تفسير سورة إبراهيم

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة إبراهيم مكية وهي اثنان وخمسون آية وسبع ركوعات.

﴿ الَر كِتَابٌ ﴾ أي : هو كتاب، ﴿ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ ﴾ : بدعوتك إياهم إلى ما فيه، ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ : أنواع الضلال، ﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ : الهدى، ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ : بأمره وتوفيقه، ﴿ إِلَى صِرَاطِ ﴾ بدل من إلى النور، ﴿ الْعَزِيزِ ﴾ : الغالب، ﴿ الْحَمِيد ﴾ : المستحق للحمد.
﴿ اللّهِ ﴾ عطف بيان للعزيز وعلى قراءة الرفع مبتدأ خبره قوله :﴿ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف والذي صفته، ﴿ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ والويل اسم معنى كالهلاك.
﴿ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ﴾ : يختارون، ﴿ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾ : يمنعون الناس عن دين الله تعالى، ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾، أي : يطلبون لها الاعوجاج، ويقولون للناس : إنها معوجة بحذف الجار وإيصال الفعل، ﴿ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ : عن الحق ووصفه بالبعد مع أنه في الحقيقة للضال للمبالغة.
﴿ وَمَا ١أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ ﴾ : بلغة، ﴿ قَوْمِهِ ﴾ : الذي هو بعث فيهم، ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ : ما أمروا به فيفهموه بلا كلفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم و إن بعث إلى الأحمر والأسود بصرائح الدلائل، لكن الأولى أن يكون بلغة من هو فيهم حتى يفهموا ثم ينقلوه ويترجموه لغيرهم، ﴿ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء ﴾ أي : بعد البيان، ﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَاء ﴾ : باتباعه، ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ : الذي ما شاء كان ولم يشأ لم يكن،
﴿ الْحَكِيمُ ﴾ : في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل الهداية.
١ ومن طلب الاعوجاج أنهم قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟! فقال الله: "وما أرسلنا" الآية/١٢ وجيز..
﴿ وَلَقد١ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا٢ كاليد والعصا، ﴿ أَنْ أَخْرِجْ ﴾ أي : بأن أخرج أو أن مفسرة ففي الإرسال معنى القول، ﴿ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ ﴾ : بنعمائه عليهم من فلق٣ البحر والإنجاء من يد فرعون وغير ذلك أو بوقائعه في الأمم السالفة، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾، أي : ما صنعنا ببني إسرائيل أو ما نزل من البلاء على الأمم عبرة لمن يصبر على بلائه ويشكر لنعمائه.
١ ولما ذكر أن كتب الرسل بلسان قومهم شرع في حكاية رسول كتابه بعد القرآن، أجل الكتب تسلية و تثبيتا وتصبيرا للنبي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: "ولقد أرسلنا" /١٢ وجيز..
٢ الجمهور على أن المراد بآياتنا تسع الآيات المشهورة / ١٢ وجيز..
٣ وهذا التفسير رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ [المسند (٥/١٦٦) عن أبي بن كعب مرفوعا، و ذكر ابن كثير(٢/٥٢٤) أن عبد الله بن أحمد رواه أيضا موقوفا وهو أشبه]، وهو قول كثير من السلف كمجاهد وقتادة وغيرهم وعلى هذا التذكير لإسلام بعض أو يكون بعد كفرهم لعبادة العجل / ١٢ وجيز..
﴿ وَإِذْ قَالَ ﴾ أي : واذكر إذ قال، ﴿ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم ﴾ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام وقيل بدل اشتمال من نعمة الله، ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ ﴾ أي : والحال أنه يبغونكم، ﴿ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ : أفضحه وهو ثاني مفعوليه، ﴿ وَيُذَبِّحُونَ ١أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ : يتركونهن٢ أحياء، ﴿ وَفِيَ ذلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ : ابتلاء من حيث إنه أمهلهم فيه أو ذلكم إشارة إلى الإنجاء بمعنى النعمة.
١ الواو في ويذبحون إشارة إلى ذبح الأبناء أحد أنواع عذابهم وهم معذبون بأنواع أخرى من الاستعباد والتكاليف الشاقة والإذلالات /١٢ منه..
٢ للخدمة / ١٢ منه..
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ ﴾ عطف على إذ أنجاكم١ أي : أذن وأعلم، ﴿ رَبُّكُمْ ﴾ : فقال، ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ ﴾ : يا بني إسرائيل نعمتي فأطعتموني،
﴿ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ : في النعمة، ﴿ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ : نعمتي، ﴿ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ٢، لمن كفر نعمتي.
١ جاز أن يكون عطفا على نعمة الله، أي: اذكروا حين تأذن ربكم / ١٢..
٢ جاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه إذا كر الخير أسند إلى نفسه الأقدس و إذا ذكر الشر بعده عدل عن نسبته إلى نفسه وصرح في لأزيدنكم بالمفعول، ولم يذكره في جانب العذاب و إن كان المعنى عليه رجاء و رحمة ثم نبه موسى قومه على أنه أوعد على الكفر لا لأنه محتاج إلى شكركم فقال وقال موسى "إن تكفروا" الآية١٣ وجيز..
﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أنتم وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فإن اللّهَ لَغَنِيٌّ ﴾، عن خلقه وشكرهم، ﴿ حَمِيدٌ ﴾، مستحق للحمد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون.
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، من الكفار كلام مستأنف من الله تعالى أو من تمام كلام موسى والأول أظهر فقد نقل أن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، ﴿ قوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ أي : بعد هؤلاء من الأمم المكذبة، ﴿ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ ﴾ : لا يحصي عددهم لكثرتهم إلا الله تعالى ولهذا قال بعض السلف : كذب النسابون١، ﴿ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ : المعجزات الواضحات، ﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ﴾، أي : الكفار عضوها من الغيظ أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما نطقت ألسنتهم به من قولهم :" إنا كفرنا بما أرسلتم به "، أي : جوابنا ليس عندنا غيره أو وضعوا أيديهم على أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك، أي : ضحكوا و تعجبوا ووضعوها عليها مشيرين للأنبياء بالسكوت أو أخذ الكفار أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم، أو الرسل لما أيسوا منهم، وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم، وسكتوا ووضعوا الكفار أيدي أنفسهم على أفواه الرسل، ردا أو تكذيبا لهم، أو منعا لهم من الكلام، أو سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : رد يده في فيه. ﴿ وقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ ﴾، على زعمكم، ﴿ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ٢ : موقع في الريبة.
١ قاله ابن مسعود وعروة بن الزبير: يعني أنهم يدعون علم الأنساب..
٢ صفة توكيد بادروا أولا إلى التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في ترددهم كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى انتقالهم من التكذيب المحض إلى التردد، أو هما قولان من طائفتين طائفة بادرت بالتكذيب و طائفة شكت وهذا الشك أيضا كفر، قالت لهم رسلهم: أفي الله شك / ١٢ وجيز..
﴿ قَالَتْ ﴾ : لهم، ﴿ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ ﴾، أي : في تفرده بوجوب العبادة له، ﴿ شَكٌّ ﴾ : فاعل الظرف، ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ : لا يستحق العبادة إلا من ابتدعهما من غير مثال سبق، ﴿ يَدْعُوكُمْ ﴾ : إلى طاعته، ﴿ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾، أي : بعض ذنوبكم الذي يُكفَّر بالإيمان فإن المَظَالم لا يكفَّر بالإيمان١ للذمي خصوصا، وقيل من صلة، وقيل بمعنى البدل، ﴿ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ : فلا يعاجلكم بالعذاب، ﴿ قَالُواْ إِنْ أنتم إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ : فمن أين لكم المتبوعية، ﴿ تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا ﴾ : تمنعونا، ﴿ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ : حجة ومعجزة ظاهرة دالة على فضلكم وصحة دعواكم كأنهم اقترحوا آية أظهر مما جاءوا به من المعجزات٢.
١ سيما إذا كان المال موجودا وقيل للتبعيض لأن الإسلام يجب ما قبله ويبقى ما يستأنف بعده من الذنوب / ١٢ وجيز..
٢ فإنهم قد جاءتهم رسلهم بالحجج والمعجزات الباهرات / ١٢..
﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ : في الجنس والصورة، ﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ : فاختصنا بالنبوة والمتبوعية من فضل الله، ﴿ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ أي : ليس هذا في وسعنا، بل شيء يتعلق بمشيئة الله تعالى وإذنه، ﴿ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ فنحن نتوكل عليه في الصبر على معاداتكم.
﴿ وَمَا لَنَا ﴾ : وأي عذر لنا في، ﴿ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ﴾ : طرق الرشاد، ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ ﴾ : جواب قسم محذوف، ﴿ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ ونحن متوكلون ومن توكل على أحد فليتوكل على الله لا على غيره أو فليثبت المتوكلون على توكلهم فإنه إذا قيل للمتوكل توكل فمعناه١ اثبت.
١ فلا تكرار بوجه بل الأمر الأول لاستحداث التوكل والثاني للثبات فيه وفي الحث على التوكل مبالغات / ١٢ وجيز..
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ حلفوا بأن لا محالة يكون أحد الأمرين، إما إخراجكم وإما عودتكم، والأنبياء ما كانوا على ملة الكفرة، فلذلك قالوا : العودة بمعنى الصيرورة، ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ﴾ إلى الرسل، ﴿ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾.
﴿ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ ﴾ أي : أرضهم، ﴿ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ ﴾ أي : وعدي هذا، ﴿ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ﴾، موقفه بين١ يدي الله في القيامة، ﴿ وخَافَ وَعِيدِ ﴾ : تخويفي وعذابي.
١ فإنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة وقيل: خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله /١٢ منه..
﴿ وَاسْتَفْتَحُواْ ﴾، استنصرت الرسل ربها على قومها وسألوا منه الفتح على أعدائهم أو استفتحت الأمم الفتح كما قالوا :" اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر " الآية أو الضمير للرسل والأمم أي : سألوا كلهم نصر المحق وهلاك المبطل، ﴿ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ : متكبر معاند للحق كأنه قال استفتحت الرسل فنصروا وأفلحوا وخاب أو استفتح الكفار فلم يفلح وخاب.
﴿ مِّن وَرَآئِهِ١ جَهَنَّمُ ﴾ أي : أمامه وبين يديه وقيل : من وراءه : حياته، ﴿ وَيُسْقَى ﴾ تقديره من وراءه جهنم يلقى فيها ويسقى، ﴿ مِن مَّاء صَدِيدٍ ﴾ : ما يسيل من جلود أهل النار من القيح والدم قيل ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر عطف بيان للماء.
١ على الوجه الثاني من وضع الظاهر موضع المضمر فإن الظاهر أن يقال حينئذ خابوا /١٢ منه..
﴿ يَتَجَرَّعُهُ ﴾ : يتكلف جرعه يعني يشربه قهرا، فإنه لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد، صفة الماء أو حال من ضمير يسقى، ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ : لا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون إلا ساغه وهي جواز الشراب على الحلق بسهولة، ﴿ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ ﴾ أي : أسبابه من الشدائد، ﴿ مِن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ : من جميع جوانبه وقيل : كل مكان من أعضائه، ﴿ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ : ليستريح، ﴿ وَمِن وَرَائِهِ ﴾ بين يديه، ﴿ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ أي : له عذاب آخر أدهى وأمر، فإن أنواع عذاب الله تعالى لا يحصيها إلا هو.
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾ مبتدأ، ﴿ أَعْمَالُهُمْ١ كَرَمَادٍ٢، خبره أو تقديره فيما يقص عليكم مثل الذين كفروا وقوله أعمالهم كرماد مستأنفة كأنه قيل : كيف أعمالهم ؟ فقال : أعمالهم كرماد، أو أعمالهم بدل وكرماد خبره، ﴿ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ العصف اشتداد الريح فهو في المبالغة كنهاره صائم يعني لا ينتفعون بأعمالهم ولا يجدونها كرماد ذرته الريح هل يجد أحد منه ذرة، ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ ﴾ : في القيامة، ﴿ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ٣ : لحبوطه، ﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى وجدان أعمالهم، ﴿ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾ فإنه الغاية في البعد عن الحق.
١ قوله: "أعمالهم" إلخ الصالحة كالصدقة وصلة الأرحام وفك الأسير وإقرار الضيف وبر الوالدين ونحو ذلك أو عبادتهم الأصنام في عدم الانتفاع بها أو الأعمال التي أشركوا فيها غير الله تعالى/١٢ فتح..
٢ كما تقول: صفة زيد عرضه مصون وماله محفوظ / ١٢..
٣ منها و لا يرون له أثرا في الآخرة يجاوزون به ويثابون عليه، بل جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها وهو فذلكة التمثيل، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف / ١٢ـ١٢ فتح البنان..
﴿ أَلَمْ تَرَ١ : يا محمد والمراد خطاب أمته، ﴿ أنّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ ﴾ لا بالباطل في خلقه حكم ومصالح، ﴿ إِن يَشَأْ ُذْهِبْكُمْ ﴾ يعدمكم، ﴿ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ : يخلق خلقا آخر مكانكم أطوع منكم فإن من قدر على خلق السماوات والأرض قدر على مثل ذلك.
١ ولما ذكر حال من ينكر الآخرة و مآله عقبه بدليل واضح على الإعادة فقال: "ألم تر" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ : بمتعسر ومن كان كذلك فحقيق بأن يعبد رجاء لثوابه وخوفا من عقابه.
﴿ وَبَرَزُواْ١ لِلّهِ جَمِيعًا ﴾ : خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا، ﴿ فَقَالَ الضُّعَفَاء ﴾ الأتباع، ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ ﴾ : رؤسائهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى، أو تكبروا على الناس، ﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ﴾ : في الدين جمع تابع، ﴿ فَهَلْ أنتم مُّغْنُونَ ﴾، دافعون، ﴿ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ ﴾ حال ومن للتبيين، ﴿ مِن شَيْءٍ ﴾، مفعول ومن للتبعيض، ﴿ قَالُواْ ﴾ أي : الرؤساء جوابا عن الضعفاء، ﴿ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ أي : لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم لكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، أو لو هدانا الله ووفقنا للإيمان لهديناكم، أي : إنما أضللناكم لأنا كنا على الضلال، ﴿ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ﴾ هما مستويان علينا، ﴿ مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ٢ مهرب نقل أن بعض أهل النار قالوا لبعضهم : تعالوا نبكي ونتضرع، فإنما أدركوا الجنة بالبكاء والتضرع، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا : تعالوا نصبر فإنما أدركوها بالصبر فصبروا صبرا لم ير مثله، فلما لم ينفعهم قالوا :" سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ".
١ ولما ثبت بالبرهان قدرته الكاملة عطف وعقب قوله: "وبرزوا" ليكون كالنتيجة للأولى /١٢ وجيز..
٢ ولما ذكر المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الأنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان و أتباعه من الإنس فقال تعالى: "وقال الشيطان" الآية / ١٢ وجيز..
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ١ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ ﴾ : لما فرغ منه ودخل أهل الجنة الجنة، والنار النار، ﴿ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ﴾ : وعدا من حقه الإنجاز أو أنجزه وهو الوعد بالبعث وأن الناجي من اتبع الرسل، ﴿ وَوَعَدتُّكُمْ ﴾ إنه غير كائن والناجي عابد الصنم، ﴿ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾، كما قال يعدهم ويمنيهم، و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا، ﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ﴾ : ليس لي عليكم دليل ولا حجة، أو ليس تسلط فألجئكم إلى الآثام، ﴿ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ ﴾ : لكن دعوتكم٢، ﴿ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ﴾ : حيث أجبتموني، وما أطعتم ربكم مع ظهور حجته، ﴿ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ ﴾ : بمغيثكم، ﴿ وَمَا أنتم بِمُصْرِخِيَّ ﴾ : بمغيثي، ﴿ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾، إني جحدت و تبرأت أن أكون شريكا لله تعالى، فما مصدرية، ومن متعلقة بأشر كتموني، أي : كفرت اليوم بإشراككم٣ إياي في الدنيا، وقيل : كفرت بسبب إشراككم إياي في الدنيا، ما٤ بمعنى من، ومن متعلقة بكفرت، أي : كفرت قبل إشراككم، أي : حين أبيت السجود بالذي أشركتمونيه٥ وهو الله تعالى، ﴿ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ابتداء كلام من الله، أو تتمة كلام إبليس٦.
١ قيل: هذا بعد تعيين كل قوم لمنازلهم من الجنة والنار ولكنه في الموقف فقد نقل من حديث عقبة بن عامر "أن الكافرين يقولون: وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فقيل شفيعكم إبليس، فقاموا إليه، فقام خطيبا وقال: ﴿إن الله وعدكم﴾ الآية" / ١٢ وجيز..
٢ إشارة إلى أن الاستثناء منقطع، قال الزمخشري أي إلا دعائي إياكم بوسوستي وليس الدعاء من جنس السلطان لكنه على طريقة قوله تحية بينهم ضرب وجيع، فعنده أن الاستثناء متصل /١٢ منه..
٣ منقول عن قتادة و الأول هو الوجه / ١٢..
٤ نحو سبحان ما سخر كن لنا / ١٢..
٥ يقال شركنيه فلان: جعلني له شريكا / ١٢..
٦ وهو الظاهر / ٢١ وجيز..
﴿ وَأُدْخِلَ١ والمدخل الملائكة، ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ أي : أدخل بأمر الله تعالى وإذنه، ﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ : ويحيي بعضهم بعضا، والملائكة تحييهم بالسلام.
١ ولما تم مقاولة الضعفاء مع الرؤساء، ومقاولة الشيطان، الذي هو رأسهم و رئيسهم، يذكر حال أهل النجاة كما هو عادة القرآن فقال: "وأدخل الذين آمنوا" الآية / ١٢..
﴿ أَلَمْ ١تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ ﴾ أي : قصد٢، ﴿ مَثَلاً ﴾ : ووضعه، ﴿ كلِمَةً طَيِّبَةً ﴾ هي كلمة التوحيد، ونصبها بتقدير جعل كلمة، ويكون تفسيرا لقوله ضرب الله، ﴿ كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ : هي النخلة٣ أو شجرة في الجنة، ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾ : في الأرض، ﴿ وَفَرْعُهَا ﴾ : غصونها ورأسها، ﴿ فِي السَّمَاء ﴾.
١ لما تقرر أن الوعد الحق ما قاله الله تعالى و أذن له، و الوعد الباطل ما قاله الشيطان ووعده، ضرب لهما مثلا تقريبيا للفهم فقال: "ألم تر كيف" الآية / ١٢ وجيز..
٢ يقال فلان ضرب البلد، أي: قصده /١٢ منه..
٣ هي النخلة بهذا فسره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رواه ابن أبي حاتم [وكذا أحمد وابن مردويه بسند جيد كما في الدر المنثور للسيوطي (٤/١٤٣)]، وفي البخاري ما يؤيده [أخرجه البخاري في "التفسير"، (٤٦٩٨)، وقي غير موضع من صحيحه، ومسلم في "صفات المنافقين"، (٢٨١١)]، وهو قول مسروق ومجاهد وعكرمة وغير واحد / ١٢ منه..
﴿ تُؤْتِي ﴾ : هذه الشجرة، ﴿ أُكُلَهَا ﴾ : ثمرها، ﴿ كُلَّ حِينٍ ﴾ عينه الله لإثمارها، أو صيف وشتاء، صباح ومساء، ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ : بإرادة خالقها وكلمة التوحيد كشجرة أصلها في أرض قلب المؤمن، وثمرها صالح أعمال المؤمن، وفرعها في السماء، يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، والشجرة لا تكون شجرة إلا بعرق وأصل وفرع، كذلك الإيمان لا يتم إلا بتصديق وإقرار وعمل، ﴿ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ فإن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني.
﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ : هي الشرك، ﴿ كَشَجَرَةٍ ﴾ أي : كمثل شجرة، ﴿ خَبِيثَةٍ ﴾ وهي الحنظلة١، ﴿ اجْتُثَّتْ ﴾ اقتلعت وأخذت جثتها بالكلية، ﴿ مِن فَوْقِ الأَرْضِ ﴾ لأن عروقها قريبة منه، ﴿ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ استقرارّ، فإن الكفر لا أصل له، و لا يصعد للكافر عمل.
١ رواه ابن حاتم وغيره عن أنس عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ /١٢ منه. [أخرجه ابن أبي حاتم بسند رجاله ثقات، وانظر تفسير ابن كثير (٢/٥٣٢)]..
﴿ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾ : بالحجة عندهم، ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ فلا يزلون عنه بحال، ﴿ وَفِي الآخِرَةِ١ : في القبر، عن ابن عباس، من دام على الشهادة في الدنيا، يلقنه الله تعالى إياها في قبره، ﴿ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ ﴾ : لا يلقنهم إياها في قبورهم، فيقولون في جواب الملكين لا ندري٢، ﴿ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء٣، ولا اعتراض.
١ وعن عثمان ابن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا فرغ عن دفن الميت، وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" أخرجه أبو داود / ١٢ فتح. [صحيح، أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما، وانظر صحيح الجامع]..
٢ كما صرح في الصحيح /١٢. [أخرجه البخاري في "الجنائز"، (١٣٧٤)]..
٣ ما يشاء فعله، لا راد لما أراد، لكن لا يفعل باختياره واقتداره، إلا ما فيه حكم ومصالح، ولما قال: "ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء"، ذكر من أحواله وأعماهم ما يدل على أنهم مستحقون للعقاب فقال: "ألم تر إلى الذين بدلوا" الآية / ١٢ وجيز..
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ ﴾ أي : نفس نعمته، ﴿ كُفْرًا ﴾ فإن كفار قريش أنعم الله تعالى عليهم بمحمد عليه الصلاة والسلام وغيره من النعم، فكفروا ذلك، فسلبت منهم فبقوا مسلوبي النعمة، حاصلا لهم الكفر بدل النعمة، وقحطوا وأسروا وقتلوا، أو بدلوا شكر نعمته كفرا بأن وضعوه مكانه، ﴿ وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ ﴾ : الذين اتبعوهم، ﴿ دَارَ الْبَوَارِ١ : الهلاك.
١ وعن علي بن أبي طالب وغيره، أنها نزلت في قتلى بدر وقليب بدر أو بوارهم، وعلى هذا جهنم منصوب بيصلون المقدر والمذكور هو المفسر / ١٢..
﴿ جَهَنَّمَ ﴾ عطف بيان، ﴿ يَصْلَوْنَهَا ﴾ : يدخلونها حال، ﴿ وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ أي : بئس المقر جهنم.
﴿ وَجَعَلُواْ ١لِلّهِ أَندَادًا ﴾ أمثالا، ﴿ لِّيُضِلُّواْ ﴾ الناس، ﴿ عَن سَبِيلِهِ ﴾ عن دينه، والإضلال نتيجته فجعل غرضا مثل لدوا للموت، ﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ ﴾ بلذاتكم، ﴿ فإن مَصِيرَكُمْ٢ إِلَى النَّارِ ﴾ والأمر للتهديد.
١ يعني زادوا إلى كفر نعمته، أن صيروا له أندادا، أمثالا في عبادته ليضلوا / ١٢ منه..
٢ ولما أمر بأن يقول للكافرين المشركين بقوله قل تمتعوا كأن النفس توجه إلى ما يقال للمؤمنين الموحدين، ﴿قل لعبادي﴾ / ١٢ وجيز.
.

﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ﴾ أي : ليقيموا١ ﴿ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَة ﴾ منصوبان بالظرفية، أي : وقتي سر وعلانية، أو المصدر، أي : اتفاقهما أو على الحال، أي : ذوي سر وعلانية، ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾ فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، ﴿ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ لا مودة، يعني مودة تكون بميل الطبيعة لكن مودة المتقين لما كانت٢ لله تنفعهم.
١ فاللام مقدر كما هو مذهب الزجاج والكسائي وجماعة من النحويين، وهذا كأنه أولى من تقدير من تقدير أقيموا الصلاة وأنفقوا ويقيموا وينفقوا جواب الأمر لقلة الحذف، ولأن قوله: "من قبل أن يأتي" يناسب الأمر لا الجواب، والأمر الغائب بعد قل واقع، نحو قل لهم إن ينتهوا يغفر لهم / ١٢ وجيز.
.

٢ فإن مودة التقوى نافعة، ولما ذكر أن لا شيء من البيع والخلال ينفع، كأن قائلا قال: فمن الحاكم؟ قال: "الله الذي" الآية / ١٢ وجيز..
﴿ اللّه ﴾ مبتدأ، ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ خبره، ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ أي : بعضها، ﴿ رِزْقًا ﴾ مفعول له أو حال أو مصدر، فإن أخرج بمعنى رزق، ﴿ لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾ بإرادته، ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ ﴾ لأجل انتفاعكم، ﴿ الأَنْهَارَ ﴾.
﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ سراجا ونورا وحسبانا وغير ذلك، ﴿ دَائِبَينَ ﴾ وهو مرور الشيء على عادة مطردة، يعني : يجريان لمصالح العباد دائما، ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ لتسكنوا فيه و لتبتغوا من فضله.
﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ ﴾ من تبعيضية، ﴿ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ بلسان القال والحال، ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ لا تطيقوا عدها فضلا عن القيام بشكرها، ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ ﴾ على النعمة بترك شكرها، ﴿ كَفَّارٌ١ لها وقيل : يشكر منعمه ويجحده.
١ وقيل: ظلوم يشكو في شدة ويجزع، كفار يجمع و يمنع ولما قال: "إن تعدوا نعمة الله" الآية، ذكرهم نعمة أنعمها عليهم وهم كفروا بها فقال: "وإذ قال" أي: وذكرهم بأيام الله إذ قال إبراهيم: "رب اجعل" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ﴾ مكة شرفها١ الله تعالى ﴿ آمِنًا ﴾ ذات أمن، يذكر الله كفار مكة أنه إنما وضعت على عبادة الله وحده، ﴿ وَاجْنُبْنِي ﴾ بعدني، ﴿ وَبَنِيَّ ﴾ المرد أبناؤه من صلبه، ﴿ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾.
١ والظاهر أن الدعاء حين صار المكان بلدا / ١٢ وجيز..
﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْن كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ﴾ أسند إلى السبب، ﴿ فَمَن تَبِعَنِي ﴾ على ديني، ﴿ فإنهُ مِنِّي ﴾ بعضي لفرط اختصاصه بي، ﴿ وَمَنْ عَصَانِي١ فإنكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ تقدر إن تغفر له، و لا يجب عليك شيء، قيل : معناه ومن عصاني فيما دون الشرك أو إنك غفور بعد الإنابة.
١ قوله و من عصاني فيه طباق معنوي لأن التبعية طاعة / ١٢..
﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي ﴾ بعضها أي : إسماعيل، ﴿ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ١ أي : مكة، ﴿ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ الذي في علمك أنه يحدث في ذلك الوادي٢، قال بعض المفسرين : هذا دعاء بعد بناء البيت بعد الدعاء الأول بزمان، ﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ أي : أسكنتهم كي يقيموا الصلاة عند بيتك، وتوسيط النداء للإشعار بأنها المقصودة بالذات والغرض من إسكانهم، ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ ﴾ أفئدة من أفئدتهم، ﴿ تَهْوِي ﴾ تسرع، ﴿ إليهم ﴾ شوقا، وعن السلف لو قال : أفئدة الناس لازدحم إليه فارس والروم كلهم، ولكن قال : من الناس فاختص به المسلمون، ﴿ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ نعمتك وقد استجاب الله دعاءه.
١ غير ذي زرع، روي أن هاجر لما ولدت إسماعيل، غارت منها سارة، فرو ي أنه ركب البراق هو والطفل وأمه، فجاء مكة بيوم واحد من الشام، فأقامهما ورجع من يومه بوحي من الله، فلما ولى دعا بهذا، وليس في الودي ماء وكأنه طلب من الله لهما الماء، بقوله: "غير ذي زرع عند بيتك المحرم" / ١٢ وجيز. [انظر القصة مطولة في صحيح البخاري (٣٣٦٤)]..
٢ قوله في ذلك إلخ، فإن موضع البيت نحو جبل يأتيه السيل ويأخذ عن يمينه وشماله، قال بعض هذا الدعاء بعد بناء البيت بعد الدعاء الأول بزمان، وهو الأرجح كما يجيء المرجح /١٢ وجيز..
﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ فلا حاجة إلى طلب لكنا ندعوك إظهارا للعبودية، أو ما نخفي من الجد بإسماعيل وأمه، حيث أسكنتهما بود غير ذي زرع، وما نعلن من الدعاء، ﴿ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ ﴾ صفة شيء، ﴿ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴾ هو من تتمة كلام إبراهيم، أو مبتدأ من الله.
﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ ﴾ أي : وأنا كبير وآيس من الولد، ﴿ إِسْمَاعِيلَ ﴾ وهو في تسع وتسعين، ﴿ وَإِسْحَاقَ ﴾ وهو في مائة واثنتي عشرة، وهذا دليل على أن الدعاء بعد١ بناء البيت، ﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء ﴾ لمجيبه.
١ فإن الدعاء الأول في طفولة إسماعيل، ولم يكن إسحاق، اللهم إلا أن يقال: إن الدعاء والحمد في زمن مختلفة، جمع الله جميعهم و حكى عنهم / ١٢ وجيز..
﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ ﴾ محافظا عليها معدلا لأركانها، ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ واجعل منهم من يقيمها، وهو يعلم من الله تعالى أن في ذريته بعضا من الكفار، ﴿ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء١ فيما سألتك كله، أو عبادتي.
١ هو عطف على جملة بتوسط ربنا للتضرع / ١٢..
﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ١ وهذا قبل أن يتبين أنه عدو لله تعالى، قيل : أراد وفقهما على الإيمان، ﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ٢ يثبت، ﴿ الْحِسَابُ ﴾.
١ كانت أمه مؤمنة كما قيل، ولم ييأس من إيمان والده / ١٢ وجيز..
٢ قيام الحساب مجاز عن ثبوته، نحو قامت الحرب على ساق، ولما ذكر قريشا نعمة من نعمة الله عليهم و هم كفروا بها ولم يشكروها، وتلك النعمة بناء جدهم ـ الذي افتخروا به ـ البيت للتوحيد ودعاءه من قوله: "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام"، وأتم حكايته، رجع إلى ما كان فيه بأحسن وجه حين فصل حكاية دعائه إلى قوله: "يوم الحساب"، "ولا تحسبن الله غافلا" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ ﴾ إذ أجل المشركين وأنظرهم، ﴿ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ والآية تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام وتهديد للمشركين، ﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ ﴾ يؤخر عذابهم، ﴿ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ﴾ لا تقر في أماكنها لهول ذلك اليوم.
﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ مسرعين، أي : إلى المحشر، كما قال تعالى :" مهطعين إلى الداع " ( القمر : ٨ ) ﴿ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ رافعيها لا ينظر أحد أحدا، ﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ فعيونهم شاخصة يديمون النظر و لا يطرفون لمحة، ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ ﴾ في ذلك اليوم، ﴿ هَوَاء ﴾ خالية١ عن الفهم خلاء، قال بعضهم : أمكنة أفئتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت عن أماكنها.
١ خالية عن الفهم يقال للبليد: قلبه هواء، أي: لا رأي له، أو معناه كالهواء، فإن الهواء أبدا في اضطراب لا سكون له، قيل: هذه الصفات الخمس لهم عند الحساب لذكرها عقيب قوله: "يوم يقوم الحساب" / ١٢ وجيز.
.

﴿ وَأَنذِرِ النَّاسَ ﴾ يا محمد، ﴿ يَوْمَ ﴾ مفعول ثان لأنذر، ﴿ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ﴾ يوم القيامة، ﴿ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أشركوا، ﴿ رَبَّنَا أَخِّرْنَا ﴾ أمهلنا، ﴿ إِلَى أَجَلٍ ﴾ حد من الزمان، ﴿ قَرِيبٍ١ سألوا الرد إلى الدنيا، ﴿ نُّجِبْ ﴾ جواب للأمر، ﴿ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُل ﴾ فيجابون بقوله :﴿ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ ﴾ حلفتم في الدنيا، ﴿ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ﴾ جواب القسم، أي : أقسمتم أنكم لا تنتقلون إلى الآخرة، و لا معاد لكم، فذوقوا وباله.
١ إلى أجل قريب، و لا يبعد أن قولهم ربنا أخرنا عند سكرات موتهم و معاينة أمور الآخرة ومن مات فقد قامت قيامته /١٢ وجيز..
﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بالكفر والعصيان، ﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ﴾ من أحوالهم فما اعتبرتم.
﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ ﴾ العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، ﴿ وعِندَ اللّهِ ﴾ مكتوب، ﴿ مَكْرُهُمْ ﴾ فهو مجازيهم، ﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ ﴾ في العظم، ﴿ لِتَزُولَ مِنْه الْجِبَالُ ﴾ مهيأ لإزالة الجبال، وعن بعضهم معناه : وما كان مكرهم لتزول إلخ والجبال مثل لأمر١ محمد صلى الله عليه وسلم فإن نافية و اللام مؤكدة لها، ومن قرأ بفتح لام لتزول فإن مخففة، واللام هي الفاصلة، وعن بعضهم معناه : وإن كان شركهم لتزول كقوله تعالى :" تكاد السماوات يتفطرن منه " الآية. وعن علي رضي الله عنه : إن الآية في نمرود٢ حيث اتخذ تابوتا ربط قوائمه الأربع بنسور ومكر حتى طرن إلى جانب السماء ثلاثة أيام، وغابت الدنيا عن نظره يريد محاربة إله السماء، فلما هبط إلى الأرض سمعت الجبال خفيق التابوت ففزعت ظنا من حدوث القيامة، فكادت تزول عن أماكنها.
١ قوله: مثل لأمر محمد إلخ يعني: ما كان مكرهم لتزول منه شرائع الله التي هي كالجبال الراسيات في التمكن و الثبات، وقرأ ابن مسعود و ما كان مكرهم / ١٢ وجيز..
٢ قوله: إن الآية في نمرود، قال الرازي: قال القاضي: وهذا بعيد جدا؛ لأن الخطر فيه عظيم و لا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خير صحيح معتمد و لا حجة في تأويل الآية البتة /١٢..
﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ من نصرتهم في الدارين، أضاف١ إلى المفعول الثاني إيذانا بأنه لا يخلف الوعد أصلا، ﴿ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ﴾ يغالب و لا يغالب، ﴿ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ لأوليائه.
١ يعني: أن مخلقا متعد إلى مفعولين، قال القراء وغيره: جازت إضافته إلى أيهما شاء، وهنا مضاف إلى الثاني ولو أضاف إلى الأول لأوهم أنه يجوز أن يخلف غير رسله وعده، ولما قدم وعده اندفع الوهم لدلالته على أن الاعتناء بشأن الوعد أتم وأن الإخلاف إنما لم يجز في الوعد، لكونه وعدا لا لكونه مع الرسل، قيل: مخلف هنا متعد إلى واحد، نحو لا يخلف الميعاد ونصب رسله بالوعد كأنه قال: مخلف ما وعد رسله / ١٢ وجيز..
﴿ يَوْمَ ﴾ بدل من يوم يأتيهم العذاب أو ظرف للانتقام، ﴿ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾ أي : والسماوات غير السماوات فتكون الأرض من فضة والسماء١ من ذهب أو الأرض خبزة بيضاء يأكلها المؤمن من تحت قدميه، أو تكون السماوات جنانا، أو المراد تغيير هيئتها تبسط و تمد مد الأديم٢ العكاظي٣ و تكور شمسها ونشر نجومها و تخسف قمرها، ﴿ وَبَرَزُواْ ﴾ من قبورهم، ﴿ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ لمجازاة الله الواحد الغلاب فلا مستجار لأحد إلى غيره.
١ كذا قال السلف / ١٢..
٢ قوله: تمد مد الأديم إلخ وهذا ابن عباس و لا يبعد أن الصواب قول حبر الأمة؛ لأن الغرض من الآية التهويل والتخويف، وأرض الفضة أرض الجنة لا أرض يوم القيامة والكلام في أرض القيامة ولهذا قال: "وبرزوا" إلخ..
٣ من أسواق العرب في الجاهلية بموضع يبعد عن مكة ثلاثة أيام وهو بين نخلة والطائف..
﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ ﴾ كل ككافر مع شيطان في غل أو بعض الكفار مع بعض أو قرنت أيديهم و أرجلهم إلى رقابهم، ﴿ فِي الأَصْفَادِ ﴾ في الأغلال متعلق بمقرنين أو حال من ضميره.
﴿ سَرَابِيلُهُم ﴾ قمصانهم، ﴿ مِّن قَطِرَانٍ ﴾ ما يطلى به الإبل الجربي، فيحرق الجرب بحره و حدته والجلد فيصير كيا ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وهو أسود منتن، وعن بعض السلف هو النحاس المذاب، وهذا التفسير لمن قرأ قطر وهو النحاس، وإن وهو المتناهي حره، ﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾ تعلوها.
﴿ لِيَجْزِي اللّهُ ﴾ أي : فعل بهم ذلك ليجزي الله، ﴿ كُل نَفْسٍ ﴾ من الكفار، ﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ أو معناه برزوا ليجزي الله كل نفس من المؤمن والكافر ما كسبت من خير وشر، ﴿ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ لأنه لا يخفى عليه شيء ولا يشغله شيء عن شيء.
﴿ هَذَا ﴾ أي : القرآن، ﴿ بَلاَغٌ ﴾ كفاية في الموعظة، ﴿ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ ﴾ تقديره بلاغ لينصحوا ولينذروا به١، أو تقدير به أنزل، ﴿ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ يستدلوا بالآيات على وحدانيته، ﴿ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ ذووا العقول الخالصة.
١ فيكون عطف على جملة / ١٢ منه..
Icon