بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاطروتسمى سورة الملائكة. وهي خمس أو ست وأربعون آية وهي مكية
قال القرطبي : في قول الجميع، وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس : أنزلت سورة فاطر بمكة، وهذه السورة ختام السورة المفتتحة بالحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة. وهي الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ. ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها. وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء. قاله الخطيب.
ﰡ
عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول ابتدأتها وعنه الفاطر البديع، والمعنى: الحمد لله مبدع السموات والأرض ومخترعهما، والمقصود من هذا إن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم فهو قادر على الإِعادة وإنما حمد سبحانه وتعالى نفسه بذلك تعظيماً له وتعليماً لعباده كيفية الثناء عليه تعالى، قرىء فاطر على صيغة اسم الفاعل، وفطر على صيغة الفعل الماضي.
(جاعل الملائكة رسلاً) إلى عبادة يجوز فيه الوجهان كما تقدم والرسل من الملائكة هم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (١) فالمراد
_________
(١) سبق الإشارة أنه لم يرو في الأحاديث تسمية عزرائيل.
(أولي) أي ذوي اسم جمع لذو (أجنحة) جمع جناح نعت لرسلاً وهو جيد لفظاً لتوافقهما تنكيراً، أو للملائكة وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة، فهي صفة كاشفة، والمسوغ للتخلف في التعريف جعل أل جنسية.
(مثنى وثلاث ورباع) صفات لأجنحة والقصد بها التكثير واختلافهم في عدد الأجنحة لا الحصر، وإلا فبعضهم له ستمائة وغير ذلك، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أُخر كما عدل عمر عن عامر وعن تكرير إلى غير تكرير، وقيل للعدل والوصف والتعويل عليه، وقد تقدم الكلام عليها في النساء. قال قتادة: بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة، ولعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة وبعضهم له أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء. أقول: الأصل جناحان لأنهما بمنزلة اليدين، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه (١).
(يزيد في الخلق ما يشاء) مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة والمعنى أنه يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء، وهو قول أكثر المفسرين، واختاره الفراء والزجاج قال ابن مسعود: رأى النبي - ﷺ - جبريل في صورته له ستمائة جناح، وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة، فقال الزهري وابن جريج: إنها حسن الصوت، وقال قتادة:
_________
(١) لا نملك إلا الوقوف عند وصف القرآن الكريم للملائكة دون تصور معين له، فكل تصور قد يخطىء، والاجتهاد في هذا نوع من الرجم بالغيب بدون دليل.
ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص، بل يتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجراءة في القلب، وسماحة في النفس، ولباقة في التكلم وحسن تأن في مزاولة الأمور، وذلاقة في اللسان، ومحبة في قلوب المؤمنين وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف، وبه قال الزمخشري (إن الله على كل شيء قدير) تعليل لما قبله من أنه يزيد في الخلق ما يشاء.
قال ابن عباس: ما يفتح الله للناس من باب توبة فلا ممسك لها، هم يتوبون إن شاءوا وإن أبوا، وما أمسك من باب توبة فلا مرسل له من بعده، وهم لا يتوبون، واستعير الفتح للإِطلاق والإِرسال إيذاناً بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون، وأعزها منالاً، وتنكير الرحمة للإشاعة والإِبهام كأنه قيل: أي رحمة كانت سماوية أو أرضية والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجتزي فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات، ومن في موضع الحال، وقيل: المعنى إن الرسل بعثوا رحمة للناس، فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وقيل: هو الدعاء وقيل التوبة وقيل التوفيق والهداية ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه.
(وما يمسك) من ذلك (فلا مرسل له من بعده) أي لا يقدر أحد
(هل من خالق غير الله) من زائدة مؤكدة أي لا خالق إلا الله سبحانه وهو استفهام تقرير وإنكار وتوبيخ (يرزقكم من السماء والأرض) خبر المبتدأ أو جملة مستأنفة أو صفة أخرى لخالق وخبره محذوف، والرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك.
(لا إله إلا هو) مستأنفة مسوقة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام (فأنى تؤفكون) أي فكيف تصرفون وهو مأخوذ من الإفك بالفتح وهو الصرف يقال: ما أفكك عن كذا أي ما صرفك عنه.
وقيل: هو مأخوذ من الإفك بالكسر وهو الكذب، لأنه مصروف عن الصدق، قال الزجاج: أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث وأنتم مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم؟ ثم عزى الله نبيه - ﷺ - فقال:
(وإلى الله) لا إلى غيره (ترجع الأمور) فيجازي كُلاَّ بما يستحقه قرىء: ترجع بفتح التاء على البناء للفاعل وبضمها على البناء للمفعول.
ويجوز أن يكون مصدراً واستبعده الزجاج لأن غررته متعد ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربته ضرباً، إلا في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها، ومعنى الآية: لا يغرنكم الشيطان بالله فيقول لكم إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم بفضله عليكم، أو لسعة رحمته لكم، وقرىء بضم الغين وهو الباطل، قال ابن السكيت: والغرور بالضم ما يغر من متاع الدنيا وقال الزجاج: يجوز أن يكون الغرور بالضم جمع غار مثل قاعد وقعود، قيل: ويجوز أن يكون مصدر غره كاللزوم والنهوك، وفيه ما تقدم عن الزجاج من الاستبعاد، ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان فقال:
(فاتخذوه عدواً) أي فعادوه بطاعة الله ولا تطيعوه في معاصي الله، وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم وأفعالكم وعقائدكم عن صميم قلوبكم وإذا فعلتم فعلاً فتفطنوا له فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء ويزين لكم القبائح قال القشيري: ولا يتعزى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب، فإنه لا يغفل عن عداوتكم فلا تغفلوا أنتم عن مولاكم لحظة. ذكره الخطيب، ثم بين الله سبحانه لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم وحذرهم عن طاعته فقال:
(إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) أي إنما يدعو أشياعه وأتباعه والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار
(لهم عذاب شديد) خبره أو الرفع على البدل من فاعل يكونوا أو النصب على البدل من حزبه أو الجر على البدل من أصحاب، والرفع على الابتداء أقوى الوجوه لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه ذكر حال الفريقين من المطيعين له والعاصين عليه، فالفريق الأول قال: لهم عذاب شديد، والفريق الثاني قال فيه:
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح ويعطيهم أجراً كبيراً وهو الجنة، قال ابن جريج: كل شيء في القرآن لهم مغفرة وأجر كبير ورزق كريم فهو الجنة.
وقال قتادة والحسن: الشيطان زين لهم هي والله الضلالات وقيل نفسه الأمارة وهواه القبيح، وهو من إضافة الصفة للموصوف أي عمله السىء قال
(فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) مقررة لما قبلها ومحققة للحق ببيان أن الكل بمشيئته أي يضل من يشاء أن يضله ويهدي من يشاء أن يهديه وهذه الآية ترد على القدرية قولهم.
(فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) أي لا تحزن عليهم. قرىء: بفتح الفوقية والهاء مسنداً إلى النفس فيكون من باب لا أرينك ههنا أي لا تتعاط أسباب ذلك، وقرىء بضم التاء وكسر الهاء ونصب نفسك أي فلا تهلكها عليهم أي على عدم إيمانهم.
وقوله حسرات مفعول لأجله والجمع للدلالة على تضاعف اغتمامه على كثرة قبائحهم الموجبة للتأسف والتحسر عليهم، ويجوز أن ينتصب حسرات على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر، كما روي عن سيبويه، وقال المبرد: إنها تمييز، وعليهم صلة لتذهب كما يقال: هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً والحسرة شدة الحزن وهم النفس على ما فات من الأمر وأشد التلهف على الشيء الفائت، تقول: حسر على الشيء من باب طرب وحسره أيضاًً فهو حسير.
(إن الله عليم بما يصنعون) لا تخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية؛ والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد، ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه وعظيم قدرته ليتفكروا في ذلك وليعتبروا به فقال:
(فتثير سحاباً (١)) جاء بالمضارع بعد الماضي استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة لأن ذلك أدخل في اعتبار المعتبرين. والمعنى: أنها تزعجه وتحركه من حيث هو.
(فسقناه) فيه التفات عن الغيبة، وقال أبو عبيدة: سبيله فتسوقه لأنه قال: فتثير سحاباً. قيل: النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع الدلالة على التحقق
_________
(١) هذه الآية قطعية في أن المطر من السحاب وأن الرياح هي التي تسوقه بأمره تعالى إلى إحياء الموات من الأرض والآية معجزة كونية لأن ما ثبت بها في عصر كان أهله يظنون المطر ينزل من سقف السماء من غرابيل إلى غير ذلك من خرافات وأساطير أدخلها وهب بن منبه وكعب الأحبار ومن إليهما فبيانها الواضح يرد خبث المغترين. المطيعي.
(فأحيينا به الأرض) أي أحيينا بالمطر النازل منه الأرض بإنبات النبات فيها، وإن لم يتقدم ذكر المطر فالسحاب يدل عليه، أو أحيينا بالسحاب لأنه سبب المطر (بعد موتها) أي بعد يبسها استعار الأحياء للنبات والموت لليبس.
(كذلك النشور) أي كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها والنشور والبعث من نشر الإنسان نشوراً أي مثل إحياء موات الأرض في صحة المقدور به وسهولة التأتي إحياء الأموات إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه، وذلك لا مدخل له فيها فكيف تنكرونه؟، وقد شاهدتم غير مرة ما هو مثله وشبيه به.
عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: " يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال أما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قلت: بلى، قال: كذلك يحيي الله الموتى، وكذلك النشور ". أخرجه أحمد والبيهقي والطيالسي وغيرهم.
وقيل: المراد به المشركون فإنهم كانوا يتعززون بعبادة الأصنام كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، وقيل: المراد الذين كانوا
(إليه) تعالى لا إلى غيره (يصعد الكلم الطيب) الصعود هو الحركة إلى فوق وهو العروج أيضاًً وموضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل، ومعنى صعوده إليه قبوله له، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخص الكلم الطيب بالذكر لبناء الثواب عليه، وهو يتناول كل كلام يتصف بكونه طيباً من ذكر الله وأمر بمعروف ونهي عن منكر وتلاوة وغير ذلك، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد أو بالتحميد والتمجيد، وقيل: المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا، وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم، وفيه دليل على علوّه تعالى فوق الخلق وكونه بائناً عنه بذاته الكريمة، كما تدل له الآيات الأخرى الصريحة والأحاديث المستفيضة الصحيحة، وقيل: المراد بصعوده علم الله به والأولى ما ذكرناه آنفاً.
(والعمل الصالح يرفعه) أي يرفع الكلم الطيب كما قال الحسن وشهر ابن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبو العالية والضحاك، ووجهه: أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح. وقيل: إن فاعل يرفعه هو الكلم الطيب، ومفعوله العمل الصالح، ووجهه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان، وقيل: إن فاعل يرفعه ضمير يعود إلى الله عز وجل، والمعنى أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب، لأن العمل
وعن ابن مسعود في الآية قال: " إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله سبحانه إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله قبض عليهن ملك فضمهن تحت جناحه، ثم يصعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفر لقائلهن حتى يحيي بهن وجه الرحمن، ثم قرأ: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، قال: أداء الفرائض فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله، وكان عمله أولى به ". أخرجه الطبراني والبيهقي والحاكم وصححه وغيرهم.
(والذين يمكرون السيئات) ليس مفعولاً به لأن مكر لازم فانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف أي يمكرون المكرات السيئات ويجوز أن يضمن يمكرون معنى يكسبون فيكون السيئات مفعولاً به. قال مجاهد وقتادة: هم أهل الربا.
وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي - ﷺ - لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي: هم الذين يعملون السيئات في الدنيا. وقال مقاتل: هم المشركون (لهم عذاب شديد) أي بالغ الغاية في الشدة.
(ثم من نطفة) أخرجها من ظهر أبيكم (ثم جعلكم أزواجاً) أي زوج بعضكم ببعض فالذكر زوج الأنثى أو جعلكم أصنافاً ذكراناً وإناثاً (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) أي لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به فلا يخرج شيء من علمه وتدبيره، ومن زائدة.
(وما يعمّر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) قرىء ينقص مبنياً للمفعول وللفاعل ومن عمره بضم الميم وبسكونها والمعنى ما يطول عمر أحد ولا ينقص من عمره إلا في اللوح المحفوظ، قال الفراء: يريد آخر غير الأول فكنى عنه بالضمير، كأنه الأول لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف آخر، قيل: إنما سمى معمراً باعتبار مصيره إليه والمعنى ما يمد في عمر أحد ولا ينقص من عمر أحد لكن لا على معنى: ولا ينقص من عمره بعد كونه زائداً، بل على معنى أنه لا يجعل من الابتداء ناقصاً إلا وهو في كتاب. قال سعيد بن
قال النسفي: هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس يقولون: لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق، أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره، فذلك نقصان عمره انتهى. وقال قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين، وقيل المعنى: أن الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع ودونه إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب، والضمير على هذا يرجع إلى معمر، وقيل المعنى: وما يعمر من معمر إلى الهرم ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب الله، أي بقضاء الله قاله الضحاك، واختاره النحاس قال وهو أشبهها بظاهر التنزل، والأولى أن يقال: ظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره لأسباب تقتضي التطويل، وأسباب تقتضي التقصير فمن أسباب التطويل ما ورد في صلة الرحم عن النبي - ﷺ - مثل قوله " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، أي يؤخر في عمره فليصل رحمه ". ونحو ذلك.
ومن أسباب التقصير: الاستكثار من معاصي الله سبحانه فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلاً سبعين سنة فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان والكل في كتاب مبين، فلا تخالف بين هذه الآية وبين قوله سبحانه: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون
قال ابن عباس في الآية يقول: ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت له ذلك فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت عليه أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له فذلك قوله: ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، يقول: كل ذلك في كتاب عنده.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو عوانة وابن حبان والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: " قال رسول الله - ﷺ - يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة، فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ".
وأخرج ابن أبيِ شيبة ومسلم والنسائي أبو الشيخ عن ابن مسعود قال قالت أم حبيبة: اللهم امتعني بزوجي النبي، وبأبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي - ﷺ - " إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، ولن يعجل الله شيئاًً قبل حله أو يؤخر شيئاًً ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل ". وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء، وأنه يعتلج هو والقضاء، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر فلا معارضة بين الأدلة كما قدمنا.
(إن ذلك) أي ما سبق من الخلق وما بعده (على الله يسير) لا يصعب عليه منه شيء، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل، ولا كبير ولا صغير، ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من بديع صنعه، وعجيب قدرته، فقال:
(ومن كل) منهما (تأكلون لحماً طرياً) وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل، وهذا وما بعد ذلك إما استطراداً في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع، وإما تكملة للتمثيل، والمعنى كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما متفاوتان فيما هو المقصود بالذات من الماء، لما خالط أحدهما ما أفسده، وغيره عن كمال فطرته، كذلك لا يساوي الكافر المؤمن، وإن شاركه في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصيلة وحيازته لكماله اللائق دون الآخر، أو تفضيل للأجاج على الكافر من حيث إنه يشارك العذب في منافع كثيرة، والكافر
(وتستخرجون حلية) وهي اللؤلؤ والمرجان، وهو صغار اللؤلؤ، وقال الطرطوشي: هو عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف وهكذا شاهدناه بمغارب الأرض كثيراً انتهى. والظاهر أن المعنى وتستخرجون منهما حلية، وقال المبرد: إنما تستخرج الحلية من المالح، وروي عن الزجاج أنه قال: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا لا من كل واحد منهما على انفراده ورجح النحاس قول المبرد، ومعنى.
(تلبسونها) تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في الأصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف والدرع ونحوهما.
(وترى الفلك فيه) أي في كل واحد من البحرين، وقال النحاس: الضمير يعود إلى المالح خاصة ولولا ذلك لقال: فيهما (مواخر) يقال: مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء بجريها فيه فالمعنى: وترى السفن في البحرين شواق للماء. بعضها مقبلة وبعضها مدبرة، بريح واحدة، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة النحل (لتبتغوا من فضله) أي فعل ذلك لتبتغوا، قال مجاهد ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في المدة القريبة كما تقدم في البقرة.
(ولعلكم تشكرون) الله على ما أنعم به عليكم من ذلك.
(كل) منهما (يجري) في فلكه (لأجل مسمى) قدره الله لجريانهما وهو يوم القيامة، وقيل: هو المدة التي يقطعان في مثلها الفلك وهو سنة للشمس وشهر للقمر، وقيل: المراد به جري الشمس في اليوم والقمر في الليلة، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان.
(ذلكم) أي الفاعل لهذه الأفعال المتقدمة من أول السورة إلى هنا وهو مبتدأ وخبره.
(الله ربكم له الملك) أي هذا الذي من صنعته ما تقدم هو الخالق المقدر والقادر والمقتدر المالك للعالم والمتصرف فيه، ويجوز أن يكون قوله: له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله:
(والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه، والقطمير: القشرة الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، وتصير على النواة كاللفافة لها، وقال المبرد: هو شق النواة، وقال قتادة هو القمع الذي على رأس النواة. قال الجوهري: ويقال هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة، وقال ابن عباس: القطمير القشر. وفي لفظ الجلد الذي يكون على ظهر النواة ومعلوم أن في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة: الفتيل وهو ما في شق النواة، والقطمير: وهو اللفافة، والثفروق: وهو ما بين القمع والنواة، والنقير: وهو ما في ظهرها. ثم بين سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنهم لا ينفعون ولا يضرون فقال:
(ولو سمعوا) فرضاً وتقديراً (ما استجابوا لكم) لعجزهم عن ذلك. قال قتادة: المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم، وقيل المعنى لو جعلنا لهم سماعاً وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتهم إليه من الكفر.
(ويوم القيامة يكفرون بشرككم) أي يتبرأون من عبادتكم لهم، ويقولون: ما كنتم إيانا تعبدون، ويجوز أن يرجع: والذين تدعون من دونه وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار، وهم الملائكة والجن والشياطين والمعنى: أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقاً وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم كما أخبر الله عن عيسى بقوله: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق)، قال القرطبي: ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضاًً أي: يحييها الله حتى تخبر بأنها ليست أهلاً للعبادة.
(ولا ينبئك مثل خبير) أي لا يخبرك أيها المفتون بأسباب الغرور مثل
(والله هو الغني) على الإطلاق (الحميد) المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه واستغناؤهم عنهم فقال:
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم عن أبي رمثة قال: " انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأيته قال لأبي: ابنك هذا؟ قال أي ورب الكعبة. قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية. قال ابن عباس: يلقى الأب والأم الابن فيقولان له: يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا فيقول: لا أستطيع حسبي ما علي.
(وإن تدع مثقلة إلى حملها) قال الفراء: أي نفس مثقلة بالذنوب
(لا يحمل منه) أي من حملها (شيء) قال ابن عباس: لكونه عليه وزر لا يجد أحداً يحمل عنه من وزره شيئاًً (ولو كان ذا قربى) أي، ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها لم يحمل من حملها شيئاًً، ومعنى الآية وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفساً أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئاًً، ولو كانت قريبة لها من النسب كالأب والأم والابن والأخ فكيف بغيرها ممن لا قرابة بينها وبين الداعية لها.
وقرىء: ذو قربى على أن كان تامة. كقوله: (وإن كان ذو عسرة)، قال الزمخشري: ونظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه ولو كان مدعوها ذا قربى، وهو ملتئم. ولو قلت: ولو وجد ذو قربى لخرج عن التئامه اهـ.
(إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، أي أنهم يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم، ويخشونه في الخلوات عن الناس. قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار كقوله: (إنما أنت منذر من يخشاها)، وقوله: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب).
(وأقاموا الصلاة) أي احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما
(وإلى الله المصير) لا إلى غيره، ذكر سبحانه أولاً: أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانياً: أن المذنب إن دعا غيره وإن كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثاً: أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شيء، ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافي وقد قرر ببيان التنامي أولاً بين ذاتيهما، وثانياً بين وصفيهما، وثالثاً بين مستقريهما، ودار بهما في الآخرة فقال:
وقال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء والأموات الجهال. قال قتادة هذه كلها أمثال أي: كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، وقد زيدت (لا) في المواضع الثلاثة خمس مرات اثنتين في الأولى واثنتين في الثانية وواحدة في الثالثة. والكل لتأكيد نفي الاستواء فالزيادة شاملة لأصل زيادتهما كالأولى من الجملة الأولى ولتكريرها كالثانية منها.
(إن الله يسمع من يشاء) أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفقهم لطاعته، وهذا شروع في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم. وتنتهي بقوله: فكيف كان نكير. والمراد من قوله: يسمع بها ويوصل من شاء وصوله وهدايته فيحييه بالإيمان.
(وما أنت بمسمع من في القبور) يعني الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي كما لا يسمع من مات كذلك لا يسمع من مات قلبه. قرىء: بتنوين مسمع وقطعه عن الإضافة وبإضافته.
(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) أي ما من أمة من الأمم الماضية إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، والأمة الجماعة الكثيرة، وتقال لكل أهل عصر، والمراد هنا أهل العصر، واقتصر على ذكر النذير دون البشير لأنه ألصق بالمقام.
فإن قلت: كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد - ﷺ - لم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلا أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث الله محمداً - ﷺ -، وآثار نذارته باقية إلى يوم القيامة لأنه لا نبي بعده، فهل من مدّكر، وهذا يقتضي أن أهل الفترة مكلفون لبقاء آثار الرسل المتقدمة فيهم، وهو خلاف ما في شرح ابن حجر على الهمزية أن أهل الفترة من أهل الجنة وإن غيروا وبدلوا وعبدوا غير الله، لأنه لم يرسل إليهم رسولاً لأن من قبلهم من الرسل انتهت رسالته بموته إذ لم يعلم لأحد من الرسل استمرار رسالته بعد الموت إلا نبينا - ﷺ -، فهم غير مكلفين بما يفعلونه ولو كان صورة معصية.
(وبالكتاب المنير) كالتوراة والإنجيل، قيل: الكتاب المنير داخل تحت الزبر، وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع وأحكام، وجواب الشرط محذوف، أي فاصبر كما صبروا، وأن المذكور دليل له.
(ثمرات مختلفاً ألوانها) المراد بالألوان الأجناس والأصناف من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر، أو هيئاتها أي بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر وبعضها أسود، قال ابن عباس: أي الأبيض والأحمر والأسود.
(ومن الجبال جدد) الجدد جمع جدة بالضم وهي الطريق. قال: الأخفش ولو كان جمع جديد لقال: جدد بضم الجيم والدال نحو: سرير وسرر، وقرأ الزهري: جدد بضم الجيم والدال: جمع جديدة يقال جديدة وجدد وجدائد، وقال أبو الفضل: معناها آثار جديدة واضحة الألوان، وقرىء بفتحهما.
وقد رد أبو حاتم هذه القراءة من حيث النقل والمعنى وقد صححها غيره وقال الجدد: الطريق الواضح البين، وقيل الجدد: القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: الجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجدة الطريق، والجمع جدد وجدائد. قال
(بيض وحمر) وصفر (مختلف ألوانها) بالشدة والضعف، والمعنى أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال وهي طرائقها أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض ولون بعضها الحمرة.
(وغرابيب سود) الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب قال الجوهري: تقول هذا أسود غربيب، أي شديد السواد، وإذا قلت: غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب، قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: وسود غرابيب لأنه يقال أسود غربيب، وقلما يقال: غربيب أسود، وقيل الغربيب تأكيد للأسود كالقاني للأحمر، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد وإنما قدم للمبالغة والمعنى من الجبال جدد بيض وحمر ومن الجبال غرابيب على لون واحد وهو السواد، أو من الجبال جدد بيض وحمر وسود وقيل التقدير: ومن الجبال ذو جدد لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها.
(مختلف ألوانه) بالحمرة والسواد والبياض والخضرة والصفرة قال الفراء أي: خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه.
(كذلك) أي مختلفاً مثل ذلك الاختلاف، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلاف الجبال والثمار، وقال ابن عطية: متعلق بما بعده أي مثل ذلك النظر والاعتبار في مخلوقات الله، واختلاف ألوانها (إنما يخشى
(إنما يخشى الله من عباده العلماء) وهو من تتمة قوله: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته، وهم العلماء به، وبعظيم قدرته قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل، ومثله عن الشعبي.
وقال مسروق: كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار جهلاً، وعن ابن مسعود نحوه فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له. قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية ولو أخر لانعكس الأمر، وقرىء: برفع الاسم الشريف ونصب العلماء ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة. قال في الكشاف: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى أنه يجلهم ويعظهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس.
قال ابن عباس: العلماء بالله الذين يخافونه، وعنه قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وعن ابن مسعود قال: ليس العلم من كثرة الحديث، لكن العلم من الخشية، وفي لفظ بكثرة الرواية وعن حذيفة بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله.
وعن عائشة قالت: صنع رسول الله - ﷺ - شيئاًً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي - ﷺ - فخطب فحمد الله، ثم قال: " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " أخرجه البخاري ومسلم.
(إن الله عزيز غفور) تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب لى معصيته غافر لمن تاب من عباده.
(وأقاموا الصلاة) أي فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها، وأذكارها، عن ابن عباس قال: نزلت في حصين بن الحرث بن عبد المطلب بن عبد مناف.
(وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية) فيه حث على الإنفاق كيفما تهيأ فإن تهيأ سراً فهو أفضل، وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بالسر الصدقة المطلقة. وبالعلانية الزكاة، وإليه أشار في التقرير قاله الكرخي. وقيل: السر في المسنونة والعلانية في المفروضة.
(يرجون تجارة) أي ثواب الطاعة (لن تبور) أي لن تكسد ولن تهلك والأخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم واللام في قوله:
(ويزيدهم من فضله) أنه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم، قيل بتفسيح القبور أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم، أو بتضعيف حسناتهم، أو بتحقيق وعد لقائه (إنه غفور شكور) تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة، أي غفور لذنوبهم شكور لطاعاتهم.
و (من) للبيان أو للتبعيض، والمراد بعبادنا أمة الإجابة سواء حفظوه أو لا فهو عطية لجميعهم حتى من لم يحفظه لأنه قدوته، وفيه هدايته وبركته، ومعنى اصطفائهم: اختيارهم واستخلاصهم. ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة قد شرفهم الله على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام، وخصهم بحمل أفضل الكتب، قال مقاتل: يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفيناهم من عبادنا، وقيل: إن المعنى أورثناه من الأمم السالفة أي أخرناه عنهم، وأعطيناه الذين اصطفينا، والأول أولى.
(فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) وفي قوله: (بإذن الله) تنبيه على عزة منال هذه الرتبة، وصعوبة مأخذها أي بأمره أو بعلمه، أو بتوفيقه (ذلك) أي توريث الكتاب والاصطفاء وقيل السبق إلى الخيرات، والأول أولى، وهو مبتدأ وخبره.
(هو الفضل الكبير) أي الفضل الذي لا يقادر قدره، وقد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه، فقيل: إن التقسيم هو راجع إلى العباد أي فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو الكافر ويكون ضمير يدخلونها عائداً إلى المقتصد والسابق، وقيل: المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به، وهو المرجى لأمر الله، وليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء.
وقيل الظالم لنفسه هو الذي عمل الصغائر، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة، وهذا هو الراجح لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة ووجه كونه ظالاً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظ عظيم وقيل الظالم هو صاحب الكبائر، قلت: ومنشأ الإشكال هو من جعل الوارثين هم العلماء من أمة محمد - ﷺ -، إذ لو جعلت الوراثة لجميع الأمة زال الإشكال للقطع بأن منهم ظالماً لنفسه، ولا ينافي الاصطفاء لكونهم فضلوا الأمم الآخرة، وقد ورد في ذلك شيء كثير كما لا يخفى ويؤيده ما سيأتي آخر البحث والله أعلم.
وقال الحسن الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته والسابق من رجحت حسناته على سيئاته، وقال مقاتل: الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة. وحكى النحاس: أن الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته فيكون قوله الآتي:
وقال الضحاك: فمنهم ظالم لنفسه أي من ذريتهم ظالم لنفسه وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم والمقتصد المتعلم، والظالم لنفسه الجاهل. وقال ذو النون المصري: الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال والمقتصد صاحب الأفعال والسابق صاحب الأحوال. وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة والسابق الذي يعبده لا لسبب. وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق: الذي يحب ربه، وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد: الذي ينصف وينتصف، والسابق: الذي ينصف ولا ينتصف وقيل: الظالم هو المرجىء لأمر الله، والمقتصد هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر
قال النسفي: وهنا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ) الآية، وقال بعده: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) الآية وقال بعده: وآخرون مرجون لأمر الله) انتهى.
وقال الربيع بن أنس: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما، وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال كلهم مؤمنون وأما صفة الكفار فبعد هذا. وهو قوله: (والذين كفروا لهم نار جهنم)، وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور، وقيل الظالم من كان ظاهره خيراً من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره. وقيل: الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به، والمقتصد: التالي له العالم به والسابق القارىء له العالم به لعامل بما فيه.
وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالاً كثيرة ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة، وهو يصدق الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير لها، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوقها من الثواب وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه عنه.
فهو من هذه الحيثية ممن اصطفاه الله ومن أهل الجنة فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم عليه السلام (ربنا ظلمنا أنفسنا) وقول يونس (إني كنت من الظالمين) ومعنى المقتصد: هو من يتوسط في أمر الدين، ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط، وهذا من أهل الجنة، وأما السابق: فهو الذي سبق غيره في أمور الدين وهو خير الثلاثة، وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه، والسابق أفضل منهما فقيل: إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشر على أهل الخير وتقديم المفضولين على الفاضلين.
وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله، وقيل: إنما قدمه ليعرفه أن ذنبه لا يبعده من ربه، وقيل: إن أول الأحوال معصية ثم توبة ثم استقامة. وقال جعفر الصادق: بدأ بالظالمين إخبار بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة، وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرناه مما لا حاجة إلى التطويل به.
وعن ابن عباس في الآية قال: هم أمة محمد - ﷺ -، ورثهم الله كل كتاب أنزل، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي - ﷺ - أنه قال في هذه الآية: " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم يدخلون الجنة "، وفي إسناده رجلان مجهولان.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وغيرهم عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: قال الله: (ثم أورثنا الكتاب) الآية فأما الذين سبقوا وأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن). الآية. قال البيهقي: إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً انتهى. وفي إسناد أحمد: محمد بن
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن عوف بن مالك عن رسول الله - ﷺ - " قال: أمتي ثلاثة أثلاث فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون: لا إله إلا الله وحده فيقول الله: أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب وهي التي قال الله: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وتصديقها في التي ذكر في الملائكة قال الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فجعلهم ثلاثة أفواج فمنهم ظالم لنفسه فهذا الذي يكشف ويمحص ومنهم مقتصد وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً ومنهم سابق بالخيرات فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله يدخلون الجنة جميعاً ". قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث: غريب جداً انتهى.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، ويجب المصير إليها ويدفع بها قول ن حمل الظالم لنفسه على الكافر.
ويؤيدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث، عن أسامة بن زيد: فمنهم ظالم لنفسه الآية قال: قال رسول الله - ﷺ -: " كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة ". وما أخرجه الطيالسي وعبد ابن حميد والطبراني وغيرهم عن عقبة بن صهبان قال: قلت لعائشة أرأيت قول الله: ثم أورثنا الكتاب الآية؟ قالت: أما السابق فمن مضى في حياة رسول الله - ﷺ - فشهد له بالجنة، أما المقتصد فمن تبع أثارهم، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، ومن اتبعنا، وكل في الجنة. وعن ابن مسعود قال: هذه ثلاثة أثلاث يوم القيامة. ثلث يدخلون الجنة جميعاً بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي. ثم قرأ: (ثم أورثنا الكتاب) الآية.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله. والظالم لنفسه أصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد - ﷺ -.
وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية ثم قال: ألا إن سابقنا أهل جهادنا. ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا. ألا وإن ظالمنا أهل بدونا.
وأخرج البيهقي في البعث عن البراء بن عازب قال: أشهد على الله أنه يدخلهم الجنة جميعاً، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه قال قرأ رسول الله - ﷺ - هذه الآية قال: [أكلهم ناج وهي هذه الأمة].
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال هي مثل التي في الواقعة أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة والسابقون، صنفان ناجيان، وصنف هالك، وعنه قال: هو الكافر، والمقتصد أصحاب اليمين، وهذا المروى عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني، ولا يوافق ما قدمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن جماعة من الصحابة، وعن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية فقال: نجوا كلهم، ثم قال تحاكت مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وقد قدمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين فتعارضت الأقوال عنه.
وقوله (جنات عدن) مبتدأ وخبره (يدخلونها) والضمير يعود إلى الأصناف الثلاثة فلا وجه لقصره على الصنف الأخير وقرىء: جنة بالإفراد وقرىء: جنات بالنصب على الاشتغال، وقرىء: يدخلونها على البناء للمفعول (يحلون فيها) هو من حليت المرأة فهي حال، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول، فلما قال: يحلون فيها أشار إلى أن دخولهم على وجه السرعة.
(من أساور من ذهب) من الأولى تبعيضية، والثانية بيانية أي يحلون بعض أساور كائنة من ذهب. والأساور جمع أسورة جمع سوار (ولؤلؤاً) منصوب بالعطف على محل من أساور، وقرىء بالجر عطفاً على ذهب أي مرصعاً بلؤلؤ أو يحلون أساوراً ولؤلؤاً وهو الأولى.
أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله: (جنات عدن يدخلونها) الآية فقال: " إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة لتضيء ما بين المشرق والمغرب ". (ولباسهم فيها حرير) لما فيه من اللذة والزينة، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم قوم في الدنيا يخافون الله ويجتهدون له في العبادة سراً وعلانية وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت فعندها قالوا: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).
(إن ربنا لغفور شكور) غفر لنا العظيم وشكر لنا القليل من أعمالنا أو يغفر الجنايات ويقبل الطاعات، وقيل: غفور لمن عصاه شكور لمن أطاعه
(لا يمسنا فيها نصب) أي لا يصيبنا في الجنة عناء ولا تعب ولا مشقة (ولا يمسنا فيها لغوب) أي إعياء من التعب، وكلال من النصب، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين ذكر جزاء عباده الظالمين فقال:
(ولا يخفف عنهم من عذابها) بل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب وكلما خبت النار زيد إسعارها وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه: (لا يموت فيها ولا يحيى).
(كذلك نجزي كل كفور) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو مبالغ في الكفر لا جزاء أخف وأدنى منه، وقرىء: يجزي على البناء للمفعول.
(أخرجنا نعمل) عملاً (صالحاً غير الذي كنا نعمل) من الشرك والمعاصي فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر، والطاعة بدل المعصية، قيل وزيادة قوله غير الذي كنا نعمل للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة فأجاب الله عليهم بقوله:
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره وما نكرة موصوفه أي أولم نعمركم عمراً يتمكن من التذكر فيه من تذكر، فقيل: هو ستون سنة وقيل: أربعون وقيل: ثماني عشرة سنة، قال بالأول: جماعة من الصحابة. ومنهم ابن عباس وبالثاني: الحسن ومسروق وغيرهما، وبالثالث: عطاء وقتادة.
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي. وفيه مقال.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال سول الله - ﷺ -: " أعذر الله إلى امرىء أَخّر عمره حتى بلغ ستين سنة "، وعن سهل بن سعيد مرفوعاً نحوه أخرجه عبد بن حميد والطبراني والحاكم، وعن علي بن أبي طالب قال: العمر الذي غيرهم الله به ستون سنة.
(وجاءكم النذير) قال الواحدي قال جمهور المفسرين: هو النبي - ﷺ -، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسن بن الفضل والفراء وابن جرير: هو الشيب ويكون معناه على هذا القول: أولم نعمركم حتى شبتم وقيل هو القرآن، وقيل الحمى قال الأزهري معناه أن الحمى رسول الموت أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه والشيب نذير أيضاًً، لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، وقيل: هو موت الأهل والأقارب، وقيل: هو كمال العقل، وقيل: البلوغ.
(فذوقوا فما للظالمين من نصير) الفاء لترتيب الأمر بالذوق على ما بلها من التعمير، ومجىء النذير، وفي " فما " للتعليل أي فذوقوا عذاب جهنم لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله، ويحول بينكم وبينه قال مقاتل: فذوقوا فما للمشركين من مانع يمنعهم.
(إنه عليم بذات الصدور) تعليل لما قبله لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كل شيء علم ما فوقها بالأولى، وقيل: هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى، (وذات) تأنيث (ذو) بمعنى صاحب أي بالأمور صاحبة الصدور، ومصاحبتها لها من حيث اختباؤها فيها.
(فمن كفر) منكم هذه النعمة (فعليه كفره) أي عليه ضرر كفره لا يتعداه إلى غيره (ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً) أي غضباً وبغضاً.
(ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً) أي نقصاً وهلاكاً، والمعنى أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلا المقت ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا خساراً والتكرير لزيادة التكرير، والتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين القبيحين بطريق الاستقلال والأصالة. ثم أمره سبحانه أن يوبخهم ويبكتهم فقال:
(أم لهم شرك في السموات) أي أم لهم شركة مع الله في خلقها أو لكها أو التصرف فيها؟ حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية.
(أم آتيناهم) الضمير فيه وفي قوله لهم: الأحسن أن يعود إلى الشركاء لتناسق الضمائر، وقيل: يعود على المشركين فيكوت التفاتاً من الخطاب إلى الغيبة أي: أم أنزلنا عليهم.
(كتاباً) بالشركة وأم في الموضعين منقطعة بمعنى: بل والهمزة فيكون قد أضرب عن الاستفهام الأول، وشرع في استفهام آخر، والاستفهام إنكاري.
(فهم على بينة منه) أي على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب قرىء: بينة بالتوحيد وبالجمع، قال مقاتل: يقول هل أعطينا كفار مكة كتاباً فهم على بيان بأن مع الله شريكاً، ثم أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره فقال:
(بل إذ يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً) أي ما يعد الظالمون عضهم بعضاً -كما يفعله الرؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم- إلا غروراً يغرونهم به، ويزينونه لهم، وهو الأباطيل التي تغر ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده، وقيل: إن الشياطين تعد المشركين بذلك: وقيل: المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضاً هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول على المنبر: " قال وقع في قلب موسى هل ينام الله عز وجل؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرّقه ثلاثاً وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما فجعل ينام وتكاد يداه تلقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال ضرب الله له مثلاً: إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم وروي من طرق عن ابن سلام وابن أبي بردة.
(ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) أي ما أمسكهما أحد من
(فلما جاءهم نذير) أي ما تمنوه وهو رسول الله - ﷺ - الذي هو أشرف نذير وأكرم رسول وكان من أنفسهم (ما زادهم) مجيئه (إلا نفوراً) منهم عنه وتباعداً عن إجابته.
(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) أي لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء. قال الكلبي: يحيق بمعنى يحيط، والحوق الإحاطة. يقال: حاق به كذا أي أحاط به، وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب ولكن قطرب فسره هنا بينزل.
(فهل ينظرون) أي ما ينتظرون (إلا سنة الأولين) أي سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك (فلن تجد لسنة الله تبديلاً) أي لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم، بأن يضع موضعه غيره بدلاً عنه، والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب.
(ولن تجد لسنة الله تحويلاً) بأن يحول أحد ما جرت به سنة الله من العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم ونفي وجدان التبديل والتحويل كناية عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما.
(وكانوا) أي والحال أنهم كانوا (أشد منهم قوة) وأطول أعماراً وأكثر أموالاً وأقوى أبداناً فما نفعهم طول المدى، وما أغنت عنهم شدة القوة.
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أي ما كان ليسبقه ويفوته شيء من الأشياء كائناً ما كان فيهما، وهذا تقرير لما يفهم مما قبله من استئصال الأمم السابقة.
(إنه كان عليماً قديراً) أي كثير العلم كثير القدرة لا يخفى عليه شيء ولا يصعب عليه أمر، وهذا تعليل لذلك التقرير.
أخرج الفريابي وغيره عن ابن مسعود قال: إنه كاد الجعل ليعذب في حجره بذنب ابن آدم، ثم قرأ هذه الآية قيل: وجه الملاءمة بين الشرط والجزاء أنه تعالى إذا كان يؤاخذ الناس بما كسبوا كان ينقطع عنهم النعم التي من جملتها المطر، فإذا انقطع عنهم المطر انقطع النبات فيموت جميع الحيوانات فهذا كناية أريد بها الملزوم وقوله: على ظهرها فيه استعارة مكنية قال قتادة: وقد فعل ذلك في زمن نوح، وقال يحيى بن سلام. يحبس الله المطر فيهلك كل شيء (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) وهو يوم القيامة.
(فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً) أي بمن يستحق منهم الثواب ومن يستحق منهم العقاب وفي هذا تسلية للمؤمنين ووعيد للكافرين والعامل في (إذا) هو: جاء لا (بصيراً).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة يس(هي ثلاث أو ثنتان وثمانون آية)
والأول أولى:
وهي مكيّة. قال القرطبي بالإجماع إلا أن فرقة قالت: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله - ﷺ - وسيأتي بيان ذلك (١).
وعن ابن عباس قال: نزلت بمكة وعن عائشة مثله.
وأخرج الدارمي والترمذي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -، " إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ". من قرأ يس كتب له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات " (٢) قال
_________
(١) قد ذكر أبو سليمان الدمشقي أنها مدنية وقال: ليس بالمشهور.
(٢) اتفق المحدثون على أن من علامات وضع الحديث أن يكون فيه أجر كبير جداً على عمل قليل، فكيف يصح أن من قرأ يس كان له أجر من قرأ القرآن عشر مرات. وهو حديث موضوع أخرجه الترمذي ٤/ ٤٦ والدارمي ٢/ ٤٥٦ وابن كثير في تفسير ٣/ ٥٦٣.
وفي الباب عن أبي بكر، ولا يصح لضعف إسناده، وأخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ -: " من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة " (١) قال ابن كثير إسناده جيد.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي عن معقل بن يسار أن رسول الله - ﷺ - قال: " يس قلب القرآن لا يقرؤها عبد يريد الله والدار والآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه، فاقرؤوها على موتاكم " (٢)، وقد ذكر له أحمد إسنادين أحدهما فيه مجهول والآخر ذكر فيه عن أبي عثمان، وقال ليس بالنهدي عن أبيه عن معقل.
وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي: بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من داوم على قراءة يس كل ليلة ثم مات مات شهيداً ".
_________
(١) ضعيف الجامع ٥٧٩٧ و٥٧٩٨ و٥٧٦٦ و٥٨٠٠ و٥٨٠١.
(٢) قال العلماء: معنى (على موتاكم) أي من حضره الموت، وذلك لكي يسمع ما فيها من آيات التوحيد والبعث والجزاء - عند مفارقته للدنيا.
أما من مات فعلاً فلا يقرأ عليه يس ولا غيرها.
وفي النية أن ننشر في آخر تفسير هذه السورة ملحق به أبحاث طويلة للمنار وغيره يظهر به الحق في هذه المسألة وموقف ابن تيمية وابن القيم منها فليراجع. وقد نقل عن أحمد قوله: " كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت عند الميت خفف الله عنه بها.
بسم الله الرحمن الرحيم
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)