكم التكرير في ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾ عند كل نعمة عدها، ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)﴾ عند كل آية أوردها. وكذا تكرير القصص لتكون العبرة حاضرة مصورة للأذهان غير منسية في كل أوان، اهـ عمادي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مُدَّكِرٍ﴾ بإدغام الذال المعجمة في الدال المهملة المبدلة من تاء الافتعال. وقرأ قتادة فيما نقل ابن عطية بالذال، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول. وقال صاحب كتاب "اللوامح": قرأ قتادة ﴿فهل من مذّكر﴾ اسم فاعل من التذكير؛ أي: من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص، انتهى. وقرىء ﴿مذتكر﴾ على الأصل.
قصة عاد قوم هود عليه السلام
١٨ - تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة، وهنا ذكرها الله تعالى موجزة كما ذكر قصة نوح موجزة. ولما لم يكن لقوم نوح علم.. ذكر قوم مضافًا إلى نوح. ولما كانت عاد علمًا لقوم هود ذكر العلم؛ لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة، ذكره أبو حيان.
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ﴾؛ أي: هودًا عليه السلام، ولم يتعرض إلى كيفية تكذيبهم له رومًا للاختصار، ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب. ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي﴾ لهم ﴿وَ﴾ كيف كان ﴿نُذُرِ﴾، أي: إنذاري لهم. فالنذر جمع نذير بمعنى الإنذار. والغرض من هذا توجيه قلوب السامعين، نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره، وتهويله، وتعظيمه، وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما فيما قبله وما بعده.
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
كأنه قيل: كذّبت عاد فهل سمعتموهم، أو فاسمعوا كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إيّاهم.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل هنا: فكذبوا هودًا كما قال في قصة نوح: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾؟
أجيب: بأن تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم. وإما لأن قصة عاد ذكرت مختصرة، اهـ خطيب.
والمعني: أي كذبت عاد نبيهم هودًا عليه السلام، فيما أتاهم به عن الله كما كذبت قوم نوح من قبلهم نبيهم. فانظروا يا معشر قريش كيف كان عذابي إياهم، وعقابي لهم على كفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله هودًا، وإنذاري من سلك سبيلهم، وتمادى في الغيّ والضلال بحلول مثل ذلك العقاب به.
١٩ - ثم فصل ما أجمله أولًا بقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا﴾ وسلطنا ﴿عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾؛ أي: ريحًا باردة أو شديدة الصوت والهبوب. وهي ريح الدبور. والصرصر من الصر. وهو البرد، أو من صر الباب إذا صوت. ﴿فِي يَوْمِ﴾ ذي ﴿نَحْسٍ﴾ وشؤم عليهم ﴿مُسْتَمِرّ﴾ صفة ليوم أو نحس، أي: مستمر شؤمه عليهم أوابد الدهر. فإن الناس يتشاءمون بأربعاء آخر الشهر.
قال ابن الشيخ (١): واشتهر بين بعض الناس التشاؤم بالأربعاء الذي يكون في آخر الشهر بناءً على قوله تعالى: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾. ومعلوم: أنه ليس المراد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، حيث لم تظهر نحوسته في حق الأنبياء والمؤمنين. وفي "الروضة": الأربعاء مشؤوم عندهم، والذي لا يدور وهو آخر أربعاء في الشهر أشأم. وعن ابن عباس يرفعه "آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر". قال الشاعر:
لِقَاؤك لِلْمُبكِّر فَالُ سُوْءٍ وَوَجْهُكَ أَرِبْعَاءٌ لَا يَدُورُ
والمعني: مستمر عليهم شؤمه ونحوسته أزمنة ممتدة إلى أن أهلكهم. فاليوم بمعني الحين، وإلا فاليوم الواحد لا يمكن أن يستمر سبع ليال وثمانية أيام. والاستمرار على هذا الوجه بحسب الزمان. أو المعنى شامل لجميعهم، كبيرهم،
(١) روح البيان.
215
وصغيرهم. فالعستحر بمعنى المطرد بالنسبة إلى الأشخاص، أو مشتد مرارته؛ أي: بشاعته. وقيل: هو من المرة بمعنى القوة؛ أي: في يوم قويّ الشؤم مستحكمه كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. والظاهر (١): أنه من الاستمرار، لا من المرارة، ولا من المرة؛ أي: دام عليهم عذابه حتى أهلكهم وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم. وكان ابتداؤه يوم الأربعاء آخر الشهر إلى غروب الأربعاء الآخر. وروي: أنه كان آخر أيامهم الثمانية في العذاب يوم الأربعاء، وكان سلخ صفر. وهي الحسوم في سورة الحاقّة؛ أي: المتتابعة.
والمعنى (٢): إنّا بعثنا إلى عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بربهم ريحًا شديدة العصوف في برد، لصوتها صرير في زمن شؤم ونحس عليهم. إذ ما زالت مستمرة حتى أهلكتهم. ونحو الآية قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ﴾، وقوله: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾، أي: متتابعة.
تنبيه: وما روي عن شؤم بعض الأيام فلا يصح شيء منه. فالأيام كلها لله، لا ضرر فيها لذاتها، ولا محذور منها، ولا سعد فيها، ولا نحس. فما من يوم يمر إلا وهو سعد على قوم ونحس على آخرين باعتبار ما يحدثه الله فيه من الخير والشرّ لهم. فكل منها يتصف بالأمرين.
أَلا إِنَّما الأَيَّامُ أبْنَاءُ وَاحِدِ وَهَذِيْ اللَّيَاليْ كُلُّهَا أَخَوَاتُ
وتخصيص كل يوم بعمل كما يزعم بعض الناس، وينسبون في ذلك أبياتًا إلى علي كرم الله وجهه لا يصح منه شيء.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ﴾ بإضافة يوم إلى نحس. وقرأ الحسن بتنوين ﴿يوم﴾ وكسر الحاء على أن ﴿نَحْسٍ﴾ صفة له. وقرأ هارون بكسر الحاء. وقال أبو حيان: والذي يظهر أنه ليس يومًا معينًا، بل أريد به الزمان والوقت كأنه قيل: في وقت نحس. ويدل على ذلك أنّه قال في سورة فصلت: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
216
أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}، وقال في الحاقة: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾. إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الاربعاء، فعبر بوقت الابتداء. وهو يوم الأربعاء. فيمكن الجمع بينها.
٢٠ - وجملة قوله: ﴿تَنْزِعُ النَّاسَ﴾ في محل نصب على أنّها صفة لـ ﴿رِيحًا﴾ أي: ريحًا تقلعهم، أو حال منها. ويجوز أن يكون استئنافًا، أي: تقلع الناس من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. روي: أنهم دخلوا الشعاب والحفر، وتمسك بعضهم ببعض، فنزعتهم الريح، وصرعتهم موتى. وقال مقاتل: تنزع أرواحهم من أجسادهم، وقال السهيلي: دامت عليهم سبع ليال وثمانية أيّام، كيلا ينجو منهم أحد عن هو في كهف أو سرب. فأهلكلت من كان ظاهرًا بارزًا، وانتزعت من البيوت من كان في البيوت، أو هدمتها عليهم، وأهلكت من كان في الكهوف والأسراب بالجوع والعطش. ولذلك قال: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٨)﴾؛ أي: فهل يمكن أن يبقى بعد هذه الثمانية الأيّام باقية منهم.
وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ﴾ وأصول ﴿نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾؛ أي: منقلع من الأرض. حال (١) من الناس؛ أي: تنزع الناس حال كونهم شبيهين بأصول نخل منقلع من مغارسه. قل: شبهوا بأعجاز النخل، وهو أصولها بلا فروع؛ لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم، فتبقى أجسادًا وجثثًا بلا رؤوس. وقال بعضهم: كانت الريح تقلعهم، وتصرعهم على رؤوسهم. فتدق رقابهم، فيبين الرأس من الجسد. وفيه إشارة إلى قوتهم وثباتهم في الأرض. فكأنهم بحسب قوتهم وجسامتهم يجعلون أرجلهم غائرة نافذة في الأرض، ويقصدون به المقاومة على الريح، ثم إن الريح لما صرعتهم فكأنها قلعت أعجاز نخل منقعر. وقال أبو الليث: صرعتهم، وكبتهم على وجوههم كأنهم أصول نخل منقلعة من الأرض. فشبههم لطولهم بالنخل الساقطة، وقرأ أبو نهيك ﴿أعْجُزُ﴾ على وزن أفعل، نحو: ضبع وأضبع، ذكره أبو حيان. قال مقاتل (٢): كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعًا، وقال في رواية الكلبيّ: كان طول كل واحد منهم سبعين ذراعًا. فاستهزؤوا حين ذكر لهم الريح، فخرجوا إلى الفضاء، وضربوا بأرجلهم الأرض، وغيبوها فيها إلى قريب من الركبة، فقالوا قالًا
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
للريح حتى ترفعنا فجاءت الريح، فدخلت تحت الأرض، وجعلت ترفع كل اثنين، وتضرب أحدهما بالآخر بعدما رفعتهما في الهواء، ثم تلقيهما في الأرض، والباقون ينظرون إليهما، حتى رفعتهم كلهم، ثم رمت بالرمل والتراب عليهم. وكان يسمع أنينهم من تحت التراب كذا وكذا يومًا.
فائدة: ذكَّر (١) وصف النخل هنا، حيث قال ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾، وأنثه في الحاقة، حيث قال: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ رعاية للفواصل في الموضعين. وجاز فيه الأمران؛ لأنّه نظر إلى لفظ النخل تارةً، فذكره، وإلى معناه أخرى فأنثه. نظير قوله تعالى: ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾، ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾.
وفي الآية إيماء (٢) إلى أن الريح كانت تقتلع رؤوسهم، فتبقي الأجسام، ولا رؤوس لها، وإلى أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال كالنخل، وإلى أنهم أعملوا أرجلهم في الأرض، وقصدوا بذلك مقاومة الريح، وإلى أن الريح جعلتهم كأنهم خشب يابسة لشدة بردها.
٢١ - ثم هول من أمر العذاب والإنذار بعد بيانهما، فقال: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦)﴾؛ أي: فانظروا كيف كان عذابي لهم، وإنذاري إياهم. وقد كرره تعظيمًا لشأنهما، وتعجيبًا من أمرهما.
وهذا سنة في بليغ الكلام في باب النصح والإرشاد، وباب الوعد والوعيد. وقال في "برهان القرآن": أعاد في قصة عاد ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦)﴾ مرتين؛ لأنَّ الأول في عذاب الدنيا، والثاني في عذاب الآخرة، كما قال في قصتهم في آية أخرى: ﴿لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)﴾. وقيل: الأول لتحذيرهم قبل هلاكهم، والثاني لتحذير غيرهم بعد هلاكهم، انتهى.
٢٢ - ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ﴾؛ أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه ﴿لِلذِّكْرِ﴾؛ أي: ليتذكر به من شاء، ويتدبر فيه من أراد. ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾؛ أي: فهل من متعظ به، مزدجرٍ عن معاصي الله سبحانه.
(١) فتح الرحمن.
(٢) المراغي.
وإنما كرر هذه الآية في هذه السورة للتنبيه والإفهام (١).
وقيل: إن الله سبحانه اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم، وقصص المرسلين، وما عاملهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين، فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع؛ أي: لو تذكر. وقيل: إنما كرر هذه الآية عند كل قصة بقوله: ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾؛ لأنّ كل كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم، وجعلها حجة عليهم. فاللام من ﴿هل﴾ للاستعراض، والهاء للاستخراج، قاله أبو بكر الوراق.
فائدة: ثم اعلم (٢): أن حكمة هلاك عاد بالريح اعتمادهم على قوتهم، والريح أشد الأشياء قوة. فاستأصلهم الله تعالى بها، حتى يحصل الاعتبار لمن بعدهم من القرون، فلا يعتمدوا على قواهم. وفيه إشارة إلى أن الريح هو الهواء المتحرك، فالخلاص من ذلك الهواء إنما هو بترك الهوى، ومتابعة الهدى، نسأل الله سبحانه من فضله ذلك.
قصة ثمود قوم صالح عليه السلام
٢٣ - ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣)﴾؛ أي: بالإنذارات والمواعظ التي سمعوها من صالح عليه السلام، أو كذبوا بالرسل الذين بعثهم الله لخلقه، وهم وإن كذبوا صالحًا فحسب، لكن تكذيبه تكذيب لهم جميعًا لاتفاقهم على الأصول العامة للتشريع، وهي التوحيد، ومجيء الرسل، واليوم الآخر.
٢٤ - ثم فصل تكذيبهم، وحكى عنهم مقالهم فقال: ﴿فَقَالُوا﴾ في تكذيبه ﴿أ﴾ نتبع ﴿بَشَرًا﴾ أي: آدميًّا لا ملكًا ﴿مِنَّا﴾؛ أي: كائنًا من جنسنا. وانتصابه بفعل يفسّره ما بعده. فأداة الاستفهام داخلة على الفعل، وإن كان تقديرًا كما هو الأصل. ﴿وَاحِدًا﴾؛ أي: منفردًا لا تبع له، أو واحدًا من آحادهم، لا من أشرافهم. وتأخير (٣) هذه الصفة عن ﴿مِنَّا﴾ للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع، ولو قدمت عليه.. لفاتت هذه النكتة. ﴿نَتَّبِعُهُ﴾ في أمره ﴿إِنَّا إِذًا﴾؛ أي:
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
على تقدير اتباعنا له. وهو منفرد ونحن أمة، وأيضًا ليس بملك لما كان في اعتقاد الكفرة من التنافي بين الرسالة والبشرية ﴿لَفِي ضَلَالٍ﴾ وخطأ عن الصواب والحق ﴿وَسُعُرٍ﴾؛ أي: جنون. فإن ذلك بمعزل عن مقتضى العقل.
والاستفهام في قوله: ﴿أَبَشَرًا﴾ للإنكار؛ أي: كيف نتبع بشرًا كائنًا من جنسنا منفردًا وحده، لا متابع له على ما يدعو إليه. وقيل: كان يقول لهم: إن لم تتبعوني.. كنتم في ضلال عن الحق وسعر؛ أي: نيران، جمع سعير. فعكسوا عليه لغلبة عتوّهم، فقالوا: إن اتبعناك كنا إذن كما تقول، وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشرًا منهم واحدًا؟
قلت: قالوا: ﴿أَبَشَرًا﴾ إنكارًا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر، وهم الملائكة. وقالوا: ﴿مِنَّا﴾ لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى. وقالوا: ﴿وَاحِدًا﴾ إنكارًا لأن تتبع الأمة رجلًا واحدًا. وأرادوا من أبنائهم ليس بأشرفهم، ولا أفضلهم. ويدل عليه قوله: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾ انتهى.
وقرأ الجمهور (١): بنصب ﴿أَبَشَرًا﴾ على الاشتغال. وقرأ أبو السمال، والداني، وأبو الأشهب، وابن السميقع بالرفع على الابتداء. و ﴿واحدٌ﴾ صفته، و ﴿نتبعه﴾ خبره. وروي عن أبي السمال: أنه قرأ برفع ﴿بشرا﴾، ونصب ﴿واحدًا﴾ على الحال.
والمعنى: أي (٢) أنتبع واحدًا من الدهماء، لا من علية القوم، ولا من أشرافهم، وليس له ميزة عن امرىء منا بعلم ظاهر، ولا ثروة وغنى تجعله يدعي أن يكون الزعيم لنا إنا لو اتبعناه نكون قد ضللنا الصراط السوي، وجانبنا الصواب، وصرنا لا محالة إلى الجنون الذي لا يرضى به عاقل لنفسه.
٢٥ - ثم بالغوا في العتو والإنكار، وتعجبوا من أمره، ونسبوه إلى الاختلاق والكذب، فقالوا: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ﴾؛ أي: أأنزل الكتاب، والوحي ﴿عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة، والاستفهام فيه للإنكار و ﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾ حال من ضمير ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: أخص بالرسالة منفردًا من بين آل ثمود، والحال أنَّ فيهم من
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
هو أكثر مالًا، وأحسن حالًا منه. ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾؛ أي: بطر بوزن فرح، اسم فاعل؛ أي: ليس الأمر كذلك، بل هو كذا، وكذا حمله بطره على الترفع علينا بما ادعاه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَشِرٌ﴾ بوزن فرح بكسر العين، اسم فاعل. وقرأ أبو قلابة وأبو جعفر، وقتادة ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ بلام التعريف فيهما، وبفتح الشين وتشديد الراء، على أنه أفعل تفضيل، وإتمام خير وشر في أفعل التفضيل قليل. ونقل الكسائي عن مجاهد: أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة.
والمعنى: أي أأنزل عليه الوحي من بيننا، وأوتي النبوة، وهو واحد منّا، ولم اختصه الله سبحانه بإنزال الشرائع عليه. وهو ليس بملك مكرم، والحق إنه لكذاب متجبر، يريد أن تكون له السيطرة والسلطان علينا، ويود أن يكون الرئيس المطاع، وما ذاك إلا بما زينته له نفسه، وأغواه به الشيطان، ولا يستند إلى وحي سماويّ ولا أمر إلهيّ.
٢٦ - ثم حكى سبحانه ما قاله لصالح وعدًا له، ووعيدًا لقومه فقال: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا﴾؛ أي: عن قريب حين يحل بهم الهلاك الدنيوي ﴿مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾؛ أي: البَطِرُ الذي حَملَه بطره على ما فَعَل، أصالحٌ في دعواه الرسالةَ من ربه، وأنه أمره بالتبليغِ لهدايةِ قومهِ إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، أم هم في تكذيبهم إياه، ودعواهم عليه الاختلاقَ والكذبَ.
وقصارى ذلك: سيتبين لهم أنهم هم الكذّابون الأشرون. والسين (٢) لتقريب مضمون الجملة، وتأكيده. والغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه. والمراد به: وقت نزول العذاب في الزمان المستقبل، لا يوم بعينه، ولا يوم القيامة؛ لأن قوله: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ﴾ استئناف لبيان مبادي الموعود حتمًا.
والمعنى: سيعلمون ألبتة عن قريب من الكذاب الأشر الذي حمله أشره وبطره على الترفع والتجبر أصالح أم من كذبه. وفيه تشريف لصالح، حيث إن الله تعالى سلب عنه بنفسه الوصف الذي أسندوه إليه من الكذب والأشر. فإنَّ معناه: لست أنت بكذاب أشر، بل هم.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
وأورد الكلام على طريق الإبهام للإشارة إلى أنه مما لا يخفى جريًا على أساليبهم كقوله تعالى آمرًا لرسوله أن يقول للمشركين: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِين﴾. وقرأ عليّ، والجمهور (١) ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ بالتحتية إخبارًا من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدّة. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه؛ أي: قل لهم: يا صالح.
٢٧ - وجملة ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ﴾ مستأنفة لبيان ما تقدم إجماله من الوعيد؛ أي: إنا نحن مخرجو الناقة من الهضبة التي سألوا الإخراج عنها. والهضبة: الجبل المنبسط على الأرض أو جبل خلق من صخرة واحدة أو الجبل الطويل الممتنع المنفرد. ولا يكون إلا في حجر الجبال، كما في "القاموس". روي (٢): أنّهم سألوه متعنتين أن يخرج من صخرة منفردة في ناحية الجبل، يقال لها: الكاثبة، ناقة حمراء جوفاء وبراء عشراء. وهي التي أتت عليها عشرة أشهر من يوم أرسل عليها الفحل. فأوحى الله إليه: إنا مخرجو الناقة على ما وصفوا ﴿فِتْنَةً لَهُمْ﴾؛ أي: امتحانًا لهم. فإن المعجزة محنة واختبار؛ إذ بها يتميز المثاب من المعذب ﴿فَارْتَقِبْهُمْ﴾؛ أي: فانتظرهم، وتبصر ما يصنعون ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ على أذيتهم صبرًا بليغًا.
٢٨ - ﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾؛ أي: أخبرهم ﴿أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: مقسوم بين ثمود، وبين الناقة. لها يوم، ولهم يوم. فالقسمة: مصدر بمعنى اسم المفعول كضرب الأمير. وقرأ الجمهور ﴿قِسْمَةٌ﴾ بكسر القاف، ومعاذ بن أبي عمرو بفتحها. وقال: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ بضمبر العقلاء تغليبًا. ﴿كُلُّ شِرْبٍ﴾؛ أي: كل نصيب من الماء، ونوبة، الانتفاع منه ﴿مُحْتَضَرٌ﴾ يحضره صاحبه في نوبته. فليس معنى كون الماء مقسومًا بين القوم، والناقة أنه جعل قسمين: قسم لها، وقسم لهم. بل معناه: جعل الشرب بينهم على طريق المناوبة يحضره القوم يومًا، وتحضره الناقة يومًا، وقسمة الماء إما لأن الناقة عظيمة الخلق ينفر عنها حيواناتهم، أو لقلة الماء. والشرب بكسر السين: الحظ من الماء. قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الحاء يوم نوبتهم، فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون لبنها.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي إنا مخرجو (١) الناقة من الهضبة التي طلبوا من نبيّهم بعثها منها لتكون آية لهم، وحجة على صدقه في ادعائه النبوة، وتكون فتنة واختبارًا لهم أيؤمنون بالله، ويتبعونه فيما أمرهم به من توحيد؟ أم يكذّبونه ويكفرون به، فانتظر ماذا يفعلون، وأبصر ماذا يصنعون، واصبر على أذاهم، ولا تعجل حتى يأتي أمر الله؛ فإن الله ناصرك، ومهلك عدوك، وأخبرهم أن ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة لها يوم، ولهم يوم. كل حصة منه يحضر صاحبها ليأخذها في نوبته، فتحضر الناقة تارةً، ويحضرون هم أخرى. وقد جعلت القسمة على هذا الوجه لمنع الضرر؛ لأن حيوان القوم كانت تنفر منها، ولا ترد الماء وهي عليه، فصعب ذلك عليهم فملوا من هذه القسمة، وأرادوا الخلاص منها.
٢٩ - ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ﴾؛ أي: نادى ثمود صاحبهم. وهو قدار بن سالف عاقر الناقة، ورعوه ليعقر الناقة. وكان أشدّهم، وحضوه على عقرها، فلبى طلبهم. ﴿فَتَعَاطَى﴾؛ أي: تناول الناقة بالعقر ﴿فَعَقَرَ﴾ ها، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر، فعقر. قال محمد بن إسحاق: كمن لها في أصل شجرة على طريقها، فرماها بسهم، انتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف، فكسر عرقوبها ثم نحرها. والتعاطي (٢): تناول الشيء بتكلف، وما يتكلف فيه لا بُدَّ أن يكون أمرًا هائلًا، لا يباشره أحد إلا بالجراءة عليه. فالتعاطي مجاز عن الاجتراء.
وبهذا المجاز يظهر وجه التعقيب بالفاء في ﴿فَعَقَرَ﴾، وإلا فالعقر لا يتفرع على نفس مباشرة القتل، والخوض فيه. يقال: عقر البعير والفرس بالسيف فانعقر؛ أي: ضرب به قوائمه، وبابه ضرب كما سيأتي.
والمعنى: فاجترأ صاحبهم قدار بن سالف على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له، فأحدث العقر بالناقة. وقدار بن سالف - بضم القاف وبالدال المهملة - وهو مشؤوم آل ثمور، ولذا كانت العرب تسمى الجزّار قدارًا تشبيهًا له بقدار بن سالف. لأنّه كان عاقر الناقة، وكان قصيرًا شرّيرًا، أزرق، أشقر، أحمر. وكان يلقب بأحيمر ثمود، تصغير أحمر.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
٣٠ - ثم ذكر عقابهم الفظيع، فقال: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ لهم ﴿وَنُذُرِ﴾، أي: إنذاري إيّاهم على لسان رسولي صالح عليه السلام، وقد سبق تفسير هذا فلا عود ولا إعادة.
٣١ - ثم فصل هذا العذاب بقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا﴾ وسلطنا ﴿عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: صيحة جبريل عليه السلام. وذلك لأنّها هي الجزاء الوفاق لفعلهم. فإنّهم صاروا سببًا لصيحة ولد الناقة بقتل أمه. ﴿فَكَانُوا﴾؛ أي: فصاروا لأجل تلك الصيحة بعد أن كانوا في نضارة وطيب عيش ﴿كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ الهشم (١): كسر الشيء الرخو، كالنبات. والهشيم بمعنى المهشوم؛ أي: المكسور، وهو اليابس المتكسر من الشجر وغيره. والحظر: جمع الشيء في حظيرة، والمحظور الممنوع، والمحتظر بكسر الظاء الذي يعمل الحظيرة ويتخذها. قال الجوهري: الحظيرة التي تعمل للإبل من الشجر لتقيها البرد والريح. والحظيرة في الأرميا "دلي".
والمعنى: إنا نحن أرسلنا جبريل ليصيح بهم، فصاح عليهم صيحة واحدة، فصاروا كالشجر اليابس الذي يتخذه من يعمل الحظيرة وقاية لإبله من الريح والبرد، فتساقط على الأرض، فتكسر، وتفتت. أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لأكل ماشيته، فداست عليه، فتفتت، فصار كالغبار.
روي: أن جبريل صاح في طرف منازلهم في اليوم الرابع من عقر الناقة؛ لأنه كان في يوم الثلاثاء، ونزول العذاب بهم كان في يوم السبت، فصاروا كالحشيش البالي الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، كأنهم هلكوا من أمد بعيد.
وقصارى ذلك: أنهم بادوا عن آخرهم، ولم تبق نهم باقية، وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ بكسر الظاء، اسم فاعل، وهو الذي يعمل الحظيرة، وهشيمه ما سقط منه من دقاق الشجر، وأغصانه حالة العمل، وتكسر، وتفتت، وصار كالغبار. وقرأ أبو حيوة، وأبو السمال، وأبو رجاء، وأبو عمرو بن عبيد بفتحها. وهو موضع الاحتظار. وقيل: هو مصدر؛ أي: كهشيم
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
الاحتظار. وهو ما تفتت حالة الاحتظار والبناء للحظيرة، والحظيرة تصنعها العرب، وأهل البوادي للمواشي، والسكنى من الأغصان، والشجر المورق، والقصب، والحظر: المنع. وعن ابن عباس، وقتادة: أنَّ المحتظر هو المحترق. قال قتادة: كهثسيمٍ. محترقٍ. وعن ابن جبير: هو التراب الذي يسقط من الحائط البالي. وقيل: المحتظَر بفتح الظاء: هو الهشيم نفسه. فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع عند من تأوله كذلك.
٣٢ - ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ﴾ وسهلناه لفظًا ومعنى ﴿لِلذِّكْر﴾ أي: لتذكير من تذكر به ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾؛ أي: متعظ يتعظ به. وقد سبق تفسير هذا في هذه السورة غير مرة، فلتراجعه.
قصص قوم لوط
٣٣ - ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله، كما كذبهم غيرهم فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣)﴾؛ أي: بالإنذارات أو بالمنذرين، كما سبق.
٣٤ - ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب، ونجاة عن آمن منهم فقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾؛ أي: ريحًا تحصبهم؛ أي: ترميهم بالحصباء. وهي حجارة دون ملء الكف. فالحصب: الرمي بالحصى الصغار، ومنه: المحصب موضع بمكة، والحاصب: اسم فاعل بمعنى رامي الحصباء. وتذكيره مع إسناده إلى ضمير الريح وهي مؤنث مجازي لتأويلها بالعذاب.
يقول الفقير (١): لعل حكمة تعذيبهم بالحجارة؛ لأنهم حجروا ومنعوا من اللواطة، فلم يمتنعوا، بل رموا نطفهم إلى غير محل الحرث، فرماهم الله تعالى بالحجر، ومن ثم ذهب أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى إلى أنَّ حكم اللوطي أن يرجم، وإن كان غير محصن. وأيضًا أنهم يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى، فإذا مرَّ بهم عابر سبيل حذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به، وأمَّا الريح؛ فلأنهم كانوا يضرطون في مجالسهم علانية، ولا يتحاشون، وأما انقلاب قراهم؛ فلأنهم كانوا يقلبون المرد عند اللواطة، فجازاهم الله بحسب
(١) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا كلام صاحب (روح البيان)، وقد وقع خلل طباعي في عزو الحواشي وأصلحناه
أعمالهم، وأيضًا قلبوا الحقيقة وعكسوها بأن تركوا محل الحرث، وأتوا الأدبار.
﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾ وهم أهل بيته الذين نجوا من العذاب، وكانوا ثلاثة عشر. وقيل: يعني: لوطًا وابنتيه. وفي "كشف الأسرار": يعني: بناته، ومن آمن به من أزواجهن. ﴿نَجَّيْنَاهُمْ﴾؛ أي: نجينا آل لوط ﴿بِسَحَرٍ﴾؛ أي: في سحر (١) من الأسحار. وهو آخر الليل، أو السدس الأخير منه. وانصرف "سحر"؛ لأنّه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ولو قصد معينًا لامتنع. ويجوز أن يكون حالًا؛ أي: متلبسين بسحر. روي: أن الله أمره، حتى خرج بهم بقطع من الليل، فجاء العذابُ قومَه وقت السحر. والاستثناء منقطع؛ لأنّه مستثنى من الضمير في ﴿عَلَيْهِمْ﴾. وهو للمكذّبين من قوم لوط. ولا يدخل فيهم آل لوط؛ لأنّ المراد به: من تبعه على دينه.
٣٥ - وانتصاب ﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ على العلة لـ ﴿نَجَّيْنَاهُمْ﴾، أي: نجيناهم إنعاما منا على لوط ومن تبعه، أو على المصدرية من فعله، أي: أنعمناهم إنعامًا من عندنا، أو من مَعِيَ نجيناهم؛ أي: نجيناهم تنجية من عندنا لأن تنجيتهم إنعام.
والمعنى (٢): أي إنا عاقبناهم بإرسال ريح تحمل الحصباء، وما زالت بهم حتى دمرتهم إلا من آمن منهم، فإنا أمرناهم بالخروج آخر الليل؛ لينجوا من الهلاك. ثم بين أن سبب إنجاء المؤمنين هو شكرانهم للنعمة، فقال: ﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾؛ أي: أنعمنا عليهم بالنجاة كرامة لهم منّا.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الجزاء العجيب ﴿نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ نعمتا بالإيمان والطاعة. يعني: كذلك ننجي المؤمنين. والمعنى: هكدا نجزي من شكرنا على نعمتنا، وأطاعنا، وائتمر بأمرنا وانتهى عمّا نهينا عنه.
٣٦ - ثم ذكر أنه ما أهلك من أهلك إلا بعد أن أنذرهم عذابه، وخوفهم بأسه فقال: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي.. لقد أنذرهم، وخوفهم نبيهم لوط عليه السلام ﴿بَطْشَتَنَا﴾؛ أي: أخذتنا الشديدة بالعذاب. ﴿فَتَمَارَوْا﴾؛ أي: فكذَّبوا ﴿بِالنُّذُرِ﴾ متشاكين. ضمن (٣) ﴿فَتَمَارَوْا﴾ معنى التكذيب، فعدي تعديته، من المرية.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وأصله: تماريوا على وزن تفاعلوا، كما سيأتي.
والمعنى: أي ولقد أنذرهم نبيهم بأس الله وعذابه قبل حلوله بهم، فما التفتوا إلى ذلك، ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه، وتماروا به.
٣٧ - ثم بين جرمهم الذي استحقوا به العذاب، فقال: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ﴾؛ أي: وعزّتي وجلالي، لقد طالب قوم لوط نبيهم لوطًا عليه السلام بالتمكين لهم ﴿عَنْ ضَيْفِهِ﴾؛ أي: طلبوا منه ضيوفه. وهم الملائكة الذين جاؤوا في صورة شباب مرد حسان محنة من الله لهم. إذ قد بعثت إليهم امرأته عجوزة السوء، فأعلمتهم بأضيافه، فأقبلوا إليه يهرعرن من كل مكان، فأغلق لوط عليهم الباب، فجعلوا يعالجونه ليكسروه، وهو يدافعهم، ويمانعهم دون أضيافه، ويقول لهم: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، فقالوا له: لقد علمت ما لنا في بناتك أرب، وإنك لتعلم ما نريد؛ فلما اشتد بينهم الصراع، وأبوا إلا الدخول طمس الله أبصارهم، فلم يروا شيئًا. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾؛ أي: فمسحناها، وسويناها كسائر الوجه، بحيث لم ير لها شق. روي: أنهم لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل بجناحه صفقة، فتركتهم يترددون لا يهتدون إلى الباب، حتى أخرجهم لوط. والصفق: الضرب الذي ليس له صوت.
والخلاصة: ولقد أرادوا من لوط تمكينهم ممن أتاه من أضيافه. وهم الملائكة في صورة الشبان، ومعهم جبريل. وقصدوا الفجور بهم ظنًّا منهم أنهم بشر، فطمسنا أعينهم، فجعل بعضهم يجول في بعض، ولا يرون شيئًا، ويقولون: أين ضيوفك؟. وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود.
والمعنى: صيّرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الأعلام بما تسف عليها من التراب. وقيل: أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم، فلم يروا الرسل، فرجعوا. وقرأ الجمهور ﴿فَطَمَسْنَا﴾ بتخفيف الميم، وابن مقسم بتشديدها.
﴿فَذُوقُوا﴾؛ أي: فقلنا لهم على ألسنة ملائكتنا: ﴿ذُوقُوا عَذَابِي﴾؛ أي: عذاب طمس الأعين، وما بعده مما سيأتي. ﴿وَنُذُرِ﴾؛ أي: وجزاء إبائكم وامتناعكم من قبول إنذارتي بعد أن أنذرتكم على سوء أفعالكم، وقبيح خلالكم.
٣٨ - ثم بين وقت مجيء العذاب، فقال: ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً﴾؛ أي: أول النهار وباكره؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد جاءهم وقت الصبح ﴿عَذَابٌ﴾، أي: الخسف والحجارة ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾؛ أي: يستقر بهم، ويثبت لا يفارقهم، حتى يفضي بهم إلى النار. يعني: جاءهم عذاب دائم متصل بعذاب الآخرة. وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أن ما قبله من عذاب الطمس ينتهي به؛ أي: مستقر لم يكشفه عنهم كاشف، بل اتصل بموتهم، ثم بما بعد ذلك من عذاب القبر، ثم عذاب جهنم.
وقرأ الجمهور: ﴿بُكْرَةً﴾ بالتنوين. أراد بكرة من البكر، فصرف. وقرأ زيد بن عليّ بغير تنوين.
والحاصل: أن العذاب الذي هو قلب قريتهم عليهم، وجعل أعلاها أسفلها، ورميهم بالحجارة غير العذاب الذي نزل بهم من طمس الأعين، فإنه عذاب دنيوي غير موصول بعذاب الآخرة، وأما عذاب الخسف والحجارة فموصول به؛ لأنّهم بهذا العذاب ينتقلون إلى البرزخ الموصول بالآخرة، كما أشار إليه قوله - ﷺ - "من مات فقد قامت قيامته" من حيث اتصال زمان الموت بزمان القيامة. كما أنَّ أزمنة الدنيا يتصل بعضها ببعض.
والمعنى: ولقد نزل بهم العذاب وقت البكور، وما زال ملحًا عليهم حتى أخمدهم، وبلغ غايته من دمارهم وهلاكهم.
٣٩ - ثم حكى ما قيل لهم بعد التصبيح من جهته تعالى تشديدًا للعذاب فقال: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾؛ أي: فذوقوا جزاء أفعالكم من عذاب عاجل، وما لزم من إنذاركم من عذاب آجل.
٤٠ - ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)﴾ هذه الجملة القسمية وردت في آخر كل قصة من القصص الأربع تقريرًا لمضمون ما سبق من قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)﴾، وتنبيهًا إلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الإدكار، كافية في الازدجار، ولم يحصل بها مع هذا عظة واعتبار. وقد مر ما في هذه الآية من الكلام، وفيه استئناف للتنبيه والإيقاظ، لئلا يغلبهم السهو، والغفلة، وكذا تكرير قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)﴾ في سورة الرحمن، وقوله في سورة المرسلات: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾، ونحوهما من الأنباء، والقصص،
228
والمواعيد، والزواجر، والقواطع كما مر، فإن في التكرير تقريرًا للمعاني في الأسماع والقلوب، وتثبيتًا لها في الصدور، وكلما زاد تكرير الشيء، وترديده كان أقر له في القلب، وأمكن في الصدور، وأرسخ في الفهم، وأثبت للذكر وأبعد من النسيان.
الإعراب
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥)﴾.
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ما قبله. ﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم، ﴿يَرَوْا﴾ فعل، وفاعل، مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿آيَةً﴾ مفعول به، لأن رأى بصرية، ﴿يُعْرِضُوا﴾ فعل، وفاعل، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جواب الشرط. والجملة الشرطية مستأنفة. ﴿وَيَقُولُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف علي ﴿يُعْرِضُوا﴾. ﴿سِحْرٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا سحر، ﴿مُسْتَمِرٌّ﴾ صفة لسحر. والجملة في محل النصب، مقول لـ ﴿يَقُولُوا﴾. ﴿وَكَذَّبُوا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿كَذَّبُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على جملة ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف علي ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ﴾ مبتدأ، ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق، ﴿جَاءَهُمْ﴾ فعل، ومفعول به، ﴿مِنَ الْأَنْبَاءِ﴾ حال من ﴿مَا﴾ ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع، فاعل، ﴿فِيهِ﴾ خبر مقدم، ﴿مُزْدَجَرٌ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة صلة الموصول، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿حِكْمَةٌ﴾ خبر لمبتدأ، أو بدل من ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿بَالِغَةٌ﴾ صفة لـ ﴿حِكْمَةٌ﴾. ﴿فَمَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿مَا﴾. نافية أو استفهامية للإنكار، في محل النصب مفعول مطلق لتغني؛ أي: فأيُّ إغناء تغني النذر. ﴿تُغْنِ﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الباء المحذوفة لفظًا لالتقاء الساكنين المحذوفة خطًا تبعا للفظ، منع من
229
ظهورها الثقل؛ لأنّه فعل معتل بالياء. ﴿النُّذُرُ﴾ فاعل. والجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم.
﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)﴾.
﴿فَتَوَلَّ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿تَوَلَّ﴾ فعل أمر، مبني على حذف حرف العلّة، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿تولّ﴾. والجملة معطوفة على جملة ﴿تُغْنِ﴾. ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر أو بـ ﴿يَخْرُجُونَ﴾، ﴿يَدْعُ﴾ فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين لفظًا المحذوفة خطًّا تبعًا للفظ، ﴿الدَّاعِ﴾ فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا تبعًا لخط المصحف العثماني. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿إِلَى شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَدْعُ﴾، ﴿نُكُرٍ﴾ صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾. ﴿خُشَّعًا﴾ حال من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾، ﴿أَبْصَارُهُمْ﴾ فاعل ﴿خُشَّعًا﴾، ﴿يَخْرُجُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ متعلق بـ ﴿يَخْرُجُونَ﴾، ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿جَرَادٌ﴾ خبره، ﴿مُنْتَشِر﴾ صفة ﴿جَرَادٌ﴾. وجملة ﴿كَأَنّ﴾ في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾. ﴿مُهْطِعِينَ﴾ حال ثالثة من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾. ﴿إِلَى الدَّاعِ﴾ متعلق بـ ﴿مُهْطِعِينَ﴾، ﴿الدَّاعِ﴾ مجرور بـ ﴿إِلَى﴾، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا تبعًا للرسم العثماني. ﴿يَقُولُ الْكَافِرُونَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا وقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما يكون حينئذٍ؟ فقيل: يقول الكافرون الخ. وجوز بعضهم أن تكون الجملة حالًا من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾. فالأحوال من ﴿الواو﴾ حينئذٍ أربعة. واحد مقدم، وثلاثة مؤخرة. ﴿هَذَا يَوْمٌ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿عَسِرٌ﴾ صفة ﴿يَوْمٌ﴾. والجملة في محل النصب مقول يقولون.
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣)﴾.
﴿كَذَّبَتْ﴾ فعل ماض، ﴿قَبْلَهُمْ﴾ ظرف مضاف، متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾، ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾
230
فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فَكَذَّبُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿كَذَّبُوا﴾ فعل، وفاعل، ﴿عَبْدَنَا﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على جملة ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿وَقَالُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿مَجْنُونٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو مجنون. والجملة في محل النصب مقول قالوا. ﴿وَازْدُجِرَ﴾ الواو: عاطفة، ﴿ازْدُجِرَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على نوح. والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على جملة هو مجنون على كونها مقولًا لـ ﴿قالوا﴾؛ أي: قالوا: هو مجنون، وازدجرت الجن؛ أي: تخبطته، وذهبت بلبّه. ﴿فَدَعَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿دَعَا رَبَّهُ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على نوح، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ﴾ ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أنّ﴾ وما في حيّزها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: بأني مغلوب على حكاية المعنى، ولو جاء على حكاية اللفظ لقال: أنّه مغلوب. ﴿فَانْتَصِرْ﴾ الفاء: حرف عطف وتفريع، ﴿انْتَصِرْ﴾ فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ﴾ على تضمين دعا بمعنى قال. ﴿فَفَتَحْنَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿فتحنا﴾ فعل، وفاعل، ﴿أَبْوَابَ السَّمَاءِ﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على جملة ﴿دَعَا﴾. ﴿بِمَاءٍ﴾ متعلق بفتحنا، والباء: للتعدية على المبالغة، حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها، كما تقول: فتحت بالمفتاح. ويجوز أن تكون الباء للملابسة، متعلقة بمحذوف حال من ﴿أَبْوَابَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: متلبسة بماء منهمر. ﴿مُنْهَمِرٍ﴾ صفة ﴿مَاءٍ﴾، ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿فَتَحْنَا﴾، ﴿عُيُونًا﴾ تمييز محول عن المفعول، ﴿فَالْتَقَى﴾ الفاء: عاطفة، ﴿التقى الماء﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿فجرنا﴾، ﴿عَلَى أَمْرٍ﴾ متعلق بـ ﴿التقى﴾؛ و ﴿عَلَى﴾ للتعليل؛ أي: اجتمع الماء لأجل إغراقهم المقضي أزلًا. وجملة ﴿قَدْ قُدِرَ﴾ صفة لأمر. ﴿وَحَمَلْنَاهُ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على جملة قوله: ﴿فَالْتَقَى﴾. ﴿عَلَى ذَاتِ﴾ متعلق بـ ﴿حملنا﴾، ﴿أَلْوَاحٍ﴾ مضاف إليه، ﴿وَدُسُرٍ﴾ معطوف على ﴿أَلْوَاحٍ﴾.
﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)﴾.
﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع، مرفوع، وفعله ضمير يعود على سفينة ذات ألواح. والجملة الفعلية في محل الجر، صفة ﴿ذَاتِ أَلْوَاحٍ﴾. ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ حال من فاعل
231
﴿تَجْرِي﴾؛ أي: حالة كونها محفوظة ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾، ﴿جَزَاءً﴾ مفعول لأجله لمحذوف، تقديره: فعلنا ذلك جزاء، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال. ﴿لِمَن﴾ متعلق بـ ﴿جَزَاءً﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة ﴿لِمَنْ﴾، وجملة ﴿كُفِرَ﴾، خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿تَرَكْنَاهَا﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. والضمير يعود على الفعلة. وهي إغراقهم على الشكل المذكور. وأجاز الزمخشري أن يعود على السفينة. و ﴿آيَةً﴾ حال من ضمير المفعول أو مفعول ثان لـ ﴿تركنا﴾، إذا كان تركنا بمعنى جعلناها. ﴿فَهَلْ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿هل﴾ حرف استفهام للإنكار، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿مُدَّكِرٍ﴾ مبتدأ خبره محذوف، تقديره: موجود. والجملة معطوفة على جملة ﴿تَرَكْنَاهَا﴾. ﴿فَكَيْفَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا علمتم ما حل بهم جميعًا جزاء وفاقًا لعملهم، وأردتم التعجب من ذلك فأقول لكم كيف كان عذابي. ﴿كيف﴾ اسم استفهام، في محل النصب، خبر ﴿كاَنَ﴾ مقدم، ﴿كَانَ عَذَابِي﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿وَنُذُرِ﴾ معطوف على ﴿عَذَابِي﴾ تبعه بالرفع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة؛ اجتزاء عنها بكسرة المناسبة لضرورة الفاصلة، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: عاطفة، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿يَسَّرْنَا﴾ فعل، وفاعل، ﴿الْقُرْآنَ﴾ مفعول به، ﴿لِلذِّكْرِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسَّرْنَا﴾. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم السابق. ﴿فَهَل﴾ الفاء: عاطفة، ﴿هل﴾ حرف استفهام، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿مُدَّكِرٍ﴾ مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: موجود. والجملة معطوفة على جملة القسم.
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩)﴾.
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿فَكَيْفَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تكذيبهم وعقوبتهم على ذلك التكذيب، وأردت التعجّب من ذلك فأقول لك كيف كان. ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام في محل النصب، خبر ﴿كَانَ﴾، مقدم، ﴿عَذَابِي﴾ اسمها، ﴿وَنُذُرِ﴾ معطوف
232
على ﴿عَذَابِي﴾، وجملة كان في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾ خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، مسوقة لبيان تعذيبهم. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿رِيحًا﴾ مفعول به، ﴿صَرْصَرًا﴾ صفة ﴿رِيحًا﴾، ﴿فِي يَوْمِ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾ أيضًا، ﴿نَحْسٍ﴾ مضاف إليه، أو صفة لـ ﴿يَوْمِ﴾، ﴿مُسْتَمِرٍّ﴾ صفة لـ ﴿نَحْسٍ﴾ أو لـ ﴿يَوْمِ﴾.
﴿تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٢٤)﴾.
﴿تَنْزِعُ النَّاسَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الريح﴾، ومفعول به. والجملة صفة ثانية لـ ﴿رِيحًا﴾. ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ خبره، ﴿مُنْقَعِر﴾ صفة لـ ﴿نَخْلٍ﴾. وجملة التشبيه في محل النصب، حال من ﴿النَّاسَ﴾. وقوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)﴾ تقدم إعرابه قريبًا فجدد به عهدًا. ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿بِالنُّذُرِ﴾ متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾، ﴿فَقَالُوا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿قالوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿أَبَشَرًا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، ﴿بَشَرًا﴾ منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره ما بعده، تقديره: أنتبع بشرًا. والجملة المحذوفة في محل النصب، مقول قالوا. ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿بَشَرًا﴾، ﴿وَاحِدًا﴾ صفة ثانية لـ ﴿بشرا﴾، إلا أنّه يشكل عليه نقديم الصفة المؤولة على الصفة الصريحة، ويجاب بأن ﴿مِنَّا﴾ حينئذٍ ليس وصفًا، بل حال من ﴿وَاحِدًا﴾ قدم عليه، أو حال من الهاء في ﴿نَتَّبِعُهُ﴾. وجملة ﴿نَتَّبِعُهُ﴾ جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿إِذًا﴾ حرف جواب وجزاء، مهمل لعدم الفعل بعدها، ﴿لَفِي ضَلَالٍ﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ جار ومجرور، خبر ﴿إنّ﴾، ﴿وَسُعُرٍ﴾ معطوف على ضلال. وجملة ﴿إنّ﴾ تعليلية مسوقة لتعليل النفي المفهوم من الاستفهام، لا محل لها من الإعراب.
﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧)﴾.
﴿أَأُلْقِيَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، ﴿ألقي﴾ فعل ماض، مغيّر الصيغة، ﴿عَلَيْهِ﴾
233
متعلق به، ﴿الذِّكْرُ﴾ نائب فاعل، ﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾ جار ومجرور، حال من ضمير ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: منفردًا. وجملة الاستفهام في محل النصب، مقول ﴿قالوا﴾ ﴿بَل﴾ حرف عطف وإضراب، ﴿هُوَ كَذَّابٌ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿أَشِرٌ﴾ صفة ﴿كَذَّابٌ﴾. والجملة الاسمية معطوفة على جملة الاستفهام على كونها مقولًا لـ ﴿قالوا﴾. ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ السين حرف استقبال، ﴿يعلمون﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿غَدًا﴾ ظرف زمان، منصوب، متعلق بـ ﴿يعلمون﴾، ﴿مَنِ﴾ اسم استفهام، في محل الرفع، مبتدأ، ﴿الْكَذَّابُ﴾ خبره، ﴿الْأَشِرُ﴾ صفة ﴿الْكَذَّابُ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب سدّت مسدّ مفعولي ﴿يعلمون﴾؛ لأنّه علق عنه باسم الاستفهام. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿مُرْسِلُو النَّاقَةِ﴾ خبره، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿فِتْنَةً﴾ مفعول لأجله، منصوب بـ ﴿مُرْسِلُو﴾ ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿فِتْنَةً﴾، ﴿فَارْتَقِبْهُمْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنا مرسلوا الناقة فتنة واختبارًا لهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك ارتقبهم. ﴿ارتقب﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، يعود على صالح عليه السلام، والهاء: مفعول به. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدّرة مستأنفة. ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿ارتقبهم﴾.
﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)﴾.
﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿نبئهم﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به أول. والجملة معطوفة على جملة ﴿ارتقبهم﴾. ﴿أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ﴾ ناصب واسمه وخبره. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿قِسْمَةٌ﴾؛ لأنه بمعنى مقسوم بينهم. وجملة ﴿أَنَّ﴾ وما في حيّزها في تأويل مصدر ساد مسد المفعول الثاني والثالث لـ ﴿نبّأ﴾. ﴿كُلُّ شِرْبٍ﴾ مبتدأ، ﴿مُحْتَضَرٌ﴾ خبره. والجملة الاسمية في محل النصب، بدل من جملة ﴿أَنَّ﴾. ﴿فَنَادَوْا﴾ الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فبقوا على ذلك مدّة، ثم ملوا من نضوب الماء، وتشاوروا في شأنها، واتفقوا على عقرها. ﴿نادوا﴾ فعل ماض، وفاعل، ﴿صَاحِبَهُمْ﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، ويصحّ كونها فصيحة. ﴿فَتَعَاطَى﴾ الفاء: عاطفة، ﴿تعاطى﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على
234
﴿صَاحِبَهُمْ﴾. والجملة معطوفة على جملة ﴿نادوا﴾. ﴿فَعَقَرَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿عقر﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على صاحبهم، معطوف على ﴿تعاطى﴾. وقوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦)﴾ تقدم إعرابه قريبًا. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿صَيْحَةً﴾ مفعول ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿وَاحِدَةً﴾ صفة ﴿صَيْحَةً﴾، ﴿فَكَانُوا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿كانوا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف، خبر ﴿كاَنَ﴾، وجملة ﴿كاَن﴾ معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾. وقوله: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)﴾ تقدم إعرابه، فجدد به عهدًا.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥)﴾.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾ فعل وفاعل، ﴿بِالنُّذُرِ﴾ متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾ خبره. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان العذاب اللازم للتكذيب. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿حَاصِبًا﴾ مفعول به، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء منقطع أو متصل، ﴿آلَ لُوطٍ﴾ مستثنى من ضمير ﴿عَلَيْهِمْ﴾، ﴿نَجَّيْنَاهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة مستأنفة، مسوقة لعليل الاستثناء، ﴿بِسَحَر﴾ متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَاهُمْ﴾، ﴿نِعْمَةً﴾ مفعول مطلق معنوي ملاق لعامله في المعنى. وهو ﴿نَجَّيْنَاهُمْ﴾. إذ التنجية نعمة، أو مفعول لأجله لـ ﴿نَجَّيْنَاهُمْ﴾. ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾ صفة لـ ﴿نِعْمَةً﴾، ﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف، ﴿نَجْزِي﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول به لـ ﴿نَجْزِي﴾، وجملة ﴿شَكَر﴾ صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، والتقدير: نجزي من شكر جزاء مثل الجزاء المذكور. والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ اسئنافية، واللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿أَنْذَرَهُمْ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، ومفعول أول، ﴿بَطْشَتَنَا﴾ مفعول ثان.
235
والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿فَتَمَارَوْا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿تماروا﴾ فعل ماض، وفاعل، ﴿بِالنُّذُرِ﴾ متعلق بـ ﴿تماروا﴾. والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْذَرَهُمْ﴾. ﴿وَلَقَد﴾ الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿رَاوَدُوهُ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول، ﴿عَنْ ضَيْفِهِ﴾ متعلق بـ ﴿رَاوَدُوهُ﴾ والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَطَمَسْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿رَاوَدُوه﴾، ﴿أَعْيُنَهُمْ﴾ مفعول به. ﴿فَذُوقُوا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿ذوقوا﴾ فعل أمر، وفاعل، ﴿عَذَابِي﴾ مفعول به، ﴿وَنُذُرِ﴾ معطوف على ﴿عَذَابِى﴾. والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف المعطوف على ﴿طمسنا﴾؛ أي: فطمسنا أعينهم فقلنا لهم: ذوقوا عذابي ونذري. ﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: عاطفة، واللام: موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿صَبَّحَهُمْ﴾ فعل ماض، ومفعول به ﴿بُكْرَةً﴾ ظرف، متعلق بصبحهم ﴿عَذَابٌ﴾ فاعل، ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾. والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على القسم السابق. وقوله: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)﴾ تقدم إعرابه قريبًا فجدد به عهدًا.
التصريف ومفردات اللغة
﴿اقْتَرَبَتِ﴾؛ أي: دنت، وتربت. ﴿السَّاعَةُ﴾؛ أي: القيامة. والساعة: جزء من أجزاء الزمان، عبَّر بها عن القيامة تشبيهًا لها بذلك لسرعة حسابها، أو لأنّها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم، أو لغير ذلك. كما بين فيما سبق.
﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾؛ أي: انفصل بعضه من بعض، وصار فرقتين. ﴿وَإِنْ يَرَوْا﴾ أصله: يرئيوا بوزن يفعلوا، نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حدفت تخفيفًا، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فاجتمع ساكنان فحذفت الألف لذلك. ﴿آيَةً﴾؛ أي: علامة دالة على نبوتك. ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾؛ أي: مطرد دائم، اسم فاعل من استمر السداسي. وأصله: مستَمْرِر بوزن مستفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الميم فسكنت فأدغمت في الراء الثانية.
﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ فيه إدغام فاء الكلمة في تاء الافتعال. ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ الهمزة فيه مبدلة من ياء لوقوعها متطرفة إثر ألف زائدة. ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ﴾ جمع
236
نبأ. وهو خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ.
﴿مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ مصدر ميمي من الزجر، إلا أن التاء أبدلت دالًا ليوافق الزاي بالجهر، ولك أن تعتبره اسم مكان؛ أي: مكان اتعاظ. واعلم: أن تاء الافتعال تقلب دالًا مع الدال، والذال، والزاي للتناسب في المخرج أو لتحصيل التناسب. فإنَّ التاء مهموسة، وهذه الحروف مجهورة. يعني: أهله مزتجر، لأنّه مفتعل من الزجر، قلبت التاء دالًا. لأنّ الزاي حرف مجهور، والتاء حرف مهموس، والذال تناسب الزاي في الجهر، وتناسب التاء في المخرج. يقال: زجره، وازدجره؛ أي: نهاه عن السوء، ووعظه غير أنّ افتعل أبلغ في المعنى من فعل. قال الراغب: الزجر: طرد بصوت، يقال: زجرته فانزجر. ثم يستعمل في الطرد تارةً، وفي الصوت تارةً. وقوله تعالى: ﴿مُزْدَجَرٌ﴾؛ أي: طرد، ومنع عن ارتكاب المأثم.
﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ وفي "القاموس": الحكمة بالكسر: العدل، والعلم، والحلم. والنبوة، والقرآن، وفي "المفردات": الحكمة: إصابة الحق بالعلم، والفعل. والحكمة من الله معرفة الأشياء أو إيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات، وفعل الخيرات.
﴿فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ جمع نذير بمعنى المنذر، أو مصدر بمعنى الإنذار. ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: لا تجادلهم، ولا تحاجّهم. ﴿يَوْمَ يَدْعُ﴾ تقدم في سورة الشورى أنَّ ﴿الواو﴾ حذفت منه بغير داع، وفي نظائره: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾.
﴿شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ بضمتين وبسكون ثانيه، وكلاهما بمعنى المنكر؛ أي: منكر فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله. ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ جمع جدث محركة. وهو القبر. ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ﴾ سمي جرادًا لجرده الأرض من النبات، يقال: أرض مجرودة؛ أي؛ أكل ما عليها، حتى تجردت، كما في "المفردات".
﴿مُهْطِعِينَ﴾ فيه إعلال بحذف همزة أفعل من الوصف؛ لأنّ أصله: مؤهطعين، يقال: هطع الرجل إذا أقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه، وأهطع إذا مد عنقه، وصوب رأسه، وأهطع في عدوه إذا أسرع، كما في "الجوهرى". والإهطاع: هو
237
الإسراع مع مد الأعناق، والتشوف بالأنظار بصورة دائمة لا تقلع عن التحديق. وهي صورة حية مجسدة للفزع المرتاع الذي يتطلع إلى ما يرتقبه من أهوال.
﴿وَازْدُجِرَ﴾ فيه إعلال بإبدال تاء الافتعال دالًا لوقوعها بعد الزاي كما تقدم في ﴿مُزْدَجَرٌ﴾. ﴿بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ المنهمر: المنصب بشدة وغزارة. وفي "المختار": وهمر الدمع، والماء صبه، وبابه نصر، وانهمر الماء إذا سال.
﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ﴾ والتفجير: تشقيق الأرض عن الماء. ﴿عُيُونًا﴾ جمع عين الماء. وهي ما يفور من الأرض مستديرًا كاستدارة عين الحيوان. فالعين مشتركة بين عين الحيوان، وعين الماء، وعين الذهب، وعين السحاب، وعين الركية. ويقال للعين: ينبوع، والجمع ينابيع، والمنبع بفتح الميم والباب: مخرج الماء، والجمع منابع.
﴿عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ﴾ جمع لوح. وهو كل صحيفة عريضة خشبًا أو عظمًا. وكانت سفينة نوح من شجر الساج. والساج في الأرميا "ودَّيْسُ". ﴿وَدُسُرٍ﴾ والدسر: المسامير التي تشدّ بها ألواح السفينة. واحدها دسار، ككتب وكتاب. ودسير، ودسرت السفينة أدسرها دسرًا إذا شددتها. وفي "المختار": الدسر: الدفع، وبابه نصر. ويمكن التوفيق بين القولين؛ لأنَّ المسمار يدفع في منفذه.
﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بحراستنا وحفظنا. ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾؛ أي: متذكر متعظ. فيه إبدال تاء الافتعال دالًا، وإدغامها في الدال فاء الكلمة، فأصله: مذتكر بوزن مفتعل، أبدلت التاء دالًا، وأبدلت الذال دالًا، وأدغمت في الدال كما قال في "الخلاصة":
طَا تَا افْتِعَالِ رُدَّ إثْرَ مُطْبَقِ فَيْ ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِيْ
﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦)﴾ ونذر اسم مفرد، وهو مصدر؛ لأنه أجاز بعضهم مجيء المصدر على فعل بضمتين. وبعضهم قال: هو جمع نذير بمعنى إنذار. فهو مصدر مجموع، لا مفرد، ذكره في "الفتوحات".
﴿صَرْصَرًا﴾ الصرصر: الريح الشديدة الهبوب حتى يسمع صوتها، وهو مضاعف صر، يقال: صر الباب، والقلم إذا صوت. وتكرير الأحرف إشعار بتكرير العمل. مثله: كب وكبكب.
238
﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ جمع عجز، وعجز الإنسان مؤخره، وبه شبه مؤخر غيره. ومنه: العجز؛ لأنّه يؤدي إلى تأخر الأمور. والنخل يذكر ويؤنث، وهو من أسماء الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء. واللفظ مفرد لكنه كثيرًا ما يسمى جمعًا نظرًا إلى المعنى الجنسي.
﴿مُنْقَعِرٍ﴾؛ أي: منقلع عن أصله؛ لأن قعر الشيء قراره. ومنه: تقعر فلان في كلامه إذا تعمق فيه. يقال: قعرت النخلة إذا قلعتها من أصلها، وانقعرت؛ أي: انقلعت. وفي "المفردت": ﴿مُنْقَعِرٍ﴾؛ أي: ذاهب في قعر الأرض. وإنما أراد تعالى أن هؤلاء اجتثوا كما اجتثت النخل الذاهب في قعر الأرض، فلم يبق لهم رسم، ولا أثر. انتهى.
﴿وَسُعُرٍ﴾ يجوز أن يكون مفردًا؛ أي: جنون. يقال: ناقة مسعورة كالمجنونة في سيرها قال:
كَأَنَّ بِهَا سُعُرًا إِذَا الْعِيْسُ هَزَّهَا ذَمِيلٌ وَإِرْخَاءٌ مِنَ السَّيْرِ مُتْعِبُ
يقول: كأنَّ بناقتي جنونًا لقوة سيرها. فالعيس: جمع عيساء، كبيض جمع بيضاء. وهي النوق البيض، حركها ذميل وإرخاء. وهو ضربان من السير، متعب كل منهما. وإسناد الهز إليهما مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب. ويجوز أن يكون جمع سعير بمعنى نار.
﴿الأَشِرٌ﴾ هو الشديد البطر والتكبّر. فهي صيغة مبالغة. وقيل: إنه صفة مشبهة، كحذر، ويقظ، ووطف، وعجز. وفي "المختار": وأشر وبطر من باب طرب أو فرح.
﴿وَاصْطَبِرْ﴾ أصله: اصتبر بوزن افتعل، أبدلت تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد حرف إطباق، وهو الصاد، كما دل عليه بيت ابن مالك الذي قدمنا قريبًا.
﴿مُحْتَضَرٌ﴾؛ أي: يحضره صاحبه في نوبته. وهو اسم مفعول من احتضر بمعنى حضر. لأن الماء كان مقسومًا بينهم. واحتضر، وحضر بمعنى واحد. ﴿قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: مقسوم بينهم، لها يوم، ولهم يوم. فالماء قسم من قبيل تسمية المفعول بالمصدر، كضرب الأمير. و ﴿بَيْنَهُمْ﴾ لتغليب العقلاء.
﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ﴾ أصله: ناديوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت
239
الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. ﴿فَتَعَاطَى﴾ فيه إعلال بالقلب. أصله: تعاطي بوزن تفاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح؛ أي: فتناول السيف، وعقرها. ﴿فَعَقَرَ﴾ يقال: عقر البعير والفرس بالسيف فانعقر؛ أي: ضرب به قوائمه، وبابه ضرب.
﴿كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ الهشم: كحر الشيء الرخو، كالنبات. والهشيم بمعنى المهشوم؛ أي: المكسور. وهو اليابس المتكسر من الشجر وغيره. والحظر: جمع الشىء في حظيرة. والمحظور: الممنوع. والمحتظر بكسر الظاء: اسم فاعل، وهو الذي يتخذ حظيرة من الحطب وغيره، والحظيرة: الزربية، وفي "المختار": الحظيرة التي تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والربح. والمحتظر بكسر الظاء الذي يعملها. والمعنى: صاروا كيبيس الشجر المتفتت إذ تفتت.
﴿حَاصِبًا﴾؛ أي: ريحًا حصبتهم؛ أي: رمتهم بالحجارة، والحصباء. قال الفرزدق:
مُسْتَقْبِليْنَ شِمَالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا بِحَاصِبٍ كَنَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُوْرِ
وفي "المختار": الحصباء بالمد: الحصى. ومنه: المحصب. وهو موضع بالحجاز. والحاصب: الريح الشديدة تثير الحصى. والحصب بفتحتين: ما تحصب به النار؛ أي: ترمي. وكلل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به، وبابه ضرب.
﴿نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار. يقال: رأيت زيدًا سحرًا من الأسحار. ولو أريد من يوم معين لمنع من الصرف. لأنّه معرفة معدول عن السحر، فمنع منه للتعريف والعدل. لأن حقه أن يستعمل في المعرفة بأل. وفي "المفردات": السحر: اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار، وجعل اسمًا لذلك الوقت، وهو آخر الليل، أو السدس الأخير.
فائدة: وقد اختلف في تعريف سحر الممنوع من الصرف، فقيل: إنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل، أما التعريف ففيه خلاف، فقيل: هو معرفة بالعلمية. لأنه جعل علما لهذا الوقت. وقيل: يشبه العلميّة؛ لأنه تعريف بغير أداة ظاهرة، كالعلم، وأما العدل فإن صيغته معدولة عن السحر المقرون بأل، لأنه لما أريد به معين كان الأصل فيه أن يذكر معرفًا بأل، فعدل عن اللفظ بأل، وقصد به التعريف، فمنع من الصرف. وقال السهيلي والشلوبين: الصغير معرف معروف. واختلف في
240
منع تنوينه. فقال السهيلي: هو على نية الإضافة. وقال الشلوبين: على نية أل.
﴿فَتَمَارَوْا﴾ أصله: تماريوا بوزن تفاعلوا قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ﴾ المراودة: أن تنازع غيرك في الإرادة، فترود غير ما يروده. ﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ الطمس: المحو، واستئصال أثر الشيء.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المبالغة في قوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ لأنَّ فيه زيادة مبالغة على قرب، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر؛ لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة، نحو اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة في إعداده.
ومنها: الإتيان بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الانشقاق في زمن النبي - ﷺ - ويدل عليه قراءة حذيفة رضي الله عنه ﴿وقد انشق القمر﴾، كما مرّ.
ومنها: العدول عن المضارع إلى الماضي في قوله: ﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ بعد قوله: ﴿يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا﴾ بلفظ المستقبل مع أنَّ السياق يقتضي الإتيان بهما بلفظ المضارع لكونهما معطوفين على ﴿يُعْرِضُوا﴾ للإشعار بأنهما من عاداتهم القديمة.
ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ لأنَّ الأركان الأربعة موجودة فيه، فقد شبههم بالجراد في الكثرة، والتموج.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾.
ومنها: التلويح بقوله: ﴿يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدّة، بل ذلك اليوم يوم يسير لهم، حيث أسند القول إلى الكفار فقط.
ومنها: التفصيل بقوله: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ بعد الإجمال الذي قوله ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾.
ومنها: الإضافة إلى العظمة في قوله: ﴿عَبْدَنَا﴾ تفخيمًا لشأن نوح عليه السلام، وإشعارًا لرفعة منزلته، وزيادة تشنيع لمكذّبيه، فإن تكذيب عبد السلطان أشنع من تكذيب عبد غيره، وإشارة إلى أنه لا شيء أشرف من العبودية.
241
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ﴾ شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء، وانشق بها أديم الخضراء بطريق الاستعارة التمثيلية.
ومنها: إنابة الصفة مناب الموصوف في قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣)﴾ فإنه كناية عن موصوف محذوف، تقديره وحملناه على سفينة ذات ألواح ومسامير.
ومنها: تكرير قوله: ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ حثًّا على تجديد الاتعاظ عند سماع كل نبأ.
ومنها: الاستفهام عن الحال في قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦)﴾ تعظيمًا للعذاب والإنذارات، أي: كانا على كيفية هائلة، بحيث لا يحيط بها الوصف.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾. ومثله قوله: ﴿فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾؛ أي: في إفنائهم، وإهلاكهم.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾؛ أي: كثير الكذب، عظيم البطر؛ لأن فعالًا وفعلًا للمبالغة.
ومنها: إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول في قوله: ﴿أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: مقسوم بينهم.
ومنها: تغليب العقلاء على غيرهم في قوله: ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بينها، وبينهم.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦)﴾ ليكون الوعيد أحفل بالانتقام، والتهديد أشد أثرًا في النفوس. وأورده مورد الإبهام، وإن كانوا هم المعنيين؛ لأنه أراد وقت الموت، ولم يرد غدًا بعينه. وهو شائع في كلام العرب نثرًا ونظمًا.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
242
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله (١) سبحانه وتعالى لمّا ذكر قصص قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، وفصل ما أصيبوا به من عذاب الله الذي لا مرد له بسبب كفرهم بآياته، وتكذيبهم لرسله.. أعقب هذا بتنبيه كفار قريش إلى أنهم إن لم توبوا إلى رشدهم، ويرجعوا عن غيهم، فستحل بهم سنتنا، ويحيق بهم من البلاء مثل ما حل بأضرابهم من المكذبين من قبلهم، ولا يجدون عنه محيصًا ولا مهربًا. ثم خاطبهم خطاب إنكار وتوبيخ، فقال لهم: علام تتكلون؟ وماذا تظنون أأنتم خير ممن سبقكم عددًا وكثرة مال وبطشًا وقوة؛ أم لديكم صك من ربكم بأنه لن يعذبكم مهما أشركتم واجترحتم من السيئات أم تظنون أنكم جمع كثير لا يمكن أن ينال بسوء، ولا تصل إلى أذاكم يد مهما أوتيت من القوة. كلا إن شيئًا من هذا ليس بكائن، وإنكم ستنهزمون، وتولون الأدبار في الدنيا، وسيحل بكم قضاء الله الذي لا مفر منه، وما سترونه في الآخرة أشد نكالًا، وأعظم وبالًا، فأفيقوا من غفلتكم، وأنيبوا إلى ربكم عسى أن يرحمكم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تكذيب الأمم الماضية
(١) المراغي.
243
لرسلها؛ كما كذبت قول قريش نبيها وأعقبه بذكر ما أصابهم في الدنيا من العذاب والهوان.. أردف ذلك بذكر ما سينالهم من النكال والوبال في الآخرة، فبين أنهم سيساقون على وجوههم إلى جهنم سوقًا إهانة، وتحقيرًا لهم، ويقال لهم حينئذٍ توبيخًا وتعنيفًا: ذوقوا عذاب النار، وشديد حرها، ثم أعقبه ببيان أن كل شيء فهو بقضاء الله وقدره، وإذا أراد الله أمرًا فإنما يقول له: كن، فيكون. ثم نبههم إلى ما كان يجب عليهم أن يتنبهوا له من هلاك أمثالهم من الأمم التي كذبت رسلها من قبله، وفعلت فعلها، فأخذها أخذ عزيز مقتدر.
ثم ختم السورة بذكر ما يتمتع به المتقون في جنات النعيم من إجلال وتعظيم، ويرون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾ سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا يوم بدر: نحن جميع منتصر، فنزلت: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)﴾ سبب نزولها: ما أخرجه مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - ﷺ - في القدر فنزلت: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٤١ - ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١)﴾ اكتفى بذكرهم عن ذكره، للعلم بأنّه أولى بالنذر، أي: وعزّتي وجلالي، لقد جاءهم الإنذارات التي أنذرهم بها موسى وهارون عليهما السلام. والمراد بها: الآيات التسع التي تقدم ذكرها.
٤٢ - كأنه قيل: فماذا فعلوا حينئذٍ؟ فقال: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا﴾ يعني: الآيات التسع. وهي اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وحلّ عقدة من لسانه،
(١) لباب النقول.
وانفلاق البحر، وانفجار الماء من الحجر.
﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ بالعذاب عند التكذيب ﴿أَخْذَ عَزِيزٍ﴾ لا يغالب ﴿مُقْتَدِرٍ﴾ لا يعجزه شيء. والمراد: أنَّ الله سبحانه هو العزيز المقتدر، ولذا أخذهم بتكذيبهم، ولم يمنعه من ذلك مانع. والمراد بالعذاب: هو الاغراق في بحر القلزم أو النيل.
يقول الفقير: لعلّ (١) سر الغرق أن فرعون وصل إلى موسى بسبب الماء الذي ساقه إليه في تابوته، فلم يشكر لا نعمة الماء ولا نعمة موسى، فانقلب الحال عليه بضد ذلك، حيث أهلكه الله وقومَه بالماء الذي هو سبب الحياة لغيرهم.
٤٣ - والاستفهام في قوله: ﴿أَكُفَّارُكُمْ﴾ للإنكار، أي: هل كفاركم يا معشر العرب خير عند الله تعالى قوة، وشدة، وعُدَّة، وعِدِّة ﴿مِنْ أُولَئِكُمْ﴾ الكفار المعدودين قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وآل فرعون.
والمعنى: أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم فيما ذكر من الأمور، فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك، وأنتم شر منهم مكانًا، وأسوأ حالًا.
أي (٢): أكفّاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح، وعاد، وثمود، فيأملوا أن ينجوا من عذابي، ونقمتي على كفرهم بي، وتكذيبهم رسولي.
وتلخيص المعنى: ما كفاركم خير ممن سبقهم. فهم ليسوا بأكثر منهم قوّةً، ولا أوفر عددًا، ولا ألين شكيمة في الكفر، والعصيان، والضلال، والطغيان.
وقد أصاب من هم خير منهم ما أصابهم، فكيف يطمعون في المهرب من مثل ذلك. فليتوبوا إلى رشدهم، وليرجعوا عن غيهم قبل أن يندموا ولات ساعة مندم.
ثم انتقل من توبيخهم الأوّل إلى توبيخ أشد منه، فقال: ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ و ﴿أم﴾ منقطعة بمعنى همزة الإنكار، وبل الاضرابية، فهو (٣) إضراب وانتقال
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
من التبكيت بما ذكر إلى التبكيت بوجه آخر، أي: بل ألكم براءة، وأمن من عذاب الله بمقابلة كفركم، ومعاصيكم، نازلة في الكتب السماوية، فلذلك تصرون على ما أنتم عليه، وتأمنون بتلك البراء.
والمعنى به: الإنكار. يعني: لم ينزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمن من عذاب الله.
٤٤ - ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ جهلًا منهم ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ تبكيت آخر. والالتفات فيه للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم. يقال: نصره من عدوه فانتصر؛ أي: منعه فامتنع؛ أي: بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن أولو حزم ورأي، أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام، أو منتصر من الأعداء منتقم منهم لا نغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضًا على أن يكون افتعل بمعنى تفعل، كاختصم. والإفراد في ﴿مُنْتَصِرٌ﴾ باعتبار لفظ الجميع. قال أبو جهل - وقد ركب يوم بدر فرسًا كميتًا كان يعلفه كل يوم فرقًا من ذرةٍ، وقد حلف أنه يقتل محمدًا - ﷺ -: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فقتلوه يومئذٍ، وجر رأسه إلى رسول الله ابن مسعود رضي الله.
والمعنى (١): أي أم لكم صك بالبراءة من تبعات ما تجترحون من السيئات، وأن ربكم لن يعاقبكم على ما تدسون به أنفسكم من الشرور والآثام، فأنتم على هذا الصك تعتمدون، وبهذا الوعد آمنون، حقًا إنكم لتطمعون في غير مطمع، وليس بين أيديكم ولا قلامة ظفر من هذا، فعلام تتكلون، أو إلام تستندون؟.
﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤)﴾؛ أي: بل هم يقولون نحن واثقون بشوكتنا. فنحن قوم أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام، وإنا منصورون على من قصدنا بسوء، أو أراد حربنا وتفريق جمعنا.
وجماع القول: إنه تعالى سد عليهم المسالك، ونقض جميع المعاذير التي ربما تعللوا بها في عدم تصديقهم بالرسول، وفي كفرهم بآيات ربهم، فقال لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم؟ أأنتم أقل كفرًا وعنادًا منهم،
(١) المراغي.
فيكون ذلك سبب الأمن من حلول مثل عذابهم بكم، أم أعطاكم الله براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم جندًا، فأنتم تنتصرون على جند الله؟.
٤٥ - ثم رد عليهم مقالهم، وأبان لهم أنهم يعشيون في بحر من الأوهام، وأن قضاء الله سيحل بهم، وسيهزمون ولولون الأدبار متى جاء قضاؤه، فقال: ﴿سَيُهْزَمُ﴾ ويفرق، ويشتت ﴿الْجَمْعُ﴾؛ أي: جمع قريش. وهذا رد وإبطال لما سبق. والسين للتأكيد، أي: سيهزم جمع كفار مكة، أو جمع كفار العرب على العموم. ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾؛ أي: الأدبار. والتوحيد لإرادة الجنس، يعني: ينصرفون عن الحرب منهزمين، وينصر الله رسوله والمؤمنين، وقد كان كذلك يوم بدر.
والمعنى (١): أي سيفرق شملهم، ويغلبون حين يلتقي جيشهم وجيش المؤمنين. وقد صدق وعده، فانهزموا، وولوا الأدبار يوم بدر. وكان هذا علمًا من أعلام النبوة؛ فإن الآية نزلت بمكة، ولم يكن له - ﷺ - جيش، بل كان أتباعه مشردين في الآفاق، يلاقون العذاب من المشركين في كل صوب.
قال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما نزلت ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾ كنت لا أدري أي جمع، فلما كان يوم بدر رأيت رسول - ﷺ - يلبس الدرع ويقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)﴾، فعرفت تأويلها. وهذا من معجزاته - ﷺ -. لأنه أخبر عن كيب فكان كما أخبر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين نزول هذه الآية وبين يوم بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكيّة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ بياء الغيبة التفاتًا، وكذا ما بعده للغائب، وقرأ أبو حيوة، وموسى الأسواري، وأبو البرهشيم بتاء الخطاب للكفّار إتباعًا لما تقدم من خطابهم، وقرأوا ﴿ستهزِم الجمعَ﴾ بفتح التاء وكسر الزاي، وفتح العين خطابًا لرسول الله - ﷺ -.
وقرأ أبو حيوة أيضًا، ويعقوب بالنون مفتوحةً، وكسر الزاي وفتح العين.
وقرأ الجمهور ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ﴾ بالياء مبنيًا للمفعول، وضمّ العين، وعن أبي
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
حيوة، وابن أبي عبلة أيضًا بفتح الياء مبنيًا للفاعل، ونصب العين؛ أي: سيهزم الله الجمع، وقرأ الجمهور ﴿وَيُوَلُّونَ﴾ بياء الغيبة، وأبو حيوة، وداود بن أبي سالم عن أبي عمرو بتاء الخطاب. والدبر هنا اسم جنس، وجاء في موضع آخر ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾. وهو الأصل، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلةً، قال الزمخشري: وقرىء ﴿ويولون الأدبار﴾ بالجمع.
٤٦ - ثم بين أن هذا عذاب الدنيا، وسيلاقون يوم القيامة ما هو أشد منه نكالًا، فقال: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾؛ أي (١): ليس هذا تمام عقوبتهم، بل القيامة موعد أصل عذابهم، وهذا من طلائعه. ﴿السَّاعَةُ﴾؛ أي: القيامة إظهارها في موضع إضمارها لتربية تمويلها. ﴿أَدْهَى﴾؛ أي: أعظم داهية، وفي أقصى غاية من الفظاعة. والداهية: الأمر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص منه. ﴿وَأَمَرُّ﴾؛ أي: أشد مرارة، وفي أقصى نهاية من المرارة.
وحاصله: إن موقف القيامة أهول من موقف بدر، وعذابها أشد وأعظم من عذابه؛ لأن عذاب الدنيا مثل الأسر، والقتل، والهزيمة، ونحوها أنموذج من عذاب الآخرة. كما أن نارها جزء من سبعين جزأ من نارها.
والمعنى (٢): أي إن ما سيلاقونه من العذاب في الدنيا من الهزيمة، والقتل، والأسر هين إذا ما قيس على ما سيلاقونه من العذاب في الآخرة، فإن ذا أشد وآلم. فهو عذاب خالد دائم، وسيأتي بعد وصف ما فيه من فظاعة ونكر.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبي - ﷺ - قال وهو في قبَّة له يوم بدر: "أنشدك عهدك، ووعدك، اللهم إن شئت لن تعبد بعد اليوم في الأرض أبدًا" فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، فخرج وهو يثيب في الدرع، ويقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦)﴾.
٤٧ - ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: إنّ المشركين من الأولين والآخرين ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ وخطأ عن الحق في الدنيا ﴿و﴾ في ﴿سُعُرٍ﴾؛ أي: نيران مسعرة في الآخرة، جمع سعير.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
أو في ضلال عن الحق، وجنون في الشرك.
والمعنى: أي إن المشركين بالله المكذبين لرسله في ضلال عن الصراط المستقيم، وعماية عن الهدى في الدنيا، وعذاب أليم في نار جهنم يوم القيامة.
٤٨ - ثم بين ما يلحقهم من الإهانة، والإذلال حينئذٍ، فقال: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ﴾ والظرف (١) منصوب إما بما يفهم من قوله ﴿فِي ضَلَالٍ﴾؛ أي: كائنون في ضلال وسعر يوم يجرّون ﴿فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾. وإما بقول مقدر بعده؛ أي: يوم يسحبون يقال لهم: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾؛ أي: قاسوا حر سقر، وشدة ألمها، فإن مسها سبب للتألم بها، فمس سقر مجاز عن ألمها بعلاقة السببية، وفي "القاموس": ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ أي: أوَّل ما ينالكم منها، كقولك: وجد مسَّ الحمى؛ أي: ألمها، وحرارتها، انتهى. وسقر علم لجهنم، ولذلك لم يصرف. وقيل: اسم لطبقتها الخامسة. والمس كاللمس: إدراك الشيء بظاهر البشرة كما سيأتي.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو (٢): ﴿مسقر﴾ بإدغام سين ﴿مس﴾ في سين ﴿سقر﴾. قال ابن مجاهد إدغامه خطأ. لأنه مشدد، انتهى. والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال، ثم أدغم.
والمعنى (٣): أي يعذبون، ويهانون يوم يجرون على وجوههم في النار. ويقال لهم إيلامًا، وتضيفًا: ذوقوا حر النار، وآلامها جزاء وفاقًا لتكذيبكم رسل ربكم في كل ما جاؤوا به من الإنذار بهذا اليوم، والتحذير مما يقع فيه للكافرين من العذاب، والتبشير بما للمتقين فيه من ثواب.
٤٩ - ثم بين أن كل ما يوجد في هذه الحياة.. فهو لا يحدث اتفاقًا، وإنما يحصل بقضاء الله سبحانه وقدره. فقال: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء. وهو منصوب بفعل مقدر يفسره ما بعده. ﴿خَلَقْتَهُ﴾ حال كون ذلك الشيء متلبسًا ﴿بِقَدَرٍ﴾ متعين، اقتضته الحكمة التي عليها يدور أمر التكوين. فقدر بمعنى القدير (٤).
وهو تسوية صورته، وشكله، وصفاته الظاهرة والباطنة على مقدار مخصوص
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
اقتضته الحكمة، وترتبت عليه المنفعة المنوطة بخلقه. أو خلقناه مقدرا مكتوبًا في اللوح قبل وقوعه، لا يغير ولا يبدل.
والمعنى: أنَّ كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبسًا بقدر قدره أزلًا، وقضاءٍ قضاه سبق في علمه، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه فيما لا يزال. والقدر: التقدير الأزلي. والقضاء إيجاده فيما لا يزال على وقف القدر السابق أزلًا. فالمراد بالقدر: تقديره في علمه الأزليّ، وكتبه في اللوح المحفوظ، وهو القدر المستعمل في جنب القضاء. وقيل: القضاء: وجود جميع المخلوقات في اللوح المحفوظ مجتمعة. والقدر: وجودها متفرقة في الأعيان بعد وجود شرائطها، ولذا عبّر بالخلق؛ فإنه إنما يتعلق بالوجود الظاهري في الوقت المعين. وقيل: هما مترادفان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال، وقال ابن عطية، وقوم من أهل السنة بالرفع.
قال النواويّ رحمه الله تعالى: اعلم أنَّ مذهب أهل الحق إثبات القدر. ومعناه: أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه، وعلى صفات مخصوصة. فهي تقع على حسب ما قدرها تعالى أزلًا. وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها، ولم يتقدم علمه بها، وأنها مستأنفة العلم؛ أي: إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها. وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوًا كبيرًا، انتهى.
٥٠ - ﴿وَمَا أَمْرُنَا﴾ لشيء نريد تكوينه. والمراد بالأمر هنا: ضد النهي بدليل ذكر متعلقه بقولنا: ﴿شَيْءٍ﴾. والشيء هو المأمور به بأن يوجد أو يعدم. ﴿إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾؛ أي: (٢) كلمة واحدة لا تثنى سريعة التكوين. وهو قوله تعالى: ﴿كُن﴾، أو إلا فعلة واحدة. وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ في اليسر، والسرعة. فإن اللمح النظر بالعجلة، فمعنى ﴿كَلَمْحٍ﴾: كنظر سريع. قال في "القاموس": لمح إليه كمنع اختلس النظر كالمح. وفي "المفردات": اللمح: لمعان البرق، ورأيته لمحة برق.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
قال ابن الشيخ: لما اشتملت الآيات السابقة على وعيد كفار أهل مكة بالإهلاك عاجلًا وآجلًا، والوعد للمؤمنين بالانتصار منهم جيء بقوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩)﴾ تأكيدًا للوعيد والوعد. يعني: أنّ هذا الوعيد والوعد حق وصدق، والموعود مثبت في اللوح المحفوظ مقدر عند الله تعالى، لا يزيد، ولا ينقص، وذلك على الله يسير؛ لأن قضاءه في خلقه أسرع من لمح البصر.
وقيل معنى الآية: أي معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾؛ أي: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر.
والمعنى: أي إنا إذا أردنا أمرًا قلنا له: كن، فإذا هو كائن. ولا يحتاج إلى تأكيد الأمر بثانية، ولا ثالثة. ولله در القائل:
إِذَا أَرَادَ الله أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُوْلُ لَه قَوْلَ "كُنْ" فَيَكوْنُ
وهذا (١): تمثيل لسرعة نفاذ المشيئة في إيجاد الخلق. فهي في السرعة كلمح البصر، لا إبطاء ولا تأخير.
٥١ - ثم أنبهم على ما هم فيه من غفلة وعماية عن الحق بعد وضوحه، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا﴾ وأفنينا، واستأصلنا ﴿أَشْيَاعَكُمْ﴾ وأشباهكم، ونظراءكم في الكفر بي، والتكذيب لرسلي ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ ومتعظ يتعظ بذلك، فيخاف العقوبة، وأن يحل به مثل ما حل بهم. والأشياع: جمع شيعة، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره، كما سيأتي.
والمعنى: أي وعزتي وجلالي.. لقد أهلكنا، وأفنينا، واستأصلنا أشباهكم ونظراءكم يا معشر قريش من المكذبين لأنبيائهم من الأمم الخالية، المتتابعة في مذهب ودين، واستأصلنا شأفتهم بحسب سنتنا في أمثالهم بشتى العقوبات، ومختلف الوسائل ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)﴾. أفما كان لكم في ذلك مزدجر تعتبرون به، فتنيبوا إلى ربكم وتسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، ونحو الآية: قوله تعالى: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾.
(١) روح البيان.
٥٢ - ثم بين لهم أن كل أعمالهم محصاة عليهم، وسيحاسبون على النقير والقطمير فقال: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ﴾ من الكفر، والمعاصي، مكتوب على التفصيل ﴿فِي الزُّبُرِ﴾؛ أي: في ديوان الحفظة. جمع زبور بمعنى الكتاب. فهو بمعنى مزبور، كالكتاب بمعنى المكتوب. أو في اللوح المحفوظ عبر عنه بالجمع تفخيمًا لشأنه؛ أي: جميع ما فعلته الأمم من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، أو في كتب الحفظة.
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: كل شيء فعلته الأمم في كتب أنبيائهم المنزلة عليهم، كأفعال كفار زماننا في كتابنا، انتهى.
٥٣ - ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ﴾ وحقير، وجليل من الأعمال ﴿مُسْتَطَرٌ﴾؛ أي: مسطور في اللوح المحفوظ بتفاصيله؛ أي: وكل شيء من أعمال الخلق أقوالهم وأفعالهم مكتوب في اللوح المحفوظ صغيره، وكبيره، جليله، وحقيره.
والمعنى: أي وكل شيء يفعلونه، فيدسون به أنفسهم من الكفر والمعاصي ويدنسونها به من الأرجاس والآثام، فهو مقيد لدى الكرام الكاتبين، كما قال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)﴾. فما من صغيرة ولا كبيرة إلا وهي مسطورة في دواوينهم، وصحائف أعمالهم. فليحذروا ما هم عليه قادمون من الحساب العسير على الجليل والحقير ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾.
روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - ﷺ - كان يقول: "يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبًا". وقد قيل:
لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الذُّنُوْبِ صَغِيْرَا إِنَّ الصَّغِيرَ غَدًا يَعُوْدُ كَبِيْرَا
إِنَّ الصَّغِيرَ وَإنْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ عِنْدَ الإلَهِ مُسَطَّرٌ تَسْطِيْرَا
فَأسْأَلْ هِدَايَتَكَ الإِلَهَ فَتَتَّئِدْ فَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيْرَا
ولقد أحسن من قال:
خَلِّ الذُّنُوْبَ صَغِيْرَهَا وَكَبِيْرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيْرَةً إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى
وقرأ الأعمش (١)، وعمران بن حدير، وعصمة عن أبي بكر بشد راء ﴿مستطرٌّ﴾.
قال صاحب "اللوامح": يجوز أن يكون من طر النبات والشارب إذا ظهر ونبت بمعنى كل شيء ظاهر في اللوح المحفوظ، مثبت فيه. ويجوز أن يكون من الاستطار، لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول: جعفر، وتفعل بالتشيد وقفًا، انتهى. ووزنه على التوجيه الأول استفعل، وعلى الثاني افتعل.
٥٤ - وبعد أن ألمع إلى ما يصيب الكافرين من الإهانة في ذلك اليوم، أردفه بما يناله المتقون من الكرامة عند ربهم، وما يحفظون به من الشرف والزلفى بحسب سنة القرآن من ذكر الثواب إثر العقاب، والعكس بالعكس. فقال:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي: من الكفر، والمعاصي ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين عظيمة الشأن بحيث لا يوصف نعيمها، وما أعد فيها لأهلها. ﴿وَنَهَرٍ﴾؛ أي: أنهار كذلك. يعني: أنهار الماء، واللبن، والخمر، والعسل. والإفراد للأفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَنَهَرٍ﴾ على الإفراد، والهاء مفتوحة. والأعرج، ومجاهد، وحميد، وأبو السمال، والفياض بن غزوان بسكونها. والمراد به: الجنس إن أريد الأنهار، أو يكون معنى ﴿وَنَهَرٍ﴾، أي: وسعة في الأرزاق والمنازل. وقرأ (٣) زهير العرقبي، والأعمش، وأبو نهيك، وأبو مجلز، واليماني بضم النون والهاء، جمع نهر، كرهن ورهن، أو نهر كأسد وأسد. وهو المناسب لجمع جنات. وقيل: نهر جمع نهار. ولا ليل في الجنة وهو بعيد.
٥٥ - ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ خبر بعد خبر. وهو (٤) من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع. والصدق بمعنى الجودة؛ أي: في مكان مرضي، ومجلس حقٍّ سالم من اللغو والتأثيم. بخلاف مجالس الدنيا، فقل أن تسلم من ذلك. حال
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
253
كونهم ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ﴾ والمراد من العندية: قرب المنزلة والمكان، لا قرب المكان والمسافة. والمليك أبلغ من المالك. والتنكير فيه للتعظيم.
والمعنى: حال كونهم مقربين عند عزيز الملك واسعه لا يقادر قدر ملكه، فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته، فأي منزلة أكرم من تلك، وأجمع للغبطة كلها، والسعادة بأسرها، وقرأ الجمهور ﴿فِي مَقْعَدِ﴾ بالإفراد، يراد به: اسم الجنس، وقرأ عثمان البتي ﴿في مقاعد﴾ على الجمع. ﴿مُقْتَدِرٍ﴾؛ أي: قادر لا يعجزه شيء، عال أمره في الاقتدار.
والمعنى (١): أي إن الذين اتقوا عقاب ربهم، فأطاعوه، وأدوا فرائضه، واجتنبوا معاصيه، وأخلصوا له العمل في السر والعلن، يثبهم بما عملوا جنات تجري من تحتها الأنهار، يحلون فيها من أساور من ذهب، ويجلسون على فرش بطائنها من إستبرق، ويجدون فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشر كفاء ما بذلوا من الصبر على سياق الطاعات، وحرموا منه أنفسهم من اللذات. كما قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى حتى ورمت قدماه، وتهجد حتى غارت عيناه: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب. كما ينالون الزلفى عند ربهم القادر على جزائهم بإحسانه وجوده ومنته، فكل شيء تحت قبضته وسلطانه، لا يمانع، ولا يغالب. وهو العزيز الحكيم.
اللهم احشرنا في زمرتهم، واجعلنا ممن يسمعون القول، فيتبعون أحسنه. إنّك أنت السميع المجيب ذو الطول العظيم.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿جَاءَ﴾ فعل ماض، ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾ مفعول به ﴿النُّذُرُ﴾ فاعل. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الاعراب. وجملة القسم مستأنفة. ﴿كَذَّبُوا﴾ فعل، وفاعل، ﴿بِآيَاتِنَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿كُلِّهَا﴾ توكيد لـ
(١) المراغي.
254
﴿آياتنا﴾، مجرور، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقفًا في جواب سؤال مقدر نشأ من حكاية مجيء النذر، كأنّه قيل: فماذا فعلوا حينئذٍ؟ فقيل: كذّبوا بآياتنا. ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾. ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿أخذناهم﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿أَخْذَ عَزِيزٍ﴾ مفعول مطلق، ﴿عَزِيزٍ﴾ مضاف إليه. وهو من إضافة مصدر إلى فاعله. ﴿مُقْتَدِرٍ﴾ صفة ﴿عَزِيزٍ﴾.
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)﴾.
﴿أَكُفَّارُكُمْ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، ﴿كفاركم﴾ مبتدأ، ﴿خَيْرٌ﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ أُولَئِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى همزة الإنكار، وبل الإضرابية، ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿بَرَاءَةٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿فِي الزُّبُرِ﴾ صفة لـ ﴿بَرَاءَةٌ﴾. والجملة جملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَمْ﴾ منقطعة أيضًا بمعنى همزة الإنكار، وبل الإضرابية، ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة إضرابية. ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ ﴿جَمِيعٌ﴾ خبره، ﴿مُنْتَصِرٌ﴾ صفة ﴿جَمِيعٌ﴾. لأنّه بمعنى جميع، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ليقولون. ﴿سَيُهْزَمُ﴾ السين حرف استقبال، ﴿يهزم﴾ فعل مضارع، مغير الصيغة، ﴿الْجَمْعُ﴾ نائب فاعل. والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿وَيُوَلُّونَ﴾ فعل، ونائب فاعل، معطوف على ﴿يهزم﴾، ﴿الدُّبُرَ﴾ مفعول به. ولم يقل: الأدبار، لموافقة رؤوس الآي، ولأنّه اسم جنس، كما مر. ﴿بَلِ﴾ حرف ابتداء وإضراب، ﴿السَّاعَةُ﴾ مبتدأ، ﴿مَوْعِدُهُمْ﴾ خبره. والجملة إضرابية. ﴿وَالسَّاعَةُ﴾ الواو: عاطفة، ﴿السَّاعَةُ﴾ مبتدأ، ﴿أَدْهَى﴾ خبر، ﴿وَأَمَرُّ﴾ معطوف على أدهى. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ولك أن تجعل ﴿الواو﴾ للحال. ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾ ناصب واسمه، ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ خبره، ﴿وَسُعُرٍ﴾ معطوف على ﴿ضَلَالٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)﴾.
﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية، متعلق يقول محذوف، تقديره: يقال لهم: يوم يسحبون. ﴿يُسْحَبُونَ﴾ فعل مضارع، ونائب فاعل ﴿فِي النَّارِ﴾، متعلق بـ ﴿يُسْحَبُونَ﴾،
255
وجملة ﴿يُسْحَبُونَ﴾ في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ جار ومجرور، حال من واو ﴿يُسْحَبُونَ﴾. ﴿ذُوقُوا﴾ فعل أمر، مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، ﴿مَسَّ سَقَرَ﴾ مفعول به، ﴿سَقَرَ﴾ مضاف إليه، مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث المعنوي. والجملة الفعية في محل النصب، مقول للقول المقدر. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ منصوب على الاشغال بفعل محذوف وجوبًا، يفسّره المذكور، تقديره: إنّا أوجدنا كل شيء، وجملة الفعل المحذوف في محل الرفع خبر ﴿إِنَّا﴾. وجملة ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ مفسرة، لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة. ﴿بِقَدَرٍ﴾ متعلق بمحذوف حال من ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾؛ أي: حالة كونه مقدّرًا محكمًا مرتبًّا. ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿أَمْرُنَا﴾ مبتدأ، ﴿إلا﴾ أداة حصر ﴿وَاحِدَةٌ﴾ خبر أمرنا. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إِنَّا﴾. ﴿كَلَمْحٍ﴾ حال من متعلق الأمر. وهو الشيء المأمور بالوجود، أي: حال كونه يوجد سريعًا، ﴿بِالْبَصَرِ﴾ متعلق بـ ﴿لمح﴾.
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَهَلْ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿هل﴾ حرف استفهام، ﴿مِن﴾ زائدة، ﴿مُدَّكِرٍ﴾ مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: موجود. والجملة معطوفة على جواب القسم قبلها. ﴿وَكُلُّ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، وجملة ﴿فَعَلُوهُ﴾ صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾، ﴿فِي الزُّبُرِ﴾ خبر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة جواب القسم. ﴿وَكُلُّ﴾ الواو: عاطفة، ﴿كُلُّ﴾ مبتدأ، ﴿صَغِيرٍ﴾ مضاف إليه، ﴿وَكَبِيرٍ﴾ معطوف على ﴿صَغِيرٍ﴾، ﴿مُسْتَطَرٌ﴾ خبر المبتدأ. والجملة معطوفة على جواب القسم. ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ ناصب واسمه، ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿وَنَهَرٍ﴾ معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾، مستأنفة. ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، بدل من قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ بدل بعض من كل، لأنّ المقعد بعض الجنات. ولك أن تجعله خبرًا ثانيًا لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ﴾ ظرف متعلق بمحذوف،
256
صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾ أو لـ ﴿مَقْعَدِ﴾، وقيل: هو خبر ثان أو ثالث لـ ﴿إِنَّ﴾، ﴿مُقْتَدِرٍ﴾ صفة لـ ﴿مَلِيكٍ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١)﴾ النذر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير باعتبار الآيات التسع، فإنَّ كل واحدة منها نذير؛ أي؛ إنذار على حدة، اهـ كرخي.
﴿أَخْذَ عَزِيز﴾ مصدر مضاف إلى فاعله؛ أي: أخذ غالب لا يغالب، ولا يغلب. ﴿مُقْتَدِرٍ﴾؛ أي: لا يعجزه شيء. ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ أصله: يوليون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت اللام لمناسبة الواو. ﴿بَرَاءَةٌ﴾ أي: صك مكتوب بالنجاة من العذاب. ﴿فِي الزُّبُرِ﴾ أي: في الكتب السماوية. جمع زبور بمعنى مزبور؛ أي: مكتوب. ﴿جَمِيعٌ مُنْتَصِر﴾ اسم فاعل من انتصر الخماسي، يقال: نصره من عدوه فانتصر؛ أي: منعه فامتنع.
﴿الدُّبُرَ﴾؛ أي: الأدبار. والدبر هنا اسم جنسن. لأن كل واحد يولي دبره. وحسن إفراده كونه فاصلة. ﴿وَالسَّاعَةُ أَدْهَى﴾ أفعل التفضيل من الداهية. وفيه إعلال بالقلب، أصله: أدهى بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَأَمَرُّ﴾؛ أي: أشد مرارة، أصله: أَمْرَر بوزن أفعل، نقلت حركة الراء الأولى إلى الميم فسكنت فأدغمت في الراء الثانية. وهو أفعل التفضيل أيضًا من المرارة، أي: أشد مرارة في الذوق. والمراد: الشدة والهول.
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾ المراد بهم: المشركون، كما جاء في قوله: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾. من الإجرام بمعنى القطع. ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ في الدنيا عن الحق. ﴿وَسُعُرٍ﴾؛ أي: نيران في الآخرة، جمع سعير بمعنى نار مسعرة؛ أي: موقدة. ﴿يُسْحَبُونَ﴾ يجرون. ﴿مَسَّ﴾ مسها حرها. ﴿سَقَرَ﴾ علم لجهنم، مشتق من سقرته الشمس أو النار، أي: لوحته أي: غيرته، ويقال: صقرته بالصاد، وهي مبدلة من السين. وهي غير منصرف للعلمية والتأنيث. والمس كاللمس. وهو إدراك الشيء بظاهر البشرة، كما مر.
﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ واللمح: النظر بالعجلة. وفي "المصباح": لمحه إذا أبصره بنظر خفيف، أي: فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه، فكذلك الأفعال
257
كلها عندنا، بل أيسر، اهـ خطيب. وفي "القاموس": لمح إليه كمنع اختلس النظر كألمح. وفي "المفردات": اللمح: لمعان البرق، ورأيته لمحة برق، اهـ.
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ﴾ جمع شيعة. وهم من يتقوى بهم الإنسان من الأتباع. وفي "القاموس": شيعة الرجل بالكسر أتباعه، وأنصاره، والفرقة على حدة، وبقع على الواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث. ﴿مُسْتَطَرٌ﴾ اسم مفعول من استطره إذا كتبه، كما في "القاموس". ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ هو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع، وصلاة الوسطى؛ أي: مكان مرضيِّ.
﴿عِنْدَ مَلِيكٍ﴾ صيغة مبالغة من ملك الثلاثي؛ أي: عزيز الملك واسعه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾.
ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم، واسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم.
ومنها: الإفراد في قوله: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ حيث لم يقل: منصورون لرعاية الفاصلة.
ومنها: الإفراد في قوله: ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ حيث لم يقل: الأدبار لإرادة الجنس. لأنَّ كل واحد يولي دبره. وحسن إفراده كونه فاصلةً، وقد جاء مجموعًا في قوله: ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَالسَّاعَةُ أَدْهَى﴾ لتربية تهويلها، وزيادة تخويفها.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَأَمَرُّ﴾ لأنه استعارة لصعوبة الشيء على النفس.
ومنها: المقابلة بين المجرمين والمتقين في قوله: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)﴾.
258
ومنها: الاسلوب التهكمي في قوله: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿مَسَّ سَقَرَ﴾ لأنه مجاز عن حرارتها وألمها بعلاقة السببية، والظاهر من تقرير الكشاف: أنه من الاستعارة بالكناية، اهـ كرخي.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ حذفت منه وجه الشبه. فهو مجمل.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ﴾.
ومنها: الإفراد في قوله: ﴿وَنَهَرٍ﴾ للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وكان مقتضى السياق أن يقال وأنهار لمناسبة جنات.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ﴾ لأنه كناية عن تقريب المكانة والرتبة؛ أي: مقربين عند من تعالى أمره في الملك والاقتدار.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿مَلِيكٍ﴾ للتعظيم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
259
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على الموضوعات التالية:
١ - الإخبار بقرب مجيء الساعة.
٢ - تكذيب المشركين للرسول، وقولهم في معجزاته: إنها سحر مفترى.
٣ - غفلتهم عمّا في القرآن من الزواجر.
٤ - أمر الرسول - ﷺ - بالإعراض عنهم، حتى يأتي قضاء الله فيهم.
٥ - إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسي الرؤوس مسرعين كأنهم جراد منتشر.
٦ - قصص المكذّبين من سالفي الأمم: كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، وما لاقوه من الجزاء على تكذيبهم.
٧ - توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر.
٨ - ما يلاقونه من الجزاء في الآخرة إهانة وتحقيرًا لهم.
٩ - بيان أن كل ما في الوجود فهو بقضاء الله، وقدره.
١٠ - نفاذ مشيئة الله، وسلطانه في الكون.
١١ - بيان أن كل أعمال المرء في كتاب الله، قد خطّه الكرام الكاتبون.
١٢ - ما أوتيه المتقون من الكرامة عند ربهم، وما لهم من الزلفى لديه (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) قد فرغت من تسويد هذه السورة في الليلة الثالثة من رجب الفرد في أواخر الساعة الرابعة ليلة الإثنين من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة ٣/ ٧/ ١٤١٥ هـ في مكة المكرمة في المسفلة من الهجرة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة وأذكى التحيّات.
260
سورة الرحمن
سورة الرحمن، وتسمى عروس القرآن، مكية، نزلت بعد سورة الرعد. قال القرطبيّ: كلها مكية في قول الحسن، وعروة بن الزبير، وعكرمة، وعطاء، وجابر. قال: قال ابن عباس: مكية إلا آيةً منها، وهي قوله: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية. وقال ابن مسعود، ومقاتل: هي مدنية كلها. والأول (١) أصح. ويدل عليه ما أخرجه النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الرحمن بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزل بمكة سورة الرحمن، ويؤيّد القول الثاني ما أخرجه ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: نزلت سورة الرحمن بالمدينة. ويمكن الجمع بين القولين بأنّه نزل بعضها بمكة، وبعضها بالمدينة.
وآيها ست أو سبع أو ثمان وسبعون آية، وكلماتها ثلاث مئة وإحدى وخمسون كلمة، وحروفها ألف وست مئة وستة وثلاثون حرفًا. وسميت سورة الرحمن لابتدائها بلفظ الرحمن.
مناسبة هذه السورة لما قبلها من أوجه (٢):
١ - أن فيها تفصيل أحوال المجرمين، والمتقين التي أشير إليها في السورة السابقة إجمالًا في قوله: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤)﴾.
٢ - أنّه عدد في السورة ما نزل بالأمم التي قد خلت من ضروب النقم، وبين عقب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس، وإيقاظهم، ثم نعى عليهم إعراضهم. وهنا عدد ما أفاض الله على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية في
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
261
الأنفس والآفاق، وأنكر عليهم إثر كل منها إخلالهم بموجب شكرها.
٣ - أن قوله: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾ كأنه جواب سائل يقول: ماذا صنع المليك المقتدر؟ وما أفاد برحمته أهل الأرض؟.
وعبارة أبي حيّان: مناسبة هذه لما قبلها (١): أنه تعالى لما ذكر مقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر ذكر شيئًا من آيات الملك، وآثار القدرة. ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب. إذ كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإيجاز.
ولما ذكر قوله: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير، فكأنه قيل: من المتصف بذلك فقال: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾ فذكر ما نشأ من صفة الرحمة. وهو تعليم القرآن الذي هو شفاء للقلوب، انتهى. قال محمد بن حزم رحمه الله تعالى: جميع هذه السورة محكم، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "لكل شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
262

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥)﴾.
المناسبة
مناسبة أوّل هذه السورة لأوّل ما تقدم كما مرّ: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر في آخر السابقة المليك المقتدر بيّن (١) هنا ما صنعه المليك المقتدر من النعم لعباده رحمةً بهم، فأفاد:
١ - أنه علم القرآن، وأحكام الشرائع لهداية الخلق، وإتمام سعادتهم في
(١) المراغي.
263
معاشهم ومعادهم.
٢ - إنه خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكمله بالعقل والمعرفة.
٣ - أنه علم النطق، وإفهام غيره، ولا يتم هذا إلا بنفس وعقل.
٤ - أنه سخَّر له الشمس والقمر والنجوم على نظام بديع، ووضع أنيق لحاجته إليها في دنياه ودينه.
٥ - أنه سخر النجم والشجر ليقتات منها.
٦ - أنه رفع السماء، وأقامها بالحكمة والنظام.
٧ - أنه أوجد الأرض وما فيها من نخل، وفاكهة، وحبّ ذي عصف وريحان.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا عدد كثيرًا من النعم، وكان بعضها يحتاج إلى زيادة إيضاح وبيان كخلق الإنسان، وحساب الشمس والقمر، وأسباب نمو الزرع والشجر.. فصل أحوالها على الترتيب السابق.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما (١) ذعر النعم التي أنعم بها على عباده في البر والبحر، وفي السماء والأرض.. أردف ذلك ببيان أنَّ هذه النعم تفنى، ولا تبقى، فكل شيء يفنى إلا ذاته تعالى، وكل من في الوجود مفتقر إليه. فهو المدبر أمره والمتصرف فيه. فهو يحيي قومًا ويميت آخرين، ويرفع قومًا، ويخفض آخرين.
قوله تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد نعماءه على عباده في البر والبحر، وفي الأرض والسماء ليشكروه على ما أنعم، ويعبدوه وحده على ما أعطى وتمم، وذكر أنهم مفتقرون إليه تعالى آناء الليل وأطراف النهار، ثم أرشد إلى أن هذه النعم لا تدوم، بل هي إلى زوال، فكل ما على وجه الأرض سيفنى، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات.. نبههم إلى أنه في يوم القيامة سيلقى كل عامل جزاء ما عمل، وثواب ما اكتسب، ولا مهرب حينئذٍ من العقاب، ولا سبيل إلى الامتناع منه، وسيكون جزاء االمشركين به العاصين لأوامره نارًا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كفر بربه، وكذب
(١) المراغي.
264
Icon