ﰡ
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
الاعراب:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً الواو: واو القسم، وَالذَّارِياتِ صفة لموصوف محذوف تقديره:
ورب الرياح الذاريات، فحذف الموصوف، وجواب القسم: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ.
فَالْحامِلاتِ وِقْراً وِقْراً مفعول الحاملات.
فَالْجارِياتِ يُسْراً يُسْراً صفة لمصدر محذوف، تقديره: جريا يسرا، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه، أو مصدر في موضع الحال، أي ميسرة.
إِنَّما تُوعَدُونَ ما: مصدرية أو موصولة، وهو جواب القسم.
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ مبتدأ وخبر.
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يَوْمَ في موضع رفع على البدل من يَوْمَ الأول، إلا أنه بني، لأنه أضيف إلى غير متمكن.
البلاغة:
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ في قوله: قُتِلَ استعارة تبعية، حيث استعار القتل للدعاء عليهم باللعن، لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك.
وَالذَّارِياتِ الرياح تذرو التراب وغيره. فَالْحامِلاتِ السحب تحمل الأمطار.
وِقْراً ثقلا. فَالْجارِياتِ السفن التي تجري على سطح الماء. يُسْراً بسهولة أو جريا سهلا. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الملائكة التي تقسّم أمور العباد والأمطار والأرزاق وغيرها.
إِنَّما تُوعَدُونَ أي إن وعدكم بالبعث وغيره. لَصادِقٌ لوعد صادق. وَإِنَّ الدِّينَ الجزاء بعد الحساب. لَواقِعٌ لحاصل لا محالة. استدل تعالى باقتداره على هذه الأشياء على اقتداره على البعث الموعود.
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطرق جمع حبيكة، إما الطرق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو الطرق المعقولة التي يتوصل بها إلى المعارف. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ إنكم يا أهل مكة في شأن القرآن الكريم والنبي ﷺ في قول متناقض مضطرب، فتقولون تارة: سحر وساحر، وتارة: شعر وشاعر، وتارة: كهانة وكاهن، وتقولون أحيانا: الله خالق السموات والأرض، ثم تقولون بعبادة الأوثان معه، وفي شأن الحشر: تارة تقولون: لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون:
الأصنام شفعاؤنا يوم القيامة عند الله.
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يصرف عن الرسول أو القرآن أو الإيمان من صرف عن الهداية في علم الله تعالى، إذ لا صرف أشد منه.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف. فِي غَمْرَةٍ جهل يغمرهم. ساهُونَ غافلون عما أمروا به. يَسْئَلُونَ النبي سؤال استهزاء. أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ متى مجيء يوم الجزاء؟ وجوابهم محذوف، أي يجيء. يُفْتَنُونَ يحرقون، يقال:
فتنت الذهب: أحرقته وأذبته ليعرف غشه، فاستعمل في الإحراق والتعذيب. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي يقال لهم: ذوقوا تعذيبكم. هذَا التعذيب. الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ وقوعه في الدنيا استهزاء.
التفسير والبيان:
لما بيّن الله تعالى في آخر سورة ق المتقدمة أن المشركين مصرّون على إنكار الحشر بعد إيراد البراهين الساطعة عليهم، لم يبق إلا توكيد الدعوى بالإيمان، فافتتحت هذه السورة بذلك:
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً،
أقسم الله سبحانه هنا لإثبات الحشر بالمتحركات، لأن الحشر فيه جمع وموج وتفريق، وهو بالحركة أليق، فأقسم بالرياح التي تذرو وتفرّق التراب وكل ما شأنه أن يتطاير متجاوزة قانون الجاذبية الأرضية، وبالسحب التي تحمل الماء بكميات ثقيلة، وبالسفن التي تجري فوق وجه الماء، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار بين العباد، وكل ملك مخصص بأمر، فجبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء، وميكائيل الموكل بالرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصّور، وعزرائيل لقبض الأرواح.
أقسم سبحانه بتلك المظاهر الكونية المرئية وغير المرئية العجيبة التأثير على أن ما وعد به الناس من الحشر إلى الله تعالى، ووقوع المعاد، لصادق غير كاذب، وأن الجزاء من الثواب والعقاب لكائن حاصل لا محالة.
وكان هذا القسم تأكيدا لإخباره بوقوع الحشر ويسره وسهولته في السورة السابقة ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وفيه إشارة إلى إنكار مشركي مكة وأمثالهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان عليه.
والحكمة من القسم هنا وفي غير ذلك من السور أن العرب كانت تعتقد أن النبي ﷺ قوي الحجة، غالب في المجادلة والبرهان، فأقسم الله لهم بكل شريف ليعلموا صدقه، ويؤكد حجته، كما أنهم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها، فحلف الله لهم للتصديق والثقة التامة، وهم يعلمون أيضا أن النبي ﷺ لا يحلف كاذبا، ولم يصب بسوء بعد أيمانه، بل ازداد رفعة وثباتا، مما يدل على كونه صادقا فيما يقول.
ثم إن هذه الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل على كامل قدرته على البعث وغيرها، فمن أوجد هذه الأشياء وصرّفها كيفما يشاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق مرة أخرى يوم القيامة.
والخلاصة: والسماء ذات البنيان المتقن والجمال والحسن والطرائق المحكمة إنكم يا كفار قريش لفي قول مضطرب متناقض غير متلائم في أمر القرآن والرسول، فمرة تقولون في القرآن: شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، وحينا تقولون في الرسول: شاعر وساحر وكاهن ومجنون، وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به من كذّب به، ويروج على من هو ضال في نفسه، جاهل غمر لا فهم له، لأنه قول باطل، يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول متناقض، إذ الشاعر أو الساحر أو الكاهن يحتاج إلى عقل وذكاء وفطنة، أما المجنون فلا عقل عنده.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ لعن وقبح الكذابون أصحاب القول المختلف المرتابون في وعد الله ووعيده، الذين هم في جهل يغمرهم، غافلون في الكفر والشك عما أمروا به وعما هم قادمون عليه.
وهذا في الأصل دعاء عليهم بالقتل والهلاك، كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس ٨٠/ ١٧] ثم جرى مجرى: لعن وقبح.
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يسألك المشركون تكذيبا وعنادا واستهزاء، قائلين: متى يوم الجزاء؟ فقل لهم: إنه يوم يعذب الكفار ويحرقون في نار جهنم، يقال: فتنت الذهب: إذا أحرقته لتختبره.
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ، هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي يقال لهم: ذوقوا عذابكم أو حريقكم، هذا العذاب الذي كنتم تتعجلون به أو تطلبون تعجيله استهزاء منكم، وظنا أنه غير كائن.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- تعظيم المقسم به وهو الرياح الشديدة التأثير التي لا تخضع لقانون الجاذبية، والسحب المحملة بأحمال ثقيلة وهي الأمطار سبب الرزق والخيرات، والسفن الجارية فوق سطح الماء، والملائكة التي تقسّم الأمطار وأرزاق العباد وأمورهم. ولله أن يقسم على ما يشاء، في أي وقت يشاء، ولكل أمر يشاء.
ويلاحظ أن جميع السور التي بدئت بغير الحروف، كهذه السورة، كان المقسم عليه أحد أصول الاعتقاد: التوحيد، والرسالة، والبعث، فسورة الصافات أقسم فيها على التوحيد، فقال: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) وفي سورة النجم والضحى أقسم على صدق الرسول، حيث قال: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (١- ٣) وبقية السور كان المقسم عليه هو البعث والجزاء.
كما يلاحظ أيضا أن الله تعالى أقسم بمجموع المؤنث السالم في سور خمس، ففي سورة والصافات لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات، وفي السور الأربعة الباقية أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر، فقال: وَالذَّارِياتِ وَالْمُرْسَلاتِ وَالنَّازِعاتِ وَالْعادِياتِ لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق، كما تقدم.
٣- أقسم الله تعالى مرة ثانية في مطلع هذه السورة بالسماء ذات البنيان المتقن والجمال البديع، والاستواء، والطرائق المحكمة على أن المشركين في قول متخالف متناقض في شأن الله عز وجل، حيث قلتم: إنه خالق السموات والأرض، وتعبدون معه الأصنام، وفي شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قلتم تارة: إنه مجنون، وتارة أخرى: إنه ساحر، والساحر لا يكون إلا عاقلا، وفي أمر الحشر قلتم: لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وزعمتم أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة، ونحو ذلك من الأقوال المتناقضة.
٣- يصرف عن الإيمان بالقرآن والرسول من صرف عنه في سابق علم الله تعالى، وقضائه السابق، لعلمه بأنه ضال في نفسه.
٤- لعن الكذابون من أصحاب القول المختلف المتناقض، المرتابون في وعد الله ووعيده، الذين يقولون: لسنا نبعث، ويتخرصون بما لا يعلمون، فيقولون: إن محمدا مجنون كذّاب ساحر شاعر، علما بأنهم في جهل، غافلون عما أمروا به. وهذا دعاء عليهم، لأن من لعنه الله، فهو بمنزلة المقتول الهالك.
٥- كان مشركو مكة وغيرهم من العرب متجبرين معاندين مصرين على كفرهم، مما جعلهم يسألون استهزاء وشكا في القيامة وعنادا: متى يوم الحساب؟
فأجابهم ربهم بأنه اليوم الذي يحرقون فيه في نار جهنم، ثم وبخهم الله وتهكم بهم قائلا لهم أو تقول الخزنة لهم: ذوقوا عذابكم وجزاء تكذيبكم، ذلك العذاب الذي كنتم تستعجلون به في الدنيا، وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
الاعراب:
آخِذِينَ حال من الضمير في حبر إِنَّ.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ قَلِيلًا إما صفة مصدر محذوف، أي يهجعون هجوعا قليلا، أو صفة لظرف محذوف، أي كانوا يهجعون وقتا قليلا، وما زائدة، ويجوز أن تكون ما مع ما بعدها مصدرا في موضع رفع على البدل من ضمير. كان وقَلِيلًا خبر كان، وتقديره: كان هجوعهم من الليل قليلا. وقال السيوطي: يهجعون: خبر كان، وقَلِيلًا ظرف.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ مبتدأ، وَفِي الْأَرْضِ خبره.
ولا يجوز أن يتعلق فِي أَنْفُسِكُمْ بقوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ على تقدير: أفلا تبصرون في أنفسكم، لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما في حيّز الاستفهام على حرف الاستفهام.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ مِثْلَ حال من الضمير في حَقٌّ وما زائدة، ويقرأ بالرفع على أنه صفة حَقٌّ لأنه نكرة: لأنه لا يكتسي التعريف بالإضافة إلى المعرفة وهي أَنَّكُمْ لأن وجوه التماثل بين الشيئين كثيرة غير محصورة.
البلاغة:
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ مجاز مرسل، أطلق الرزق، وأراد المطر، لأنه سبب الأقوات.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فيه تأكيد الخبر بالقسم وإنّ واللام، وهذا النوع من التأكيد الإنكاري، لأن المخاطب منكر لذلك.
فِي جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ ينابيع تجري فيها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لما أعطاهم، راضين به، وهو ما أعطاهم ربهم من الثواب، والمعنى: أن كل ما آتاهم ربهم حسن مرضي، متلقّى بالقبول إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي إنهم قبل دخولهم الجنة قد أحسنوا أعمالهم في الدنيا، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي ينامون في زمن يسير من الليل، ويصلون أكثره، والهجوع: النوم، والهجعة: النومة الخفيفة. وَبِالْأَسْحارِ أواخر الليل، جمع سحر: وهو الجزء الأخير من الليل قبيل الفجر. يَسْتَغْفِرُونَ يقولون: اللهم اغفر لنا، أي إنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا، أخذوا في الاستغفار.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ نصيب يوجبونه على أنفسهم، تقربا إلى الله، وإشفاقا على الناس.
لِلسَّائِلِ المستعطي المستجدي. وَالْمَحْرُومِ الذي حرم من المال، والمراد به المتعفف الذي يظن كونه غنيا، فيحرم الصدقة.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ أي في كرة الأرض من الجبال والبحار والأشجار والثمار والمعادن والنبات والإنس والجن والحيوان وغير ذلك دلائل على قدرة الله تعالى ووحدانيته. لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين الذين أيقنوا بالله، وسلكوا الطريق الموصل إلى رضوان الله. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في تركيب أنفسكم وخلقكم من العجائب آيات أيضا. أَفَلا تُبْصِرُونَ تنظرون نظرة متأمل معتبر، يستدل بذلك على الصانع وقدرته. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي في السحاب أسباب الرزق وهو المطر الذي ينشأ عنه النبات الذي هو رزق مسبب عن المطر. وَما تُوعَدُونَ أي والذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب. إِنَّهُ لَحَقٌّ أي ما توعدون حق ثابت. مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، فكما أنه لا شك في أنكم تنطقون، لا شك في تحقق ذلك.
سبب نزول الآية (١٩) :
وَفِي أَمْوالِهِمْ... : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن رسول الله ﷺ بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعد ما فرغوا- لم يشهدوا الغنيمة-، فنزلت: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى حال الفجار الأشقياء الذين كذبوا بالبعث، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبدوا مع الله إلها آخر من وثن أو صنم، أراد تعالى أن يبين حال المؤمنين الأتقياء وأوصافهم وجزاءهم في الآخرة.
التفسير والبيان:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي إن الذين اتقوا ربهم، وتجنبوا ما يعرضهم لعذاب الله، من التزام أوامره واجتناب نواهيه، هم يوم المعاد في بساتين فيها عيون جارية، قابلين قبول رضا لكل ما أعطاهم ربهم، راضين به، فرحين بعطائه وفضله، بخلاف ما يتعرض له أولئك الأشقياء من العذاب والنكال والحريق والأغلاق. فقوله: آخِذِينَ كما ذكر الزمخشري:
قابلين قبول راض، كما قال تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة ٩/ ١٠٤] أي يقبلها. وقيل: الأخذ بمعنى التملك، يقال: بكم أخذت هذا؟ كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. وعلى كل: الأخذ في هذا المقام إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية، لما أسلفوا من حسن العبادة، ووفور الطاعة، ولهذا علله بقوله:
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة، يراقبون الله فيها، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ٢٤].
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل، ويصلون أكثره، فتكون ما زائدة وهو القول المشهور، وقَلِيلًا ظرف، ويجوز أن تجعل ما صفة للمصدر، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وأنكر الزمخشري كون ما نافية، تقديره: كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه، وقال: لا يجوز أن تكون نافية، لأن ما بعد ما لا يعمل فيما قبلها، تقول: زيدا لم أضرب «١».
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يقولون في الجزء الأخير من الليل:
اللهم اغفر لنا وارحمنا. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، وكأنهم باتوا في معصية، وهذا سيرة الكريم، يأتي بأبلغ وجوه الكرم، ثم يستقله ويعتذر، واللئيم بالعكس، يأتي بأقل شيء، ثم يمنّ به، ويستكثر. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار.
ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من تائب، فأتوب عليه؟ هل من مستغفر، فأغفر له؟ هل من سائل، فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر».
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه:
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف ١٢/ ٩٨] : أخرهم إلى وقت السحر.
وبعد أن وصفهم تعالى بكثرة الصلاة التي هي عبادة بدنية، وصفهم بأداء العبادة المالية، فقال:
أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحيهما عن رسول الله ﷺ قال: «ليس المسكين بالطواف الذي تردّه اللّقمة واللقمتان، والتّمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه»
وفي لفظ آخر أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه، فيتصدق عليه، فذلك المحروم».
وللسائل حق،
أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للسائل حق، وإن جاء على فرس».
والمشهور في الحق: أنه هو القدر الذي علم شرعا، وهو الزكاة، وهذا ما رجحه ابن العربي والجصاص الرازي وغيرهما أخذا بقول ابن عباس: نسخت الزكاة كل صدقة. وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا: الزكاة المفروضة.
قال القرطبي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة المعارج:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [٢٤- ٢٥] والحق المعلوم:
هو الزكاة التي بيّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به، فليس بمعلوم، لأنه غير مقدّر ولا مجنّس ولا موقّت «١».
٢٨/ ٢٠٥، تفسير القرطبي: ١٧/ ٣٨
ما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: «إذا أدّيت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك فيه».
وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت الحق الذي يجب عليك»
قال الجصاص «١» : فهذه الأخبار يحتج بها من تأول حقا معلوما على الزكاة، وأنه لا حق على صاحب المال وغيرها.
وقال منذر بن سعيد: هذا الحق: هو الزكاة المفروضة.
وبالرغم من أن هذا صحيح، وأنه قول الجمهور، فإن السورة مكية، وفرض الزكاة بالمدينة، وإذا فسر الحق بأنه الزكاة لم يكن صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك يؤدي زكاة ماله، فالظاهر أن المراد بالآية هنا صدقات التطوع غير الزكاة، وهي أي الصدقات التي تعطى على سبيل البر والصلة، عن ابن عمر: أن رجلا سأله عن هذا الحق، فقال: الزكاة، وسوى ذلك حقوق، فعمم.
واحتج من أوجب في المال حقا سوى الزكاة بما
روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... الآية [البقرة ٢/ ١٧٧] فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ «٢».
ثم أكد الله تعالى وقوع الحشر والدلالة على قدرته بالأدلة الأرضية، فقال:
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار وأنهار وبحار وأصناف نبات وحيوان وناس مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى وتفاوت المعقول والفهوم وما في تركيب أجسادهم
(٢) الجصاص، المرجع والمكان السابق.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله، وصدق ما جاءت به الرسل، أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر ناظر بعين البصيرة، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق، المتفرد بالألوهية، فليست نفوسكم مخلوقة بالصدفة ولا بالطبيعة، وإنما خالقها الله القادر على كل شيء، وعلى البعث وإعادة الحياة.
ففي النفس والدماغ ذي الملايين من الخلايا، وحواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق، ودورة الدم، وأجهزة التنفس والهضم والبول، كل ذلك أدلة مقنعة لمن يعقلها، ولا يعقلها حقيقة إلا المؤمنون المتقون الله، أما غيرهم فيفسرها على أنها حقائق طبيعية مادية فقط.
ثم ذكر الله تعالى ضمانه الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال:
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ أي، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير أو شر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السماء التي هي السحاب المطر، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول، التي يكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها نور القمر قوة ونموا ونضجا.
ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق، فقال:
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي فورب العزة والجلال، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال:
بلغني أن رسول الله ﷺ قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم، ثم لم يصدقوا».
قال الأصمعي: أقبلت خارجا من البصرة، فطلع أعرابي على قعود، فقال:
من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل عليّ، فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت قوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فقال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على الناس، وعمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما وولّى. فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلّم علي، واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح، فقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه «١».
وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن مآل المتقين في بساتين فيها عيون جارية، على نهاية ما يتنزه به، قابلين قبول رضا، قريرة أعينهم بما أعطاهم ربهم من الثواب وأنواع الكرامات.
وهذا في مقابل مآل الكفار في نار جهنم في الآيات السابقة.
٢- أوصاف المتقين المذكورة في هذه الآيات تنحصر في هذه الآيات تنحصر في هذه إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم ثلاثة أشياء: تهجدهم بالليل بعد نومهم زمنا قليلا، واستغفارهم من ذنوبهم بالأسحار (أواخر الليل قبيل الفجر) وأداء حقوق أموالهم من الزكاة المفروضة وصدقات التطوع على سبيل البر والصلة. وإنما أضاف المال إليهم، وفي مواضع أخرى قال: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس ٣٦/ ٢٧] لأن هذه الآية للحث على الإنفاق، وأما الآية التي في هذه السورة فهي مدح على ما فعلوا، مما يدل على أنهم في غير حاجة إلى التذكير بالحرص المانع من النفقة.
٣- من أدلة قدرة الله على البعث والنشور: خلق الأرض والسماء والأنفس، ففي الأرض علامات على با هر قدرته، منها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدّر الأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة، ولا ينتفع بتلك العلامات ولا يتدبر بها إلا الموقنون، وهم العارفون ربهم الموحّدون إلههم، المصدّقون بنبوة نبيهم.
وفي السماء أسباب الرزق من مطر وثلج ينبت به الزرع، ويحيا به الخلق، وفيها تقدير ما يوعد به البشر من خير وشر، وجنة ونار، وثواب وعقاب. وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن، فذكر الأرض وهي المكان، ثم عمرها وآنسها بالإنسان، ثم ذكر ما به بقاؤه وهو الرزق.
٤- أكد رب العزة ما أخبر به من البعث، وما خلق في السماء من الرزق، وما قدّر من أقوات الحيوانات والنفوس البشرية، فأقسم عليه بأنه لحق، ثم أكده بقوله: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، أي إن ذلك ثابت حسّا، كما يدرك الإنسان يسر نطقه وكلامه. وخص النطق من بين سائر الحواس: لأن ما سواه من الحواس يحدث فيه اللبس والتشبيه.
وهذا قسم ثالث: فبعد أن أقسم تعالى بالأمور الأرضية وهي الرياح، ثم أقسم بالسماء في قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أقسم هنا بالذات العلية، وهذا ترتيب منطقي سليم، يقسم المتكلم أولا بالأدنى، فإن لم يصدق به، يرتقي إلى الأعلى.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٣٧]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
الاعراب:
فَقالُوا: سَلاماً قالَ: سَلامٌ سَلاماً: منصوب على المصدر أو بوقوع الفعل عليه.
وسَلامٌ: إما مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: سلام عليكم، وجاز الابتداء، لأنه في معنى الدعاء أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أمري سلام عليكم. وقَوْمٌ مُنْكَرُونَ خبر مبتدأ، أي هؤلاء.
فِي صَرَّةٍ متعلق بمحذوف حال، أي كائنة.
وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ لم يقل: عقيمة، لأن عَقِيمٌ فعيل بمعنى مفعول، وهذه الصيغة لا تثبت فيها الهاء، تقول: عين كحيل، وكف خضيب، ولحية دهين، أي عين مكحولة، وكف مخضوبة، ولحية مدهونة، وذلك للتفرقة بين فعيلة بمعنى مفعولة، وفعيلة بمعنى فاعلة، نحو:
شريفة وظريفة ولطيفة، وعقيم بمعنى معقومة، لا بمعنى فاعلة، فلم تثبت فيها الهاء.
البلاغة:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ أسلوب التشويق والتفخيم، لتفخيم شأن الحديث.
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ عَجُوزٌ عَقِيمٌ إيجاز بالحذف، أي أنتم قوم منكرون، وأنا عجوز عقيم.
المفردات اللغوية:
هَلْ أَتاكَ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ضيوف، وضيف في الأصل، مصدر، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة، كالزّور والصوم، وكانوا اثني عشر ملكا، أو تسعة عاشرهم جبريل، أو ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وسماهم ضيفا، لأنهم كانوا في صورة الضيف. الْمُكْرَمِينَ لأنهم في أنفسهم مكرمون، كما قال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٦] أو لأن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف لحديث ضيف، أو للضيف أو المكرمين. فَقالُوا: سَلاماً قالوا هذا اللفظ أو نسلم عليكم سلاما. قالَ: سَلامٌ أي عليكم سلام، عدل به إلى الرفع بالابتداء، لقصد الثبات حتى تكن تحيته أحسن من تحيتهم. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي أنتم قوم غير معروفين، قال ذلك في نفسه، أو صرح به للتعرف عنهم أو بهم.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ذهب إليهم في خفية من ضيفه، أو مال إليهم سرا، قال الزمخشري:
ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ممتلئ شحما ولحما لأنه كان عامة ماله البقر، وفي سورة هود: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) أي مشوي.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وضعه بين أيديهم. قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ منه؟ أي عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أضمر في نفسه منهم خوفا، لما رأى إعراضهم عن طعامه، لظنه أنهم جاءوه لشرّ. قالُوا: لا تَخَفْ إنا رسل الله. وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي ذي عليم كثير، هو إسحاق عليه السلام، كما ذكر في هود.
امْرَأَتُهُ هي سارّة رضي الله عنها لما سمعت بشارتهم له، وكانت في زاوية تنظر إليهم.
فِي صَرَّةٍ في صيحة، أي جاءت صائحة. فَصَكَّتْ وَجْهَها لطمته بأطراف أصابعها عجبا
قالُوا: كَذلِكَ أي مثل ذلك الذي بشرنا به. قالَ رَبُّكِ هو قول الله، وإنما نخبرك به عنه. الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ذو الحكمة في صنعه، والعلم الواسع بخلقه. فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم الخطير، قال ذلك لما علم أنهم ملائكة، وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه.
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ كافرين، هم قوم لوط. حِجارَةً مِنْ طِينٍ مطبوخة بالنار وهو السجيل: الطين المتحجر. مُسَوَّمَةً معلمة من السّومة: وهي العلامة.
لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور، بإتيانهم الذكور، مع كفرهم.
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط، وأضمرت ولم تذكر سابقا، لكونها معلومة.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمن بلوط، بقصد إهلاك الكافرين. غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي غير أهل بيت من المسلمين، وهم لوط وابنتاه وأتباعه إلا امرأته، أي مصدقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات. واستدل به على اتحاد الإسلام والإيمان، لكنه- كما قال البيضاوي- استدلال ضعيف، لأن المراد اجتماع الصفتين فيهم، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهومهما. وَتَرَكْنا فِيها بعد إهلاك الكافرين. آيَةً علامة دالة على ما أصابهم من الهلاك. لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ لمن خافوا عذاب الله المؤلم، فلا يفعلون مثل فعلهم.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى إنكار مشركي مكة للبعث والنشور، سلّى قلب رسوله ﷺ ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، فقد أوذوا من أقوامهم، وأعرض هؤلاء عن دعوة رسلهم. وبدأ تعالى بقصة إبراهيم بعد إيرادها في سورة هود والحجر، لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته، وإنذارا لقومه بما جرى من الضيف، وبيانا لإنزال الحجارة على المذنبين المضلين، حتى يتعظ أو يعتبر كفار قريش وأمثالهم إلى يوم القيامة. ثم سألهم إبراهيم عن شأنهم وسبب مجيئهم، فأخبروه بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لهم.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ، قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي هل بلغك خبر قصة إبراهيم عليه السلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند الله سبحانه الذين جاؤوا إليه في صورة بني آدم، وهم في طريقهم إلى قوم لوط، فدخلوا عليه وسلموا بقولهم:
سلاما، أي نسلم عليك سلاما، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات، فقال: سلام عليكم، إنكم قوم لا أعرفكم من قبل، فمن أنتم؟ وقيل: إنه قال دلك في نفسه، ولم يخاطبهم به، لأن هؤلاء الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة.
ابتدأ الله تعالى بالاستفهام التقريري تفخيما لشأن الحديث، ولفتا للنظر والانتباه، مع تهديد العرب ووعيدهم ووعظهم، وتسلية الرسول ﷺ على ما يجري عليه من قومه، وأطلق عليهم صفة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه السلام، والضيافة سنة، وذهب أحمد وجماعة إلى وجوب الضيافة للنزيل، وحيّوه بصيغة سَلاماً التي هي دعاء، فردّ عليهم الخليل مختارا الأفضل من التسليم، فقال: سَلامٌ لأن الرفع أقوى وأثبت من النصب، لدلالته على الثبات والدوام. والظاهر الذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لم يقل لهم: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ولم يخاطبهم بذلك، بل أسرّها في نفسه، فقال:
هؤلاء قوم منكرون، أو قال ذلك لمن معه من أتباعه وخدمه وجلسائه، لأن التصريح بمثل هذا فيه إيحاش للضيف وعدم إيناس.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟ أي عدل أو ذهب إلى أهله خفية من ضيوفه في سرعة، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا، كما في سورة هود: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ
وقد انتظمت الآية آداب الضيافة، فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، دون سابق عرض، لأن إبراهيم عليه السلام كان جوادا كريما، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتيّ سمين مشوي، لأن جلّ ماله كان البقر، ووضعه بين أيديهم، ودعاهم على سبيل التلطف في العرض قائلا: ألا تأكلون؟
فأعرضوا، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون:
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي فلما أعرضوا عن الطعام ولم يأكلوا، أحسّ في نفسه خوفا منهم، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام لشرّ مبيت، وأن من أكل من طعام إنسان، صار آمنا منه، فظن إبراهيم عليه السلام أنهم جاؤوا للشر، ولم يأتوا للخير، كما في سورة هود: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (٧٠).
قالُوا: لا تَخَفْ، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي قالت الملائكة لإبراهيم: إننا ملائكة رسل من الله تعالى، كما في آية أخرى: قالُوا: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود ١١/ ٧٠].
وبشروه «١» بغلام يولد له، كثير العلم بعد البلوغ، وهو إسحاق عليه السلام، كما قال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود ١١/ ٧١] وتضمنت البشارة شيئين مفرحين، هما كونه غلاما ذكرا، وكونه عالما، والعلم أكمل الصفات.
قالُوا: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي كما قلنا لك وأخبرناك قال ربّك، فلا تشكّي في ذلك، ولا تعجبي منه، فنحن رسل الله، والله على كل شيء قدير، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون، كما جاء في آية أخرى: قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود ١١/ ٧٢].
وهذه المفاوضة لم تكن مع سارّة فقط، بل كانت مع إبراهيم أيضا، حسبما تقدم في سورة الحجر (٥٣- ٥٤) وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود (٧٢).
ويكون استبعادها الولد لسببين: كبر السن، والعقم، فكأنها قالت:
يا ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم، مثلما يصدر من الضيف من مجاملات الأدعية، كقوله: الله يعطيك مالا ويرزقك ولدا، فقالوا: هذا منا ليس بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى: قالُوا: كَذلِكَ، قالَ رَبُّكِ ثم دفعوا استبعادها بقولهم: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ «١».
والسبب في اختلاف تذييل الآيتين حيث قال هنا: الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وفي هود قال: حَمِيدٌ مَجِيدٌ: أنهم في سورة هود نبهوها إلى القيام بشكر نعم الله،
وأما هنا فأرادوا التنبيه إلى الحكمة العامة من الولادة في الكبر وبعد العقم طوال الحياة. وهي الدلالة على حكمته وعلمه، فهو حكيم في فعله يضع الأمور في نصابها، عليم بشؤون خلقه «١».
وبعد بشارة الملائكة إبراهيم عليه السلام بالغلام، سألهم عن شأنهم وسبب مجيئهم:
قالَ: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي فما شأنكم الخطير، وفيم جئتم، وما قصتكم المثيرة، وما سبب إرسالكم من جهة الله؟ فأجابوه:
قالُوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ أي قالت الملائكة رسل العذاب ورسل البشرى:
إنا بعثنا إلى قوم لوط الذين أجرموا بالكفر وارتكاب الفواحش، لنرجمهم بحجارة من طين متحجر، مطبوخ بالنار، كالآجرّ، معلمة بعلامات تعرف بها، مخصصة عند الله لهلاك المتمادين في الضلالة، المجاوزين الحد في الفجور.
ثم أخبر الله تعالى عن أن هذا العذاب ليس عشوائيا يصيب الصالح والطالح، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين، فقال:
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي لما أردنا إهلاك قوم لوط، أخرجنا من كان في تلك القرى من قومه المؤمنين به، تنجية لهم من العذاب، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله، وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط بن هاران- أخي إبراهيم- بن تارح، أي كان لوط ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما السلام، آمن
وكان أولئك المؤمنون هم لوط وأهل بيته إلا امرأته، قال سعيد بن جبير:
كانوا ثلاثة عشر.
ونحو الآية: قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً، قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٣٢].
وقد احتج بهذه الآية المعتزلة الذين لا يفرقون بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. قال ابن كثير: وهذا الاستدلال ضعيف، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ومسلمين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا، لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال.
والدليل على التفرقة بين الإسلام والإيمان الآية السابقة: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات ٤٩/ ١٤]
وحديث الصحيحين عن عمر رضي الله عنه: «أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه، قال: صدقت».
ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة قوم لوط، فقال:
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي وأبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه وهم المؤمنون، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم، فإنها ظاهرة مبيّنة، جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال
وهذا دليل على أنه إذا غلب الشر والكفر والفسق، كان الدمار والهلاك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي فيما تضمنته من قصتين: قصة البشارة بإسحاق، والإخبار بإهلاك قوم لوط، فمن القصة الأولى يستفاد ما يلي:
١- ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته، كما فعل بقوم لوط.
٢- وصف الله سبحانه الملائكة بكونهم ضيوفا، ولم يكونوا كذلك، إكراما لإبراهيم عليه السلام في حسابه وظنه، فلم يكذبه الله تعالى في ذلك.
وهم أيضا عباد مكرمون عند الله عز وجل، وعند إبراهيم عليه السلام، إذ خدمهم بنفسه وزوجته، وعجّل لهم القرى، ورفع مجالسهم، كما في بعض الآثار.
٣- السنة التحية لكل قادم على غيره، وهي السلام، فقال الملائكة: نسلم عليك سلاما، والمراد من السلام هو التحية وهو المشهور، فأجابهم إبراهيم عليه السلام بأحسن من تحيتهم، فقال: سلام عليكم، أي سلام دائم ثابت لا يزول، لقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء ٤/ ٨٦].
٤- أنكرهم إبراهيم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام والذي لم يكن شائعا في قومه الكفرة، ولأنهم عليهم السلام غرباء غير معروفين، ولأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، ولإمساكهم عن الكلام.
واختار الأجود، فقدّم إليهم الطعام الدسم وهو عجل سمين مشوي على الحجارة المحماة، وعرض عليهم الأكل بتلطف وعرض حسن دون أمر، فقال:
أَلا تَأْكُلُونَ ولم يقل: كلوا. وأظهر السرور بأكلهم، وكان غير مسرور بتركهم الطعام، كما يوجد من بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا، ثم يترقبون إمساك الضيف عن الأكل.
٦- أحسّ إبراهيم منهم الخوف في نفسه، على عادة الناس أن من يمتنع من مؤاكلة المضيف يضمر شرا مبيتا، فطمأنوه وقالوا له: لا تخف، وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله، وبشروه بولد يولد له من زوجته سارّة.
٧- لما سمعت زوجته بالبشارة، تعجبت وصاحت كما جرت عادة النساء، حيث يسمعن شيئا من أحوالهن، يصحن عند الاستحياء أو التعجب، وكان تعجبها لأمرين: كبر السن والعقم.
٨- أجابها الملائكة بأن ما قالوه وأخبروا به هو قول الله وحكمه، فلا يصح أن تشك فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارّة لم تلد قبل ذلك، فولدت وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة، والله حكيم فيما يفعله، عليم بمصالح خلقه.
وأما القصة الثانية ففيها ما يأتي:
١- أدرك أبو الأنبياء إبراهيم أن وراء وفد الملائكة الجماعي شيئا خطيرا،
وإنما عرف كونهم مرسلين لقولهم هنا: كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ فهذا يدل على كونهم منزلين من عند الله، حيث حكوا قول الله.
٢- أجابوه بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين هم قوم لوط، لرجمهم بحجارة معروفة بأنها حجارة العذاب، قيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وإنما قال: مِنْ طِينٍ لإفادة أن الحجارة من طين متحجر وهو السجّيل، ولدفع توهم كونها بردا، فإن بعض الناس يسمي البرد حجارة.
٣- كانت الحاجة إلى قوم من الملائكة، مع أن الواحد منهم يقلب المدائن بريشة من جناحه، إظهارا لقدرة الله وتعظيمه وشدة سلطانه وغلبة جنده.
٤- جرت سنة الله تعالى في إنزال الهلاك والدمار العام بإنجاء المؤمنين وتمييزهم، فلما أراد إهلاك قوم لوط أمر نبيه لوطا بأن يخرج هو مع المؤمنين من أهل بيته إلا امرأته، لئلا يهلك المؤمنون، وذلك قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [هود ١١/ ٨١].
٥- دلّ قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على فائدتين «١» :
إحداهما- بيان القدرة والاختيار، لتمييز الله المجرم عن المحسن.
الثانية- بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء، فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، فلما خرج من القرية آل لوط المؤمنون، نزل العذاب بالباقين.
٧- المؤمنون والمسلمون من آل لوط سواء، لكن في الحقيقة: الإيمان:
تصديق القلب، والإسلام: هو الانقياد بالظاهر لأحكام الله، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فسمّاهم تعالى في الآية الأولى مؤمنين، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. قال الرازي مؤيدا التفرقة بين الإيمان والإسلام: والحق أن المسلم أعم من المؤمن، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما، فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين، فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين، ويلزم من هذا ألا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.
٨- إن في تعذيب قوم لوط على الكفر وفاحشة اللواط عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم، غير أن المنتفعين بالعظة والعبرة هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه، والمنتفع بها هو الخائف. وقد عبر عن ذلك في آية أخرى بأبلغ وجه حيث قال تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٣٥] فقد وصف الآية بالظهور، وقال: مِنْها لا (فيها) المفيدة للتبعيض، فكأنه تعالى قال: من نفسها لكم آية باقية، وذكر أن المنتفع هو العاقل، والعاقل أعم من الخائف، فكانت الآية في العنكبوت أظهر، لأن القصد هناك تخويف القوم، وهاهنا تسلية القوم، ويؤكده أنه قال هناك: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ من غير بيان واف بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم، وقال هنا: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٤٦]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
الإعراب:
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ.. معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وتقديره:
وفي موسى آيات. هُوَ مُلِيمٌ
الجملة حال من ضميرأَخَذْناهُ.
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا...
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ...
وكذلك التقدير في قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ.. عند من قرأ بالجر، ومن قرأ بالنصب فهو منصوب بفعل مقدر، تقديره: أهلكنا قوم نوح، أو اذكر قوم نوح.
البلاغة:
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ استعارة، استعار الركن للجنود والجموع، لأنه يتقوى بهم، ويعتمد عليهم كما يعتمد على الركن في البناء.
هُوَ مُلِيمٌ
مجاز عقلي، أطلق اسم الفاعل على اسم المفعول، أي ملام على طغيانه.
الرِّيحَ الْعَقِيمَ استعارة تبعية في قوله: الْعَقِيمَ شبه استئصالهم بعقم النساء، ثم أطلق المشبه به على المشبه، واشتق منه العقيم بطريق الاستعارة.
وَفِي مُوسى معطوف على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قال الزمخشري وابن عطية:
وهذا بعيد جدا ينزّه القرآن عن مثله. والأصح العطف على قوله: وَتَرَكْنا فِيها والمعنى:
وجعلنا في قصة موسى آية. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي مصحوبا متلبسا بسلطان مبين، أي بحجة واضحة هي معجزاته، كاليد والعصا. فَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان. بِرُكْنِهِ أي كقوله: نأى بجانبه، أو فتولى عن الإيمان مع جنوده وأتباعه، لأنهم له كالركن، والأصل في الركن: ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به، والمراد هنا: جنوده وأعوانه، كما في آية: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود ١١/ ٨٠].
وَقالَ لموسى. ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي هو ساحر أو مجنون، كأنه نسب الخوارق إلى الجنّ. نَبَذْناهُمْ
طرحناهم. ي الْيَمِ
في البحر.. هُوَ مُلِيمٌ
آت بما يلام عليه من الكفر والعناد وتكذيب الرسل ودعوى الربوبية.
وَفِي عادٍ أي وفي إهلاك عاد آية. إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ حين أرسلنا عليهم الريح العقيم، سماها عقيما، لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أو لأنها لا خير ولا منفعة فيها، فلا تحمل المطر ولا تلقح الشجر، وهي الدّبور أو الجنوب أو النكباء. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي ما تترك شيئا مرّت عليه. إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالرماد، أو كالشيء البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، مأخوذ من الرم: وهو البلى والتفتت.
وَفِي ثَمُودَ أي وفي إهلاك ثمود آية. إِذْ قِيلَ لَهُمْ بعد عقر الناقة. تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ إلى انقضاء آجالكم. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثال أمره. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي العذاب بعد الثلاثة أيام، كما في آية: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود ١١/ ٦٥] والصاعقة: نار نازلة بسبب احتكاكات كهربية، وهي الصيحة المهلكة التي صعقتهم. وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها، فإنها جاءتهم معاينة بالنهار.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب، وهو كقوله تعالى:
فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ [هود ١١/ ٦٧]. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب وعلى من أهلكهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم نوح، ومن قرأ بالجر فهو عطف على ثمود، أي وفي إهلاكهم آية. مِنْ قَبْلُ قبل إهلاك هؤلاء المذكورين. فاسِقِينَ خارجين من طاعة الله، متجاوزين حدوده.
بعد بيان العظة والعبرة في قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام، من أجل الإيمان بقدرة الله، عطف تعالى على ذلك قصص أقوام آخرين، عذبوا على تكذيب الرسل بعذاب الاستئصال، وهم فرعون موسى وأتباعه، وعاد وثمود، وقوم نوح، وقد تبين في تعذيبهم نهاية الطغاة والمكذبين والكفار الظالمين، ليثوب الناس إلى رشدهم، ويؤمنوا بالله وبالبعث، ويكفّوا عن تكذيب الرسول ﷺ والكفر برسالته.
التفسير والبيان:
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي وتركنا في قصة موسى عليه السلام آية وعبرة، حين أرسلناه إلى الطاغية فرعون الجبار بشيرا ونذيرا بحجة ظاهرة واضحة هي المعجزات كالعصا واليد وما معها من الآيات.
فأعرض استكبارا وعنادا ونأى عن آياتنا بجانبه، واعتز بجنده وجموعه وقوته، وقال محقرا شأن موسى: هو إما ساحر أو مجنون، إذ لم يستطع تفسير ما رآه من الخوارق، إلا بنسبته إلى السحر أو الجنون، كما في آية أخرى: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء ٢٦/ ٣٤] وآية: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء ٢٦/ ٢٧].
َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ، وَهُوَ مُلِيمٌ
أي فأخذناه مع جنوده أخذ عزيز مقتدر، فألقيناهم في البحر، وفرعون آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان وادعاء الربوبية والعناد والفجور.
وهذا دليل آخر على عظمة القدرة الإلهية على إذلال الجبابرة، جزاء عتوهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق.
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي وتركنا أيضا في قصة عاد آية وعبرة، حين أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية، لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب، فلا تترك شيئا مرّت عليه من الأنفس البشرية والأنعام والأموال إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
ثم أبان الله تعالى قصة ثمود، فقال:
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي وتركنا في قصة ثمود آية، حين قلنا لهم: عيشوا متمتعين في الدنيا إلى وقت الهلاك، كما قال تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥].
فتكبروا عن امتثال أمر الله، فنزلت بهم صاعقة من السماء أهلكتهم، والصاعقة: هي كل عذاب مهلك، وهم يرونها عيانا بالنهار، أو هم ينتظرون ما وعدوه من العذاب، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار، جزاء وفاقا لما اقترفوا من آثام ومعاص.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ، وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي لم يقدروا على القيام والهرب من تلك الصرعة، بل أصبحوا في دارهم هلكى جاثمين، ولم يكونوا ممتنعين من عذاب الله، ولم يجدوا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
ثم أعقبه بقصة قوم نوح، فقال:
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي وأهلكنا بالطوفان قوم نوح من قبل هؤلاء، لتقدم زمنهم على زمن فرعون وعاد وثمود، لأنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، متجاوزين حدوده.
هذه نهاية الطغاة الظالمين وعاقبة الكفار المكذبين، أخبر بها تعالى للعظة والعبرة، وهي تذكّر بحال أربعة أقوام.
- فإن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام مؤيدا بالدليل الباهر والحجة القاطعة والمعجزات كالعصا واليد، إلى فرعون الطاغية الجبار، فأعرض عن الإيمان بجنوده وجموعه، وكذبوا برسالته، ووصف فرعون موسى بأنه ساحر يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم، والجن يقربونه ويقصدونه إن لم يقصدهم، فيصير كالمجنون، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن، غير أن الساحر يأتيهم باختياره، والمجنون يأتونه من غير اختياره.
فكان عاقبتهم الإغراق في البحر لكفرهم وتوليهم عن الإيمان، وإتيان فرعون بما يلام عليه من ادعاء الربوبية والطغيان والعناد.
- كذلك أرسل الله هودا عليه السلام إلى قبيلة عاد، فكذبوه واستكبروا عن دعوته، وعكفوا على عبادة الأصنام، فاستأصلهم الله وأهلكهم بريح صرصر عاتية، لا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة، وهي كما قال مقاتل: الدّبور، كما
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور»
وقيل: هي الجنوب، لما
روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن النبي ﷺ قال: «الريح العقيم: الجنوب»
وقال ابن عباس: هي النكباء.
وكان تأثير تلك الريح شديدا مرعبا، فلم تمر بشيء من الأنفس والأموال والديار إلا جعلته كالشيء الهشيم، أو كالشيء الهالك البالي، كما قال تعالى:
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف ٤٦/ ٢٥].
- وأرسل الله أيضا نبيه صالحا عليه السلام إلى قبيلة ثمود الذين متعهم الله تعالى بالخيرات في الدنيا، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فخالفوا أمر
- وقبل هؤلاء أرسل الله نوحا عليه السلام إلى قومه، فأمرهم بترك عبادة الأصنام، والاتجاه إلى عبادة الله الواحد الأحد، فأبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم، فأهلكهم الله بالطوفان، جزاء على كفرهم وبغيهم ووثنيتهم.
وأنواع العذاب في إهلاك الأقوام السابقة تدل على أن الله قادر على أن يعذب ويحقق الفناء بما به البقاء والوجود أو عناصر الحياة الأربعة: وهي التراب والماء والهواء والنار، فعذب قوم لوط بالتراب، وعذب قوم نوح وقوم فرعون بالماء، وعذب عادا بالهواء، وثمود بالنار.
إثبات وحدانية الله وعظيم قدرته
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
الاعراب:
فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نعم: فعل ماض للمدح، والْماهِدُونَ فاعل، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فنعم الماهدون نحن، فحذف المقصود بالمدح.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ متعلق بقوله بعده: خَلَقْنا.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ سجع رصين غير متكلف يزيد في جمال الأسلوب، وبين السماء والأرض طباق.
المفردات اللغوية:
بِأَيْدٍ بقوة، مثل الآد. لَمُوسِعُونَ لقادرون على خلقها وخلق غيرها، من الوسع:
بمعنى الطاقة، والموسع: القادر على الإنفاق، يقال: آد الرجل يئيد: قوي، وأوسع الرجل: صار ذا سعة وقوة. فَرَشْناها مهدناها وبسطناها كالفراش لتستقروا عليها، يقال: مهد الفراش: إذا بسطه ووطّأه، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الأجناس. زَوْجَيْنِ صنفين ونوعين: ذكر وأنثى، وسماء وأرض، وشمس وقمر، وسهل وجبل، وصيف وشتاء، وحلو وحامض، ونور وظلمة.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون، فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات، أما الواجب بالذات خالق الأزواج فهو فرد واحد لا يقبل التعدد والانقسام.
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فروا من عقابه إلى ثوابه ورضاه بالإقرار بالتوحيد وملازمة الطاعة وتجنب المعصية. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إني من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى بيّن الإنذار والتخويف. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إفراد وتوحيد لمن يفرّ إليه ويلجأ لجنابة، أي وقل لهم: لا تجعلوا.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تكرير الجملة للتأكيد.
المناسبة:
بعد إثبات وقوع البعث أو الحشر والمعاد لا محالة، أقام الله تعالى الأدلة على الوحدانية وعظيم القدرة، من خلق السماء محكمة البنيان، والأرض ممهدة كالفراش للاستقرار عليها، وخلق الجنسين كالذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوان، والصنفين المتضادين من بقية الأشياء، عدّد الحسن البصري أشياء كالسماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثيل له.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي ولقد بنينا السماء بقوة وقدرة، وإنا لذوو قدرة وسعة على خلقها وخلق غيرها، فنحن قادرون، لا نعجز عن ذلك، ولا يمسنا تعب ولا نصب. وفي لفظ البناء إشارة إلى كونها محكمة البنيان. وقوله: بِأَيْدٍ تأكيد لذلك، وقوله: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مزيد تأكيد.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش لتصلح للعيش والاستقرار عليها، فنعم الماهدون نحن الذين جعلناها مهدا لأهلها، ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها، برها وبحرها وجوها، فعلى سطحها يعيش الإنسان والحيوان، وفي جوفها الثروة المعدنية الجامدة والسائلة كالنفط، وفي برها مختلف النباتات والأزهار والأشجار، وفي بحرها آلاف الأنواع من الأسماك، واللآلئ والمرجان وتسير فيها السفن، وفي جوها الطير والهواء والسحب الزاخرة بالمطر، وتحليق الطائرات وغيرها.
وإنما أطلق الفرش على الأرض، ولم يطلق البناء، لأنها محل التغييرات كالبساط يفرش ويطوى. وقوله: بَنَيْناها أدل على الاستقلال وعدم الشريك في التصرف.
والآية تشير إلى أن دحو الأرض وبسطها كان بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون أولا قبل الفرش، وهذا هو المعروف الآن علميا. قال الرازي: في الآية دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش «١».
ثم رتب على دليل الوحدانية والقدرة أمرين: اللجوء إلى الله وتجنب الشرك إتماما للتوحيد، فقال:
- فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي الجؤوا إلى الله، واعتمدوا عليه في أموركم كلها، وتوبوا من ذنوبكم، وأطيعوا أوامره، فإني لكم منذر بيّن الإنذار، ومخوّف من عذابه وعقابه. وهذا أمر بالإقبال على الله، والإعراض عما سواه. وقوله: فَفِرُّوا ينبئ عن سرعة الإهلاك، كأنه يقول: الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع، فافزعوا إلى الله سريعا وفروا.
- وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي لا تشركوا بالله شيئا آخر سواه، فإن الإله المعبود بحق هو الذي لا تصلح العبادة لغيره، ثم كرر التذكير بمهمة الإنذار البيّنة للنبي ﷺ للتأكيد.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إثبات وحدانية الله وقدرته بآيات الكون الكبرى، من خلق السماء التي تدل بكواكبها ونجومها وشمسها وقمرها وتوابعهما على أن الإله الصانع قادر على الكمال، وكذا خلق الأرض الممهدة المبسوطة الممدودة كالفراش بما فيها من خيرات
فهذا كله دليل على قدرة الله، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة، وهو إشارة إلى أن ما سوى الله تعالى مركب من أجزاء، وهو دليل على الانتقال من المركب إلى البسيط، ومن الممكن إلى الواجب، ومن المصنوع إلى الصانع، فإن خالق الأزواج فرد وإلا لكان ممكنا، فيكون مخلوقا، ولا يكون خالقا، فلا يقدّر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ ليس كمثله شيء.
٢- إن الإله المتصف بالوحدانية والقدرة الباهرة يجب في حقه أمران أساسيان: اللجوء إليه وحده، والتوبة إليه من الذنوب، والفرار من معاصيه إلى طاعته، واجتناب الشرك أو عبادة شيء آخر معه. قال سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله.
٣- إن النبي ﷺ في حياته وبعد مماته بما تركه من بيان وسنة دائم الإنذار، بيّن التخويف، ينذر الناس من عقاب الله على الكفر والمعصية.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٢ الى ٦٠]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
الاعراب:
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الكاف في كَذلِكَ في موضع رفع، لأنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك.
ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْمَتِينُ بالرفع: صفة ل ذُو وقرئ بالجر على أنه صفة للقوة، وذكّر، لأنه تأنيث غير حقيقي، ولأن فعيل يصلح صفة للمذكر والمؤنث، والرفع أشهر في القراءة، وأقوى في القياس.
البلاغة:
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إطناب بتكرار فعل أُرِيدُ للمبالغة والتأكيد.
ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ تشبيه مرسل مجمل، لأنه حذف منه وجه الشبه، أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أسلافهم المكذبين في الشدة والألم.
المفردات اللغوية:
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك، والإشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم إياه ساحرا
أَتَواصَوْا بِهِ أي هل أوصى أولهم آخرهم؟ استفهام بمعنى النفي على سبيل التعجب، أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول، حتى قالوه كلهم. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول طغيانهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم وعن مجادلتهم بعد الإصرار والعناد. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لست ملوما على الإعراض عنهم، لأنك بلّغتهم الرسالة وبذلت الجهد في التذكير. وَذَكِّرْ داوم على التذكير والموعظة بالقرآن. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ: من علم الله تعالى أنه يؤمن، فإن التذكير يزيده بصيرة.
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلا لنأمرهم بالعبادة ويعبدوا الله بالفعل لا لاحتياجي إليهم، فإن أعرض أو قصر بعضهم أو أكثرهم فعليه تبعة فعله. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ.. لا أريد منهم الاستعانة بهم على تحصيل أرزاقهم ومعايشهم لأنفسهم أو غيرهم وهو أولى. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أن يطعموا أنفسهم أو غيرهم. والمراد بيان أن شأن الله مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإنهم يملكونهم للاستخدام في حوائجهم الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل محتاج، وفيه إيماء باستغنائه عن الرزق. الْمَتِينُ الشديد القوة.
ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم. ذَنُوباً نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب في اللغة: الدّلو العظيمة المملوءة ماء. مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظائرهم من الأمم السالفة، الهالكين قبلهم. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ بالعذاب إن أخّرتهم إلى يوم القيامة، وهو جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك ٦٧/ ٢٥]. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي هلاك لهم وشدة عذاب. مِنْ يَوْمِهِمُ في يومهم وهو يوم القيامة.
سبب النزول نزول الآيتين (٥٤، ٥٥) :
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.. وَذَكِّرْ..: أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي قال: لما نزلت: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذ أمر النبي ﷺ أن يتولى عنهم، فنزلت:
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا.
المناسبة:
بعد بيان الأدلة على الحشر، وعلى إثبات الوحدانية وعظيم القدرة الإلهية، وتذكير المشركين بإهلاك الأمم المكذبة السالفة، بيّن الله تعالى أن كل رسول كذّب، وكأن التكذيب بين الأمم شيء متواصى به من الجميع، والواقع أنهم قوم طغاة تجاوزوا حدود الله، لذا أمر النبي ﷺ بالإعراض عنهم، علما بأنهم خلقوا لعبادة الله، لا لتحصيل المعايش والأرزاق، ثم ختمت السورة بتهديد مشركي مكة بعذاب مماثل العذاب من قبلهم من الأمم، والعذاب واقع بهم، لا شك فيه، ولا مردّ له.
التفسير والبيان:
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي كما كذبك قومك من العرب، ووصفوك بالسحر أو الجنون، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها، فهذا شأن الأمم في القديم، ولست أنت وحدك الذي كذّب.
وهذا تسلية للرسول ﷺ عن إعراض قومه، وحمله على الصبر وتحمل الأذى.
أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ هذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار بمعنى النفي، فهو تعجيب من حالهم يراد به: كأنما أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، وتواطؤوا عليه، أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة؟ والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم، لكن هم قوم طغاة، جمعهم الطغيان: وهو مجاوزة الحد في الكفر، فقال متأخروهم كما قال متقدموهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي أعرض عنهم أيها الرسول، وكفّ عن
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي ولكن تابع التذكير، وعظ بالقرآن من آمن به من قومك، فإن التذكير ينفعهم، أو إنما تنتفع بالذكرى القلوب المؤمنة المستعدة للهداية. والمراد أن الإعراض عن طائفة معلومة لعدم قابليتهم الهدى، لا يوجب ترك البعض الآخر.
ثم بيّن الله تعالى الغاية من خلق الثقلين: وهي العبادة، مع أن المشركين كذبوا الرسول، وتركوا عبادة الخالق، فقال:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ما خلقت الثقلين: الإنس والجن إلا للعبادة، ولمعرفتي، لا لاحتياجي إليهم كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة ٩/ ٣١] وكما
ورد: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» «١».
والعبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد. وقال أهل السنة: إن العبادة المعرفة والإخلاص له في ذلك، فإن المعرفة أيضا غاية صحيحة.
وقال مجاهد: المعنى إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم. وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة يستدعي دوام التذكير بها.
وحكمة تقديم الجن على الإنس أن عبادتهم سرية لا يدخلها الرياء كعبادة الإنس.
ثم ذكر الله تعالى سمو الغاية من الخلق، فقال:
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ أي لا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرر عني، كما
وما في قوله: ما أُرِيدُ.. للنفي في الحال، ولا: للنفي في الاستقبال، ونفي الحال وهو الدنيا أولى من نفي الاستقبال وهو في أمر الآخرة.
والخلاصة: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشد العذاب، وهو غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك».
وورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء».
ثم هدد الله تعالى مشركي مكة وأمثالهم بقوله:
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي فإن للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول نصيبا من العذاب، مثل نصيب أمثالهم الكفار من الأمم السابقة، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه، وواقع لا محالة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل ١٦/ ١].
وهذا جواب قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك ٦٧/ ٢٥] وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود ١١/ ٣٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن تكذيب الرسل شأن الأمم قديمها وحديثها، فكما كذب محمدا قومه، وقالوا: ساحر أو مجنون، كذّب من قبلهم رسلهم، وقالوا مثل قولهم، وكأن أولهم أوصى آخرهم بالتكذيب، والتواطؤ عليه، والواقع ليس كذلك، فلم يوص بعضهم بعضا، بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر.
والغرض من الخبر تسلية النبي ﷺ عما يلقاه من صدود قومه عن دعوته.
٢- أمر الله نبيه بالإعراض عن جدال قومه، وطمأنه ربه بأنه غير ملوم.
ولا مقصر، فقد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد. وهذه تسلية أخرى، لأن النبي ﷺ كان من كرم أخلاقه وشدة حساسيته ينسب نفسه إلى تقصير في التبليغ، فيجتهد في الإنذار والتبليغ.
٣- لكن التولي عن القوم ليس مطلقا، لذا أمر النبي ﷺ بمتابعة التذكير، فإنه ينفع المؤمنين، وهم من علم الله سابقا أنهم يؤمنون.
٤- وغاية التذكير: توجيه الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، فلم يخلق الله الخلق إلا للعبادة، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة، فيكون التذكير بها ضروريا، والاعلام بأن كل ما عداها تضييع للزمان، وفائدة العبادة: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله.
ثم إن مهمة الأنبياء منحصرة في أمرين: عبادة الله، وهداية الخلق. وهناك غرض ثالث آخر من ذكر هذه الآية: وهو بيان سوء صنيع الكفار، حيث تركوا
وقال مجاهد وغيره «إلا ليعبدون» أي إلا للعبادة، وهذا كما قال الثعلبي قول حسن، لأنه لو لم يخلقهم، لما عرف وجود الله وتوحيده، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف ٤٣/ ٨٧]. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف ٤٣/ ٩]. وهذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك.
٥- لم يكن خلق الناس للعبادة لحاجة من الخالق، فالله عز وجل غني عن عبادة العباد، ولم يكن خلقهم للتسخير للخدمة في توفير الطعام والشراب أو حفظه، كما يفعل السادة مع العبيد، وهو سبحانه الرزاق الذي يرزق غيره، وهو القدير الشديد القوي، الذي لا يتقوى بأحد.
وقوله: هُوَ الرَّزَّاقُ تعليل لعدم طلب الرزق، وقوله: ذُو الْقُوَّةِ تعليل لعدم طلب العمل، لأن من يطلب رزقا، يكون فقيرا محتاجا، ومن يطلب عملا من غيره، يكون عاجزا لا قوة له.
٦- إن للذين ظلموا أنفسهم وهم كفار مكة وأمثالهم نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة، فلا داعي لاستعجالهم نزول العذاب بهم، فإنه آتيهم لا محالة.
وهذا تهديد للكفار الذين وصفهم الله بأنهم ظلمة، لأن من وضع نفسه في موضع عبادة غير الله، يكون قد وضع الشيء في غير موضعه، فيكون ظالما.
وإذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة، فإن الذين ظلموا بعبادة غير الله، لهم هلاك مثل هلاك من تقدم.
ومناسبة الذّنوب التي هي في الأصل: الدلو العظيمة: هي كأنه تعالى قال:
نصبّ من فوق رؤوسهم ذنوبا كذنوب صبّ فوق رؤوس أولئك.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطورمكيّة، وهي تسع وأربعون آية.
تسميتها:
سميت سورة (الطور) لافتتاحها بقسم الله تعالى بجبل الطور الذي يكون فيه أشجار، كالذي كلّم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، فنال بذلك شرفا عظيما على سائر الجبال.
مناسبتها لما قبلها:
تتجلى للمتأمل مناسبة هذه السورة لسورة الذاريات قبلها من وجوه:
١- تشابه الموضوع: فإن كلتا السورتين مكية، تضمنت الكلام عن التوحيد والبعث وأحوال الآخرة، والرسالة النبوية، وتفنيد معتقدات المشركين الفاسدة.
٢- تماثل الابتداء والانتهاء: ففي مطلع كل منهما وصف حال المتقين في الآخرة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات ٥١/ ١٥]. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور ٥٢/ ١٧] وفي ختام كل منهما صفة حال الكفار: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الذاريات ٥١/ ٦٠]. فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور ٥٢/ ٤٢].
٣- اتحاد القسم بآية كونية: ففي الذاريات أقسم الله بالرياح الذاريات
٤- تطابق الأمر للنبي ﷺ بالإعراض عن الكافرين ومتابعة تذكير المؤمنين: ففي الذاريات: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [٥٤] وَذَكِّرْ.. [٥٥] وفي الطور: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ.. [٢٩] : فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ..
[٤٥].
ما اشتملت عليه السورة:
لما ختم الله تعالى السورة المتقدمة بوقوع اليوم الموعود، أقسم على ذلك بالطور، وهو الجبل الذي ذكر مرارا في قصة موسى عليه السلام، والكتاب المسطور: التوراة ونحوها أو اللوح المحفوظ، والبيت المعمور: الكعبة المشرفة، والسقف المرفوع: السماء، والبحر المسجور: المملوء أو الموقد. فهو قسم بآيات كونية علوية وسفلية على أن العذاب آت لا ريب فيه.
ثم وصف الله تعالى عذاب النار الذي يزجّ به المكذبون، وما يلقونه من الذل والإهانة، وأردفه بوصف نعيم المتقين أهل الجنة، وما يتمتعون به من أنواع الملذات في الملبس والمسكن والمطعم والمشرب والزواج بالحور العين.
وأعقب هذا الوصف أمر النبي ﷺ بمتابعة التذكير، وتبليغ الرسالة، وإنذار الكفرة، والإعراض عن سفاهة المشركين وافترائهم حين يقولون عنه: إنه شاعر، أو كاهن، أو مجنون، أو مفتر على الله، ثم أنكر تعالى عليهم مزاعمهم الباطلة هذه، وأثبت بالأدلة الدامغة صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام البراهين والحجج القاطعة على الألوهية الحقة والوحدانية، ونعى على المشركين قولهم: الملائكة بنات الله، ووبخهم وتهكم بهم في عنادهم ومكابرتهم وبلوغهم حد إنكار المحسوسات المشاهدة لهم. وختمت السورة بأمر الرسول ﷺ بترك الكفار في ضلالهم حتى