ﰡ
وهي سورة مكية عند الجميع، وعدد آياتها ستون آية.
وعلى الجملة فالسورة تدور حول إثبات البعث بالقسم عليه، وذكر بعض أحواله مع المؤمنين والكافرين، ثم قصت قصص بعض الأنبياء، وخلصت من ذلك كله إلى الأمر بالتوحيد وعدم الشرك، مع بيان طبائع الناس.
إثبات البعث [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
المفردات:
وَالذَّارِياتِ: هي الريح التي تذرو التراب وغيره، أى: تفرقه وتبدد ما رفعته عن مكانه. وِقْراً الوقر: ثقل الحمل على ظهر أو في بطن. يقال: هذه امرأة
دنته بما صنع، أى: جزيته، وعليه قولهم: «كما تدين تدان» ومنه «يوم الدين».
الْحُبُكِ أى: الطرائق، أى: والسماء ذات الطرق، أو ذات الخلق القوى المستوي، أو ذات الزينة. يُؤْفَكُ: يصرف عنه من صرف. الْخَرَّاصُونَ الخرص: التخمين والحزر، وهو سبب الكذب، فالمراد: لعن الكذابون. غَمْرَةٍ الغمرة: ما ستر الشيء وغطاه. ساهُونَ أى: لا هون وغافلون. يُفْتَنُونَ:
يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب: أحرقته.
المعنى:
لقد قال الله- تعالى- في السورة السابقة: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وقال:
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وفي هذا إشارة إلى إنكارهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن فلم يبق بعد ذلك إلا القسم باليمين المؤكدة إن ما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع.
ولكن أليس من الأفضل أن ندرك بعض السر في قسم الله بهذه الأشياء، بعد ما نهانا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحلف بغير الله؟
ولعل السر في ذلك أن العرب كانت تعتقد أن النبي رجل قوى الحجة، غالب في المجادلة وإقامة الدليل، فأقسم لهم القرآن على لسان النبي بكل شريف ليعلموا صدقه إذ هم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها، وقد كان إكثار النبي من الحلف مع أنه لم يصب بسوء بل ارتفع شأنه كان هذا كله دليلا على صدقه على أن الأيمان التي أقسم الله بها دلائل على كامل قدرته على البعث وقد ساقها الله في صورة اليمين لفتا لأنظارهم وإيذانا بخطر ما يتحدث عنه، وأنه حرى بالبحث التام، فالإله الذي خلق هذه الأشياء وصرفها حيث شاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق يوم الجزاء.
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.
أقسم الله بالرياح التي تذرو التراب ذروا، وتبدده في كل مكان، فالرياح التي تحمل السحب الموقرة بالماء المحملة بالمطر، فالرياح التي تجرى جريا سهلا فتحمل السحب، وتدفع السفن، فالتي تقسم المطر على الأماكن التي يريدها الله، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير
وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذاريات فقال: هي الرياح، وسئل عن الحاملات فقال: هي السحاب، وسئل عن الجاريات يسرا فقال: هي السفن، وسئل عن المقسمات أمرا فقال: هي الملائكة، ويقول عمر- رضى الله عنه- في ذلك كله: لولا أنى سمعت رسول الله يقول بهذا ما قلته
. والله أعلم بكتابه، أقسم الله بهذا على أن ما توعدون به لصادق ومتحقق الوقوع، وأن الدين والجزاء لواقع وفي تخصيص المذكورات بالقسم رمز إلى شهادتها بتحقيق المقسم عليه وهو البعث من حيث إن من قدر على ذلك فهو قادر على تحقيق الوعد بالبعث، إذ الرياح تذرو ذرات المياه، وتحملها إلى طبقات الجو العالية، فتتجمع سحبا بعد تفرقها، ثم تجرى بيسر وسهولة إلى حيث شاء فتنزل مطرا أليس القادر على ذلك بقادر على أن يعيد الخلق بعد تفرق أجزائه وانحلاله في التراب أو الجو أو البحار؟! وأقسم الله كذلك بالسماء ذات الحبك، أى: الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب أو هي ذات الخلق البديع القوى، وذات الزينة بالنجوم، على أنكم- يا كفار مكة- في قول مختلف متباين، فتارة تقولون على النبي: إنه شاعر، وطورا إنه ساحر، ومرة: إنما يعلمه بشر، وأخرى: إنه مجنون وهذا دليل على التخبط وسوء الرأى ليس الأمر كذلك وإنما يصرف عن الرأى الحق والإيمان الكامل من صرف
يسألون سؤال استهزاء قائلين: أيان يحصل يوم الجزاء؟ والجواب: يقع يوم الدين يوم هم على النار يحرقون، أى: يوم الجزاء هو يوم تعذيب الكفار، ويقال لهم عند ذلك:
ذوقوا فتنتكم، أى: عذابكم المعد لكم جزاء على كفركم ويقال لهم كذلك: هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.
من هم المتقون وما جزاؤهم؟ [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
المفردات:
يَهْجَعُونَ الهجوع: النوم، وقيده بعضهم بالنوم ليلا، وقال آخرون: إنه النوم القليل. وَبِالْأَسْحارِ: جمع سحر، وهو الجزء الأخير من الليل، أى: قبيل
المعنى:
إن المتقين الموصوفين بالصفات الآتية في جنات وبساتين يتمتعون بكل ما فيها ولهم فيها عيون فوارة بالماء الزلال تجرى خلال الجنة، فلا يرون فيها عطشا، كما أنهم لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، إنهم في جنات وعيون حالة كونهم آخذين ما آتاهم ربهم من نعيم وقابلين لكل ما أعطاهم بقبول حسن، وقد كانوا في الدنيا يتقبلون أوامر الله التي تأتيهم على ألسنة الرسل بصدور رحبة، ونفوس مطمئنة، وكأن سائلا سأل وقال: هل فعلوا ما يستحقون عليه هذا الجزاء؟ فأجيب: إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا محسنين لأعمالهم، آتين بها على ما ينبغي، عابدين الله عبادة خالصة لوجهه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ «١» أى: كانوا يهجعون زمانا قليلا من الليل، ولا شك أن هذا وصف للمتقين بأنهم عاملون مخلصون، فالليل وإن كان وقت راحة ونوم، فهم لا يهجعون فيه إلا قليلا، ويكابدون العبادة في أوقات الراحة والبعد عن الناس، وعند سكون النفس وعدم اشتغالها بالدنيا وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً «٢» وهم مع ذلك كله يستغفرون الله في الأسحار، كأنهم أجرموا في الليل أو عصوا الله في النهار، أليس هذا هو وصف المؤمن التقى دائما يخشى الله ويعمل له، ويحاسب نفسه ثم يستغفر الله بالأسحار بعد ذلك؟
وهم دائما في خشية من عذاب الله، ومع ذلك ففي أموالهم حق ثابت معلوم، للسائل والمحروم، الذي يتعفف عن السؤال، ويحسبه الجاهل غنيّا، وهو في أشد حالات الفقر.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس المسكين الّذى تردّه التّمرة والتّمرتان
(٢) - سورة الإسراء آية ٧٨.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وهذا دليل على قدرة الله في الأرض وفي الناس سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «١» وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «٢» نعم في الأرض وما أقلت من سهول وجبال، وأنهار ووديان، وما عليها من زروع وثمار، وحدائق ونبات وما في جوفها من ماء عذب فرات، وماء كالملح الأجاج، وما فيها من زيوت ومعادن، وغازات وأبخرة، في الأرض وحركاتها، ودوراتها ورياحها، وحرها وبردها، آيات ودلائل ولكن للمتقين.
وفي أنفسكم آيات كذلك للمتقين، أليس في نفسك وما فيها من علوم ومعارف وغرائز وميول واتجاهات للخير تارة وللشر أخرى آيات للمتقين؟ أليس في نفسك التي بين جنبيك وما فيها من حواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق وما فيها من دورة الدم، وأجهزة التنفس والبول والهضم والإفراز كل ذلك آيات لمن يعقلها، ولا يعقلها حقيقة ويدرك سرها الخفى ودلالتها على الإله القوى القادر الحكيم الخبير إلا المؤمنون المتقون الله، أما غيرهم فقد يدرك حقائقها المادية فقط!!، وفي أنفسكم أفلا تبصرون ذلك بقلوبكم لا بأبصاركم! وتفقهون أن هذا كله لخالق قادر على البعث وإعادة الحياة.
واعلموا أن في السماء تقدير رزقكم، وتحديده وأسبابه، فليس الرزق موقوفا على شيء يتعلق بالكون الأرضى فقط، بل الأمر كله لله، والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أى: في السماء رزقكم وما توعدون من خير أو شر، فعلى المسلم إذا طلب أمرا من مخلوق فليطلبه بعزة مع العمل فإن الأمور تجرى بالمقادير وبعضهم فسر السماء في الآية بالمطر، فورب السماء والأرض إن تقدير الرزق وتحديده في السماء لحق لا شك فيه، ويجوز أن يراد هذا وغيره من كل وعد سابق في هذه السورة، إنه لحق مثل «٣» نطقكم فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا.
(٢) - سورة فصلت آية ٣٩.
(٣) - مثل حال من الضمير المستكن في قوله: الحق.
إكرام الله لأوليائه وإهانته لأعدائه [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٤٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
ضَيْفِ أى: ضيوف. مُنْكَرُونَ: غير معروفين. فَراغَ المراد:
ذهب إلى أهله على خفية من ضيفه، وأصل الروغ: الميل على سبيل الاحتيال، ومنه روغان الثعلب. سَمِينٍ: ممتلئ الجسم بالشحم واللحم. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً: أضمر في نفسه منهم خوفا. فِي صَرَّةٍ: في صوت وجلبة. فَصَكَّتْ وَجْهَها: ضربت وجهها بأطراف أصابعها عجبا. عَقِيمٌ: عاقر فكيف ألد؟
وأصل العقم: اليبس. فَما خَطْبُكُمْ: ما شأنكم الخطير. مُسَوَّمَةً:
معلمة. لِلْمُسْرِفِينَ: المتجاوزين الحدود. آيَةً: علامة دالة على ما أصابهم.
بِرُكْنِهِ أى: بجانبه وهذا كناية عن الإعراض التام، وقيل: الركن القوة والسلطان، أو القوم. نَبَذْناهُمْ
: طرحناهم بلا مبالاة. لِيمٌ
أى: أتى بما يلام عليه. الْعَقِيمَ: التي لا تلقح شجرا ولا تأتى بخير بل تهلك الحرث والنسل.
ما تَذَرُ: ما تمر على شيء وتتركه. كَالرَّمِيمِ: كالشىء البالي من عظم أو نبات أو غيره. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ: استكبروا عن امتثال أمره. الصَّاعِقَةُ أى: المهلكة التي صعقتهم.
المعنى:
ألم يأتك يا رسول الله حديث ضيف إبراهيم المكرمين «١»، وهذا الأسلوب فيه تفخيم
ثم قال إبراهيم في نفسه أو قال مظهرا لهم: أنتم قوم منكرون غير معروفين وهيئتكم العامة غير معهودة لنا، وعقب هذا ذهب إلى أهله في خفية منهم وطلب إليهم إعداد طعام للضيفان، فجاء بعجل سمين مشوى، فقربه إليهم، قال لهم: ألا تأكلون؟
ولكنهم أعرضوا عن الأكل، فلما أعرضوا أوجس منهم خيفة، وأضمر في نفسه خوفا منهم على عادة الناس يظنون أن الامتناع عن الطعام لشر مبيت، وأكل الضيف يزيل هذا الظن، وماذا قالت الملائكة عندئذ؟ قالوا: يا إبراهيم لا تخف إنا رسل ربك، وبشروه بغلام عليم عند استوائه وبلوغه الرشد، وهو إسحاق على الصحيح.
فلما سمعت امرأته تلك البشارة، وكانت يائسة من الحمل أقبلت على أهل بيتها في صوت وجلبة، فضربت جبهتها بأطراف أصابعها كما تفعل النساء عند ظهور أمر عجيب وقالت: أألد وأنا عجوز عقيم؟!! ماذا قالت الملائكة لها؟ قالوا: لا تعجبي من أمر الله، مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرناك به قال ربك ذلك، وإنما نحن مبلغون فقط، ونحن رسل الله إليك، إنه هو الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها وهو العليم بكل خلقه، فلا تعجبي من أمر الله، وذلك تذييل موافق لما قبله.
(٢) - سورة الأنبياء آية ٢٦.
(٣) - في هذا إشارة إلى أن (إذ دخلوا عليه) ظرف للحديث أو معمول ل (اذكر) محذوفة.
ثم قاموا من عند إبراهيم، وجاءوا لوطا، فضاق بهم ذرعا لأنه أنكرهم أول الأمر، وقال: هذا يوم عصيب، قالت الملائكة: يا لوط إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك من هؤلاء الظالمين فأسر بأهلك في ظلام الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، وإن موعدهم الصبح، وليس الصبح ببعيد، فباشرت الملائكة ما أمروا به.
وأخرجوا من كان في القرى من المؤمنين، فما وجدوا فيها غير بيت من المسلمين، وهو بيت لوط، وجاء الصبح، وقد جعلوا عاليها سافلها، وأمطروا عليهم حجارة من سجيل، مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين أمثالهم ببعيد، فانظروا يا آل مكة أين أنتم من قوم لوط؟ واعتبروا بما حل بهم، وما ربك بظلام العبيد.
وهذه أمثال يضربها الحق تبارك وتعالى للطغاة المتكبرين، والكفار الظالمين، لعلهم يثوبون لرشدهم، ويكفون عن تكذيبهم وكفرهم بما يجب الإيمان به وخاصة يوم البعث.
المعنى:
وجعلنا في قصة موسى عبرة وعظة، إذ أرسلناه «١» إلى فرعون بمعجزات ظاهرة، وآيات بينة كالعصا وغيرها فتولى بركنه، أعرض عن الإيمان مصاحبا قومه معتزا بهم، وقال: إن موسى ساحر أو هو مجنون، فأخذه ربك أخذ عزيز مقتدر، أخذه هو وجنوده فنبذه في اليم نبذ النواة بلا مبالاة ولا اعتداد به، والحال أنه أتى من أفعال الكفر والطغيان ما يلام عليه، فهو مليم بهذا المعنى.
وفي قصة عاد آية كذلك إذ أرسل ربك إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الإيمان
وفي قصة ثمود آية كذلك إذ أرسل إليهم ربك أخاهم صالحا فكفروا ولم يؤمنوا فقيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، فعتوا عن أمر ربهم واستكبروا عن امتثاله، فأخذتهم الصاعقة، وأهلكتهم نار من السماء أتت على الأخضر واليابس، وهم ينظرون إلى أنفسهم، وقيل: وهم ينتظرون العذاب، ما أصبرهم على ذلك؟ وما كانوا منتصرين بغيرهم إذ لا ناصر لهم، وأهلكنا قوم نوح من قبل لما استحقوا ذلك، إنهم كانوا قوما فاسقين.
وهكذا حكم الله مع الأمم قديما وحديثا، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا فهل من معتبر؟!.
أليس إهلاك الكافرين مع كثرتهم وشدة قوتهم، ونصرة المؤمنين على ضعفهم وقلة عددهم آية على قدرة الله؟! وأى آية أقوى من هذه؟!
من آيات الله الكونية [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٧ الى ٦٠]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
بِأَيْدٍ: بقوة وقدرة. لَمُوسِعُونَ: لقادرون ومطيقون. فَرَشْناها:
بسطناها كالفراش. الْماهِدُونَ يقال: مهدت الفراش مهدا: بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. زَوْجَيْنِ: صنفين ونوعين.
أَتَواصَوْا: أوصى أولهم آخرهم. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ: أعرض. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ: الشديد القوى. ذَنُوباً: أصل الذنوب يطلق في اللغة على الدلو العظيمة المملوءة ماء، وكانوا يستقون الماء به فيقسمون به على الأنصباء، ثم قيل للذنوب: نصيبا، من هذا قال الشاعر:
لنا ذنوب ولكم ذنوب... فإن أبيتم فلنا القليب «١»
تلك آيات الله الكونية الظاهرة للعيان، التي يراها كل إنسان، في كل زمان ومكان بعد الآيات التي مضت في طيات الزمن مع عاد وثمود وقوم نوح وإخوان لوط.
وبنينا السماء بقوة قوية. بنيناها بأيد، وإنا لقادرون، وما مسنا في ذلك من تعب ولا مشقة، وفرشنا الأرض وبسطناها لتستقروا عليها، وتعيشوا فوقها، ولا ينافي ذلك كروية الأرض، وانظر إلى السماء وبنائها، والشيء المبنى ثابت لا يتغير، وإلى الأرض وفرشها، والفراش يبدل وينقل، وهكذا الأرض وما عليها، وتبارك من مهدها وبسطها، ووطأها وسواها وأصلحها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ.
ومن كل شيء خلق ربك صنفين ونوعين ذكرا وأنثى، في النبات والحيوان، وفي الطبيعة ليل ونهار، ونور وظلام، وحر وبرد، وبحر وبر، وسهل وجبل، وجن وإنس، وخير وشر وهكذا وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
وإذا كان الأمر كذلك، وقد أهلك ربك من كفر وكذب ونجى من آمن وصدق وهذه آياته الشاهدة بقدرته على البعث والثواب والعقاب والجزاء، إذا كان الأمر كذلك ففروا إلى الله، فروا من معاصيه إلى طاعاته، فروا إليه بالتوبة الصادقة والإيمان السليم واقصدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا، ولا تجعلوا معه إلها آخر، إنى أنا رسول الله إليكم، ونذير مبين لكم بين يدي عذاب شديد.
الأمر كذلك «١» أى: الأمر الحق مثل الذي يذكر لك ويأتيك خبره بالوحي، وهو:
ما أتى الذين من قبلهم من رسول إتيانا مثل إتيانهم إلا قالوا في حقه: هو ساحر، أو قالوا: هو مجنون. أأوصى بهذا القول أولهم آخرهم؟ إن هذا لعجيب «٢».
بل هم قوم طاغون، فهم مشتركون في الطغيان والظلم الذي حملهم على ذلك وإذا كان الأمر كذلك وأن مصدر تكذيبهم وعصيانهم هو ما تأصل عندهم من غرائز الطغيان والظلم فأعرض عنهم، ولا تشتغلن بهم، فما أنت بملوم على تكذيبهم بل أنت لم تأل جهدا في دعوتهم، وأنت رسول، وإنما عليك البلاغ، وعلى الله الحساب.
(٢) الاستفهام للتعجب والإنكار.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة، مما يدعو النبي صلّى الله عليه وسلم ومن دعا بدعوته إلى تذكير الناس دائما حيث خلقهم الله للعبادة، وما المراد بالعبادة؟ هل هي التسخير الثابت لجميع الخلق والدلالة التامة الكاملة على وجود الخالق، الذي عبر عنه بالسجود في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ «١» ؟ أم هي العبادة الاختيارية التي يوصف بها المؤمنون؟ والظاهر هو المعنى الثاني وعلى ذلك فما معنى كون الجن والإنس ما خلقت إلا للعبادة؟ مع قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «٢» أى: خلقنا لجهنم خلقا كثيرا يفعل ما به يدخلها، وهذا يدل على إرادة المعاصي لكثير، ويتنافى مع إرادة العبادة من الجن والإنس، ولعل المخلص من ذلك أن الله خلق الخلق صالحين للعبادة مستعدين لها، فيهم العقول والحواس التي تدعوهم إلى عبادة الله، ولما خلقهم على ذلك الوضع جعل خلقهم مغيا بغاية هي العبادة، والذي يؤيد ذلك أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكاملة، وكون بعض الناس أو كثير من الناس لا يصل إلى تلك الغاية لا يمنع كون الغاية غاية ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ما أريد من الخلق رزقا، وما أريد أن يطعموني، وقيل: المعنى ما يريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه، ولا يريد أن يطعموا أحدا، فالله حين يكلفهم بشيء لم يكلفهم لغرض يعود عليه، ولكن لنفع عائد على المكلفين الممتثلين أمر الله.
إن الله هو الرزاق الذي يرزق من يشاء، ذو القوة والبطش، القوى المتين.
إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق ولا يريد منهم أن يطعموه بل هو الرزاق ذو القوة المتين. إذا كان الأمر كذلك فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله، فإن لهؤلاء نصيبا من العذاب كبيرا، نصيبا مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة، وهو واصل لهم بلا شك فلا يستعجلون ولا يطلبون من الله التعجيل فويل ثم ويل للذين كفروا وكذبوا بالبعث من يومهم الذي يوعدونه على لسان الرسل الكرام، وهذا ختام سورة بديع.
(٢) - سورة الأعراف آية ١٧٩.