تفسير سورة الرحمن

الدر المصون
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿الرحمن﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: اللَّهُ الرحمنُ. الثاني: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مضمرٌ، أي: الرحمنُ ربُّنا. وهذان الوجهان عند مَنْ يرى أنَّ «الرحمن» آيةٌ مع هذا المضمرِ معه، فإنهم عَدُّوا «الرحمن» آيةً ولا يُتَصَوَّرُ ذلك إلاَّ بانضمامِ خبرٍ أو مُخْبَرٍ عنه إليه، إذ الآيةُ لا بُدَّ أَنْ تكونَ مفيدةً، وسيأتي ذلك في قولِه «مُدْهامَّتان». الثالث أنه ليس بآيةٍ، وأنه مع ما بعده كلامٌ واحدٌ، وهو مبتدأٌ خبرُه «عَلَّم القرآنَ».
قوله: ﴿عَلَّمَ القرآن﴾ : فيه وجهان، أظهرُهما: أنها عَلَّم المتعديةُ إلى اثنين أي: عَرَّف، من التعليم، فعلى هذا المفعولُ الأولُ محذوف فقيل: تقديره: عَلَّم جبريلَ القرآنَ. وقيل: علَّم محمداً. وقيل: عَلَّم الإِنسانَ. وهذا أَوْلَى لعُمومِه، ولأنَّ قولَه «خَلَق الإِنسانَ» دالٌّ عليه. والثاني: أنها من العلامةِ. فالمعنى: جَعَله علامةً وآيةً يُعْتنى بها.
وهذه الجملُ التي جيْءَ بها من غيرِ عاطفٍ لأنها سِيْقَتْ لتعديدِ نعمةٍ كقولك: فلانٌ أَحْسَنَ إلى فلانٍ: أكرمه، أشاد ذِكْرَه، رَفَعَ مِنْ قَدْرِه،
153
فلشِدَّةِ الوصلِ تَرَكَ العاطفَ. والظاهر أنها أخبارٌ. وقال أبو البقاء: و «خَلَق الإِنسان» مستأنفٌ وكذلك «عَلَّمه» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الإِنسان مقدرةً و «قد» معها مرادةٌ «. انتهى. وهذا ليس بظاهرٍ بل الظاهرُ ما قدَّمتهُ ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. فإن قيل: لِمَ قَدَّم تعليمَ القرآنِ للإِنسان على خَلْقِه وهو متأخرٌ عنه في الوجودِ؟ قيل: لأنَّ التعليمَ هو السببُ في إيجادِه وخَلْقِه.
154
قوله: ﴿بِحُسْبَانٍ﴾ : فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن «الشمس» مبتدأ و «بحُسْبان» خبرُها على حَذْفِ مضافٍ تقديره: جَرْيُ الشمس والقمر بحُسْبانٍ، أي: كائن أو مستقر أو استقرَّ بحُسْبان. الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديره: يَجْريان بحسبان، وعلى هذين القولَيْن فيجوز في الحُسْبان وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مفردٌ بمعنى الحُسْبان، فيكونُ كالشُّكران والكُفْران. والثاني: أنه جمعُ حِساب كشِهاب وشُهْبان. / والثالث: أنَّ الحُسْبَانَ خبرُه، والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في، أي: كائنان في حُسْبان، وحُسْبان، وحُسْبان على هذا اسمٌ مفرد، اسمٌ للفَلَكِ المستدير، شَبَّهه بحُسْبان الرَّحى الذي باستدارته تستدير الرحى، قاله مجاهد.
قوله: ﴿والسمآء رَفَعَهَا﴾ : العامَّةُ على النصب على الاشتغال مراعاً لعَجُزِ الجملةِ التي يُسَمِّيها النحاةُ ذاتَ وجهين. وفيها
154
دليلٌ لسيبويه حيث يُجَوِّزُ النصبَ، وإنْ لم يكنْ في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ عائدٌ على المبتدأ الذي تضمَّنَتْه الجملةُ ذاتُ الوجهين. والأخفشُ يقول: لا بُدَّ من ضميرٍ، مثالُه: «هند قامَتْ وعمراً أكرمْتُه لأجلها» قال: «لأنك راعَيْتَ الخبرَ، وعَطَفْتَ عليه، والمعطوفُ على الخبرِ خبرٌ فيُشْترط فيه ما يُشْترط فيه، ولم يَشْتَرِطِ الجمهورُ ذلك وهذا دليلُهم، قال الفراء:» كلهم نَصَبُوا مع عدم الرابط إلاَّ مَنْ شذَّ منهم. وقد تقدَّمَ هذا محرراً في سورة يس عند قولِه تعالى: ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ﴾ [يس: ٣٩] فهناك اختلف السبعةُ في نَصْبِه ورفعِه ولله الحمدُ.
قوله: ﴿وَوَضَعَ الميزان﴾ العامَّةُ على «وَضَع» فعلاً ماضياً. و «الميزانَ» نُصِبَ على المفعولِ به. وقرأ إبراهيم. «ووَضْعَ الميزانِ» بسكون الضاد وخفض «الميزانِ». وتخريجُها: على أنه معطوفٌ على مفعولِ «رَفَعَها»، أي: وَرَفَعَ وَضْعَ الميزان، أي: جَعَلَ له مكانةً ورِفْعَةً لأَخْذِ الحقوق به، وهو مِنْ بديعِ اللفظِ، حيث يصير التقديرُ: ورَفَعَ وَضْعَ الميزان.
وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف أَخَلَّ بالعاطف في الجمل الأُوَل وجِيْءَ به بعدُ؟ قلت: بَكَّتَ بالجملِ الأُوَلِ واردةً على سَنَنِ التعديد الذين أنكروا الرحمنَ وآلاءَه كما يُبَكَّتُ مُنْكِرُ أيادي المُنْعَمِ [عليه] من
155
الناسِ بتعدُّدها عليه في المثالِ الذي قَدَّمْتُه، ثم رَدَّ الكلامَ إلى منهاجِه بعد التبكيت في وَصْلِ ما يجب وَصْلُه للتناسُبِ والتقارُب بالعاطفِ. فإنْ قلت: أيُّ تناسُبٍ بين هاتَيْنِ الجملتَيْن حتى وَسَّط بينهما العاطفَ؟ قلت: إن الشمسَ والقمرَ سماويان، والنجمَ والشجرَ أَرْضيان فبينهما تناسُبٌ من حيث التقابلُ، وأن السماءَ والأرضَ لا تزالان قرينتَيْن، وأنَّ جَرْيَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبان مِنْ جنسِ الانقيادِ لأمرِ اللهِ، فهو مناسِبٌ لسُجودِ النجمِ والشجرِ».
156
قوله: ﴿أَلاَّ تَطْغَوْاْ﴾ : في «أنْ» هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها الناصبةُ، و «لا» بعدها نافيةٌ، و «تَطْغَوْا» منصوبٌ ب «أنْ»، وأنَّ قبلَها لامَ العلةِ مقدرةً، تتعلَّقُ بقولِه: «ووَضَع الميزانَ» التقدير: لئلا تَطْغَوا، وهذا بَيِّنٌ. وأجاز الزمخشريُّ وابنُ عطية أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ، وعلى هذا تكونُ «لا» ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها. إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّه: بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ جملةٍ متضمنةٍ لمعنى القول، وليسَتْ موجودةً. قلت: وإلى كونِها مفسِّرةً ذهبَ مكي وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ كأنَّه تَنَبَّه للاعتراضِ فقال: «وأَنْ بمعنى أَيْ، والقولُ مقدَّرٌ»، فجعل الشيءَ المفسَّرَ ب «أَنْ» مقدَّراً لا ملفوظاً بها، إلاَّ أنه قد يُقال: قولُه/ «والقولُ مقدَّرٌ» ليس
156
بجيدٍ، لأنها لا تُفَسِّرُ القولَ الصريحَ، فكيف يُقَدِّر ما لا يَصِحُّ تفسيرُه؟ فإِصْلاحُه أَنْ يقولَ: وما هو بمعنى القول مقدرٌ.
157
قوله: ﴿وَلاَ تُخْسِرُواْ﴾ : العامَّةُ على ضَمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مِنْ أَخْسَرَ، أي: نَقَصَ كقولِه: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاءِ وكسرِ السين فيكون فَعَلَ وأَفْعَلَ بمعنىً. يقال: خَسِر الميزانَ وأخسَره، بمعنىً واحدٍ نحو: جَبَر وأَجْبَر. ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال فتحَ التاءِ والسينِ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه على حَذْفِ حرفِ الجر تقديره: ولا تَخْسَروا في الميزان. ذكره الزمخشري وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: «لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ» خَسِرَ «جاء متعدياً. قال تعالى: َ ﴿خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٢]. و ﴿خَسِرَ الدنيا والآخرة﴾ [الحج: ١١]. قلت: وهذا ليس مِنْ ذاك. ألا ترى أنّ ﴿خَسِروا أنفسَهم﴾ ﴿وخَسِر الدنيا والآخرةَ﴾ معناه: أنَّ الخُسْران واقعٌ بهما، وأنَّهما معدومان. وهذا المعنى ليس مُراداً في الآيةِ قطعاً، وإنما المرادُ: لا تُخْسِروا الموزونَ في الميزان. وقُرِىء» تَخْسُروا «
157
بفتح التاء وضمِّ السينِ. قال الزمخشري:» وقُرِىء ولا تَخْسروا بفتح التاء وضم السين وكسرِها وفتحِها. يقال: خَسِر الميزانَ يَخْسِره ويَخْسُره. وأمَّا الفتحُ: فعلى أنَّ الأصلَ «في الميزان» فحذف الجارَّ ووصلَ الفعلَ إليه «وكَرَّر لفظ الميزان، ولم يُضْمِرْه في الجملتَيْن بعده تقويةً لشَأْنِه وهذا كقولِه:
158
قوله: ﴿والأرض وَضَعَهَا﴾ : كقولِه: ﴿والسمآء رَفَعَهَا﴾ [الرحمن: ٧]. وقرأ أبو السَّمَّال بالرفع مبتدأً. و «للأَنام» علةٌ للوَضْع. والأَنام. قيل: الحيوان. وقيل: بنوا آدمَ خاصةً. وقيل: هم الإِنسُ والجنُّ، ووزنُه فَعال كقَذال، فيُجْمع في القلة على آنِمَة بزنة: امرأةٌ آثِمة وفي الكثرة: على أُنُم، كقَذال وأَقْذِلَة وقُذُل.
قوله: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾ : يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ حالاً من الأرض، إلاَّ أنَّها حالٌ مقدَّرَةٌ. ويجوزُ وهو الأحْسَنُ أَنْ يكونَ الجارُّ والمجرورُ هو الحالَ، و «فاكهةٌ» رَفْعٌ بالفاعليَّةِ، ونُكِّرَتْ؛ لأنَّ الانتفاعَ بها دونَ الانتفاعِ بما ذُكِرَ بعدها، وهو من باب الترقِّي مِنْ الأَدْنى إلى الأعلَى، والأَكْمام: جمعُ كِمّ بالكسر وهو وعاءُ الثمرة.
قوله: ﴿والحب ذُو العصف والريحان﴾ : قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: النصبُ على الاختصاص، أي: وأخُصُّ الحبَّ، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ. الثاني: أنَّه معطوفٌ على الأرض. قال مكي: «لأنَّ قولَه» والأرضَ وَضَعَها «، أي: خلقها، فعطف» الحَبَّ «على ذلك». الثالث: أنَّه منصوبٌ ب «خَلَق» مضمراً، أي: وخلق الحَبَّ. قال مكي: «أو وخَلَقَ الحَبَّ» وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده، فإنَّ مصاحفَ الشامِ «ذا» بالألف. وجَوَّزوا في «الرَّيْحان» أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وذا الريحان فحُذِفَ/ المضافُ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ «الرَّيْحان» عطفاً على «العَصْفِ»، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ. والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة، أي: وفيها أيضاً هذه الأشياءُ. ذكر أولاًّ ما يتلذَّذُون به من الفواكه، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط، وهو أعظمُها، لأنه قُوْتُ غالبِ
159
الناسِ. ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه، أي: وفيها الرَّيْحانُ أيضاً، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ، أي: وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم.
والعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ. وقيل: التِّبْنُ. وأصلُه كما قال الراغب: مِن «العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ، أي: يُقْطَعُ من الزَرْع» وقيل: هو حُطامُ النباتِ. والريحُ العاصف: التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك. والرَّيْحان في الأصل: مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم: «سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه»، أي: استِرْزاقُه وقيل: الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ.
وفي الرَّيْحان قولان، أحدُهما: أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ. والأصلُ: رَوْحان. قال أبو علي: «فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في» أَشاوى «. والثاني: أن يكون أصلُه رَيْوِحان، على وزن فَيْعِلان، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا: كَيْنُوْنة وبَيْنُونة. والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت. قال مكي:» ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ «. ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال:» وقال بعضُ الناسِ «فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره.
160
قوله: ﴿فَبِأَيِّ﴾ : متعلقٌ ب «تُكذِّبان» والعامَّةُ على إضافة «أيّ» إلى الآلاء. وقُرِىء في جميع السورة بتنوينِ «أيّ» وتخريجُها: على أنه قَطَع أيَّاً عن الإِضافةِ إلى شيء مقدر، ثم أَبْدَل منه «آلاء ربِّكما» بدلَ معرفةٍ مِنْ نكرةٍ. وتقدَّم الكلامُ في «الآلاء» وما مفردُها في الأعراف ولله الحمد. والخطابُ في «رَبِّكما» قيل: للثَّقَلَيْن من الإِنس والجنِّ، لأنَّ الأنامَ يتضمَّنُهما على القول المشهور. وقيل: للذكر والأنثى. وقيل: هو مثنَّى مُرادٌ به الواحدُ، كقولِه تعالى: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] وقولِ الخبيث الثقفي: «يا حَرَسيُّ اضْربا عُنُقَه» وقد تقدَّم ما فيه. و «كالفَخَّار» نعتٌ لصَلْصال وتقدَّم تفسيرُه.
و " كالفَخَّار " نعتٌ لصَلْصال وتقدَّم تفسيرُه.
والجانُّ قيل: هو اسم جنس كالإِنسان. وقيل: هو أبو الجنِّ إبليسُ. وقيل: هو أبوهم وليس بإبليسَ.
قوله: ﴿مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ «مِنْ» الأولى لابتداء الغاية. وفي الثانيةِ وجهان، أحدهما: أنها للبيانِ. والثاني: أنها للتبعيض. والمارِجُ قيل: ما اختْلَطَ مِنْ أحمرَ وأَصفَر وأخضرَ، وهذا مُشاهَدٌ في النار، تُرى الألوانُ الثلاثةُ مختلِطاً بعضُها ببعض. وقيل: الخالِصُ. وقيل: الأحمرُ. وقيل: الحُمْرَةُ في طرفِ النار. وقيل: المختلطُ بسواد. وقيل: الخالصُ. وقيل: اللهبُ المضطربُ. و «مِنْ نار» نعتٌ ل «مارج». وقوله: فبأيِّ «إلى آخره.
161
توكيدٌ وتكريرٌ، كما تقدَّم في قوله: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن﴾ [القمر: ٢١] وكقولِه فيما سيأتي: ﴿َوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: ١٥]. وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ قتيبة إلى أنَّ التكريرَ لاختلافِ النِّعَم، فلذلك كَرَّر التوقيفَ مع واحدةٍ واحدةٍ.
162
وقوله : فبأيِّ " إلى آخره. توكيدٌ وتكريرٌ، كما تقدَّم في قوله :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ﴾ [ القمر : ٢١ ] وكقولِه فيما سيأتي :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ المرسلات : ١٥ ]. وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ قتيبة إلى أنَّ التكريرَ لاختلافِ النِّعَم، فلذلك كَرَّر التوقيفَ مع واحدةٍ واحدةٍ.
قوله: ﴿رَبُّ المشرقين﴾ : العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ، خبرُه «مَرَج البحرَيْن» وما بينهما/ اعتراضٌ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هوَ رَبُّ أي: ذلك الذي فَعَلَ هذه الأشياء. والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في «خَلَق». وابن أبي عبلة «ربِّ» بالجر بدلاً أو بياناً ل «ربِّكما». قال مكي: «ويجوزُ في الكلام الخفضُ على البدلِ مِنْ» ربِّكما «كأنَّه لم يَطَّلعْ على أنها قراءةٌ منقولةٌ والمَشْرقان، قيل: مَشرِقُ الشتاءِ والصيفِ ومَغْرباهما. وقيل: مَشْرقا الشمس والقمر ومَغْربهما. وقيل: مَشرقا الشمس فقط ومَغْرباها. قال الشيخ:» وعن عباس: للشمس مَشْرِقٌ في الصيفِ مُصْعِدٌ، ومَشْرِقٌ في الشتاءِ مُنْحَدرٌ، تنتقل فيهما مُصْعِدةً ومُنحَدرة «. وقال الشيخ:» فالمشرقان والمغربان للشمس «قلت: وهذا هو القولُ الذي يقول: مَشْرِقُ الصيفِ ومَشْرِقُ الشتاء فإنه إنَّما يعني بهما شُروق الشمسِ والقمرِ فيهما، أو شروق الشمسِ وحدَها فيهما، فهو داخلٌ في أحدِ القولَيْن المذكورَيْن ضرورةً.
قوله: ﴿يَلْتَقِيَانِ﴾ : حالٌ من «البحرَيْنِ» وهي قريبةٌ من الحال المقدرةِ. ويجوز بتجوُّزِ أَنْ تكونَ مقارنَةً. و «بينهما بَرْزَخٌ» يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ حالاً، وأَنْ يكونَ الظرفُ وحدَه هو الحالَ. والبَرْزَخ: فاعلٌ به وهو أحسنُ لقُرْبه من المفرد. وفي صاحبِ الحال وجهان، أحدُهما: هو «البحرَيْن»، والثاني: هو فاعلُ «يَلْتقيان» ولا «يَبْغِيان» حالٌ أخرى كالتي قبلَها أي: مَرَجَهما غيرَ باغيَيْن، أو يلتقيان غيرَ باغيين، أو بينهما بَرْزَخٌ في حالِ عَدَمِ بَغْيهما. وهذه الحالُ في قوة التعليل؛ إذ المعنى: لئلا يَبْغِيا. وقد تَمَحَّل بعضُهم وقال: أصلُ ذلك لئلا يَبْغِيا، ثم حَذَفَ حرفَ العلة، وهو مُطَّرِدٌ مع «أَنْ» و «أَنَّ»، ثم حُذِفَتْ «أَنْ» أيضاً وهو حَذْفٌ مُطَّرِد كقولِه تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤] فلمَّا حُذِفَتْ «أَنْ» ارتفع الفعلُ، وهذا غيرُ ممنوعٍ، إلاَّ أنه يتكرَّرُ فيه الحَذْفُ، وله أَنْ يقولَ: قد جاء الحَذْفُ أكثرَ مِنْ ذلك فيما هو أَخْفَى من هذا، كما تقدَّم في ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ [النجم: ٩]، وكما سيأتي في قولِه: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ [الواقعة: ٨٢].
قوله: ﴿يَخْرُجُ﴾ : قرأ نافع وأبو عمرو «يُخْرَج» مبنياً للمفعول. والباقون مبنياً للفاعل على المجاز. قالوا: وثَمَّ مضافٌ
163
محذوفٌ أي: مِنْ أحدِهما؛ لأنَّ ذلك لم يُؤْخَذْ من البحرِ العَذْبِ، حتى عابُوا قولَه:
٤١٧٠ - لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
٤١٧١ - فجاءَ بها ما شِئتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ على وَجْهِها ماءُ الفُراتِ يموجُ
قال مكي: «كما قال تعالى: ﴿على رَجُلٍ مِّنَ القريتين﴾ [الزخرف: ٣١] أي: مِنْ إحدى القريَتيْن، وحَذْفُ المضافِ كثيرٌ شائعٌ» وقيل: هو كقوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: ٦١] وإنما الناسِي فتاه، ويُعْزَى هذا لأبي عبيدة. وقيل: يَخْرُجُ من أحدِهما اللؤلؤ، ومن الآخر المَرْجانُ. وقيل: بل يَخْرجان منهما جميعاً، ثم ذكروا تآويلَ منها: أنهما يَخْرُجان من المِلْح في الموضعِ الذي يقع فيه العَذْبُ، وهذا مشاهَدٌ عند الغوَّاصين، وهو قولُ الجمهورِ فناسَبَ ذلك إسنادَه إليهما. ومنها قولُ ابنِ عباس: تكون هذه الأشياءُ في البحرِ بنزول المطر، والصَّدَفُ تفتح أفواهَها للمطر وقد شاهده الناسُ. ومنها: أنَّ العَذْبَ في المِلْح كاللِّقاح كما يُقال: الولدُ يخرُجُ من الذَّكر والأنثى. ومنها أنه قيل «منهما» من حيث هما نوعٌ واحدٌ، فخروجُ هذه الأشياءِ إنما هي مِنْهما، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً﴾ [نوح: ١٦] وإنما هو في واحدةٍ منهن.
164
وقد الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قال» منهما «وإنما يَخْرجان من المِلْح؟ قلت: لَمَّا التَقَيا وصارا كالشيء الواحدِ جاز أَنْ يُقال: يَخْرجان منهما، كما يقال: يَخْرجان من البحر ولا يَخْرجان من جميع البحر، وإنما يخرجان مِنْ بعضِه. وتقول: خَرَجْتُ من البلد، وإنما خَرَجْتُ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ محالِّه، مِنْ دارٍ واحدة من دُوْره. وقيل: لا يخرجان إلاَّ مِنْ ملتقى المِلْح والعَذْب» انتهى. وقال بعضُهم: كلامُ الله أَوْلى بالاعتبارِ من كلامِ بعض الناس فمن الجائز أنه يَسُوقُها من البحرِ العَذْب إلى المِلْحِ، واتفق أنهم لم يُخْرجوها إلاَّ من المِلْح، وإذا كان في البرِّ أشياءُ تَخْفَى على التجار المتردِّدين القاطعِين للمَفاوُز، فكيف بما في قَعْر البحرِ؟ والجوابُ عن هذا: أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُخاطِبُ الناسَ ولا يَمْتَنُّ عليهم إلاَّ بما يَأْلَفُون ويشاهِدُون.
واللؤلؤ قيل: / كبارُ الجوهر. والمَرْجانُ صغاره، وقيل بالعكس، وأنشدوا قولَ الأعشى:
٤١٧٢ - مِنْ كلِّ مَرْجانةٍ في البحرِ أَحْرَزها تَيَّارُها ووقاها طِيْنَها الصَّدَفُ
أراد اللؤلؤةَ الكبيرةَ. وقيل: المَرْجان حجرٌ أحمرُ. وقيل: حجرٌ شديد البياض، والمَرْجانُ أعجميُّ. قال ابن دريرد: «لم أسمَعْ فيه فعلاً متصرفاً. واللؤلؤ بناءٌ غريبٌ، لم يَرِدْ على هذه الصيغة إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ:
165
اللُّؤلُؤ، والجُؤْجُؤ وهو الصَّدْر، والدُّؤْدُؤُ، واليُؤْيُؤُ لطائر، والبُؤْبؤ بالموحَّدتين، وهو الأصلُ. واللؤلؤُ بضمتين والهمز هو المشهورُ، وإبدال الهمزةِ واواً شائعٌ فصيحٌ وقد تقدَّم ذلك.
وقرأ طلحة» اللُّؤْلِىءُ «بكسر اللام الثالثة، وهي لغةٌ محفوظةٌ. ونَقَل عنه أبو الفضلِ» اللُّؤْلِيْ «بقَلْبِ الهمزة الأخيرة ياءً ساكنة كأنه لَمَّا كسَر ما قبل الهمزة قلبها ياءً استثقالاً. وقرأ أبو عمرو في رواية» يُخْرِجُ «أي الله تعالى. ورُوِي عنه أيضاً وعن ابن مقسم» نُخْرِجُ «بنون العظمة. واللؤلؤُ والمَرْجان في هاتين القراءتَيْن منصوبان.
166
قوله: ﴿الجوار﴾ : العامَّة على كسرِ الراء لأنه منقوصٌ على مَفاعِل، والياءُ محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين. وقرأ عبد الله والحسن وتُروَى عن أبي عمروٍ «الجَوارُ» برفع الراء تناسياً للمحذوف ومنه:
166
وهذا كما قالوا: «هذا شاكٌ» وقد تقدَّم تقريرُ هذا في الأعراف عند قولِه: ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١].
قوله: ﴿المنشئات﴾ قرأ حمزةُ وأبو بكر بخلافٍ عنه بكسرِ الشينِ بمعنى: أنها تُنْشِىءُ الموجَ بجَرْيِها، أو تُنْشِىء السيرَ إقبالاً وإدباراً، أو التي رَفَعَتْ شُرُعَها أي: قِلاعَها. والشِّراع: القِلْع. وعن مجاهد: كلما رَفَعتْ قِلْعَها فهي من المُنْشَآت، وإلاَّ فليسَتْ منها. ونسبةُ الرَّفْع إليها مجازٌ كما يقال: أنْشَأتِ السحابةُ المطرَ. والباقون بالفتح وهو اسمُ مفعول أي: أنشأها اللَّهُ أو الناسُ، أو رفعوا شُرُعَها. وقرأ ابن أبي عبلة «المُنَشَّآت» بتشديد الشين مبالغةً. والحسنُ «المُنْشات» بالإِفراد، وإبدالِ الهمزة ألفاً وتاءٍ مجذوبة خَطَّاً فأْفَردَ الصفةَ ثقةً بإفهام الموصوف الجمعيةَ، كقولِه ﴿أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] وأمَّا إبدالُه الهمزةَ ألفاً، وإن كان قياسُها بينَ بينَ فمبالَغَةٌ في التخفيف، كقوله:
٤١٧٣ - لها ثنايا أربعٌ حِسانُ وأربعٌ فثَغْرُها ثَمانُ
167
أي: لتهدَأ. وأمَّا كَتْبُها بالتاءِ المجذوبة فإتباعاً للفظها في الوصلِ. و «في البحر» متعلقٌ بالمُنْشِئات أو المنشَآت. ورسمُه بالياء بعد الشين في مصاحفِ العراقِ يُقَوِّي قراءةَ الكسرِ ورَسْمُه بدونِها يُقَوِّي قراءةَ الفتح، وحَذَفُوا الألفَ كا تُحْذَفُ في سائر جمع المؤنث السالم. و «كالأَعْلام» حالٌ: إمَّا من الضميرِ المستكنِّ في «المُنْشَآت»، وإمَّا مِنْ «الجوار» وكلاهما بمعنىً واحد. والأَعلام: الجبالُ جمعُ عَلَم. قال:
٤١٧٤ - إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا في مَرابِضِها .............................
168
وقوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ : غَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ على غيره، وجميعُهم مُرادٌ. والضميرُ في «عليها» للأرضِ. قال بعضُهم. «وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ كقولِه: ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ [ص: ٣٢]. وقد رُدَّ على هذا القائلِ وقالوا: بل تَقَدَّم ذِكْرُها في قولِه: ﴿والأرض وَضَعَهَا﴾ [الرحمن: ١٠].
قوله: ﴿ذُو الجلال﴾ : العامَّةُ على «ذو» بالواو صفةً للوجه. وأبَيٌّ وعبدُ الله «ذي» بالياءِ صفةً ل «ربِّك» وسيأتي خلافٌ بين السبعةِ في آخر السورة إنْ شاءَ الله تعالى.
قوله: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات﴾ : فيه وجهان: أحدهما: هو مستأنفٌ. والثاني: أنه حالٌ مِنْ «وَجْه» والعاملُ فيه «يَبْقَى أي: يَبْقَى مَسْؤولاً مِنْ أهلِ السماواتِ والأرضِ.
168
قوله: ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾ منصوبٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنه الخبرُ وهو قولُه» في شَأْنٍ «والشَّأْنُ: الأَمْرُ.
169
قوله: ﴿سَنَفْرُغُ﴾ : قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي: سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى. والباقون من السبعة بنون العظمة، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ. وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ، وتحتمل وجهَيْن، أحدهما: أَنْ تكونْ مِنْ فَزَغَ بفتحِ الراء في الماضي، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ. والثاني: أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ، فيكون هذا مضارعه/ وهذه لغةُ تميمٍ. وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال «سَنِفْرَغُ» بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ الراءِ. وتوجيهُها واضحٌ مِمَّا تقدَّم في الفاتحة قال أبو حاتم: «وهي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ. والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ» سَنِفْرَغُ «بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ. وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء. والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء. ورُوي عن أبي عمروٍ. وقد تقدَّم قراءةُ» أيها «في النور. والفَراغُ هنا استعارةٌ. وقيل: هو القَصْدُ. وأُنْشِد لجرير:
٤١٧٥ - رُبَّما أَوْفَيْتُ في عَلَم تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ
169
وأنشد الزجاج:
٤١٧٦ - ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً
٤١٧٧ -............................. فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ» سَنَفْرُغُ إليكم «أي: سَنَقْصِدُ إليكم. والثَّقَلان: الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ. وقيل: لثِقَلِهم بالذنوب. وقيل: الثَّقَلُ: الإِنسُ لشَرَفَهم. وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة. والثَّقَل. العظيم الشريف. وفي الحديث:» إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي «
170
قوله: ﴿فانفذوا﴾ : أمرُ تعجيزٍ: والنُّفوذُ: الخروج بسرعة وقد تقدَّم في أولِ البقرة: أنَّ ما فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ يَدُلُّ على الخروج كنَفَق ونَفَرَ. و «إلاَّ بسُلْطان» حالٌ أو متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه. وقرأ زيد بن علي «إنْ اسْتَطَعْتما» خطاباً للثَّقَلَيْن، وحَقُّه أَنْ يمشيَ على سَنَنٍ واحدٍ فيَقْرأَ «أنْ تَنْفَذا، لا تنفُذان» والعامَّةُ جعلوه كقولِه: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩] إذ تحت كلِّ واحدٍ أفرادٌ كثيرةٌ وقد رُوْعي لفظُ التثنية في قوله بعدُ: «يُرْسَلُ عليكما» فلا تبعدُ قراءةُ زيدٍ.
قوله: ﴿شُوَاظٌ﴾ : قرأ ابن كثير بكسر الشين. والباقون بضمِّها، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ. والشُواظُ: قيل: اللَّهَبُ معه دُخانٌ. وقيل: بل هو اللهبُ الخالِصُ. وقيل: اللَّهَبُ الأحمرُ. وقيل: هو الدخانُ الخارجُ مِن اللهَب. وقال رؤبة:
٤١٧٨ - ونارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظا... وقال حسان:
٤١٧٩ - هَجَوتُكَ فاخْتَضَعْتَ لها بذُلٍّ بقافِيَة تَأَجَّجُ كالشُّواظِ
و «يُرْسَلُ» مبنيٌّ للمفعولِ؛ وهو قراءةُ العامَّةِ. وزيد بن علي «نُرْسِلُ» بالنونِ، «شواظاً ونُحاساً» بالنصب. و «مِنْ نار» صفةٌ لشواظ أو متعلِّقٌ ب «يُرْسَلُ».
171
قوله: «ونُحاس» قرأ ابنُ كثير وأبو عمروٍ بجرِّه عطفاً على «نارٍ»، والباقون برفعِه عطفاً على «شُواظ». والنحاس قيل: هو الصُّفْرُ المعروفُ، يذيبه اللَّهُ تعالى ويُعَذِّبهم به. وقيل: الدخان الذي لا لَهَبَ معه. قال الخليل: وهو معروفٌ في كلامِ العرب، وأنشد للأعشى:
٤١٨٠ - يُضيْءُ كضَوْءِ سراجِ السَّلِيْ طِ لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه نُحاسا
وتُضَمُّ نونُه وتُكْسَرُ، وبالكسرِ قرأ مجاهد وطلحة والكلبي. وقرأ ابن جندب «ونَحْسٌ» كقولِه: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ﴾ [القمر: ١٩] وابن أبي بكرة وابن أبي إسحاق «ونَحُسُّ» بضم الحاء والسين مشددةً من قوله: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] أي: ونقتلُ بالعذاب. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً «ونَحَُِسٍ» بضمِّ الحاء وفتحِها وكسرِها، وجرِّ السين. والحسن والقاضي.
172
«ونُحُسٍ» بضمتين وجرِّ السين. وتقدَّمَتْ قراءةُ زيدٍ «ونُحاساً» بالنصبِ لِعَطْفِه على «شواظاً» في قراءته.
173
قوله: ﴿فَإِذَا انشقت﴾ : جوابُه مقدرٌ أي: رأيت هَوْلاً عظيماً، أو كان ما كان.
قوله: ﴿وَرْدَةً﴾ أي: مثلَ وَرْدَةٍ فقيل: هي الزهرة المعروفة التي تُشَمُّ، شَبَّهها بها في الحُمْرة، وأنشد:
٤١٨١ - فلو كُنْتُ وَرْداً لَوْنُه لعَشِقْنَني ولكنَّ ربي شانَني بسَواديا
وقيل: هي من لَوْنِ الفَرَسِ الوَرْد، وإنما أُنِّثَ لكونِ السماءِ مؤنثةً. وقال الفراء: «أراد لونَ الفرسِ الوَرْدِ، يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحُمْرة، وفي اشتدادِ البَرْدِ إلى الغُبْرة، فشبَّه تلوُّنَ السماءِ بتلَوُّنِ الوَرْدَةِ من الخيل». وقرأ عبيد بن عمير «وَرْدَةٌ» بالرفع. قال الزمخشري: «بمعنى: فَحَصَلَتْ سماءٌ وردةٌ، وهو من الكلام الذي يُسَمَّى التجريدَ، كقوله:
173
قوله: ﴿كالدهان﴾ يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ نعتاً لوردة. وأَنْ يكونَ حالاً من اسم» كانت «. وفي» الدِّهان «قولان، أحدُهما: أنه جمعُ دُهْن نحو: قُرْط وقِراط، ورُمْح ورِماح، وهو في معنى قوله: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل﴾ [المعارج: ٨].
وهو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ، فقال الزمخشري:»
اسمُ ما يُدْهَنُ به كالجِزام والإِدام وأنشد:
٤١٨٢ - فَلَئِنْ بَقِيْتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوةٍ تَحْوِي الغنائمَ أو يموتَُ كريمُ
٤١٨٣ - كأنَّهما مَزادَتا مُتَعَجِّلٍ فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنا بدِهان
وقال غيرُه: هو الأديمُ الأحمرُ، وأنشد للأعشى:
٤١٨٤ - وأَجْرَدَ مِنْ كِرامِ الخَيْلِ طِرْفٍ كأنَّ على شَواكِله دِهانا
أي: أديماً أحمرَ، وهذا يَحْتمل أنْ يكونَ جمعاً. ويؤيِّده ما أنشده منذرُ بنُ سعيد:
174
٤١٨٥ - يَبِعْنَ الدِّهانَ الحُمْرَ كلَّ عَشِيَّةٍ بموسِمِ بَدْرٍ أو بسُوْقِ عُكاظِ
فقوله «الحُمْرَ» يؤيِّدُ كونَه جمعاً، وقد يُقال: هو كقولِهم: «أهلك الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدرهمُ البِيْضُ»، إلاَّ أنَّه خِلافُ الأصلِ. وقيل: شُبِّهَتْ بالدِّهانِ، وهو الزَيْتُ لذَوْبِها ودَوَرانِها، وقيل: لبَريقِها.
175
قوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ : التنوينُ عِوَضٌ من الجملةِ، أي: فيومَ إذ انشَقَّت السَّماءُ. والفاء في «فيومئذٍ» جوابُ الشرط. وقيل: هو محذوفٌ، أي: فإذا انشَقَّتِ السماءُ رَأَيْتَ أَمْراً مَهُولاً، ونحو ذلك. والهاءُ في «ذَنْبه» [تعودُ على أحد المذكورِيْن]. وضميرُ الآخرِ مقدرٌ، أي: ولا يُسْأَل عن ذنبِه جانٌّ أيضاً. وناصبُ الظرفِ «لا يُسأَلُ» و «لا» غيرُ مانعةٍ. وقد تقدَّم خلافُ الناسِ فيها في الفاتحة. وتقَدَّمَتْ قراءة «جأَنّ» بالهمز فيها أيضاً.
وقرأ حماد بن أبي سليمان «بسِيْمائِهم» بالمدِّ. وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آخر البقرة.
قوله: ﴿فَيُؤْخَذُ بالنواصي﴾ «يُؤْخَذُ» متعدٍّ، ومع ذلك تَعَدَّى بالباء؛
175
لأنه ضُمِّنَ معنى يُسْحَبُ، قاله الشيخ. وسحب إنما يُعَدَّى ب «على» قال تعالى: ﴿يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨] فكان يَنْبغي أَنْ يقولَ: ضُمِّنَ معنى يُدَعُّوْن، أي: يُدْفَعون. وقال مكي: «إنما يُقال: أَخَذْتُ الناصِيةَ وأخَذْتُ بالناصية. ولو قلت: أَخَذْتُ الدابَّةَ بالناصيةِ لم يَجُزْ. وحُكي عن العرب: أَخَذْتُ الخِطامَ، وأَخَذْتُ بالخِطام بمعنى. وقد قيل: إنَّ تقديرَه: فيُؤْخَذُ كلُّ واحدٍ بالنَّواصي، وليس بصوابٍ، لأنه لا يَتَعَدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بالباء، لِما ذكَرْنا. وقد يجوز أَنْ يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بحرفِ جرّ غيرِ الباء نحو: أَخَذْتُ ثوباً من زيد.
فهذا المعنى غيرُ الأولِ، فلا يَحْسُن مع الباء مفعولٌ آخرُ، إلاَّ أَنْ تجعلَها بمعنى: مِنْ أَجْل، فيجوزُ أن تقولَ: أَخَذْتُ زيداً بعمروٍ، أي: مِنْ أجلِه وبذنبِه»
انتهى. وفيما قاله نَظَرٌ، لأنك تقولُ: أَخَذْتُ الثوبَ بدرهمٍ، فقد تعدَّى بغير «مِنْ» أيضاً بغير المعنى الذي ذكره.
وأل في النواصي والأقدام ليسَتْ عِوَضاً مِنْ ضمير عند البَصْريين فالتقدير: بالنواصي منهم، وهي عند الكوفيين عِوَضٌ. والنَّاصِيَةُ: مُقَدَّمُ الرأسِ. وقد تقدَّم هذا مستوفى في هود. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «ما لكم لا تَنْصُون مَيِّتكم»، أي: لا تَمُدُّون ناصِيته. والنَّصِيُّ
176
مَرْعى طيب. وقولهم: «فلانٌ ناصيةُ القوم» يُحتمل أن يكونَ من هذا، يَعْنون أنه طيب مُنْتَفَعٌ به، أو مثلَ قولِهم: هو رأسُ القوم.
177
قوله: ﴿هذه جَهَنَّمُ﴾ : أي: يُقال لهم و «آن» بمعنى: حار متناهٍ في الحرارة، وهو منقوصٌ كقاضٍ يُقال: أنى يَأْني فهو آن كقَضى يَقْضي فهو قاضٍ. وقد تَقَدَّمَ في الأحزاب. والعامَّةُ يَطوفون مِنْ طاف. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن «يُطافُون» مبنياً للمفعول، مِنْ أطافهم غيرُهم. والأعمش وطلحة وابن مقسم «يُطَوِّفُون» بضمِّ الياء وفتح الطاءِ وكسرِ الواوِ مشددةً، أي: يُطَوِّفُون أنفسَهم. وقرأت فرقةٌ «يَطَّوَّون» بتشديد الطاء والواو. والأصلُ: يتطَوَّفون.
قوله: ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ مكاناً. فإِنْ كان مصدراً، فيُحْتمل أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه، أي: قيامَ ربِّه عليه وحِفْظَه لأعمالِه مِنْ قولِه: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣] ويُرْوَى هذا المعنى عن مجاهد، وأن يكونَ مضافاً لمفعولِه. والمعنى: القيام بحقوق الله فلا يُضَيِّعُها. وإنْ كان مكاناً فالإِضافةُ بأَدْنى مُلابسة لَمَّا كان الناسُ يقومون بين يَدَيِ اللهِ تعالى للحاسب في عَرَصات القيامة. قيل: فيه مَقامُ الله. والظاهرُ أن الجنَّتَيْن لخائفٍ واحدٍ. وقيل:
177
جنةٌ لخائفِ الناسِ، وأُخرى لخائفِ الجنِّ، فيكون من بابِ التوزيعِ. وقيل «مَقام» هنا مُقْحَمٌ والتقدير: ولِمَنْ خاف ربَّه وأنشد:
٤١٨٦ -.................... ونَفَيْتُ عنه مَقامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللعينِ
أي: نَفَيْتُ الذئبَ، وليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الاسمِ ليسَتْ بالسهلة.
178
قوله: ﴿ذَوَاتَآ﴾ : صفةٌ ل جَنَّتان، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هما ذواتا. وفي تثنية «ذات» لغتان: الردُّ إلى الأصلِ، فإنَّ أصلَها «ذَوْيَة» فالعينُ واوٌ، واللامُ ياءٌ، لأنَّها مؤنثةُ ذو. والثانية: التثنيةُ على اللفظِ فيُقال: ذاتا.
والأَفْنان: فيه وجهان، أحدُهما: أنه جمعُ فَنَن كطَلَل وهو الغُصْنُ. قال النابغة الذبياني:
٤١٨٧ - بكاءَ حمامةٍ تَدْعو هَدِيلاً مُفَجَّعةٍ على فَنَنٍ تُغَنِّي
وقال آخر:
178
وقال آخر:
٤١٨٨ - رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ بالضُّحى ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
٤١٨٩ -............................ على كلِّ أفنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
والثاني: أنه جمعُ فَنّ كدَنّ، وإليه أشار ابنُ عباس. والمعنى: ذواتا أنواعٍ وأشكالٍ. وأنشدوا:
٤١٩٠ - ومِنْ كلِّ أفنانِ اللَّذاذَةِ والصِّبا لَهَوْتُ به والعيشُ أخضرُ ناضِرُ
إلاَّ أنَّ الكثيرَ في «فَنّ» أَنْ يُجْمع على «فُنون».
179
قوله: ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «مَنَ» في قولِه: «ولِمَنْ خافَ»، وإنَّما جُمعَ حَمْلاً على معنى «مَنْ» بعد الإِفراد حَمْلاً على لفظها. وقيل: حالٌ عامِلُها محذوفٌ أي: يَتَنَعَّمون مُتَّكئين. وقيل: منصوبٌ على الاختصاصِ. والعامَّةُ على «فُرُش» بضمَّتين. وأبو حيوة بضمةٍ وسكونٍ وهي تخفيفٌ منها. /
قوله: ﴿بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. والظاهر أنَّها صفةٌ ل «فُرُش». و «مِنْ إستبرق» قد تَقَدَّم الكلام في الاستبرق وما قيل فيه في سورة الكهف. وقال أبو البقاء هنا: «أصلُ
179
الكلمةِ فِعْلٌ على اسْتَفْعَلَ فلمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ همزتُه. وقيل: هو أعجميُّ. وقرِىء بحَذْفِ الهمزةِ وكسر النونِ، وهو سَهْوٌ؛ لأنَّ ذلك لا يكون في الأسماءِ بل في المصادرِ والأفعال». انتهى. أمَّا قولُه «وهو سهوٌ لأن ذلك لا يكون» إلى آخرِه، يَعْني أنَّ حَذْفِ الهمزةِ في الدَّرْجِ لا يكونُ إلاَّ في الأفْعال والمصادرِ، وأمَّا الأسماءُ فلا تُحْذَفُ هَمَزاتُها لأنَّها هَمَزات قَطْعٍ. وهذا الكلامُ أحقُّ بأن يكونَ سَهْواً؛ لأنَّا أولاً لا نُسَلِّمُ أنَّ هذه القراءةَ مِنْ حَذْفِ همزةِ القطعِ إجراءً لها مُجْرى همزةِ الوَصْلِ. وإنَّما ذلك مِنْ بابِ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلَها، وحركةُ الهمزةِ كانَتْ كسرةً فحركةُ النونِ حركةُ نَقْلٍ لا حركةُ التقاءِ ساكنين. ثم قولُه: «إلاَّ في الأفعال والمصادرِ» ليس هذا الحصرُ بصحيح اتفاقاً لوجودِ ذلك في أسماءٍ عشرةٍ ليسَتْ بمصادرَ، ذكرْتُها في أولِ هذا الموضوع.
قوله: ﴿وَجَنَى الجنتين دَانٍ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ. ودانٍ أصلهُ دانِوٌ مثلَ غازٍ، فأُعِلَّ كإِعلالِه. وقرأ عيسى بن عمر «وجَنِيَ» بكسر النون. وتوجيهُها: أن يكونَ أمال الفتحة لأجل الألف، ثم حذف الألف لالتقاءِ السَّاكنين، وأبقى إمالة النون فَظُنَّتْ كسرةً. وقُرِىء «وجِنَى» بكسر الجيم، وهي لغة. والجَنى: ما يُقْطَفُ من الثمار. وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض والنَقَص.
180
قوله: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ﴾ : اختُلِفَ في هذا الضمير، فقيل: يعود على الجنات، فيقال: كيف تَقَدَّمَ تثنيةٌ ثم أُتِي بضمير جَمْع؟
فالجوابُ: أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان على قولٍ، وله شواهدُ قد تقدَّم أكثرُها. وإمَّا أن يقالَ: عائدٌ على الجنات المدلولِ عليها بالجنتْين، وإمَّا أَنْ يقالَ: إنَّ كل فردٍ فردٍ له جنتان فصَحَّ أنها جناتٌ كثيرة، وإمَّا أنَّ الجنةَ تشتمل على مجالسَ وقصورٍ ومنازلَ فأطلقَ على كلِّ واحدٍ منها جنة. وقيل: يعودُ على الفُرُش. وهذا قولٌ حَسَنٌ قليلُ الكُلْفَةِ.
وقال الزمشخري: «فيهِنَّ: في هذه الآلاءِ المعدودة من الجنَّتَيْن والعينَيْن والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى». قال الشيخ: «وفيه بُعْدٌ» وكان قد اسْتَحْسَنَ الوجهَ الذي قبله. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاستعمالَ أَنْ يُقال: على الفِراش كذا، ولا يقال: في الفِراش كذا إلاَّ بتكلُّف؛ فلذلك جَمَعَ الزمخشريُّ مع الفُرُش غيرَها حتى صَحَّ له أَنْ يقولَ: «فيهن» بحرف الظرفيَّة، ولأن الحقيقةَ أنَّ الفُرُشَ يكون الإِنسانُ عليها؛ لأنه مُستَعْلٍ عليها. وأمَّا كونُه فيها فلا يقال إلاَّ بمجازٍ. وقال الفراء: «كلُّ موضع في الجنةِ جنةٌ، فلذلك صَحَّ أَنْ يُقالَ: فيهِنَّ، والقاصِراتُ: الحابساتُ الطرفِ، أي: أعينُهُنَّ عن غيرِ أَزْواجهن. ومعناه: قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجِهنَّ. قال امرؤ القيس:
181
٤١٩١ - مِن القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
وقاصراتُ الطرفِ: مِنْ إضافةِ اسم الفاعلِ لمنصوبِه تخفيفاً إذ يقال: قَصَرَ طَرْفَه على كذا. وحُذِف متعلَّقُ القَصْرِ للعلمِ به، أي: على أزواجِهِنَّ، كما تقدَّم تقريرُه. وقيل: المعنى: قاصراتٌ طَرْفَ غيرِهن عليهنَّ، أي: إذا رآهن أحدٌ لم يتجاوَزْ طرفُه إلى غيرِهنَّ.
قوله: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ هذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ نعتاً لقاصِرات؛ لأن إضافتَها لفظيةٌ، كقولِه ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] و [وقوله] :
٤١٩٢ - يا رُبَّ غابطِنا لو كان يَطْلُبُكمْ ............................
وأَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِ النكرةِ بالإِضافة. واخْتُلِفَ في هذا الحرفِ والذي بعدَه عن الكسائيِّ: فنُقِل عنه أنَّه كان يُخَيِّرُ في ضَمِّ أيِّهما شاءَ القارىءَ. ونَقَل عنه الدُّوريُّ ضمَّ الأولِ فقط ونَقَل عنه أبو الحارث ضمَّ الثاني فقط، وهما لغتان. يُقال: طَمَثَها يَطْمِثُها ويَطْمُثُها إذا جامَعَها. وأصلُ الطَّمْثِ: الجماعُ المؤدِّي إلى خروجِ دمِ البِكْرِ، ثم أُطْلِقَ على كلِّ جِماع: طَمْثٌ، وإنْ لم يَكُنْ معه دمٌ. وقيل: الطَمْثُ دَمُ الحَيْضِ أو دمُ الجِماع. وقيل: الطَمْثُ المَسُّ الخاص. وقرأ الجحدري» يَطْمَثْهُنَّ «بفتح
182
الميم في الحرفَيْن، وهو شاذٌّ إذ ليسَتُ عينُه ولا لامُه حرفَ حَلْقٍ. والضميرُ في» قبلَهُمْ «عائدٌ على الأزواجِ الدالِّ عليهم قولُه» قاصراتُ الطَّرْفِ «أو الدالِّ عليه» مُتَّكئين «.
183
قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ الياقوت﴾ : هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون نعتاً لقاصِرات، وأن تكونَ حالاً منها. ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه. والمَرْجان تقدَّم ما هو؟ والياقوتُ: جوهرٌ نفيسٌ. يُقال: إن النارَ لم تُؤَثِّرْ فيه، ولذلك قال الحريري:
٤١٩٣ - وطالما أُصْلِيَ اليقاوتُ جَمْرَ غَضَا ثم انْطفا الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ
أي: باقٍ على حالِه لم يتأثَّرْ بها. ووجهُ التشبيهِ كما قال الحَسَنُ. في صفاءِ الياقوتِ/ وبياضِ المَرْجان. وهذا على القول بأنه أبيضُ وقد تقدَّم، وقيل: الوجهُ في... ونفاسَتِهما ولذلك سَمَّوْا بمَرْجانة ودُرَّة وشبهِ ذلك.
وقرأ ابن أبي إسحاق «إلاَّ الحِسانُ»، أي: إلاَّ الحُوْرُ الحِسان.
قوله: ﴿وَمِن دُونِهِمَا﴾ : أي: مِنْ دونِ تَيْنَكَ
183
الجَنَّتَيْن المتقدِّمتين: جَنَّتان في المنزلةِ وحُسْنِ المنظرِ. وهذا على الظاهر مِنْ أنَّ الأُوْلَيَيْنِ أفضلُ من الأُخْرَيَيْنِ. وقيل بالعكس، ورَجَّحه الزمخشري.
184
والادْهِيْمامُ : السَّوادُ وشدةُ الخضرةِ، جُعِلا مُدْهامَّتيْن لشدَّة رِيِّهما، وهذا مُشاهَدٌ بالنظر، ولذلك قالوا :" سوادُ العراق " لكثرةِ شَجَره وزروعِه.
والنَّضْخُ: فوق النَّضْحِ بالحاءِ، لأنَّ النَّضْحَ بالحاءِ: الرَّشُّ والرَّشْحُ، والنَّضْخُ بالخاء: فَوَرانُ الماء. والادْهِيْمامُ: السَّوادُ وشدةُ الخضرةِ، جُعِلا مُدْهامَّتيْن لشدَّة رِيِّهما، وهذا مُشاهَدٌ بالنظر، ولذلك قالوا: «سوادُ العراق» لكثرةِ شَجَره وزروعِه.
قوله: ﴿وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ : استدلَّ بعضُهم بها على أنهما ليسا من الفاكهة لاقتضاءِ العطفِ المغايرة. فلو حَلَفَ: «لا يأكلُ فاكهةً» لم يَحْنَثْ بأَكْلهما. وبعضُهم يقول: هو من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً له كقولِه: ﴿وملائكته﴾ [البقرة: ٩٧] ثم قال: «وجبريلَ وميكَال» وهو تَجَّوُّزٌ؛ لأنَّ فاكهة ليس عامَّاً؛ لأنه نكرةٌ في سياقِ الإِثْبات، وإنما هو مُطْلَقٌ، ولكنْ لَمَّا كان صادقاً على النخل والرمَّان قيل فيه ذلك.
قوله: ﴿خَيْرَاتٌ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ «خَيْرَة». بزِنةِ فَعْلَة بسكونِ العين. يقال: امرأةٌ خَيْرَةٌ وأخرى شَرَّةٌ. والثاني: أنه جمعُ خَيْرة المخففة مِنْ خَيِّرة. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن مقسم واليزيدي وبكر بن حبيب «خَيِّرات» تشديد الياء. وقرأ أبو عمروٍ «خَيَرات» بفتح الياء جمع «خَيْرَة» وهي شاذَّةٌ، لأن العين
184
معتلةٌ؛ إلاَّ أن بني هُذَيلٍ تُعامِله معاملةَ الصحيح فيقولون، جَوَزات وبَيَضات وأُنْشِد:
185
ومَقْصورات، أي: مَحْبوسات، ومنه «القَصْر» لأنه يَحْبِسُ مَنْ فيه، ومنه قولُ النحاة «المقصور» لأنه حُبِس عن المدِّ أو حُبس عن الإِعراب، أو حُبِس الإِعرابُ فيه، والنساء تُمْدَحُ بملازَمَتِهِنَّ البيوتَ كما قال [أبو] قيس بن الأسلت:
٤١٩٤ - أخو بَيَضاتٍ رائِحٌ مُتَأَوِّبُ رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوْحُ
٤١٩٥ - وتَكْسَلُ عن جيرانِها فيَزُرْنَها وتَعْتَلُّ عن إتْيانِهِنَّ فتُعْذَرُ
ويقال: امرأةٌ مَقْصورة وقَصيرة وقَصورة، بمعنىً واحد. قال كثير عزة:
٤١٩٦ - وأنتِ التي حَبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ إليَّ ولم تَعْلَمْ بذاك القَصائرُ
عَنَيْتُ قصيراتِ الحِجالِ ولم أُرِدْ قِصارَ الخُطا شَرُّ النساءِ البَحاتِرُ
والخِيام: جمعُ خَيْمة وهي تكونُ مِنْ نَمَّام وسائرِ الحَشيش، فإنْ
185
كانَتْ مِنْ شَعْرٍ فلا يُقال لها: خَيْمةٌ بل بَيْتٌ. وقال جرير:
186
قوله: ﴿رَفْرَفٍ﴾ : الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ. وقيل: بل هو اسمُ جمعٍ، نقلهما معاً مكيٌّ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب. وقال الجوهريُّ: «ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ، الواحدةُ رَفْرَفة» واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ: أي: ارتفع في الهواء. ورَفْرَفَ بجناحَيْه: إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع. وقال الراغب: «رفيفُ الشجر: انتشارُ أغصانِه. ورَفَّ الطائرُ: نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ. ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ. ومنه» ماله حافٌّ ولا رافٌّ «، أي: مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه. والرَّفْرَفُ: المنتشِرُ من الأوراقِ. وقولُه ﴿على رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ : ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض. وقيل: الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ والخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأَطنْابِ والأوتادِ. وذكر الحسن أنه المَخادُّ» انتهى. وقال ابن جُبير: «رياضُ الجنَّة، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن. وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ. ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه: ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ﴾ [ق: ١٠] وبالمفرِد. وحَسَّنَ جَمْعَه هنا
186
جَمْعُ حِسان. وقرأ العامَّةُ» رَفْرَفٍ «وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم» رَفارِفَ خُضْرٍ «بالجمع وسكونِ الضاد. وعنهم أيضاً» خُضُرٍ «بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء. وقيل: هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ. وأُنْشد لطرفة:
٤١٩٧ - متى كان الخيامُ بذي طُلوحٍ سُقِيْتِ الغَيْثَ أيتها الخيامُ
٤١٩٨ - أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ
وقال آخر:
٤١٩٩ - وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ
وقرؤوا»
عباقِرِيَّ «بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً/ على مَنْعِ الصرفِ. وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ. وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ» وعباقِرِيٍّ «منوناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ» رَفارِفٍ «بالصرف. وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ» عباقِرِيَّ «إنَّه لما جاوزَ» رفارِفَ «الممتنعَ امتنع مُشاكلةً. وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ:
187
إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب ك ﴿سَلاسلاً وأَغْلالاً﴾ [الإِنسان: ٤] كما سيأتي.
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً» خَضَّارٍ «كضَرَّاب بالتشديد. وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ.
والجمهورُ»
وعَبْقِرِيٍّ «منسوب إلى عَبْقَر، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا: هذا عَبْقريٌّ. وفي الحديث:» فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّه «والمرادُ به هنا قيل: البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ. وقيل: هي الزَّرابِيُّ. وقيل: الطَّنافِسُ. وقيل: الدِّيباج. وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ، كما تقدَّم في رَفْرفَ. وقيل: هو واحدٌ دالٌّ على الجمع، ولذلك وُصِف بحسان.
188
قوله: ﴿ذِي الجلال﴾ : قرأ ابن عامر «ذو الجَلال» بالواو، وجَعَله تابعاً للاسم، وهكذا هي مرسومةٌ في مصحف الشاميين. والباقون بالياء صفةً للرَّبِّ، فإنه هو الموصوفُ بذلك، وأَجْمَعوا على الواوِ في الأول إلاَّ مَنْ ذكَرْتُه فيما تقدَّم.
Icon