تفسير سورة الذاريات

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة الذاريات
في السورة توكيد بالبعث والحساب، وحملة شديدة على المكذبين الجاحدين وتنويه بالمتقين وأعمالهم الصالحة ومصائرهم في الآخرة. وفصل قصصي مقتضب عن بعض الأنبياء والأمم بينه وبين موقف النبي ﷺ والكفار تماثل، وتطمين للنبي ﷺ وتثبيت له، وآياتها متساوقة متوازية مما يسوّغ القول بأنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦)
. (١) الذاريات: كناية عن الرياح الذي تذرو التراب أي تثيره وتحركه. وفي سورة الكهف آية فيها هذا المعنى صريح وهي: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [٤٥].
(٢) الحاملات وقرا: الوقر هو الحملة، والجملة كناية عن السحاب الذي يكون حاملا للماء.
(٣) الجاريات يسرا: السفن التي تجري في البحر بسهولة أو الرياح الجارية في مهابها أو الكواكب الجارية في منازلها حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول.
(٤) المقسمات أمرا: المنفذون لأوامر الله وهم الملائكة أو السحب التي تقسم الأمطار على الأرض حسب تعدد الأقوال التي يرويها المفسرون.
(٥) الدين: الجزاء. والكلمة كناية عن البعث الذي يكون فيه جزاء كل نفس بما كسبت.
ابتدأت السورة بالأقسام الربانية جريا على الأسلوب القرآني في عدد غير قليل من السور المكية وبخاصة القصيرة. وقد قصد بها توكيد كون ما يوعد به الناس من البعث والجزاء هو وعد صادق وأمر واقع حتما.
وروح الآيات وإن كانت تلهم أنها في صدد إنذار السامعين المخاطبين عامة فإن أسلوبها والآيات التالية لها تدل على أن المقصود بالإنذار هم الكفار.
ويلحظ شيء من التساوق بين هذا المطلع وبين خاتمة سورة الأحقاف من حيث توكيد البعث والجزاء مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد تلك.
والمتبادر أن الإقسام بالمقسومات التي هي مشاهد كون الله ونواميسه وعظيم خلقه قد انطوت على قصد التذكير بعظمة خالق الكون وقدرته على تحقيق ما أوعد الناس به.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١)
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
. (١) ذات الحبك: ذات الصنع الحسن المتقن أو ذات المسالك والطرائق أو ذات النجوم حسب تعدد الأقوال.
(٢) إنكم لفي قول مختلف: إنكم مختلفون في أقوالكم لستم على شيء
34
واحد أو بمعنى أنكم في أمر القرآن ونبوة النبي ﷺ وما يبشّر وينذر به مختلفو المذاهب.
(٣) يؤفك عنه من أفك: المتبادر أن (عنه) تعني القول الحق ويكون معنى الجملة يصرف عن الحق في الأقوال من يصرف وهم الخراصون.
(٤) الخراصون: المتوهمون والظانون على غير أساس وعلم.
(٥) غمرة: جهالة غامرة أو شاملة.
(٦) يفتنون: يعرضون أو يحرقون. وقد تكون الكلمة قد استعملت مقابل فتنتكم التي قد تحتوي التذكير بما كان من زعماء الكفار من إعراض وحمل الناس على الانصراف والارتداد عن الدعوة.
(٧) ذوقوا فتنتكم: ذوقوا طعم حريق النار أو ذوقوا جزاء فتنتكم في الدنيا.
وهذه الآيات تبتدئ بقسم رباني أيضا بالسماء ذات الحبك بأن السامعين للقرآن واقعون في اختلاف وارتباك في شأن القرآن والدعوة والنذر الربانية والبعث الأخروي وفهم أهداف ذلك. وتقرر أنهم بسبب ذلك انصرف عنه الراغب عن الحق والهدى. ثم التفتت إلى الذين هم ضاربون في الظنّ والتخمين متعامون عن الحقيقة وتدبرها التفاتا فيه تنديد وتقريع يتمثلان في لفظ قُتِلَ فهم ساهون في غمرة الجهالة عن فهم الحق وإدراك الحقيقة ثم يظلون يسألون سؤال الشك والإنكار عن موعد يوم الجزاء الذي يوعدون به. ثم انتقلت إلى توكيد الأمر:
فلسوف يأتي ذلك اليوم ولسوف يلقون فيه في النار ولسوف يقال لهم حينئذ ذوقوا عذاب الحريق أو ذوقوا جزاء ما كنتم من حالة العناد والصدّ والانصراف في الدنيا فهذا الذي كنتم تستعجلون وتتحدّون الإتيان به.
والصلة واضحة بين هذه الآيات والآيات السابقة وفيها كما قلنا بيان بأن المخاطبين في الآيات هم الكفار، وقد استهدفت فيما استهدفته الإنذار لهم وإثارة الخوف في قلوبهم وحملهم على الارعواء.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بأمر النبي ﷺ بعدم استعجال العذاب لهم
35
بسبب استعجالهم له على سبيل التحدي.
وقد احتوت الآية الأخيرة من هذه الآيات ردا تقريعيا على تحديهم بأن ما كانوا يستعجلونه قد جاء به حيث يمكن أن يكون هذا قرينة أخرى على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الأحقاف.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ١٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
. (١) محسنين: يفعلون الحسنات والأفعال الحسنة.
(٢) المحروم: هو المحارف الذي يطلب الدنيا ولكنه لا ينالها أو الذي لا يكون له سهم في الغنائم ولا يجري عليه شيء من الفيء، أو المحدود في رزقه الذي لا يسأل الناس مع ذلك على ما أورده المفسرون. وهذا الوصف يشبه بل يماثل وصف المسكين الذي ورد في الحديث النبوي الذي أوردناه في تعليقنا على المسكين في سياق الآية [٤٤] من سورة المدثر.
في الآيات تنويه بأعمال المتقين الصالحين في الدنيا ومصيرهم في الآخرة، فسينزلون في الجنات والعيون ويستمتعون بها بنعم الله جزاء ما كانوا يفعلونه من الأفعال الحسنة في الدنيا حيث كانوا من جهة يقضون أكثر لياليهم بعبادة الله وطلب مغفرته ورحمته، ويساعدون من جهة أخرى بأموالهم السائلين والمحرومين الذين يتعففون عن السؤال لأنهم يعرفون أن لهم فيها حقا واجبا.
وواضح أن الآيات جاءت لتقابل الآيات السابقة في صدد المفاضلة بين المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة.
تعليق على وصف المتقين وما فيه من تلقين ودلالة
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأخيرة من المعنى القوي في اعتبار مساعدة المحتاجين سواء أكانوا من السائلين أم المتعففين عن السؤال حقا واجبا على أصحاب الأموال وما في ذلك من تلقين جليل. ولقد تكرر هذا المعنى في سور عديدة منها ما مرّ تفسيره مثل سورة الإسراء التي ورد فيها: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [٢٦] ومنها سورة الروم التي ورد فيها نفس العبارة [الآية ٣٨] حيث يدل هذا على أن حكمة التنزيل قد استهدفت تقوية هذا المعنى في نفوس المسلمين حتى لا يرى الأغنياء فيما يساعدون به الطبقات المعوزة وما يؤخذ من أموالهم لذلك عملا تبرعيا وتطوعيا لهم فيه الخيار ولهم فيه حقّ المنّ والاعتداد. وحتى لا يرى المحتاجون في أنفسهم حرجا ولا غضاضة من أخذ ذلك لأنه حقّ لهم. ولقد جاء في آية سورة الحديد: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [٧] وجاء في سورة النور: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [٣٣] حيث احتوت الجملتان القرآنيتان اللتان لهما أمثال عديدة تقوية لهذا المعنى بأسلوب آخر فيه تلقين رائع أيضا وهو أن ما في أيدي الناس هو مال الله الذي استخلفهم فيه. كذلك يلفت النظر إلى وصف المتقين حيث ينطوي فيه على ما هو المتبادر وصف للرعيل الأول من المؤمنين في مكة حيث استغرقوا في عبادة الله وبخاصة في الليل، وفنوا في الله ورسوله وفهموا حكمة الله وتلقيناته فكانوا يبذلون أموالهم للمعوزين ويرون ذلك حقا واجبا عليهم، وفي هذا صورة رائعة لأثر الإيمان في قلوبهم من دون ريب.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
37
في الآيات:
١- لفت نظر السامعين إلى ما في الأرض من مشاهد وآيات تقوم براهين قاطعة على وجود الله وعظمته وصحة ما ينذر به نبيه وقدرته عليه كافية لإقناع من حسنت نيته ورغب في معرفة الحق واليقين.
٢- ولفت كذلك وبسبيل ذلك إلى ما في تكوين الإنسان الجسماني والعقلي وإلى السماء وما فيها من أسباب رزق الناس وحياتهم.
٣- وسؤال إنكاري وتعجبي في صدد ما في تكوين الإنسان عما إذا كان السامعون لا يدركون ذلك ولا تذهلهم روعته وعجائبه.
٤- وانتهت الآيات بقسم برب السماء والأرض اللتين احتوتا ما احتوتاه من الآيات والبراهين العظيمة على أن ما يسمعه المخاطبون من نذر وما يتلى عليهم من قرآن حقّ لا يصح الارتياب فيه، ومثله مثل حاسة النطق في الناس التي لا يصح الارتياب فيها.
والآيات وإن كانت مطلقة التوجيه فالمتبادر أنها موجهة إلى الكفار الذين يجادلون في صحة ما يتلى عليهم وما يوعدون به. وهي متصلة والحالة هذه بالآيات السابقة سياقا وموضوعا.
وفي مِثْلَ قراءتان بفتح الآخر وبرفعه. وفي الأولى جعلت وصفا لمحذوف مقدّر وهو (إنه لحق حقا مثل ما أنكم تنطقون).
وأسلوب الآيات قوي نافذ، وبعضهم يقف عند جملة وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ويتخذها دليلا على الإعجاز القرآني بما ظهر فنيا من تكوين الإنسان وعجائب خلقته المذهلة. ونحن لا نجاريهم، فإن كون ذلك مذهلا ليس شيئا جديدا على الناس فهو مما كان ملموسا مدركا يثير الدهشة والذهول عند نزول القرآن. والقرآن إذ يخاطب السامعين الأولين ويلفت نظرهم إلى ما في أنفسهم من
38
عجائب إنما يخاطبهم بما هو من مشاهداتهم ومدركاتهم. وهذا ما يفسر معنى الإنكار والتنديد في السؤال أَفَلا تُبْصِرُونَ. وهذا القول لا يمنع أن ما ظهر فنيا من أمور كانت غامضة مما يزيد من مدركات الإنسان الحديث ومما يجب أن يجعله موقنا بعظمة المبدع الحكيم فضلا عن وجوب وجوده.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٤٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
. (١) منكرون: مجهولون غرباء عن هذه الديار أو مثيرون للريب.
(٢) راغ: مال وانصرف بخفية.
(٣) في صرة: في صيحة أي ولولت وصاحت حينما سمعت بشرى بأنها ستحبل وتلد وهي عجوز عقيم.
(٤) مسومة: معلمة مهيأة.
(٥) آية: علامة أو أثر، وهنا في معنى ما بقي من مساكن قوم لوط من آثار التدمير التي يشاهدها الناس.
(٦) تولى بركنه: تولى وهو مرتكن على قوته أو أعرض وازورّ.
(٧) اليمّ: البحر، وأصله الماء.
(٨) وهو مليم: وهو مستحق اللوم.
(٩) الريح العقيم: التي لا تبقي على أحد.
(١٠) كالرميم: كالعظم البالي.
في هذا الفصل إشارة إلى حوادث ورسالات بعض الرسل ومصائر أممهم مما احتوت السور الأخرى مثلها بإسهاب تارة واقتضاب تارة أخرى حسب ما اقتضته حكمة التنزيل. وقد جاء عقب الآيات التي حملت على الكفار ونددت بهم وأوعدتهم بسبب جحودهم جريا على الأسلوب القرآني. واستهدفت كما هو المتبادر ما استهدفته الفصول القصصية من التذكير والزجر لحمل السامعين على الارعواء والاتعاظ. فالفصل والحالة هذه متصل بالسياق السابق. وعبارته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر ولسنا نرى زيادة بيان في موضوعه لأننا علقنا عليه في المناسبات العديدة السابقة بما فيه الكفاية.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
. (١) بأيد: بقوة وقدرة.
(٢) موسعون: ذوو سعة وشمول.
(٣) فرشناها: بمعنى بسطناها.
(٤) فنعم الماهدون: الماهدون الممهدون الذين يجعلون الشيء قابلا
للانتفاع. والجملة بمعنى أن الله يفعل ذلك على أحسن وجه.
(٥) زوجين: تأتي بمعنى صنفين وبمعنى نوعين وبمعنى ذكر وأنثى.
(٦) ففرّوا إلى الله: بمعنى سارعوا إلى الله بالتوبة هربا من غضبه.
في الآيات الثلاث الأولى: لفت لنظر السامعين إلى بعض مشاهد قدرة الله وأفضاله:
١- فهو الذي رفع السماء وبناها بقوته.
٢- وهو الذي بسط الأرض ومهدها على أحسن وجه.
٣- وهو الذي خلق من كل شيء زوجين ليتم التماثل والتناسب في ملكوت الله. فهو ذو القدرة الشاملة الواسعة، ولنعم الصنع صنعه والتمهيد تمهيده. وإن في كل هذا لتذكرة من شأنها أن تدعوا السامعين إلى التدبر في عظمة الله وآلائه والاعتراف بها.
ثم جاءت الآيتان الأخريان تعقبان على هذه الآيات وتهتفان بلسان النبي صلى الله عليه وسلم: أن سارعوا والحالة هذه إلى الله وفروا من غضبه والمصير الرهيب الذي يستحقه الجاحدون، وأن لا تدعوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين.
وقد جاءت الآيات الخمس عقب الفصل القصصي لتكون نتيجة له ومقررة بأن النبي ﷺ إنما بعث كما بعث الأنبياء وأن ما يدعو إليه هو ما دعوا إليه ومنذرة بمصير الجاحدين من الأمم السابقة.
والآيتان الأخريان وإن كانتا بأسلوب خطاب نبوي موجه للسامعين إلا أن انسجامهما في السياق ظاهر. والمفسرون يقدرون في مثل هذه الآيات محذوفا وهو (قل) ومثل هذا قد تكرر في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة بحيث يصح أن يقال إنه أسلوب من أساليب النظم القرآني.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
41
(١) أتواصوا به: هل وصّى بعضهم بعضا بهذا القول.
في الآيات:
١- إشارة إلى أن الكفار في قولهم للنبي ﷺ إنه ساحر أو مجنون إنما يفعلون كما كان يفعل الذين من قبلهم حيث كانوا يقولون لكل رسول أتى إليهم مثل ذلك.
٢- وتساؤل تعجبي عما إذا كان السابقون واللاحقون قد تواصوا ليقولوا قولا واحدا.
٣- واستدراك تعليلي لذلك بأن الذين جمعهم على وحدة القول إنما هو الاتحاد في خلق الطغيان وسوء النية فالطبيعة الواحدة يصدر عنها مظهر واحد.
٤- وأمر للنبي ﷺ بأن يعرض عنهم فلا يحمّل نفسه همّا، فإنه لا لوم عليه من جراء موقفهم الجحودي وعليه أن يستمر في التذكير الذي هو قصارى واجبه وهو نافع لمن أراد الحق والهداية ورغب في الإيمان حتما.
والآيات متصلة بسابقاتها كما هو المتبادر. وقد احتوت تنديدا لاذعا بالكفار وتطمينا وتثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم. والآية الأخيرة بخاصة احتوت تنويها بالمؤمنين وذوي النيات الحسنة والرغبة الصادقة، فهم الذين ينتفعون بالتذكير والإرشاد مما تكرر مثله في المناسبات السابقة.
وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى لدعاة الإصلاح والمرشدين، فعليهم أن يستمروا في الدعوة ولا ييأسوا من بطء استجابة الناس لدعوتهم وإن دعوتهم لمؤثرة نافعة حتما في ذوي النفوس الطيبة والقلوب الصافية والنوايا السليمة.
42
تعليق على آية فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ
وأمر النبي ﷺ بالتولي عن الكفار لا يعني الكفّ عن دعوتهم وإنذارهم، فهذه مهمته. والآية التالية استدركت ذلك وأمرته بالاستمرار في التذكير وإنما فيه على ما يتبادر لنا معنى التسلية والتهوين والأمر بعدم المبالاة بإعراضهم وعنادهم مما مرّ منه أمثلة كثيرة.
ولقد روى المفسرون «١» أن الآية لما نزلت حزن النبي ﷺ واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر. فأنزل الله الآية التالية فطابت نفوسهم وهذا يقتضي أن تكون الآيات قد نزلت منفصلة عن بعضها، في حين أن الآيتين منسجمتان مع ما قبلهما وبعدهما انسجاما تاما مما يدل على أنها نزلت وحدة. والرواية التي يرويها المفسرون لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وليس فيها ما يوجب حزنا وغمّا في الوقت نفسه على ما هو المتبادر منها.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)
. في الآيات تقرير بأن الله عز وجل إذ خلق الإنس والجن قد أوجب عليهم الاعتراف به وعبادته وحده. ولم يرد منهم رزقا ولا طعاما فإنه هو الرزاق القوي القادر المستغني عن كل شيء.
والآيات أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله في صورة تنديد لاذغ بالذين ينحرفون عنه ويجحدونه أو يشركون معه آلهة أخرى بينما هم يعترفون بأنه الذي خلقهم كما هو شأن مشركي العرب سامعي القرآن. فالله لم يخلقهم ليرزقوه وإنما
(١) انظر كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي وعبارة الثلاثة (قال المفسرون) والبغوي أقدمهم حيث توفي سنة ٥١٦ هـ.
ليعبدوه ويشكروه واتصالها بسابقاتها قائم بكونها أسلوبا من أساليب التذكير وحلقة من حلقات التعقيب على الآيات السابقة.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
. (١) ذنوبا: نصيبا. وأصله الدلو العظيمة واستعمالها هنا يلهم أن السقاة كانوا يتبادلون في ملء الدلاء حتى صار اسم الدلو يقوم مقام الدور والحصة.
(٢) أصحابهم: بمعنى أمثالهم من كفار الأمم السابقة.
جاءت الآيتان خاتمة لآيات السورة والسياق وإنذارا قويا للكفار. وعودا على ما بدأت به السورة: فكما أن كفار الأمم السابقة قد نالهم نصيبهم من عذاب الله وبلائه فلسوف ينال الذين كفروا وبغوا وانحرفوا وجاروا من العرب نصيبهم أيضا.
وهو آتيهم حتما فلا محل لاستعجال الله فيه ولسوف يكون يومهم الذي يوعدون به رهيبا شديدا.
والإنذار مطلق يصح أن يكون إنذارا بعذاب الدنيا أو الآخرة أو بالعذابين معا والمتبادر أنه استهدف فيما استهدفه تخويفهم وحملهم على الارعواء.
Icon