تفسير سورة الحاقة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الحاقّة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» كلمة عزيزة تحتاج في سماعها إلى سمع عزيز لم يستعمل في سماع الغيبة، وتحتاج فى معرفتها إلى قلب عزيز لم يتبذّل في الغفلة والغيبة، لم ينظر صاحبه بعينه إلى ما فيه رتبة، ولم تتبع نفسه اللّبس «١» والطّبّة «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)
«الْحَاقَّةُ» : اسم للقيامة لأنها تحقّ «٣» كلّ إنسان بعمله خيره وشرّه.
«وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» : استفهام يفيد التعظيم لأمرها، والتفخيم لشأنها.
قوله جل ذكره: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» ذكر في هذه السورة: الذين كذّبوا رسلهم من الأمم، وأصرّوا على كفرهم، ولم يقبلوا النصيحة من أنبيائهم، فأهلكهم، وانتقم لأنبيائه منهم.
والفائدة في ذكرهم: الاعتبار بهم، والتحرّر عمّا فعلوا لئلا يصيبهم ما أصابهم.
وعقوبة هذه الأمة مؤجّلة مؤخّرة إلى القيامة، ولكنّ خواصّهم عقوبتهم معجّلة فقوم
(١) هكذا في ص أما في م فهى (اللهو).
(٢) هكذا في ص وهي في م (الطيبة) وقد رجحنا- وهو ترجيح بعيد- أنها قد تكون (الطّيّبة) بمعنى الحذق والمهارة الناتجين عن الحيلة والتدبير، وربما كانت (ولم يتبع مع نفسه اللين والطيبة فالنفس أعدى الأعداء).
(٣) لأنها تحق كل محاق في دين الله أي كل مخاصم (وهو قول الأزهرى). وحاقّه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق (الصحاح). [.....]
من هذه الطائفة إذا أشاعوا سرّا، أو أضاعوا أدبا يعاقبهم برياح الحجبة «١»، فلا يبقى في قلوبهم أثر من الاحتشام للدّين، ولا ممّا كان لهم من الأوقات، ويصيرون على خطر في أحوالهم بأن يمتحنوا (بالاعتراض على التقدير) «٢» والقسمة.
وأمّا فرعون وقومه فكان عذابهم بالغرق.. كذلك من كان له وقت فارغ وهو بطاعة ربّه مشتغل، والحقّ عليه مقبل- فإذا لم يشكر النعمة، وأساء أدبه، ولم يعرف قدر ما أنعم الله به عليه ردّه الحقّ إلى أسباب التفرقة، ثم أغرقه في بحار الاشتغال فيتكدر مشربه، ويصير على خطر بأن يدركه سخط الحقّ وغضبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١١ الى ١٣]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣)
وكذلك تكون منّته على خواصّ أوليائه حين يسلمهم في سفينة العافية، والكون يتلاطم فى أمواج بحار الاشتغال على اختلاف أوصافها، فيكونون بوصف السلامة، لا منازعة ولا محاسبة لهم مع أحد، ولا توقع شىء من أحد سالمون من الناس، والناس منهم سالمون.
قوله جل ذكره: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ....»
بدأ في وصف القيامة والحساب..
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٨ الى ٢١]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١)
وفي كلّ نفس مع هؤلاء القوم «٣» محاسبة ومطالبة، منهم من يستحق المعاتبة، ومنهم من يستحق المعاقبة.
(١) فى الإشارة قياس على الرياح التي أهلكت عادا.
(٢) موجود في ص أما في م فهى (الإعراض) فقط.
(٣) يقصد أهل المجاهدات والمذاقات.
قوله جل ذكره: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» يسلم له السرور بنعمة الله، ويأخذ في الحمد والمدح.
«فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» القوم- غدا- فى عيشة راضية أي مرضيّة لهم، وهؤلاء القوم- اليوم- فى عيشة راضية، والفرق بينهما أنهم- غدا- فى عيشة راضية لأنه قد قضيت أوطارهم، وارتفعت مآربهم، وحصلت حاجاتهم، وهم- اليوم- فى عيشة راضية إذ كفّوا مآربهم فدفع عن قلوبهم حوائجهم فليس لهم إرادة شىء، ولا تمسّهم حاجة. وإنما هم في روح الرضا..
فعيش أولئك في العطاء، وعيش هؤلاء في الرضاء لأنه إذا بدا علم من الحقيقة أو معنى من معانيها فلا يكون ثمة حاجة ولا سؤال. ويقال لأولئك غدا.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)
ويقال لهؤلاء: اسمعوا واشهدوا... اسمعوا منّا.. وانظروا إلينا، واستأنسوا بقربنا، وطالعوا جمالنا وجلالنا.. فأنتم بنا ولنا.
قوله جل ذكره: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» هناك- اليوم- أقوام مهجورون تتصاعد حسراتهم، ويتضاعف أنينهم- ليلهم ونهارهم- فليلهم ويل ونهارهم بعاد تكدّرت مشاربهم، وخربت أوطان أنسهم، ولا بكاؤهم يرحم، ولا أنينهم يسمع.. فعندهم أنهم مبعدون... وهم في الحقيقة من الله مرحومون، أسبل عليهم الستر فصغّرهم في أعينهم- وهم أكرم أهل القصة! كما قالوا:
لا تنكرن جحدى هواك فإنما ذاك الجحود عليك ستر مسبل
قوله جل ذكره:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)
«لا» : صلة والمعنى: أقسم كأنه قال: أقسم بجميع الأشياء، لأنه لا ثالث لما يبصرون وما لا يبصرون. وجواب القسم:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» أي وجيه عند الله. وقول الرسول الكريم هو القرآن أو قراءة القرآن.
وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن أي أن محمدا ليس شاعرا ولا كاهنا بل هو:
«تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ».
قوله جل ذكره: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» أي لو كان محمد يكذب علينا لمنعناه منه وعصمناه عنه، ولو تعمّد لعذّبناه. والقول بعصمة الأنبياء واجب. ثم كان لا ناصر له منكم ولا من غيركم، وهذا القرآن:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)
حقّ اليقين هو اليقين فالإضافة هكذا إلى نفس الشيء «١».
وعلوم الناس تختلف في الطرق إلى اليقين خفاء وجلاء فما يقال عن الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين يرجع إلى كثرة البراهين، وخفاء الطريق وجلائه، ثم إلى كون بعضه ضروريا وإلى بعضه كسبيا، ثم ما يكون مع الإدراكات «٢».
(١) لو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه كما لا تقول: هذا ورد الأحمر، فالإضافة هنا- كما يرى القشيري- إلى الشيء نفسه. فإن القرآن حق يقين ويقين حقّ.
(٢) انظر محاولة القشيري التفرقة بين معانيها في رسالته ص ٤٧.
Icon